تاريخ الخطبة: 28 رجب 1426 وفق 2/9/2005م
عنوان الخطبة: الطريق إلى العزة
الموضوع الرئيسي: الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الموضوع الفرعي: آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي, المسلمون في العالم
اسم الخطيب: يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
ملخص الخطبة
1- أهمية إصلاح ذات البين. 2- نظرات في واقع العالم الإسلامي الأليم. 3- أسباب مهانة المسلمين وسبل خروجهم منها. 4- خطورة أكل أموال الناس بالباطل. 5- آثار المعاصي والغفلة على المسلمين. 6- معوقات العملية التعليمية في ظل الاحتلال. 7- المخطط الأمريكي للهيمنة على دول العالم الإسلامي. 8- ما وراء الانسحاب الإسرائيلي من غزة.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، لقد أمر الله تعالى الأمة الإسلامية بما فيه خيرها وصلاحها، فقال
سبحانه:
فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ
[الأنفال:1].
إذا أردتم ـ أيها المؤمنون ـ أن ينزل الله عليكم النصر والسكينة فأصلحوا ذات بينكم، إذا [كانت] فئتان في حالة شِجَار وخلاف وخصام فأصلحوا بينهما.
فيا من يقف موقف المتفرّج على نزيف الدم، أصلحوا ذات بينكم، إصلاح ذات البين أفضل
عند الله من الصلاة والصيام والصدقة والحج، أفضل من صلاة النوافل وصيام النوافل
وزكاة النوافل وحج النافلة، أما قطيعة ذات البين فقد قال رسول الله
:
((هي الحالِقَة، لا أقول: تحلق الشعر، إنما أقول تحلق الدين)).
عباد الله، ومن ينظر إلى أمتنا الإسلامية يجدها اليوم تعيش أسوأ أيامها، أسوأ أيام تمرّ بالأمة هي هذه الأيام، نزيف دموي رهيب لا يكفّ ليلاً ولا نهارًا. هناك في العراق القتلى مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال يقتلون ليلاً ونهارًا، والعالم بأسره يقف موقف المتفرّج، فماذا فعلت أمة الإسلام؟!
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى قول رسول الله
:
((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تفتح عليكم الدنيا بعدي، فينكر بعضكم
بعضًا، وينكركم أهل السماء عند ذلك)).
أتدرون ـ يا عباد الله ـ لماذا تقف الأمة موقف المتفرّج؟! لأنها لا تملك إرادة نفسها، فالذي يحركها عدو الإسلام، فمرة نولي وجوهنا شطر أمريكا، ومرة شطر أوروبا. القتلى في العراق لحساب من؟! لمصلحة من؟! لمصلحة أعداء الإسلام.
عباد الله، للأسف الشديد، وأقولها بحرارة: إن المسلمين في هذه الأيام ماتت عزائمهم، ومات فيهم كل شيء إلا شهواتهم: شهوة البطن وشهوة الفرج، إلا من رحم الله، وهم قلّة، وقليل من عبادي الشكور.
أتدرون ـ يا عباد الله ـ متى تتوقف هذه المأساة؟ يوم يجتمع أمر المسلمين على قول: "لا إله إلا الله وأن سيدنا محمدًا رسول الله"، يوم نكون أمة واحدة، ويكون سبيلنا واحدًا، يوم نعود إلى منهج الحق ونطبّق سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام في عبادتنا ومعاملاتنا، يوم تكون أُسرنا مجتمعة على المحبة والوفاء والإخلاص لدين الإسلام، يوم نبتعد عن الخلافات والخصومات وظلم الآخرين ونزن بالقسطاس المستقيم. بعض التجار والذين يبيعون الناس يزنون بموازين غير مستقيمة ويظلمون العباد.
عباد الله، سفيان الثوري
كان يصاحب تاجرًا ما
فاتته الصلاة ولا الصيام ولا الحج، يقول سفيان: رأيته بعد موته في حال مكروب ومهموم
ومحزون، فقلت له: كيف لقيت الله يا صديقي؟ قال له: يا سفيان، لقيت الله وهو عليّ
غضبان، فقلت له: ولم؟! فقال له: لأنني كنت أبيع الناس، فقال لي ربي: لِمَ لَمْ تكن
تمسح الميزان قبل أن تزن الأشياء لعبادي؟ فما بالكم بمن يأكلون التراث أكلاً لَمًّا
ويحبّون المال حُبًّا جَمًّا؟! ألم يسمع هؤلاء قوله تعالى:
وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
أَلا يَظُنُّ
أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
[المطففين:1-6].
عباد الله، مالك بن دينار
كان له صاحب، ومات
هذا الصاحب فرآه مالك بن دينار في المنام بعد موته، فقال له: كيف حالك بعد لقاء
الله؟ قال له: يا مالك، إني محبوس على باب الجنة لم أدخلها، فقال له ابن دينار:
وكيف وأنت الذي كنت تصلي وتصوم وتزكي وتحج؟! لماذا حُبِست على باب الجنة؟! فقال له
الميت: لأنني استعرت من الجيران شيئًا ومت قبل أن أردّه، ولم أوصِ أهلي بردّه. لا
إله إلا الله! استعار شيئًا ولم يردّه، ومات قبل أن يردّه، ولم يوصِ أهله بردّه،
فلما استيقظ مالك من منامه ذهب إلى أهل الميت وأخبرهم كما بيّنه الميت، فقاموا
وردّوا الشيء إلى أصحابه، ورآه بعد ذلك في المنام في روض من رياض الجنة، فقال له:
فرّج الله كربك كما فرّجت كربي.
عباد الله، ردّ الأمانات إلى أهلها وردّ المظالم لأصحابها من الأمور التي أمرنا
الله بها، بعض الناس يأكلون حقوق الآخرين وبخاصة في الميراث، وبعض الآباء قد يعطي
بعض الأولاد دون الآخرين ظلمًا وعدوانًا؛ وبحجة أن هذا الولد صغير، أو بحجة أن هذا
الولد يطيعه بخلاف غيره، الأصل هنا ـ يا عباد الله ـ أن نتقي الله، وأن نعدل بين
الأولاد والبنات في العطاء وتقسيم الأموال، كما قسم الله تعالى:
لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الأُنثَيَيْنِ
[النساء:11]. إن منا من يأكل حقوق أخواته وحقوق أقربائه، ولا يخشى الله تعالى، فكيف
سنهزم عدونا إذا لم نهزم الشيطان في نفوسنا؟! إذا أردنا النصر فلننتصر على أنفسنا
أولاً، وسوف ينصرنا الله بعد ذلك على عدونا.
عباد الله، لقد كثرت في الآونة الأخيرة السرقات في مجتمعنا، اللصوص الذين يسطون على البيوت وسرقة مصاغ النساء والأموال، فئة ضالة من أبناء شعبنا تستغلّ الفَلَتَان الأمني، وتتسوّر بيوت الناس وتسرقها، وفئة أخرى تجمع الأموال باسم أسر الشهداء، وتنهب الأموال، فليتق الله هؤلاء المجرمون، والواجب علينا [أن] نوقف هؤلاء عند حدودهم، والضرب بيد من حديد على من يشدّ من أَزْرِهم.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ الصحابي الجليل أبا الدرداء
وهو يقول بعد [أن]
فتح المسلمون جزر البحر المتوسط، وفتحوا جزيرة رودوس، كان المسلمون في حال نشوة
وفرح، إلا أن أبا الدرداء بعد النصر كان يبكي، فقالوا له: أتبكي ـ يا أبا الدرداء ـ
واليوم يوم فرح؟! فقال: نعم، قالوا: فما يبكيك؟ قال: اسمعوا، أليس هؤلاء القوم
الذين قهرناهم ونصرنا الله عليهم ألم يكونوا في قوة ومَنَعَة وطمأنينة؟! قالوا: هو
كذلك، قال لهم أبو الدرداء: فلما عصوا الله هانوا على الله فأمكننا الله منهم ومن
رقابهم، وأخشى أن يأتي اليوم الذي نعصي فيه الله فنهون على الله فيمكن الله الكفار
من رقابنا. نعم يا أبا الدرداء، دار الفلك دورته، وتحرّكت الأرض حول نفسها مرات،
وحول الشمس مرات، وعصينا الله، فهُنَّا على الله، فتمكّن أعداؤنا منا.
عباد الله، إياكم والمعاصي؛ فإنها مفاتح غضب الله ونقمته، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرّنكم بالله الغرور، الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوض، فكيف نغترّ بها ونطمئن إليها؟! أم كيف يطيب فيها عيش من لا يدري متى الموت يأتيه؟!
فيا واقفون والأيام والليالي بكم سائرة، إن فيما تشاهدون من العبر لموعظة زاجرة، فما للقلوب عن قبول المواعظ ناخرة؟! وما للنفوس معرضة عن التذكرة كأنها بها ساخرة؟! وما للهمم عن العمل الصالح فاترة؟! أغرّتكم الأماني والآمال الحاضرة؟! أما علمتم أن كل جزء من الزمان يذهب بمثله من الأعمار؟! أما تحقّقتم أن العمر رأس مال الإنسان وأن ربحه العمل؟! أما تبين لكم أن ما فات لا عوض عنه ولا بدل؟! فيا عجبًا لمن وُعِظ بالمواعظ الصادقة فلم يقبل؟!
فاستيقظوا ـ رحمكم الله ـ من هذه الغفلة، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبادروا بالعمل؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، واجتنبوا المعاصي؛ فالفائز من كان لها مجانبًا، ولازموا التوبة إلى الله؛ فالسعيد من لم يزل إليه تائبًا.
الخطبة الثانية
عباد الله، غدًا سيبدأ ـ إن شاء الله تعالى ـ العام الدراسي الجديد، والمطلوب منا جميعًا وبلا استثناء ـ طلاب ومدرسين وآباء ومسؤولين ـ أن نجدّ ونجتهد؛ فالأمم لا ترقى إلا بالعلم، وأسلافنا حثّوا على طلب العلم.
ولكن من المؤسف حقًّا أن شعبنا يكتوي بنار الاحتلال واستمرار بناء الجدار العنصري الذي يعيق العملية التربوية. ومع بداية العام الدراسي الجديد يجد المعلمون والطلاب أنفسهم مقيدين، وذلك لصعوبة التنقّل والوصول إلى مدارسهم وجامعاتهم، وتقييد حرية التنقّل، وإلزامهم بالحصول على تصاريح، وفي نفس الوقت هيهات أن تصدر التصاريح، وإذا صدرت لا يُعترَف بها من الاحتلال عند الحواجز العسكرية. ومن هنا نحمّل سلطات الاحتلال مسؤولية عدم تسهيل المسيرة التعليمية.
وجميل أن يتوافق بداية العام الدراسي مع ذكرى الإسراء والمعراج، ففي مثل هذا اليوم كانت جيوش المسلمين في هذه الأرض المباركة، تم لنا الفتح عندما كانت القيادة صالحة والأمة مستيقظة، فتم الفتح الأكبر، ورفع الأذان في هذه الرحاب الطاهرة، وقرئ القرآن في المساجد والمحاريب، وعلت كلمة التوحيد من جديد، ومنح الله تعالى أمتنا نصرًا وفتحًا مبينًا. فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نرى وإياكم واقع الأمة اليوم بعدما تخلّى قادتها عن منهج الإسلام، وابتغوا سبل الغواية والشيطان.
أيها المسلمون، المتتبع لأخبار عالمنا الإسلامي اليوم يرى أن دول الكفر ـ وعلى رأسها أمريكا ـ قد نجحت نجاحًا كبيرًا في تمزيق عالمنا الإسلامي، عن طريق تفتيت وتجزئة أكثر من دولة إسلامية، بغية إضعاف كيانها وتشتيت جمعها ونهب ثرواتها.
السودان سلة العالم العربي الغني بالثروات المعدنية، تم فصل الجنوب ذي الغالبية المسيحية عنه، وإعطاؤه الحكم الذاتي؛ ذريعة لإحلال السلام. وهناك في أندونسيا تم فصل إقليم إيتشه ذي الغالبية المسيحية أيضًا، وإعطاؤه الحكم الذاتي، تحت ذريعة حق تقرير المصير وحرية الشعوب. أما في جزر مورو في جنوب الفلبين ذات الأغلبية الإسلامية فإن الأمر يختلف اختلافًا كبيرًا بنظر الدول الاستعمارية، فهذا إرهاب ولا بد من محاربته. أما في العراق فحدّث ولا حرج، أمريكا تضع مُسَوّدة الدستور العراقي بما يخدم مصالحها ويعزّز تفتيت وحدة العراق. الدستور الجديد يتضمن حلولاً فِدْرَاليّة هي في حقيقة الأمر تجزئة العراق لدويلات، لا الحفاظ على وحدته، الأمر الذي يتباكى عليه زعماء العالم العربي والإسلامي. إن الفِدْرَاليّة تخفي وراءها بذور حرب أهلية مستقبلية بين الطوائف الأساسية في العراق، ويدفع الثمن المسلمون في العراق، فلم يعد هناك عراق واحد، ولم يعد هناك شعب واحد، الكل يريد أن يأكل العراق ويبتلعه.
أيها المسلمون، أمريكا تخطط للهيمنة على السعودية وتجزئتها، فعلى الرغم من العلاقات الحَمِيمة بين الدولتين إلا أن الحقد الأمريكي على الإسلام جعلها تنظر إلى السعودية كمركز للإشعاع والنور، وإليها وفيها يحج المسلمون، فلا بد من إيجاد أجواء مشابهة لما يحدث في العراق، فهل تحقق أمريكا أطماعها ومخططاتها العدوانية؟!
فإلى متى هذا الخنوع والاستسلام لمخططات أمريكا؟! إلى متى السكوت على ما يجري من مذابح في شتى أنحاء العالم وتحت ذريعة مسميات الإرهاب؟!
أيها المسلمون، الضجة الإعلامية التي رافقت إعلان انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ضجة فاقت بحجمها الانسحاب ذاته. وإذا كان من حق الفلسطينيين أن يتباكوا ويفرحوا لهذا الجلاء والانسحاب فإنه لا يجوز أن نفرط بالتفاؤل مما يجري على الساحة الفلسطينية، سيما في أعقاب تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية وتأكيده على اللاءات: لا لعودة اللاجئين أو النازحين, لا لإزالة مستوطنات الضفة الغربية ذات الأغلبية السكانية، لا لأية سيادة فلسطينية على القدس، ولا مجال للتفاوض عليها.
هذه اللاءات التي تحرج الجانب الفلسطيني يجب أن تكون سلاحًا بيد المفاوض الفلسطيني؛ ليبرهن للعالم العربي والإسلامي أن السلام بعيد المنال، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال تسريع عملية التطبيع، فإسرائيل لا تزال تصادر الأرض الفلسطينية، ولا تزال تبني وتوسّع المستوطنات، ولا تزال تمارس التصفية الجسدية للفلسطينيين.
أيها المسلمون، الطريق واضح، بينه أمير المؤمنين عمر
في كلمات يسيرة،
وعمر إذا تكلم فحسبك بعمر، كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (أكثروا من ذكر عمر؛
فإنكم إذا ذكرتم عمر ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل فقد ذكرتم الله عز وجل).
عباد الله، الأمة غافلة، وعمر يصف لنا الدواء ويقول: (لقد كنا أذلاّء فأعزنا الله بالإسلام، فإذا طلبنا العزة في غير الإسلام أذلنا الله).