قال تعالى:﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة:23-24)
أولاً-بعد
أن قرَّر الله تعالى في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن
الإتيان بمثل القرآن العظيم في قوله تعالى:
﴿ قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء:
88)
وتحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أن
يأتوا:
﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾(يونس:
37)
و﴿بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13)
و﴿
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور:
34)
أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر
الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب،
ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم
إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا،
فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من
أمثالهم.
ويبدأ هذا
التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال، هي وصف الرسول عليه الصلاة
والسلام بالعبودية لله
الواحد القهار. ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات
منوعة متكاملة:
فهو أولاً تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقريب بإضافة عبوديته لله
تعالى، دلالة على أن مقام العبودية لله جل وعلا هو أسمى مقام، يدعى
إليه بشر، ويدعى به كذلك.
وهو ثانيًا تقرير
لمعنى العبودية في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده, واطِّراح الأنداد
كلها من دونه. فها هو ذا النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي- وهو
أعلى مقام- يدعَى بالعبودية
لله الخالق, ويشرَّف بهذه النسبة في هذا المقام.
وقيل في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في جميع الكفار. وروي عن ابن
عباس ومقاتل: أنها نزلت في اليهود. وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي
يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه. والأظهر هو القول
الأول.
ومناسبة الآية لما قبلها: أن الله عز وجل بعد أن فرغ من تقرير الإلهية
والوحدانية، شرع سبحانه في تقرير النبوة، واحتج بهذه الآية الكريمة على
صدق نبوة رسوله عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به من القرآن، وأنه
من عنده وكلامه، الذي يتكلم به، وأنه ليس من صنعة
البشر، ولا من كلامهم.
وتقرير الإلهية والوحدانية،وتقرير
النبوة توأمان،
لا ينفك أحدهما عن الآخر. فالآية، وإن سيقت لبيان الإعجاز، إلا أن
الغرض من هذا الإعجاز إثبات النبوة.
ثانيًا-
قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾
تنبيه على أن القرآن، الذي نزَّله الله تعالى على عبده، لا رَيْبَ فيه؛
كما قال تعالى في أول السورة:
﴿ ذَلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة:
2)
فنفى جنس الرَّيب فيه على سبيل الاستغراق.
وتنكير الرَّيْب، للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفًا قليلاً،
لسطوع ما يدفعه، وقوة ما يزيله. ومثله
في ذلك قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ ﴾(الحج:
5)
والرَّيْب- في اللغة- أن تتوَّهم بالشئ أمرًا مَّا، فينكشف عمَّا
تتوَّهمه.
وحقيقته: قَلَقُ النفس. يقال: رابني الشيء، وأرابني. وقيل: دَعْ ما
يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة.
والرِّيبةُ: اسم من الرَّيْب. والارتيابُ يجرى مجرى الإرابة. وقد أثبت
الله تعالى وقوع الارتياب من الكافرين والمشركين والمنافقين، فقال:
﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ﴾(الحديد:
14)
ونفاه تعالى من الذين أوتوا الكتاب، والمؤمنين، فقال:
﴿ وَلَا
يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾(المدّثر:
31)
وقوله تعالى:﴿ رَيْبَ
الْمَنُونِ ﴾(الطور:
30)،
سمَّاه رَيْبًا، لا أنه مُشكَّكٌ في كونه؛ بل من حيث تشكُّكٍ في وقت
حصوله. فالإنسان أبدًا في رَيْبِ المنون، من جهة وقته، لا من جهة كونه.
وقال تعالى هنا:
﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة:
23)،
وقال في يونس:
﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾(يونس:
104)
فاستعمل
الرَّيْب في الأول، والشَّكَّ في الثاني. والسرُّ في ذلك أن
الشَّكَّ هو تردُّدُ الذهن بين أمرين على حدٍّ سواء. أماالرَّيْبُ
فهو شَكٌّ بتهمة، وهو من قولهم: رَابَ: حقَّق التهمة. قال الشاعر:
ليس في الحق يا أميْمةُ رَيْبٌ
**إنما
الرَّيبُ ما يقول الكذوب
ولما كان المشركون، مع شكِّهم في القرآن، يتهمون النبي صلى الله عليه
وسلم بأنه هو الذي افترى القرآن، وأعانه عليه قوم آخرون، نفى الله
تعالى عنه أولاً جنس الرَّيب على سبيل الاستغراق بقوله تعالى:
﴿ ذَلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة:
2)
ثم نبَّه ثانيًا على أنه لا ريب فيه بقوله
:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة:
23)
وأما قوله تعالى:﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ
مِّن دِينِي ﴾(يونس:
104) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب، أو غيرهم ممَّن كان
يعرف النبي صلى الله عليه وآله بالصدق والأمانة، ولا ينسبه إلى الكذب
والخيانة.
فإن قيل: كيف نفى سبحانه وتعالى أن يكون في القرآن رَيْبٌ،
ثم خاطب المشركين بقوله:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة:
23) ؟
فالجواب: أنه لا تنافيَ بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وبين نفي
الرَّيب عن القرآن؛ لأن نفيَ الرَّيب يدل
على نفي الماهيَّة. أي: ليس ممَّا يحلُّه الرَّيْبُ، ولا يكون فيه، ولا
يدل على نفي الارتياب فيه؛ لأنه قد وقع ارتياب فيه من ناس كثيرين.
ولا يردُّ على ذلك بقوله تعالى:﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾،
لاختلاف في الحالِّ والمحلول فيه. فالمحلول فيه هنا هم المخاطبون،
والرَّيْبُ هو الحالُّ فيهم. والحالُّ في قوله تعالى:﴿ لاَ
رَيْبَ فِيهِ ﴾مَنفيُّ،
والمحلُّ هو الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وكون
الرَّيْب منفيًّا عن القرآن.
ووجهُ الإتيان بـ﴿ فِيْ
﴾الدالة
على الظرفية هو الإشارةُ إلى أنهم قد امتلكهم الريب، وأحاط بهم إحاطة
الظرف بالمظروف. واستعارة﴿ فِيْ
﴾لمعنى
الملابسة شائعة في كلام العرب؛ كقولهم:”هو
في نعمة
“.
وفي قوله تعالى:﴿
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾التفات؛
لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؛ لأن قبله قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾(البقرة:
21)،
وقوله تعالى:
﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:
22)
فلو جرى الكلام على هذا السياق، لكان نظم الكلام هكذا:
﴿ مِمَّا
أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِه ﴾
لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزَّل، والمنزَّل عليه ما لا
يؤدِّيه ضمير غائب، لا سيَّما كونه أتى بـ{
نَا }المشعرة
بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر. ونظير ذلك قوله تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِيَ
أَنزَلَمِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾(الأنعام:99)
وفي تعدي ﴿
نَزَّلَ ﴾بـ﴿
عَلَى ﴾إشارة
إلى استعلاء المنزَّل على المنزَّل عليه، وتمكُّنه منه، وأنه قد صار
كالملابس له، بخلاف﴿
إِلَى ﴾؛
فإنها تدل على الانتهاء والوصول؛ كما في قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ ﴾(الأنعام:
111)
ولما كانوا في ريب من القرآن حقيقة، وكانت﴿ إِنْ ﴾
الشرطية؛ إنما تدخل على المُمْكن، أو
المحقَّقِ المبهمِ زمانُ وقوعه،
ادَّعى بعضهم أنَّ﴿ إِنْ ﴾
هنا معناها:﴿
إِذَا ﴾؛ لأن﴿
إِذَا ﴾ تفيد مضيَّ ما أضيفت إليه.
ومذهب المحققين أنَّ ﴿ إِنْ
﴾ لا تكون بمعنى:﴿
إِذَا ﴾. والذي قالوه: إن الواقع-
ولا بد- يعلق بـ﴿
إِذَا ﴾. وأما ما يجوز أن يقع، وأن
لا يقع، فهو الذي يعلق بـ﴿ إِنْ
﴾ ، وإن كان بعد وقوعه متعيِّن الوقوع.
وقوله تعالى:﴿ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾أمرٌ
من الإتيان، وهو المجيء بسهولة، كيفما كان. يقال: أتى بالشيء من مكان
كذا إلى مكان كذا، إذا جاء به بسهولة ويسر. وهذا لا يقدر عليه إلا من
آتاه الله تعالى بسطة في الجسم، أو العقل والعلم. تأمل قوله تعالى:
﴿ قَالَ
عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن
مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ*قَالَ
الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾
(النمل: 39- 40 )
كيف نبَّه تعالى على أن الذي عنده علم من الكتاب، وهو رجل من أهل
الحكمة، اقتدر على الإتيان بعرش بلقيس، وتغلب على العفريت، مع ما فيه
من قوة وشدة، بقوة العلم !
وصيغة الأمر﴿ فَأْتُوا
﴾للتهكم،
ومذهب جمهور المفسرين أنها
للتعجيز؛
لأن المراد بها ليس طلب ذلك منهم، بل المراد بها إظهار عجزهم.
والمعروف أن الأمر ضد النهي، وهو طلب الفعل، وصيغته: افعل، وليفعل. وهي
حقيقة في الإيجاب؛ نحو قوله تعالى:
﴿ وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ
﴾(البقرة:
43)، وقوله
تعالى:
﴿ فَلْيُصَلُّواْ
مَعَكَ ﴾(النساء:
102).
ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ ﴾- ﴿
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾
فالأمر فيهما باقٍ على حقيقته، بدليل أن الله تعالى لم يطلب ذلك منهم
مطلقًا؛ بل إنما قال عقب كل منهما:
﴿ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿ قُلْ
فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(آل
عمران: 93)
﴿قُلْ
فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا
أَتَّبِعْهُ
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
﴾
(القصص: 49)
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا
خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ
اِِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(الأحقاف:
4)
﴿فَأْتُوا
بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(الصافات:
157)
﴿ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(القلم:
41)
وعلى هذا التقدير، ووجود ذلك الشرط، يجب الإتيان بالشيء المأمور به.
أما
أمر التعجيز في كلام الله تعالى فمثاله قوله إبراهيم- عليه السلام-
لنمرود الكافر:
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا
مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(البقرة:
258)
والتنوين في
﴿ ِسُورَةٍ
﴾
للتنكير. أي: ائتوا بسورة مَّا، وهي القطعة من القرآن، التي أقلها ثلاث
آيات. وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
واختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله:﴿ مِنْ
مِثْلِهِ ﴾
على قولين:
أحدهما:أنه
يعود على قوله تعالى:﴿ مِمَّا
نَزَّلْنَا ﴾.
أي: على القرآن.
والثاني:أنه
يعود على قوله تعالى:﴿
عَبْدِنَا ﴾.
أي: على النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب هو القول الأول، وهو قول
أكثر المفسرين.
واختلفوا في المراد بالمثلية على كون الضمير عائدًا على القرآن على
أقوال هي إلى التأويل البعيد أقرب منها إلى التفسير الصحيح؛ لأنها
مبنيَّة على فهم غير صحيح لمعنى المثل أولاً. وأن قائلوها لم يفرقوا
بين الإتيان بالشيء، وقوله ثانيًا. وكلاهما أوضح من أن ينبَّه عليه، أو
يشار إليه، وهذه الأقوال هي كما ذكرها أبو حيَّان:
الأول:من
مثله، في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه
وإتقان معانيه.
الثاني:من
مثله، في غيوبه من إخباره بما كان، وبما يكون.
الثالث:من
مثله، في احتوائه على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحكم والمواعظ،
والقصص والأمثال.
الرابع:من
مثله، في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف.
الخامس:من
مثله، أي: من كلام العرب، الذي هو من جنسه.
السادس:من
مثله، في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه
الماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه.
السابع:من
مثله، في دوام آياته، وكثرة معجزاته.
الثامن:من
مثله، أي: في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأن ما
جاءكم به ليس هو من عند الله.
ومذهب أكثر المفسرين أن ذكر المِثل في
قوله:﴿ مِنْ
مِثْلِهِ ﴾ هو
على سبيل الفرض. ومذهب بعضهم أن المراد به: كلام العرب، الذي هو من
جنسه، فيكون ذكره ليس على سبيل الفرض.
ثم اختلفوا في معنى
﴿ مِنْ
﴾،
فقيل: هي للتبعيض، وهو مذهب الجمهور. وقيل: هي لبيان الجنس، وإليه ذهب
الشيخ ابن عطية والمَهدَويُّ، وغيرهما. وذهب بعضهم إلى أنها زائدة؛
ولهذا حذفت في قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس:
38)
أما كون ﴿
مِنْ ﴾لبيان
الجنس فلا يجوز على مذهب البصريين. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا
يجوز على مذهب الكوفيين، وجمهور البصريين.
وليس في قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس:
38)
دليل على زيادتها؛ لأن المراد به: فأتوا بكلام مثل القرآن. أو بقرآن
مثل القرآن. وإذا كان كذلك، فلا وجه لدخول﴿
مِنْ ﴾فيه.
وأما قوله تعالى:﴿
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة:
23) فالمراد
به:
فأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن،
طويلة كانت، أو قصيرة؛
لأن
لفظ
﴿ سُورَة ﴾ يعمُّ
كل سورة في القرآن؛ لأنه نكرة في سياق الشرط، فتعمُّ؛ كما هي في سياق
النفي.وعليه
فإن﴿ مِنْ ﴾ فيه لابتداء الغاية، وهي
متعلقة بقوله:﴿
فَأْتُوا ﴾.
وأما المراد بالمثليّة هنا فهو كالمراد بها في قوله تعالى:
﴿ قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء:
88)
وهذا ما فصَّلت القول فيه في مقالي السابق:﴿ لَا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾،
المذكور على هذا الرابط:
فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ثالثًا-
لما طالب سبحانه وتعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن- على
تقدير حصولهم في ريب من كون هذا القرآن من عند الله- لم يكتف بقولهم
ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك،
والتظافر والتعاون والتناصر، فقال سبحانه:
﴿
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
﴾
وصيغة الأمر هنا:﴿ ادْعُوا
﴾للإباحة،
بخلاف صيغة الأمر قبلها، فتلك للتهكم بهم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك.
وفسر بعضهم الدعاء- هنا- بطلب
الغوث. يقال: دعا فلانًا: استغاث به. وبالاستحضار. يقال: دعا فلان
فلانًا إلى الحاكم، استحضره إليه.
والشهداء في قوله تعالى:﴿ شُهَدَاءَكُمْ
﴾مقيَّد
بلفظه،
وهو جمع: شهيد، بمعنى: شاهد، من شهد، إذا حضر. وجيء به على: فعيل، لما
فيه من المبالغة؛ وكأنه تعالى أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في
الشهادة، يصلحون أن تقام بهم الحجة. والشهيد
كما قال الراغب: كل من يُعتَدُّ بحضوره ممن له الحل والعقد؛ ولذا
سمُّوا غيره: مُخلِفًا.
وقوله تعالى:﴿ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ
﴾عبارة
شرطية، جيء بها قيْدًا على الجملة قبلها. وفيها إثارة لحماسهم، أو تهكم
بهم.
والمعنى المراد: إن كنتم صادقين، فأتوا بسورة من مثله.
رابعًا-
ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تحدٍّ وتهكم؛
لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل سبحانه إلى إرشادهم،
فقال لهم:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
﴾(البقرة:
24)،
فذكر أمرين:
أحدهما:أنهم
لم يفعلوا.
والثاني:أنهم
لن يفعلوا أبدًا؛ لأنهم ليسوا بقادرين على
ذلك.
ولذلك أمرهم تعالى باتقاء النار، التي أعدَّها للكافرين من أمثالهم.
وأتى بـ﴿ إِنْ
﴾ الشرطية، التي تدل على إمكان ما
بعدها وعدم إمكانه، ولم يأت بـ﴿ إِذَا
﴾، التي
تدل على تحقق ما بعدها زيادة في التهكُّم بهم؛ كما يقول القائل: إن
غلبتك، لم أبق عليك، وهو يعلم أنه غالب.
و﴿ لَنْ ﴾
لنفي المستقبل، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان، لن
يأتوا ﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾؛
وذلك مبالغة في التحدي، وإفحامًا لهم.
ولو كان في طاقتهم تكذيبه، ما توانوا عنه
لحظة واحدة.
وقال تعالى:﴿
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾،
ولم يقل سبحانه:﴿ فَإِنْ
لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا ﴾؛ لأن{
فَعَلَ } عامٌّ في الأفعال
كلها، ويجري مجرى الكناية، فيعبَّر به عن
كل فعل، إيجازًا واختصارًا، وحيث أطلق في كلام الله تعالى، فهو محمول
على الوعيد الشديد؛ كقوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل:
1).
وقوله تعالى:
﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ
الأَمْثَالَ ﴾(إبراهيم:
45)
وجملة ﴿ لَنْ تَفْعَلُوا ﴾ اعتراضية
بين الشرط وجوابه، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى؛ لأنه لما قال
تعالى:﴿
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾، وكان معناه: نفي في المستقبل، مخرجًا
ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لن يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك
تأكيد على عجزهم. وفي ذلك إثارة لهممهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ
وأبدع، وفيه أيضًا دليلان على إثبات النبوة:
أحدهما:صحة
كون المتحدَّى به معجزًا، وأنه من عند الله تعالى.
والثاني:الإخبار
بالغيب من أنهم لن يفعلوا في المستقبل.
ولما كان الفعل المنفي بـ﴿لَمْ
﴾ في قوله تعالى:﴿
وَلَمْ تَفْعَلُوا ﴾مرادًا به
الاستقبال، لدخول أداة الشرط عليه، حسُن تأكيده بقوله:﴿ وَلَنْ
تَفْعَلُوا ﴾. وكان من حقه أن يؤكَّد بقول:﴿ وَلَا
تَفْعَلُون ﴾، فيقال:
﴿فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا وَلَا تَفْعَلُون ﴾؛ لأن قبله في أول السورة:
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة:
2)
و﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ نفيٌ لجنس
الريب عن القرآن الكريم على سبيل الاستغراق والشمول. وهذا النفي يناسبه
أن يقال:﴿ وَلَا
تَفْعَلُون ﴾؛ كما قال تعالى في آية الإسراء
:
﴿ قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء:
88)
والسر في هذا العدول من النفي بـ﴿ لَا
﴾ إلى النفي بـ﴿ لَنْ
﴾ أن العرب تنفي بـ﴿ لَنْ
﴾ ما كان ممكنًا عند المخاطب، مظنونًا أنه سيكون، فتقول:
لن يكون، لما يمكن أن يكون؛ لأن
﴿ لَنْ
﴾ فيها معنى﴿ أَنْ
﴾. و﴿ أَنْ
﴾ تدل على إمكان الفعل، دون الوجوب والاستحالة. وإذا كان الأمر
عندهم على الشك، لا على الظن: أيكون، أم لا يكون ؟ قالوا في النفي: لا
يكون.
وقوله تعالى:
﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾
جواب للشرط. ولقائل أن يقول: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء
إتيانهم بسورة من مثله ؟ والجواب: إذا ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من
مثل القرآن، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صح ذلك،
ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار. فاتقاء النار يوجب ترك
العناد. فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله:﴿ فَاتَّقُوا
النَّارَ ﴾ قائمًا
مقام قوله:{ فاتركوا
العناد }.
وهذا هو الإيجاز، الذي هو أحد أبواب البلاغة. وفيه تهويل لشأن العناد؛
لإنابة اتقاء النار منابه، متبعًا ذلك بتهويل صفة النار.
و﴿
النَّاسُ ﴾يراد
به: الخصوص ممَّن شاء الله دخولهم هذه النار، وإن كان لفظه عامًا. و﴿
الْحِجَارَةُ ﴾يراد
بها: الأصنام. وقد جعل كلاهما وقودًا لهذه النار، فدل على أنها نار
ممتازة من النيران، بأنها لا تتَّقد إلا بالناس والحجارة؛ وذلك يدل-
أيضًا- على قوتها من وجهين:
الأول:أن
سائر النيران، إذا أريد إحراق الناس بها، أو إحماء الحجارة، أوقدت
أولاً بوقود، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه، أو إحماؤه. وهذه توقد بنفس
ما تحرق.
والثاني:أنها
لإفراط حرِّها تتَّقد في الحجر.
والوَقود، بفتح الواو، هو ما يلقى في النار لإضرامها؛ كالحطب ونحوه،
كما قال تعالى:
﴿ وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾(الجن:
15)
وإنما قرن
الله سبحانه الناس بالحجارة، وجعلها معهم وقودًا؛ لأنهم قرنوا بها
أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصنامًا، وجعلوها لله أندادًا، وعبدوها
من دونه سبحانه. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله:
﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *
لَوْ
كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(الأنبياء:
98- 99).
وهذه الآية مفسرة لها، فقوله تعالى:
﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾
في معنى:
﴿ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾
وقوله:﴿ حَصَبُ
جَهَنَّمَ ﴾في معنى:﴿
وَقُودُهَا ﴾ .
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء
والشهداء، الذين يستشفعون بهم، ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكًا بهم،
وجعلها الله عذابهم، قرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغًا وإغرابًا في
تحسرهم.
ونحو ذلك ما يفعله تعالى بالكافرين، الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة
وذخيرة، فشحوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يُحمَى عليها في نار جهنم،
فتُكوَى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم؛ كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى
بقوله:
﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ
لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾(التوبة:
35)
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن،
لقوله تعالى:﴿ أُعِدَّتْ
﴾.أي:
أرصدت وهيئت. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك؛ منها:” تحاجَّت
الجنة والنار “.
ومنها:” استأذنت
النار ربها، فقالت: ربِّ ! أكل بعضي بعضًا، فأذنَ لها بنفسين: نفس في
الشتاء، ونفس في الصيف “.
ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه:” سمعنا
وجبة، فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي
به من شفير جهنم، منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها “.
وغير ذلك من الأحاديث المتواترة، التي تؤكد على أن النار، التي أعدَّها
الله تعالى للكافرين، وجعل وقودها الناس والحجارة، موجودة، نسأل الله
تعالى أن يعيذنا منها برحمته الواسعة !
بقلم الأستاذ
محمد إسماعيل عتوك
m_ismael@aloola.sy