د / حسين رضوان اللبيدي(1)
لقد دأب أعداء الإسلام على مهاجمته من خلال التشكيك في لغة الوحي، وقد
ذكر ذلك في القرآن الكريم وها هم يعاودون الكرة، ولكن في هذه المرة من
خلال عملاء لهم من المنتسبين إلى الإسلام، فظهرت فتنة الشعر الجاهلي
وفتنة الآيات الشيطانية ومفهوم النص يريدون بها أن يوحوا لعقول البسطاء
غير الراسخين في العلم بأن لغة القرآن أو منطوقهقابل
للتغير في الزمان والمكان، بل قابل للنقض والإبرام كما هو في أي نص
أدبي من إنتاج البشر، حتى يخرجوا النص القرآني من جانب الوحي الإلهي
إلى جانب الوضع الإنساني، بمعنى أن يجعلوه كلام بشر، ولكن هيهات لهم أن
ينجحوا في ذلك، لأن الحق سبحانه وتعالى جعل في كتابه آيات وفي كونه
آيات، وجعل العقل دليلاً يستطيع أن يصل إلى الحق والحقيقة وهذا العلم
دليلٌ على ذلك، وهذا البحث يحتاج إلى إمعان فكر لأنه بلغة علمية رصينة
ونتيجة أبحاث علمية متينة.
ولأن الكمال لله والعجز من شيمة البشر، فإني أعتذر للقارئ المفكر من
قصور قد يجده في سياق البحث ولكن ليكن هذا البحث بداية
أعمالعلمية
موسعةتشترك
فيه مجموع من العقول الباحثة عن الحقيقة المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة
الحق بالفكر والعلم ومن تعصب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
خلق أعداء الوحي (القرآن) أفكاراً جديدة تتمثل في اتجاهين:
1) ـ اتجاه يشكك في الإسناد المتمثل في الشعر الجاهلي كمرجع للبيان
العالي وللإعجاز البياني، ويقولون إن الشعر الموجود في بداية نزول
الوحي شعر مزيف منسوب للشعر الجاهلي، وهم يريدون بذلك أن يهدموا المرجع
للإعجاز البياني في اعتقادهم، وإذا هدموا المرجع هدموا إعجاز النص
المرسل بالوحي في اعتقادهم.
2) ـ اتجاه آخر يقول بأن النص المرسل من جنس البشر ولغة البشر
اصطلاحية بشرية أو تطورية نشأت بالصدقة ثم بالاصطلاح البشري البحت
يريدون أن يقولوا أن النص المرسل قابل للتغير في الزمان والمكان،
ومدلولاته قد تعطي مفاهيم في زمان غير الذي تعطيه في زمان آخر، وهذه
الفرية تهدم الإعجاز والثبات والعالمية للنص المرسل بالوحي. (ملحوظة:
المقصود بالنص المرسل بالوحي هنا القرآن الكريم المعجزة الخالدة)، ومع
اشتراك أصحاب هذه الاتجاهات في هدف واحد وهو الإيحاء ببشرية النص ولأنه
بشري فهو قابل للنقض والإبرام والتغير في الزمان والمكان. ومع ذلك
فوسيلة الوصول إلى ذلك الاتجاه الأول تختلف بل تتناقض مع وسيلة الاتجاه
الثاني.
فالاتجاه الأول يعتبر أن اللغة وصلت إلى قمة
مجدهاوبيانها
عند نقطة معينة، وبعدها حدث الانهيار والضعف، وعند هذه النقطة يكون
الإسناد والقياس والمرجعية، ولأن هذه النقطة مفقودة فالإسناد ضعيف.
والاتجاه الثاني يقول العكس بأنه لا إسناد ولا قمة بل اللغة تتطور إلى
الأصلح دائماً وأبداً، فهي مع الإنسان في حركته في الزمان والمكان، وما
كان مبيناً معجزاً في وقت لهو غير ذلك في وقت آخر، بل قد تختلف الدلالة
بالكلية من زمان إلى زمان بل ومن مكان إلى مكان.
ولأن هذه القضايا من تلبيس إبليس فإن الرد العلمي هو خير وسيلة لمنع
الآثار المدمرة لهذه الفتن الشيطانية، فهيا بنا مع العقل والعلم مع
الفكر الهادئ لنصل إلى الحقيقة بإذن الله.
العقل هو أداة التكليف وهو ميزة بشرية عالية، وهو لطيفة ربانية ميزت
جنس الإنسان عن بقية المخلوقات، وهو موجود غير محسوس، وهو مدرك بآثاره
الواضحة، والتي منها الفرق بين من له عقل ومن لا عقل له، وحتى هذا
الفرق لا يدرك إلا به، وهو اللطيفة التي بها يفهم الحس ويتوصل به إلى
نتائج ذات معنى من مقدمات متعددة، وهو
المقباسالمخترع
المبدع وهو هبة من الله للإنسان تكليفاً وفي غيابه يسقط التكليف وبه
يتمايز المكلفون. ولكي تتواصل العقول كان لا بد من لغة فيها بيان من
خلالهاتتلاقح
الأفكار لتولد المعاني، والمعاني الجديدة ومن خلاله تتواصل المعاني
الداخلية من فرد إلى فرد، ومن أمة
إلى أمة
وبقدر العقول تكون درجة ذلك البيان، وهذه اللغة وذلك البيان علم والعلم
يحتاج إلى معلم فمن علم الإنسان؟ الإجابة أبواه وأساتذته وبتسلسل
القضية حتى آدم يسأل العقل من علم آدم؟ وتسمع الإجابة من رب آدم:)وعلم
آدم الأسماء كلها ..
([الآية
31 سورة البقرة].
ومن هنا بدأت قضية اللغة: أتوفيقية هي أم اصطلاحية؟ بمعنى هل هي إلهام
من الله أم من تواضع البشر؟ ولهذه القضية تاريخ طويل فهيا بنا في رحلة
مع القضية عبر الزمان.
نشأة اللغة:
هناك أربع نظريات في نشأة اللغة هي:
(النظرية الأولى)إلهام
إلهي هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء وذهب إلى هذا الرأي:
أ ـ في العصور القديمة:الفيلسوف
اليوناني هيراكليت، ب ـ في العصور الوسطى: ابن فارس، ج ـ في العصور
الحديثة: الأب لامي والفيلسوف دوبونالد. قال ابن فارس(2).
أقول: إن لغة العرب توفيق ودليل ذلك قوله تعالى:
)وعلم
آدم الأسماء كلها (فكان
ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة
وأرض وسهل وجبل وحمار وأشياء ذلك من الأمم وغيرها. وعن مجاهد قال: علمه
اسم كل شيء، وقال غيرهما:
إنما علمه أسماء الملائكة، وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين. فإن
قال: أفتقولون في قولنا سيف وحسام إلى غير ذلك من أوصافه أنه توفيق حتى
لا يكون شيء منه مصطلحاً عليه؟ قيل له: كذلك نقول، والدليل على صحة ما
نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو
يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأشعارهم، ولو كانت اللغة، واضعة واصطلاحاً
لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منا في الاحتجاج لو اصطلحنا على
لغة اليوم ولا فرق.
ولعل ظاناً يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة
واحدة وفي زمان واحد. وليس الأمر كذلك بل وفق الله جل وعز آدم عليه
السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشرت
من ذلك إلى ما شاء الله، ثم علم بعد أدم عليه السلام من عرب الأنبياء
صلوات الله عليهم نبياً نبياً ما شاء أن يعلمه، حتى انتهى الأمر إلى
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فآتاه الله عز وجل من ذلك ما لم يؤت
أحداً قبله، تماماً على ما أحسنه من اللغة المتقدمة، ثم قر الأمر قراه
فلا نعلم لغة من بعده حدثت. فإن
أخطأ أحد في اللغةوجد
من نقاد العلم من ينقيه ويرده.
ونقطة أخرى
أنه لم يبلغنا أن قوماً من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على
تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه، فكنا نستدل بذلك على اصطلاح كان
قبلهم. وقد كان من الصحابة رضي الله عنهم ـ وهم البلغاء والفصحاء ـ من
النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناه اصطلحوا على اختراع
لغة أو أحداث لفظة لم تتقدمهم.
ومعلوم أن حوادث العالم لم تنقضيإلا
بانقضائه ولا تزول إلا بزواله وفي ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه من
هذا الباب. ورد ابن جني على النظرية بتأويل الآية
)وعلم
آدم الأسماء ..
(بأنها
قد تحتمل أن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ.
وفي العهد القديم، سفر التكوين: ( الله خلق
من الطين حيوانات الحقول وجميع طيور السماء ثم عرضها على آدم ليري كيف
يسميها وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه لها الإنسان، فوضع آدم أسماء
لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول ..).
ويقول الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد:
أن ككل هؤلاء يقررون بأن اللغة التوفيقية إلهامية ولكن أصحاب هذه
النظرية لا يكادون يقدمون بين يدي مذهبهم دليلاً يعتد به. وأما أدلتهم
النقلية فبعضها يحتمل التأويل وبعضها يكاد يكون دليلاً عليهم لا لهم.
النظرية الثانية:
تقول بأن اللغة اصطلاحية حدثت
بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالاً ومن أهم من تكلموا عنها
ابن جني(3)يقول:
(هذا موضع محرج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة
إنما هو تراضه واصطلاح لا وحي (وتوقيف) ويشرح رحمه الله ذلك بقوله:
وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة قالوا: وذلك
كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء
المعلومات، فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظاً ثم يقول رحمه الله: (أن كل
اللغات تجري على هذا المنوال ثم يتولد منها لغات كثيرة، ولكن لا بد
لأولها أن يكون متواضعاً عليه بالمشاهدة والإيماء).
وقال أصحاب هذا الرأي: إن القدير سبحانه لا يجوز أن يوصف بأنه يواضع
أحداً من عبادة على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد لها من إيماء
وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه، والمشار نحوه، والقدير سبحانه لا
جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه.
ثم قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده
عليها، بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا، والذي
كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا، وجواز هذا منه ـ سبحانه ـ كجوازه
من عباده.
ويعلق ابن جني رحمه الله قائلاً: إلا أنني سألت يوماً بعض أهله، فقلت:
ما تنكر أن تصح المواضع من الله تعالى؟ وإن لم يكن ذا جارحة، بأن يحدث
في جسم من الأجسام، خشية أو غيرها، إقبالاً على شخص من الأشخاص،
وتحريكاً لها نحوه، ويسمح في نفس تحريك الخشية نحو ذلك الشخص صوتاً
يضعه اسماًله،
ويعيد حركة تلك الخشية نحو ذلك الشخص دفقات، فتقوم الخشية في هذا
الإيماء، وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في الواضعة
ثم يعقب قوله: وأعلم فيما بعد، أنني علم تقادم الوقت، دائم التغير
والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التاذب لي، مختلفة
جهات التقول على فكري، وذلك بأنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة
الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما
يملك على جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، وانضاف إلى
ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل فقوي في نفسي
اعتقاد كونها
توفيقاًمن
الله سبحانه وأنها وحي، ثم أقول في ضد هذا. كما وقع لأصحابنا ولنا
تنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن
يكون الله تعالى خلق من قبلنا ـ وإن بعد مداه عنا ـ من كان ألطف منا
أذهاناً وأسرع خواطر، وأجرأ جفاناً فأقف
بين هاتينالخلتين
حسيراً، وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن
صاحبتها قلنا به، وبالله التوفيق.
وهكذا انتهى بحث ابن جني عن نشأة اللغة أو الكلام البشري بالحيرة
والتردد وعدم الجذم وهذا إحساس صادق لعالم كبير كما سترى في سياق
البحث.
ويعلق الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد
وافي في كتابه(4)بقوله:
وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي، بل إن ما تقره
ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا
بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً، بل تتكون بالتدرج
من تلقاء نفسها.
هذا ولأن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية
يتفاهم بها المتواضعون فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو
نفسه على وجودها من قبل.
النظرية الثالثة:
تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل
جميع أفراد النوع الإنساني، وإن هذه الغريزة كانت تحمل كل فرد على
التعبير عن كل مدرك حسي أو معقول بكلمة خاصة به كما أن غريزة التعبير
الطبيعي عن الانفعالات تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة
(الضحك، البكاء تغيرات الأسارير المختلفة ..) وأن هذه التغيرات
الغريزية عامل مشترك من البداية لجنس الإنسان . وأنه يعد نشأة اللغة
الإنسانية الأولى لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة فأخذت تنقرض شيئاً
فشيئاً حتى تلاشت.
ولقد وجد العالم الألماني (مكس مولر)
أن اللغات الهندية الأوربية وهي إحدى اللغات الثلاث التي يرجع إليها
اللغات الإنسانية لها مفردات لا تتجاوز 500 خمس مئة أصل مشترك وأن هذه
الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشقت منها هذه الفصيلة، وتبين له من
تحليل هذه الأصول أنها تدل على معاني كلية، وأنه لاتشابه مطلقاً بين
أصواتها وما تدل عليه من فعل أو حالة ففي دلالتها على معاني كلية برهان
قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق لماذا؟.
الإجابة: (1)لأن
التواضع يتوقف على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون، وهذه الوسيلة لا يعقل
أن تكون اللغة الصوتية، لأن المفروض أن المتواضع عليه هو أول ما نطق به
الإنسان من هذه اللغة ولا يعقل أن تكون لغة الإشارة لأننا
بصدد ألفاظ تدل على معاني كلية أي على أمور معنوية يتعذر استخدام
الإشارة الحسية فيها.
(2) لأن التواضع فيه تحديد للمعاني وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما
تدل عليه برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان
لأصوات الطبيعة (أصوات التغيير الطبيعي عن الانفعالات وأصوات الحيوانات
والأشياء . لماذا ؟.
والجواب:لأن
الأصوات الطبيعية محدودة ولو كانت هي التي تشمل أصول اللغة الأولى
لوجدنا تشابها ظاهراً بين أصواتها.
ويبني نقد النظرية على ما يأتي:
إن هذه النظرية تعتمد من البداية على أساس واه لأنها جعلت بداية اللغة
أصولاً مشتركة تدل على معاني كلية، ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية
يتوقف على درجة عقلية راقية لا يتحور وجود مثلها من البداية البسيطة بل
إن هناك عملية استقراء لقبائل بداية بينت أن اللغة البدائية لهم بعيدة
كل البعد عن الكليات وقريبة من المعاني المحدودة
(5).
النظرية الرابعة:
تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية (أصوات مظاهر
الطبيعة وأصوات الحيوانات وأصوات الأفعال، كصوت الضرب والقطع وغير ذلك،
وسارت في سبيل الرقي شيئاً فشيئاً تبعاً لارتفاع العقلية الإنسانية
وتقدم الحضارة وتعدد حاجات الإنسان.
وبحسب هذه النظرية، يكون الإنسان قد افتتح هذه السبل بمحاكاة أصوات
الطبيعة والمؤثرات الناتجة من الأفعال كصوت الريح وخرير الماء وحفيف
الشجر وصوت سقوط الصخور وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء
الذي يصدد عنه الصوت المحاكى أو عما يلازمه أو يصاحبه من حالات وشؤون،
واستخدام في هذه المحاكاة ما زود به من قدرة على لفظ الأصوات المركبة
ذات المقاطع.
وكانت لغته في بادئ الأمر محدودة الألفاظ الطبيعية التي أخذت عنه قاصرة
عن الدلالة على المقصود، ثم اتسعت وتطورت .... وبعد أن
استعرض الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد
وافي هذه النظرية في كتابه (6)
استطرد قائلاً: وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة
وأقربها إلى المعقول، وأكثرها اتفاقاً مع طبيعة الأمور وسنن النشوء
والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة والنظم الاجتماعية. ثم
يقول: ولم يقم أي دليل يقيني على صحتها، ولكن لم يقم أي دليل يقيني على
خطئها، وكل ما يذكر لتأبدها لا يقطع بصحتها.
ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في
كثير من وجودها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل ـ فقد ثبت أن الطفل
في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة
الأصوات الطبيعية فيحاكي الصوت قاصداً التعبير عن مصدره أو ما يتصل به
ومن المقرر أن المراحل التي يجتازها الطفل في نظهر ما من مظاهر حياته
تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر.
ومن أدلتها كذلك أن ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها
الأولى يتفق مع ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم البدائية، ففي هذه
اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها ما تدل عليه ولنقص هذه اللغات
وسذاجتها وإبهامها وعدم كفايتها للتعبير، لا يجد المتكلمون مناصاً من
الاستعانة بالإشارة اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم لتكملة ما يفتقر
إلي من عناصر وما يعوذه من دلالة ومن المقرر أن هذه الأمم لبعدها عن
تيارات الحضارة
وعزلتها،
تمثل إلى حد كبير النظم الإنسانية في عهودها الأولى.
بعد هذه الجولة مع نظريات نشأة اللغة نلاحظ أن النظرية الثانية
والثالثة قد
اعتمدتاعلى
حجج واهية أو ملفقة أصبحت بمثابة معاول هدم لهما، وبقيت النظرية الأولى
وهي التوفيقية الإلهامية والنظرية الرابعة وهي التطورية (من بداية
محاكاة أصوات الطبيعة إلى اللغة الإنسانية الراقية) بقيتا بغير مرجع
يقيني في رأي علماء اللغة.
فهل اللغة إلهامية (توفيقية) أم تطورية طبيعية؟ هذا السؤال عجز علماء
اللغة حتى الآن عن الإجابة عليه فهل هناك بصيص أمل خطأنا إلى الوصول
إلى إجابة عليه قاطعة لهذا السؤال المعلق؟.
أقول، وبالله التوفيق: نعم ... كيف؟ هناك ظواهر علمية تجلت للعلماء
حديثاً يمكنها أن تجيب يقيناً على هذا السؤال الهام وهي كالآتي: لاحظ
العالم (دافيد هيوبل) والعالم
(وسل) وهم من علماء جامعة
" هارفارد " أن الأطفال الذين يولدون
لعتامة عدسة العين يصابون بمعمى دائم وإن لم تعالج العتامة مبكراً وقبل
مرور زمن محدد بعده تصبح العين عمياء حتى لو تم إزالة العتامة(7).
وفتحت هذه الملاحظات الهامة الباب على مصارعه لأبحاث نمو
(الممر العصبي البصري) من العين وحتى
القشرة البصرية بمناطقها المختلفة، واستخدام العلماء القطط والقرود في
كشفي أسرار لم تكن معروفة وذلك بخياطة عيون القطط وغيرها في فترات
مبكرة ومتأخرة وملاحظة هندسة الممر البصري حتى داخل القشرة الابصارية،
وكانت خلاصة هذه الأبحاث الهامة، أن الممرات الحسية كممر السمع والبصر
ومراكزها داخل المخ (مراكز السمع والبصر) يتم بناؤه على العموم وفقاً
لخطة
جينيةمسبقة
لكن الارتباطات الداخلية اللازمة لأداء وظائفها على أكمل وجه يلزمه
التقاء المؤثرات الحسية الخارجية ـ كالأصوات والصور مثلاً ـ
بالمستقبلات الحسية كالعين والأذن حتى يتم استكمال النظام الهندسي داخل
مركز الحس في المخ واللازمة لعمل تلك المراكز ولا بد أن يتم هذا
الالتقاء في فترة محددة بمعنى أنه لو لم يتم هذا التزاوج بين المؤثرات
الحسية الخارجية (الكونية) وبين مراكز الحس في الفترة المحددة المبكرة
فإن نمو المراكز سيكون، مشوهاً أو معوقاً مدى الحياة ويترتب على ذلك
إعاقة أو ضمور أو تشويه تلك المراكز المحورية فلقد لاحظ العلماء أن
خياطة أعين القطط مبكراً في الفترة الحرجة ثم فتحها بعد ذلك يؤدي إلى
حدوث عمى نهائي لهذه القطط بينما خياطة أعينها ثم فتحها، بعد هذه
الفترة الحرجة لا يؤدي إلى عمى دائم ويعود الإبصار إليها كما كان.
(الفترة الحرجة في القطط هي الشهور القليلة بعد الولادة). وفي جامعة
" كارل ماركس " قام العالم
(دينماربيسولد) والعلم
(فولكوبيجل) بتأكيدها ذلك. وخلاصة
هذه الأبحاث الرائعة يمكن تلخيصها كما جاء في
مجلة العلوم الأمريكية
(8)
فيما يأتي:
وجد العلماء أن الهريرات (القطط) التي أغلقت إحدى عينها خياطة خلال
الأشهر القليلة الأولى من ولادتها تقل لديها، بشكل ملحوظ، نسبة الخلايا
العصبية الموجودة في المنطقة 17 في القشرة المخية المستجيبة لتنبيه
العين المغلقة وبقيت كذلك حتى بعد فتح عينها أما العين التي بقيت
مفتوحة فإن المراركز الخاصة بها في المخ نمت نمواً طبيعياً، ويلاحظ
العلماء أن العطب بقي ملازماً للقط حتى آخر عمره أي بقيت هذه العين
عمياء حتى آخر عمر القط.
ويعتمد التأثير بشكل حاسم على توقيت الحرمان ولقد وجد
(هوبل ويزل) أن الحرمان الأحادي
العين أثناء البلوغ لم يغير من
عضويةالمنطقة
17 فبقيت سليمة هذه الفترة بالفترة الحرجة. وكل الأبحاث النفسية أكدت
أهمية المناغاة للطفل في مراحله المبكرة حتى تستقيم لغته وبيانه بل
أظهرت حالات الحرمان الحسي والحركي، أو الحركة في الأطفال المبسترين
والذي ربوا في ملاجئ معزولة قاحلة أظهرت تخلفاً حركياً ولغوياً وكذلك
تأخر في النمو العقلي ولقد لاحظ عالم النفس
(سيلز) أن الحيوان إذا استمر فترة طويلة (بعد الفترة الحرجة)
فإن التخلف سيكور غير قابل للتحسن.
وأثبتت الدراسة التي قام بها العالم النفسي
(واين دينيس) في أحد الملاجئ اللبنانية أن الحرمان الحركي
المبكر للأطفال يؤدي إلى تخلف عقلي غير قابل للإصلاح (نهائي) إذا استمر
الحرمان لفترة ما بعد الفترة الحركة التي قدرها سنتين وأكثر (بعد
التقديرات).
ولأن اللغة والبيان تتأثر بنمو المخ الطبيعي من ناحية والنمو العقلي
السوي من ناحية أخرى فإن علماء اللغة انتبهوا إلى هذه الظواهر العلمية
وسخروها لأبحاثهم ليكشفوا بعض أسرار البيان البشري ـ فلماذا وجد
العلماء، لقد وجدوا ما يأتي:
1) ـ أن الأطفال يخرجون من بطون أمهاتهم وهم مجهزون بآليات إدراك
فطرية، وأنها مهيأة وإلى حدٍ كبير للتكيف مع خصائص لغة البشر التي
تعدهم لعالم اللغة التي سيواجهونه مستقبلاً.
2) ـ إن هذه الآليات عامة بمعنى أنها تتعامل مع ذبذبات (ترددات صوتية)
تشترك فيها جميع لغات البشر لتشكل هذه الترددات أرضية مشتركة للغات
البشرية المختلفة.
3) ـ أن استقبال الطفل للغة مبكراً يبدأ بالتقاط تلك الذبذبات
(الترددات) البشرية العامة وتنميتها ثم تبدأ بعد ذلك الخصصة من خلال
تعامل الطفل للوسط اللغوي الذي يعيش فيه بالتركيز على لغة خاصة وتنمية
ذبذبة أو ذبذبات معينة مع كمون أو ضمور الأخرى التي لم تنس(9).
بعد هذه الجولة مع تلك الحقائق العلمية يمكن أن نصل إلى النتائج
التالية:
أ ـ أن مخ الطفل حديث الولادة يحتوي على مراكز للسمع والبصر جاهزة
للاستخدام ولكن تحتاج إلى استكمال وظيفي يتمثل في اتصال خلاياها وفقاً
لخطة وهدف محدد بمحكمة.
ب ـ أنه لكي تنمو المراكز وغيرها نمواُ سليماً يحقق وظائفها على أكمل
وجه، فإنه لا بد لهذه المراكز أن تتلقى سيلاً من التنبيهات العصبية
الناتجة من تأثير الأصوات والصور الخارجية على مستقبلات السمع والبصر
ولا بد أن يكون هذا التلقي مبكراً في فترة حرجة وإذ لم يتم ذلك أو أعيق
في تلك الفترة المبكرة فإن تعطيلاً كلياً أو جزئياً سيصيب تلك المراكز
وفقاً لدرجة الإعاقة ويكون هذا الخلل نهائياً ومستديماً.
ج ـ ولأن مركز اللغة في مخ الإنسان هو المنطقة التي يصب فيها مركز
السمع ومركز البصر بل إن امتدادات مركز السمع إلى الخلف ومركز البصر
إلى الإمام تشكل منطقة فهم البيان وإنتاجه في المخ البشري، ولذلك فإن
أي تعطيل أو تعويق لهذه المراكز يعني بالتالي تعطيل أو تعويق في إنتاج
اللغة والبيان البشري.
د ـ إن جهاز اللغة أو مركز البيان في المخ البشري يحتاج لتنشيطه إلى
ترددات (ذبابات) من جنس الذبابات الخاصة بالنطق البشري، ولا بد لهذه
الذبذبات البشري أن تلتقي بمراكزها الحسية في المخ في فترة مبكرة
ومحددة بعد الولادة وإلا لحدث تعطل كلي أو جزئي ومستقيم لملكة البيان
البشري بل وقد يمتنع إنتاج اللغة المنطوقة من البداية.
وهذه الظواهر البيولوجية والفسيولوجية المؤكدة عليها تسقط النظرية
التطويرةللغة
وهي النظرية الرابعة وتراجع النظرية
التوفيقيةأو
الإلهامية للغة وهي النظرية الأولى " لأن النظرية
التطويرةتعتمد
على أن الإنسان من البداية كان لا يسمع إلا الأصوات الطبيعية ومعنى ذلك
أن مركزا السمع والنطق في مخه ستبنىوفقاً
لهذه الذبذبات (الأصوات) وسيكون هذا البناء نهائياً وعلى ذلك فستكون
تلك الأصوات الطبيعية هي منطوق آدم التي سيقوم بتعليمها لأبنائه وبذلك
لن تكون هناك فرصة لظهور البيان البشري المعروف. وبذلك يمكن للنظرية
الأولى أن ترتفع إلى حد اليقين العلمي، وإن آدم عليه السلام لا بد وأن
يكون قد تلقى تعليماً لغوياً من جنس ذبذبات اللغة البشرية مبكراً ثم
استمر التلقين بعد ذلك.
وبمعنى آخر، يمكن أن نقول: أن الطفل لا بد لكي يكون ناطقاً أن يتلقى
تعليمه مبكراً من أبويه، وأبواه ممن سبقهم وتسلسل إلى آدم فيكون السؤال
المنطقي ـ من علم آدم؟ فلا نجد إجابة علمية يقينية إلا:
)وعلم
آدم الأسماء كلها
(.فهيا
بنا مع معجزة الوجود مع كتاب الله الخالد الوحيد الباقي المحفوظ ... به
الجميع وليكون دستوراً للعالمين لمن شاء منهم أن يستقيم. هنا بنا مع
القرآن الكريم لنرى كيف عرض الحق قضية تعليم الإنسان من لدن آدم.
)وعلم
آدم الأسماء كلها
(
جاء في الطبري: ما هي الأسماء التي علمها سبحانه لآدم؟.
هناك آراء في ذلك منها:
(1) أسماء المخلوقات التي تحبط بالإنسان. (2) أسماء كل شيء.
(3) أسماء الملائكة. (4) أسماء ذريته.
ورجع الطبري (3 + 4) مستنداً على (ثم عرضهم). وفي روح المعاني للألوسي
جاء في شرح هذه الآية:
الأسماء جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلاً
برفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال
واستعمل عرفاً في الموضوع لمعنى مفرداً كان أو مركباً أو خبراً أو
رابطة بينما وكلا المعنيين محتمل، والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة
تركيباً خبرياً أو إنشائياً يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية
وقال
الإمام:والمراد
بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها لأنها علامات دالة على ماهياتها
فجاز أن يعبر عنها بالأسماء، وقيل المراد بها أسماء ما كان وما سيكون
وقبل اللغات وقبل أسماء الملائكة وقبل أسمائه تعالى ـ ثم يعلق الألوسي
بقوله: والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى وهو الذي يقتضيه منصب
الخلافة الذي علمت وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو
عرضية. ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتباره دلالتها عليه وظهوره
فيها غير متقيد بها.
(كيفية التعليم):
يقول الألوسي: التعليم هو فعل يترتب عليه العلم غالباً بعد حصول ما
يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة
المعلم. وعن كيفيته بالنسبة لآدم في هذا المقال يقول:
(1) خلق فيه عليه السلام بموجب استعداده علماً ضرورياً تفصيلياً بتلك
الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها.
(2) بأن خلقه الله من أجزاء مختلفة وقوى
متباينةمستعداً
لإدراك أنواع المدركات والهمة معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها
وأصول العلم وقوانين الصناعات فيكون ما مر من المقاومة قبل خلقه عليه
السلام.
(3) كان التعليم بواسطة ملك يلقنه ذلك.
(4) وقال أبو هامش بوجود لغة اصطلاحية كانت لدى آدم قبل تعليمه ومن
خلال وحداتها تم تعليمه العلم الكامل.
ويقول الفخر الرازي في تفسيره:
المسألة الأولى:قال
الأشقر والجبائي والكعبي أن اللغات كلها توفيقية بمعنى أن الله تعالى
خلق آدم ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني وبأن تلك الألفاظ موضوعة
لتلك المعاني.
وبعد هذه الجولة مع تفسير الآية الكريمة:
)علم
آدم الأسماء كلها
(
نلاحظ أن معنى الآية واضح في أن الله علم آدم ما لم يكن يعلم وفي سورة
العلق تأكيد لذلك إذ يقول الحق تبارك وتعالى:
)علم
الإنسان ما لم يعلم
(وفي
سورة الرحمن إشارة أخرى للتعليم إذ يقول الحق هز وجل في محكم تنزيله
)خلق
الإنسان علمه البيان
(.
ويقول الفخر الرازي مفسراً لمعنى البيان: البيان: المنطق فعلمه ما ينطق
به ويفهم غير ما عنده وهو ميزة بشرية.
ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات
توفيقيةحصل
العلم بها بتعليم الله. يقول الإمام الشنقيطي في تفسيره
(أضواء البيان). علمه البيان علمه
الإفصاح عما في الضمير ثم يربط رحمة الله بين هذه الآية والآية في صورة
النحل:
)خلق
الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين
(.
فيقول: فالإنسان بالأمس نطفة واليوم هو في غاية البيان وضده الخصام
يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث " وأن هذه النطفة مهما نمت وكبرت
وأصبحت جسداً فإنها لن تعطي بياناً بل تعطي جسداً أبكم فمن علم الإنسان
من البداية البيان فأخرجه من بكمه الحتمي إلى بيانه الراقي(10).
ثم تأتي الآية (78) من سورة النحل لتشير في إعجاز مبهر إلى المراحل
الزمانية لتشكيل ملكة السمع والبصر بعد ولادة الطفل:
)والله
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار
والأفئدة لعلكم تشكرون
(،فالطفل
يولد وله جهاز عصبي فيه مراكز السمع والبصر وغيرها، ولكن هذه المراكز
تحتاج للاستكمال الوظيفي وفقاً لالتقائها بالمحسوسات الخاصة بها
والمخلوقة وفقاً لها ويتم ذلك بعد ولادة الطفل ومن هذه المراكز وفيها
يتكون البيان البشري وفق مراحل زمنية علمها عند خالقها العليم الحكيم.
وبعد هذه الجولة نصل إلى النتيجة التالية: أن النقل (القرآني) يشير
بوضوح إلى حتمية وجود معلم لآدم من البداية والعلم العقلي اليقيني يؤكد
حتمية التقاء الأصوات والصور مبكراً بأدوات حس الطفل بعد الولادة حتى
يمكن أن ينشأ طفلاً متكلماً مبيناً ولا بد أن تكون هذه الأصوات من جنس
ترددات الأصوات البشرية وإذ لم يحدث ذلك مبكراً لحدث تعطيل كلي أو جزئي
في عملية البيان للإنسان بعد ذلك.
وتبقى مشكلة وهي:
على أي حال كان تعليم آدم؟
العلم المشاهد يرجع قياساً أن تعليمه كان عن طريق التعليم وهذه فطرة
فطر الله عليها جهاز البيان في مخ الإنسان المكلف بأنه يحتاج من
البداية لسماع أصوات بشرية حتى تستكمل مراكزه داخل المخ فيكون أهلاً
للبيان البشري والمنطق الإنساني ولو تعطل ذلك فإن الإنسان سينشأ أبكم
أو معوقاً بياناً. وهذه حكمة جعلها الله في عالم الأسباب لتكون حجة
للعقل أو حجة عليه حتى بتسلسل العقل مع حلقات الأسباب موقتاً أن كل
إنسان يحتاج إلى معلم ملقن يسلقه فيسأل العقل: من علم آدم؟ فتكون
الإجابة الوحيدة الله علم آدم.
فيكون السؤال التالي كيف علمه؟ فيكون الجواب من خلال التكليم، ولكن كيف
كان التكليم؟ هذه القضية غيبية من عالم الغيب والشهادة من الله الخالق
الذي قال في سورة الشورى آية (51).
)وما
كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً
فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم
(.
إذن العقل والنقل وملاحظة العلماء تؤكد ضرورية التلقين المبكر للغة
بأصوات ذات ترددات شبيهة بلغة البشر حتى ينشأ الإنسان قادراً على
البيان، كل ذلك يجعل اللغة في هيكلها أو في جذورها توقيفية، وهي مع ذلك
قابلة للامتداد والشكل الحر في الزمان والمكان وفقاً لحرية الإنسان
المكلف المخير ولكن تبقى اللغة في جذورها في هيكلها وأساسها
توفيقيةبتعليم
الله.
وقد يقول قائل: ما فائدة هذا الجهد الذي أدى إلى تلك النتيجة اليقينية
في أصل اللغة؟ أرد أنه بالإضافة إلى ما سيكتسبه البيان البشري من قيمة
عالية لا تشابه إلى العليم الحكم فإنه بناء على ذلك يصبح الخطاب الآلي
للإنسان بديهة عقلية ويصبح الوحي حقيقة علمية لازمة من البداية (آدم)
لإرساء وقاعد لغة عالمية وعلوم أساسية بل ولازمة لمسيرة الإنسان بعد
ذلك وفقاً لأطوار محددة لدقة نحو هدف سام وهو الوصول إلى الكمال البشري
في مراحل لا تستغني عن البداية الأولى بل تأخذ بعضها بأعناق بعض من لدن
آدم.
وبناء على ذلك، فإن العقل لا يستبعد نزول رسالات من السماء مع رسل
للمتابعة والتعديل ولكن العقل يسأل هل الرسول حقيقي هل هو صادق في
دعواه فيدل صدقه على صدق الرسالة ومن هناك كانت الرسل تؤيد بالمعجزات
الحسية وأمور أخرى مصاحبة لها تدفع العقل للتفكر في الرسالة والاقتراب
منها ومن ثم تصديقها وتنفيذها حتى انتهى المطاف برسالة خالدة محفوظة
تحمل معجزتها فيها رسالة تليق بكمال البشرية العقلي.
إنه القرآن الكريم ، الرسالة الخالدة المحفوظة والعالمية والتي تحمل
دليلها فيها وعلى العقل أن يسأل بحرية.
1 ـ هل القرآن وحي من الله للإنسان أم هو كلا بشر؟.
2 ـ هل هو الرسالة الوحيدة الخالدة المحفوظة أم هناك غيره؟.
3 ـ هل هو محلي أو عالمي؟.
وللإجابة عن السؤال الأول على العقل أن يدرس النص وفقاً لأصول علمية
محايدة.
وللإجابة عن السؤال الثاني عليه أن يدرس النص دراسة مقارنة مع غيره.
وللإجابة عن السؤال الثالث عليه أن يدرس النص وفقاً لاحتياجات الإنسان
العقلية والنفسية والمادية على المستوى العالمي لنرى هل يقدم حلولاً
موافقة ومقومة لهذه الاحتياجات بحيث تحقق التوازن بين روح الإنسان
وماديته وبين الإنسان والمجتمع من حوله.
والدراسات العلمية المحايدة بينت أن النص القرآني لا يمكن أن يكون من
تأليف بشر فهو معجز في معانيه وبيانه وينطبق ذلك حتى على مستوى الحرف
فيه وهو يخالف الجانب العقلي والعاطفي في الإنسان في توازن لا يمكن أن
يأتي به بشر ولو اجتمعوا عليه بل ولقد أخبر عن الغيب فصدق ومن هذه
الغيوب إشارات العلوم فيه والتي اشتملت على علوم من الذرة إلى المجرة
علوم لم تكن معروفة عند نزول الوحي بل ولم يكن هناك حتى دليل ولو من
بعيد عنها ثم دارت الأيام فإذا أدق وسائل التقنية تصور ما جاء القرآن
وتؤكد صدق أخباره عن تلك الأخبار العلمية فمن أين جاء النبي الأمي بكل
هذه العلوم؟.
والدراسة المقارنة بينه وبين الكتب الأخرى بينت أنه الوحيد الخالي تمام
من التناقض والاختلاف والتحريف والتصحيف المنزه للألوهية وللرسل
المكرمين والمتطابق في جميع نسخه في أي زمان ومكان. والدراسة العالمية
بينت أنه يغطي على جميع جوانب الإنسان العقلية والنفسية والاجتماعية
ويضع الحلول العالمية لمعادة الإنسان في إطار من العدل بين أفراده
وتحقيق التوازن بين الجانب المادي والروحي للإنسانية.
وهنا يقر العقل بأن كتاباً بهذه الإمكانيات ورسالة بهذه الصفة لا يمكن
أن تكون من فعل بشر، بل إن العقل يصل يقيناً أنها من وحي خالق البشر
العالم بأحوالهم وأسرارهم وما يصلح لهم.
تعقيب:
للبحث السابق يعد دليلاً علمياً يقينياً على حتمية التكليم للإنسان من
البداية، سواء من بدايته الأولى (آدم) أو من بدايته التالية بعد
الولادة، حتى ينشأ البيان البشري الراقي، والبديل الوحيد لذلك هو البكم
والتخلف العقلي، وهذا بالتالي يدل أيضاً على حتمية الوحي وأنه بديهة
عقلية لأنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من كيان الإنسان الراقي وبقيت قضية
الشعر الجاهلي كمرجع يقاس عليه في قضية الإعجاز البياني للوحي تحتاج
لمزيد من التعليق بأن اللغة كما بين علماؤها تمر بمراحل تبدأ بالطفولة
ثم بقوتها ثم تنتهي باختلاطها وضعفها وهو منحنى معروف لعلماء اللغات بل
إن ذلك المنحنى ينطبق على كل الكائنات الحية.
وفي حالة تحقيق الإعجاز البياني لا بد أن يكون الإسناد إلى قمة ما وصل
إليه البيان ولأن القمة لا تكون دائماً فترة خاطفة بل تكون فترة ممتدة
فهي بالنسبة للعربية شملت فترة من العصر الجاهلي وفترة من العصر
الإسلامي ومن هذه الفترة جمع علماء اللغة بدقة وعلم وضبط مباني ومعاني
اللغة ورسموا خطوط البيان ويبينوا ذلك بدقة مراعين الأمانة العلمية حتى
أصبحت أعمالهم قانوناً ومرجعاً صالحاً لكل زمان ومكان، وعلى هذا الأساس
يكون القياس والإسناد.
وعلى كل حال، فالإنسان هو الإنسان في أي مكان وزمان، ويحتكم إلى عامل
مشترك العقل والعاطفة، فأي نص يخاطب العقل والعاطفة في توازن يوافق خلق
الإنسان دون أن يخل بكفتي الميزان (العقل والعاطفة) يجب أن يوضع على
مستوى القمة لغض عن الزمان والمكان فلو خاطب النص الإنساني بطريقة تحقق
توازن يعجز عن الإتيان به فهذا نص معجز بيانياً فماذا لو كان النص
معجزاً بكل المقاييس البيانية والعلمية والنفسية والاقتصادية وصالح
للإنسان في أي زمان ومكان .. هنا يقف العقل ليقرر يقيناً أن هذا النص
لا يمكن أن يكون من اختراع بشر بل لا بد وأن يكون وحياً من خالق الكون
والبشر والعالم بأسرار خلقه .. هذا يقين أهل العرفان فما حجة المبطلين.
` ` `
د / حسين رضوان اللبيدي
[1] – مدير مستشفى الصدر
بجرجا ـ سوهاج.
[2] – كتاب الصاحبي.
[3] – كتاب الخصائص، أبي
الفتح عثمان بن جني، الجزء الأول.
[4] – نشأة اللغة عند الإنسان
والطفل.
[5] – انظر المرجع السابق.
[6] – نشأة اللغة عند الإنسان
والطفل دار النهضة.
[7] – انظر مجلة العلوم
الأمريكية المخ والعقل الأصل باللغة الإنجليزية، سبتمر سنة 1992م.
[8] – مجلة العلوم الأمريكية،
عدد أكتوبر سنة 1989م مجلد 6 عدد 10 اللدونة في نمو الدماغ الأصل
المترجم من إصدار الكويت.
[9] – مجلة العلوم الأمريكية،
ديسمبر سنة 1989م عدد 1 إدراك الكلام في مرحلة الطفولة المبكرة، الأصل
المترجم من إصدار الكويت.