الأجر مرتين والعذاب ضعفين... للقمم
يقول
الله سبحانه وتعالى في الآية رقم 165 من سورة الأنعام: {
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وضع
الله للناس درجات في الحياة الدنيا لتستقيم عمارة الأرض لأنه لا يمكن أن يكون الناس
كلهم في درجة واحدة.. لا يمكن أن تستقيم عمارة الأرض بجعل الناس كلهم قادة.. أو
كلهم علماء.. أو كلهم في وظيفة واحدة.. لا بد من وظائف متعددة ودرجات متفاوتة.. وقد
أوضح الله سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله في الآية 32 من سورة الزخرف:
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
سُخْرِيًّا } [الزخرف: 32].
غير
أن هذا التمييز لدرجات ادنيا ليس هو تكريم وإنما هو ابتلاء واختبار
{ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ } [المائدة: 48].
وتكون النتيجة كما يذكرها الله سبحانه وتعالى في الآيات من 37 حتى 41 من سورة
النازعات: { فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى }.
إلا
أن وضع الناس على درجات مختلفة في الحياة الدنيا يجعل من ذوي السلطة منهم وذي الشأن
والملأ والشهرة تأثيراً كبيراً في حياة عامة الناس... فهم أولو القوة والسلطة
والبطش.. كما أن أصحاب الشهرة منهم يمثلون لعامة الشعب قدوة وأنموذجاً يتطلعون
إليه. فيتحدثون عنهم في مجالسهم.. ويروون القصص والحكايات.. ويتتبعون أخبارهم وكل
ما يدور حولهم... ويكونون على رأس كل موضوعاتهم واهتماماتهم...
إن
تأثير أي واحد من أولي الشهرة وأصحاب القمم في أي مجال يساوي تأثير آلاف أو ملايين
الناس العاديين... لذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يعاملهم معاملة الناس العاديين..
إن الحسنة من الواحد منهم لا تعادل الحسنة من المرء العادي وكذلك السيئة منه لا
تعادل السيئة من المرء العادي..
إن
خطأ الكبير كبير... وحسنة الكبير كبيرة..
لقد
وضع الله سبحانه وتعالى ميزاناً دقيقاً في آيات القرآن الكريم، إنه ميزان العدل
المطلق { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
(7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا
تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن: 7-9].
وكان
الوزن هو مقياس الأجر.. والوزن هو قيمة العمل وتأثيره.
وتأتي
آيات كثيرة في القرآن الكريم توضح مسؤولية ووزن أصحاب القمم والسلطة والشهرة
والقيادة والأجر المقابل.. ونورد هذه الأمثلة:
نساء النبي:
يقول
الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب الآية 30، 31:
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا
أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }.
إن
نساء النبي هن أمهات المؤمنين.. هن القمم.. وأحد مراجع السنة.. تأثيرهن ليس كتأثير
النساء العاديات: { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ
} [الأحزاب: 32].
لذلك
فقد كان الأجر مرتين.. والعذاب ضعفين.
المنافقون:
يقول
الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة الآية 101:
{ { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ
سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة:
101].
إن
المنافقين تأثيرهم ووزنهم ليس تأثيراً عادياً.. إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون
الكفر.. إنهم يشوّهون العقيدة ويخدعون المؤمنين.. ويضربون الأمثال السيئة للذين لم
يؤمنوا بعد.. إنهم وبال على الإيمان لذلك كان لا ب من عذابهم مرتين مرة بسبب الكفر
ومرة بسبب إظهار إيمان غير حقيقي.....
اليهود والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم:
يقول
الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآيات 52-54:
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }.
إن
اليهود بوجه عام متعنتون في الدين.. يعلمون الحق ولا يتبعونه.. يقولون سمعنا وعصينا
لذلك جاء الأمر مرتين لهؤلاء الذين جاهدوا هذه الطبيعة السيئة وانتصروا على
أنفسهم.. وخرجوا من أمر اليهودية المتعنتة وصبروا على أذى بقية قومهم... واصبحوا
قمماً إيمانية تبين كذاب بني إسرائيل وإصرارهم على الباطل... وآمنوا بمحمد صلى الله
عليه وسلم وبالقرآن الكريم.
القمم والكبراء في الضلال:
يقول
الله سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء القسم في الضلال والإضلال:
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [هود: 20].
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ
لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 67-68].
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ
عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ }
[الأعراف: 38].
إن
هؤلاء القمم في الضلال والإضلال يستحقون العذاب ضعفين بما لهم من تأثير في باقي
الناس المعاديين وبما لهم من سطوة وقوة وقهر وبريق وإعلام وإعلان وشهرة...
قمم الضلال والإضلال... وجزاء التوبة
يقول
الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان الآيات 68-70:
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }.
هؤلاء
القمم الذين ضلوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض.. أشركوا بالله.. وقتلوا النفس التي حرم
الله بغير الحق، وزنوا.. ثم أفاقوا واهتدوا إلى الحق وجاهدوا أنفسهم وشهرتهم
وسطوتهم وانتصروا على كل الهالات والبريق الذي يحوطهم وعلى كل الشلل والأصحاب
والأخدان وحاشية السوء.. وتابوا إلى الله وأنابوا إليه وعملوا الصالحات وانتقلوا
بزاوية مقدارها 180 درجة من الشمال إلى اليمين.. غفر الله لهم ذنوبهم وإسرافهم في
أمرهم.. ونقل أعمالهم وسيئاتهم من الشمال إلى اليمين.. فتبدلت السيئات إلى حسنات
وتضاعف أجرهم جزاء بما صبروا على شهوات النفس.... وجزاء على ما يحدثه هذا التبدل
كما أفاق هؤلاء القمم.. ويرجع الناس وينيبوا إلى الله ويسلموا له... كما أسلم
الكبراء...
ولنا
في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.. فقد كان في أول الدعوة يرجو إسلام عمر
بن الخطاب وعمرو بن هشام (أبو جهل) بما لهم من أثر في الناس العاديين..
الملوك والقياصرة والأكاسرة وقمم السلطة:
في
رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القياصرة والأكاسرة والتي دعاهم فيها إلى
الإسلام كان صلب الرسالة هو الآتي: ( أسلم تسلم يؤتك
الله أجرك مرتين ).
إن
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الإسلام هؤلاء القمم في شعوبهم... وأنهم حينما
يسلمون فإنهم يساعدون في إزالة الغشاوة عن أعين الناس العاديين.. ويلفتونهم إلى
الحق لهم من قوة جذب وبريق.. هذا بالإضافة إلى انتصار هؤلاء القمم على أنفسهم
وكبريائهم وسلطاتهم وعروشهم ومساواتهم بعامة الناس حب مبادئ الإسلام.. لذلك كان
الأجر مرتين..
الأجر مرتين.. للصابرين
عندما
صبر سيدنا إبراهيم عليه السلام على البلاء المبين بذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه
السلام، بشره الله بإسحاق نبياً من الصالحين.
{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [الصافات: 112].
وبذلك
أعطاه اله أجراً مرتين بما صبر على البلاء العظيم بفقد ابنه الوحيد.. فأعطاه ابناً
آخر نبياً من الصالحين..
كذلك
فإنه عندما صبر أيوب عليه السلام على النصب والعذاب وعلى فقد أهله وهبه الله أهله
ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لأولي الألباب.. لقد منحه الله الأجر مرتين..
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ص: 43].
القمم بوجه عام في المجتمع:
إن
القرآن الكريم يزخر بالأمثلة والنماذج التي توضح لنا عدالة الله سبحانه وتعالى في
الجزاء.. إنها تحث هؤلاء القمم في السلطة وفي الإعلام وفي الإعلان وفي كافة نواحي
المسؤولية.. على الانتصار على نوازع النفس البشرية والتحول إلى أصحاب اليمين
ويؤجرهم مرتين لما لهم من تأثير على عامة الناس... وهذا الأجر مرتين يعني ضعف أقصى
أجر يمنحه الله للناس المؤمنين العاديين.. وقد ذكر القرآن الكريم أن الله يضاعف هذا
الأجر العادي أضعافاً مضاعفة. كما أن هناك رضوان من الله أكبر وبذلك يكون الأجر
مرتين هو ضعف هذه المضاعفات جميعاً.. هناك أمر آخر.. إن القمم مستويات.. وأي مسؤول
له تأثير في موظفيه يعتبر قمة في هذا النوع من المسؤولية كما أن أي شخص في أي مكان
له أي تأثير على شخص أو أشخاص آخرين هو قمة في الموقف.. وكذلك الحال بالنسبة للأب
أو الأم في الأسرة.. والمدرس في الفصل.. والمدير في الإدارة.. والرئيس في
المرؤوسين.. والكاتب الذي ينشر فكره.. والممثل الذي يؤدي دوراً.. والإعلامي..
والصحفي.. والفنان.. والفنانة. والعالم والفقيه والواعظ.. الخ.
إن
هؤلاء جميعاً يؤتون أجرهم مرتين حسب نصر القرآن إذا صبروا وآمنوا ورعوا الله في
مسؤولياتهم.. ويضاعف لهم العذاب إذا ضلوا وأضلوا.. كما أن هؤلاء الذين أفسدوا في
الأرض.. ثم عرفوا الحق وتابوا إلى الله ورجعوا عن غوايتهم وإغوائهم للناس.. فإن
الله يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً..
أما
هؤلاء الناس لا يملكون مصيرهم.. وليس لهم من الأمر شيء مثل (ما ملكت أيمانكم) فإن
أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب: {
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ } [النساء: 25].