الدكتور جمال نصار حسين
لعل
علم النفس هو أكثر فروع العلم المعاصر فشلاً في التعامل المعرفي الصائب
مع هذا الواقع! فعلم النفس الذي بين ايدينا لا يُجاريه علمٌ آخر تخبطاً
في مباحثه وعجْزاً عن فهم ما يحدث في ظواهره وكثرةَ ادعاء وقلة عمل!
وهذا ليس تجنياً على علم النفس المعاصر بحالٍ من الاحوال. فعلم النفس
قدَرُه ان يكون اكثر فروع العلم المعاصر اخطاءً مادامت الظاهرة
الإنسانية هي مادة مباحثه نفساً لا جسماً ومادام تعامله مع الظواهر
السايكولوجية يأبى ان يتخذ المنهج التجريبي-الاختباري أداته المعرفية
الوحيدة استكشافاً لما يحدث في هذه الظواهر بعيداً عن شوائب التنظير
والتفسير الوهمييَن لا محالة مادما عالقَين في وحل واقعٍ لا وجود له
الا في أذهان صياغ النظريات السايكولوجية!
فعلم الطب لم يكن حظه من الإنسان هذه النفس المتوارية خلف الظواهر
السايكولوجية حتى يكون الفشل الذريع نصيبه! وعلم النفس لم يكن حظه من
الإنسان منظومته البايولوجية حتى يكون النجاح الساحق قدَره! كما ان علم
النفس انشغل بالتعليل لما يحدث في الظواهر السايكولوجية عوض الانشغال
بهذه الظواهر واقعاً ملموساً مادام قد استحال عليه التطاول تلمساً لما
هي عليه حقيقةً! الا ان علماء النفس لم يكن لَيحدوهم هدفٌ آخر غير رغبة
محمومة في الوقوف بوجه كل مَن يروم التشكيك في مصداقية ومشروعية العلم
الذي أسسوا له!
فهم علماء كغيرهم على اي حال! وهم، ماداموا علماء، لا ينظرون الى
الواقع بعين الباحث عن الحقيقة
بل
بعين الباحث عن كل ما من شأنه ان يؤمن لهم مكانةً في المجتمع الإنساني؛
هذا المجتمع القائم على اساسٍ من تأليه الإنسان لمَن لا يُحسن غير
التنطع بالباطل مادام في هذا تشديدٌ على عظمة الكائن البشري! ان علم
النفس الذي بين ايدينا اليوم علمٌ ليس كغيره من فروع العلم المعاصر
مادامت الظاهرة الإنسانية قد شغلته بجانبها الاكثر استعصاءً على
التعامل المعرفي الصائب معه. فالنفس الإنسانية، وان كانت عبارة عن
فعالية دماغية المادة ليس الا، لا تملك ما يجعل منها قابلةً للخضوع
لمعايير التجريب والاختبار خضوع باقي الفعاليات البايولوجية الإنسانية
الأخرى.
وهذا الاستعصاء على الخضوع للشروط المختبرية قد تأتى لها بسببٍ من
استخفائها لطافةً في المادة ودقة! فمادة النفس الإنسانية دماغية بكل
تأكيد. الا ان هذا ليس بالضرورة بقادر على جعْلها في متناول ايدي البحث
التجريبي-الاختباري. فمادامت المادة البايولوجية للنفس الإنسانية فائقة
الدقة بالغة الصِغَر فان التعامل المختبري معها لن يكون كالتعامل مع
المادة البايولوجية لأجزاء الإنسان الأخرى كالقلب أو الاسنان مثلاً.
فمادة النفس الإنسانية هي هذا الدماغ. ولكن مهلاً، فهي ليست الدماغ بل
مفردات منه تتشارك مع غيرها من باقي مفرداته في تكوينه.
ان النفس التي يدرسها علمُ النفس هي فعاليات بالغة اللطافة فائقة الدقة
تتخذ لها داخل مادة الدماغ الإنساني مسرحاً كيما تحدث. وهذا ما يجعل من
مهمة رصْدها في بيئتها الواقعية امراً بالغ الخطورة على حياة الإنسان
مادام حياً. وهذا ايضاً ما يجعل من هذه المهمة بالغة الصعوبة. فمفردات
المادة البايولوجية الإنسانية التي يتعامل علم الطب معها مفردات عملاقة
اذا ما قورنَت بمفردات مادة النفس الإنسانية.
ان النفس التي يدرسها علم النفس عبارة عن فعاليات بايوالكترونية تحدث
في مادة دماغ الإنسان، وهي لذلك عصية على التعامل المختبري معها
مقارنةً بالفعاليات البايولوجية الأخرى والتي بمستطاع علم الطب التعامل
معها بكل يُسر وسهولة مادامت مادتها ليست الكترونية فتستعصي على
الملاحظة والملاحقة. ولكن اذا كان هذا هو قدَر علم النفس المفروض عليه
بسببٍ من اختياره الانشغال بهذه النفس الخفية، فان هذا القدَر ابداً لن
يكون له ان يُسوغ لعلماء النفس استعانتهم بنظريات سايكولوجية كهذه التي
بين ايدينا والتي لا قيام لعلم النفس الا بها!
لقد اتجه علماء النفس "لتعويض النقص" في المنظومة المعلوماتية
السايكولوجية بقيامهم بصياغة نظريات توهموا معها انها قادرة على
استكمال هذا النقص بموجودات من عندِياتها استعاضوا بها عن المنظومات
البايوالكترونية التي لم ينجحوا في الوقوع عليها داخل مادة الدماغ
الإنساني لاستحالة ذلك مادام الدماغ لا حياة له الا بها ومادام حصولهم
عليها يتطلب، في حال توفر التقنيات اللازمة لذلك، التضحية بهذا الدماغ!
ان النظريات السايكولوجية لا تقل خرْصاً بيناً عن اية نظريات علمية
أخرى يُستعان بها تعويضاً للنقص المُلاحَظ في الظاهرة قيد الدرس
"بموجودات نظرية" مادام قد استعصى على صائغيها الوقوع على مفردات
واقعية لهذه الظاهرة لابد من اضافتها لباقي المفردات التي في اليد
"استكمالاً للصورة" وتوطئة لفهْم ما يحدث فيها! الا ان علم النفس
تفوَّق على كل فروع العلم المعاصر بقيامه على اساسٍ نظري لا وجه
للمقارنة بينه وبين اي اساسٍ نظري آخر لأي علمٍ آخر من علوم العلم
المعاصر.
فعلم النفس علم نظريات لا علم وقائع الا قليلاً! وهذا الهَوَس المَرَضي
بالنظريات هو الذي جعل من علم النفس الذي بين ايدينا أكثر فروع العلم
المعاصر فشلاً! لقد كان يجدر بعلم النفس ان يُعرِض عن التنظير بدل هذا
الانشغال المهووس به، وذلك بأن يقتصر تعامله مع الظواهر السايكولوجية
على ما هي عليه واقعاً مادام قد استحال عليه الوقوع على ما هي عليه
حقيقة وذلك لاستحالة تمكنه من التوغل عميقاً داخل المادة البايولوجية
للدماغ الإنساني الحي مُلاحظةً وملاحَقةً لمفرداتها المسؤولة عن حدوث
هذه الظواهر! فعلم النفس الصائب لابد من ان يكون علماً
تجريبياً-اختبارياً فحسب.
وهذا ما يؤمن له ان تكون منظومته المعرفية بعيدة، البعد كله، عن هذا
الخَبال الذي لا قيام للنظريات السايكولوجية الا به! فاذا ما استحال
على علم النفس ان يقع على أسباب حدوث الظواهر السايكولوجية فلماذا لا
يقنع بما بين يديه من ظواهر لا حاجة لافتراض ما يُتوهم معه بأنه قادرٌ
على التعليل لما يحدث فيها مادام هذا التعليل لن يقوده الى شيء ذي بال
بشهادة فشله الذريع في علاج معظم الحالات المرَضية التي استُقدِم
لعلاجها؟!!
ان السبيل الوحيد لنجاة علم النفس من مشاكله المعرفية يكمن في التزامه
الحرفي بالواقع السايكولوجي دون ابتعادٍ عنه وتجاوزٍ له تطاولاً لما
ليس بالامكان الوقوع عليه مادام الحاجز بين عالِم النفس والظاهرة
السايكولوجية حاجزاً قد شيدته الخصوصيةُ التي تفردت بها النفسُ
الإنسانية بمادتها الدماغية التي لا تشابُه بينها وبين اية مادة
بايولوجية أخرى على الاطلاق. فعلم النفس ابداً لن يتمكن من الاستعانة
بنظرياته السايكولوجية في التعليل الصائب لما يحدث حقيقةً في الظواهر
التي يدرسها تعليلاً يطال الأسباب الحقيقية وراء حدوث هذه الظواهر.
فلا عُقداً نفسية لها ان تُعلل بنجاح لهذا الخَبال المُميز للنوع
الإنساني برمته الا قليلاً! ان استعانة علم النفس الذي بين ايدينا
بالماضي الإنساني تعليلاً لحاضره الشقي بأنواع الاضطرابات النفسية لن
تجديه نفعاً حقيقياً مادام هذا الماضي لا يتجاوز سنوات الطفولة! فطفولة
الإنسان، لا النوع الإنساني، هي المسؤولة، كما يظن علم النفس الذي بين
ايدينا اليوم، عن أمراضه وعِلله النفسية! ان العودة الى الماضي
الإنساني لها ان تُعين المتدبر في خَبالات النوع الإنساني على الوقوع
على حقائق كثيرة ولكن شريطة ان تكون هذه العودة عودةً الى الماضي
السحيق للنوع الإنساني قاطبةً وليس الى ماضي فرد، أو افراد من هذا
النوع، يُظن بهم انهم وحدهم مَن التاثت منهم العقول لهذا السبب أو ذاك
مما له علاقة بماضٍ طفولي كان له ان يجعل من واحدهم ملتاث العقل
مضطربه! فاذا كان الواقع الإنساني عاجزاً عن ان يشهد لهذا الإنسان،
كائناً مَن كان الا ما رحم ربي، الا بأنه لا يحيا في غياب الخَبال
الدماغي، بتجلياته التي يصعُب حصرها لضخامة تنويعاتها تشعباً وتلوناً،
فان هذا دليل، لا حاجة معه لدليل آخر، على ان الماضي الذي يتوجب علينا
العودة اليه استعانةً به على فهم ما نراه في الواقع الإنساني من فنون
الجنون، هو ماضي النوع الإنساني وليس الماضي الخاص بفرد ما، أو افراد
على وجه التعيين! فالنوع الإنساني مُلتاث برمته الا قليلاً ممن رحم
ربي! وهذه اللوثة الجَماعية لا يمكن للماضي الفردي لكل إنسان ان يكون
المسؤول عن حدوثها الجَماعي هذا!!
لذا فان على علم النفس ان يعود الى ماضي النوع الإنساني اذا ما هو اراد
ان يكون صادقاً في بحْثه عن حقيقة ما يحدث لهذا الإنسان بتواجده مع
الآخرين من أفراد نوعه أو لمفرده! الا ان عودةً الى الماضي كهذه تتطلب
ان يكون لعلم النفس آلة زمن بوسعها ان تنقله الى زمانٍ بعيد جداً هو
ذاك الذي شهد تشكل الماضي الإنساني. وهذه العودة الى ماضي النوع
الإنساني ليس لأحد ان يكفلها لعلم النفس الا هذا القرآن.
ولكن لماذا كان القرآن العظيم الوسيلة الوحيدة للوقوع على الحقيقة
الكامنة وراء هذا الواقع الإنساني المُلتاث خَبالاً واضطراباتٍ نفسية
لا تني تزداد ساعة فساعة بتسارُع ابتعاد الإنسان عن خالقه؟ اننا اذا ما
تدبرنا هذا القرآن بعين عقلٍ سليم فاننا واقعون لا محالة على حقيقةٍ
مفادها ان الله قد ضمن كتابه العزيز كل ما من شأنه ان يكشف النقاب عن
الحقيقة الإنسانية؛ هذه الحقيقة التي يُجليها واضحةً كل الوضوح الواقعُ
الإنساني الذي نُعاني كلنا جميعاً من قاسي سطوته علينا. فالقرآن العظيم
يُبين لمُتدبره حقيقة هذا الإنسان الذي يريدنا مؤلهوه ان نُشاركهم
خَرْصهم بشأنه اذ يرونه كائناً مثالي الخِصال كامل الاوصاف! ان الواقع
الإنساني لَيوافق القرآن العظيم لا هؤلاء الذين لا يرون في الإنسان الا
ما يؤكد صواب نظرتهم الرومانسية الحالمة اليه! لقد قالها هذا القرآن
واضحةً جليةً اذ اسقط هذا القناع الرومانسي واَظهر الإنسان على حقيقته
وبوجهه الذي نعرفه جيداً كما نعرف أبناءنا! فالإنسان كما نعرفه هو كما
وصفه هذا القرآن اذ قال فيه:
(وَاِذا مَس الإنسان اٌلضر دَعانا لِجَنْبِهِ أو قاعِداً أو قائِماً
فَلَما كَشَفْنا عَنْهُ ضُرهُ مَر كَاَنْ لَمْ يَدْعُنا اِلى ضُر مَسهُ
كَذلِكَ زُينَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (يونس:12)،
(وَلَئِنْ اَذَقْنا الإنسان مِنا رَحْمَةً ثُم نَزَعْناها مِنْهُ اِنهُ
لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ اَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَراءَ مَستْهُ
لَيَقُولَن ذَهَبَ اٌلسَيئاتُ عَني اِنهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) (هود:
9-10)، {وَآتاكُمْ مِنْ كُل ما سَاَلْتُمُوهُ وَاِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها اِن الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(ابراهيم:
34)، (خَلَقَ الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ فَاِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)
(النحل: 4)، (وَيَدْعُ الإنسان بِالشر دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ
الإنسان عَجُولاً)(الإسراء:
11)، (وَاِذا مَسكُمُ اٌلضر فِي الْبَحْرِ ضَل مَنْ تَدْعُونَ اِلا
اِياهُ فَلَما نَجاكُمْ اِلى الْبَر اَعْرَضْتُمْ وَكانَ الإنسان
كَفُوراً) (الإسراء: 67)، (وَاِذا اَنْعَمْنا عَلى الإنسان اَعْرَضَ
وَنَأى بِجانِبِهِ وَاِذا مَسهُ اٌلشر كانَ يَؤُساً) (الإسراء: 83)،
(قُلْ لَوْ اَنْتُمْ تَمْلِكُونً خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبي اِذاً
لَاَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الاِنْفاقِ وَكانَ الإنسان قَتُوراً)
(الإسراء: 100)، (وَلَقَدْ صَرفْنا فِي هذا الْقُرْآنِ لِلناسِ مِنْ
كُل مَثَلٍ وَكانَ الإنسان اَكْثَرَ شَئٍ جَدَلاً) (الكهف: 54)،
(وَهُوَ الذي اَحْياكُم ثُم يُمِيتُكُمْ ثُم يُحْييكُمْ اِن الإنسان
لَكَفورٌ) (الحج: 66)، (اِنا عَرَضْنا الاَمانَةَ عَلى اٌلسمواتِ
وَالأرْضِ وَالْجِبالِ فَاَبَيْنَ اَنْ يَحْمِلْنَها وَاَشْفَقْنَ
مِنْها وَحَمَلَها الإنسان اِنهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:
72)، (اَوَ لَمْ يَرَ الإنسان اَنا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فاِذا
هُوَ خَصيمٌ مُبِينٌ) (يس: 77)، (فَاِذا مَس الإنسان ضُر دَعانا ثُم
اِذا خَولْناهُ نِعْمَةً مِنا قالَ اِنما اُوتِيتُهُ عُلى عِلْمٍ بَلْ
هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِن اَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزُمَر: 49)، (لا
يَسْأَمُ الإنسان مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَاِنْ مَسهُ اٌلشَر فَيَؤوسٌ
قَنوطٌ. وَلَئِنْ اَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنا مِنْ بَعْدِ ضَراءَ مَستْهُ
لَيَقولَن هذا لي وَما اَظُن اٌلساعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ
اِلى ربي اِن لي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبئَنَ اٌلذِينَ كَفَرُوا
بِما عَمِلوا وَلَنُذيقَنهُمْ مِنْ عَذابٍ غَليظٍ. وَاِذا اَنْعَمْنا
على الإنسان اَعْرَضَ وَنأى بِجانِبِهِ وَاِذا مَسهُ اٌلشَر فَذو
دُعاءٍ عَريضٍ) (فُصلَت: 49-51)، (وَاِنا اِذا اَذَقْنا الإنسان مِنا
رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَاِنْ تُصِبْهُم سَيئَةٌ بِما قَدمَتْ اَيديهِم
فَإن الإنسان كَفورٌ) (الشورى: من 48)، (وَجَعَلوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ
جُزْءاً اِن الإنسان لَكَفورٌ مُبينٌ) (الزخْرُف: 15)، (وَلَقَدْ
خَلَقْنا الإنسان وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ
اَقْرَبُ اِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ) (ق: 16)، (اِن الإنسان خُلِقَ
هَلُوعاً. اِذا مَسهُ اٌلشر جَزُوعاً. وَاِذا مَسهُ الْخَيْرُ
مَنوُعاً) (المَعارِج: 19-21)، (قُتِلَ الإنسان ما اَكْفَرَهُ. مِنْ
اَي شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدرَهُ) (عَبَس:
17-19)، (يا أيها الإنسان ما غَركَ بِرَبكَ الْكَريمِ. اٌلذِي خَلَقَكَ
فَسَواكَ فَعَدَلَكَ. فِي اَي صُورَةٍ ما شاءَ رَكبَكَ) (الإنفِطار:
6-8)، (فَاَما الإنسان اِذا ما ابْتَلاهُ ربه فَاَكْرَمَهُ وَنَعمَهُ
فَيَقولُ ربي اَكْرَمَنِ. وَاَما اِذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ فَيَقولُ ربي اَهانَنِ) (الفَجْر: 15-16)، (لَقَدْ خَلَقْنا
الإنسان فِي كَبَدٍ. اَيَحْسَبُ اَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ اَحَدٌ)
(البلد: 4-5)، (كَلا اِن الإنسان لَيَطْغى. اَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)
(العَلَق: 6-7)، (اِن الإنسان لِرَبهِ لَكَنودٌ. وَاِنهُ عَلى ذلِكَ
لَشَهيدٌ) (العادِيات: 7).
لنتدبر جيداً، وجيداً جداً، ما ورد في هذه الآيات القرآنية الكريمة من
حقائق لا يعجز الواقعُ الإنساني عن الشهادة لها بأنها الحق الذي ليس
وراءه الا الباطل. فهل الإنسان كما نعرفه، وليس كما يريدنا مؤلهوه ان
نتوهمه فلا نراه على حقيقته بل كما يتوهمون، هو بهذه الصفات التي
فصلتها آياتُ القرآن العظيم وبما لا يدع مجالاً للشك بأن هذا القرآن هو
من عند الله حقاً؟ فلو لم يكن القرآن من عند الله هل كنا لنقع فيه على
هذا الخطاب الفاضح لعيوب الإنسان؟! ولو كان هذا القرآن من عند غير الله
اما كنا لنجده خالياً من كل ما من شأنه ان يتعارض والنظرة الرومانسية
للإنسان؛ هذه النظرة التي لا نجد الا القرآن العظيم مُعرضاً عنها كل
الإعراض؟!
ان هذا التطابق المذهل ما بين حقائق القرآن العظيم والواقع الإنساني
كما نعرفه حق المعرفة لهو برهان لا يقطع الا بأن هذا القرآن لا يمكن ان
يكون الا من عند الله الذي خلق الإنسان ويعلم عنه كل شيء. والآن، اذا
كان القرآنُ العظيم صادقَ الوصف للإنسان كما يُجليه بوجهه الحقيقي
واقعُه الذي نعرفه، واذا كان هذا الوصف بهذه الدقة المتناهية التي لم
تغادر صغيرة ولا كبيرة الا وأحصتها في بيان تفصيلي لكامل اوصاف
الإنسان، فهل لنا الا نخرج بنتيجة مؤداها ان هذا القرآن لابد وان يكون
قد تضمن كل ما له ان يجعل من الظاهرة الإنسانية يُغادرها غموضُها والى
الابد؟ ان القرآن العظيم يصف الواقع الإنساني كما لم يتجاسر احد من بني
آدم على وصفه الا مَن كان منهم سائراً على الطريق الإلهي الى الله.
فكيف لا نُصدقه فنكذب كل مَن لا قدرة له على شيء سوى الدعوة الى تأليه
الإنسان على الرغم من هذا الواقع الإنساني البغيض الذي لا حياة
للغالبية العظمى من بني آدم الا خوضاً حتى الاذنين في نتن ظُلُماته؟!
إن من يملك هكذا تشخيص دقيق للإنسانية بوجهها الحقيقي كما يُجليه
الواقعُ الإنساني، وكما لا تُبينه الوثيقةُ الرومانسية التي صاغتها
ايادي مؤلهي الإنسان، لابد وان يكون صادقاً، كل الصدق، في كل ما يقول
عن هذا الإنسان كما نعرفه! لذا فان العودة الى الماضي الإنساني لن يتم
لنا القيام بها ما لم نستعن بهذا القرآن الذي وحده يملك مفاتح الغيب
والذي وحده يملك ان يقول لنا كل ما له ان يجعل من الظاهرة الإنسانية
تتجلى، أماماً من انظارنا، بأبعادها الحقيقية وجذورها الممتدة في عُمق
الزمان. ان عودةً الى ماضي إنسان ما برجوعنا الى طفولته، أو الى ماضٍ
وراثي حتم عليه وجوب الانطلاق النشوئي منه خروجُه من بين صُلب وترائب
أبوين وأجداد مُعينين، لن تكفل لنا الخروج من ظلمات الجهالة الى نور
الحقيقة مادام البشر كلهم سواء في واقعهم الإنساني البغيض الا ما رحم
ربي وقليل ما هم! فالعودة الصائبة الى الماضي هي بالعودة الى ماضي
النوع الإنساني مادام أفراده كلهم جميعاً مُلتاثة أدمغتهم الا قليلاً!
ان شيئاً ما لابد وان يكون قد تسبب في هذه الجماعية المميزة للمشكلة
الإنسانية. وهذا الشيء لا يمكن، على الاطلاق، ان يكون وليد ماضٍ فردي
يخص هذا الفرد أو ذاك من افراد الجماعة الإنسانية ولا يخص هذه الجماعة
بكامل ملاكها الا قليلاً!
فاذا كان الواقع الإنساني بهذه البشاعة التي لم تغفل عن احد من افراد
النوع الإنساني، الا قليلاً ممن رحم ربي، فكيف، بربك، يكون ماضي كل فرد
من أفراد هذا النوع هو المسؤول عن وجهه الإنساني البشع ما لم يكن هذا
الماضي ضارباً بجذوره عميقاً في الزمان امتداداً الى زمان ابتدائي
مشترك تتوحد الإنسانية جمعاء بانبثاقها عنه؟! وهل لطفولة الإنسان ان
تكون على هذه القدرة على تشويه وجهه؟! ان طفولة النوع الإنساني لا
طفولة فردٍ من أفراده هي الماضي الذي يجب ان نعود اليه بحثاً عن السبب
الجماعي في هذه النشأة المريضة لكامل أفراد الجماعة الإنسانية الا
قليلاً. ولكن مَن يملك ان يعود بنا الى ذلك الماضي السحيق اِن لم يكن
هذا القرآن الذي كشف النقاب عن الوجه الحقيقي لكل إنسان كما بوسع كل
إنسان ان يراه لو انه نظر الى الواقع الإنساني على ما هو عليه لا كما
يريده مؤلهو الإنسان ان يشاركهم نظرتهم الرومانسية الحالمة اليه؟!
لِنعُد مع القرآن العظيم الى الماضي البعيد للإنسانية جمعاء وذلك
بتدبرنا لما فصلته آياتُه البينات عن الذي حدث فجعل من كل إنسان بهذا
الوجه البشع ما لم يُسارع من فوره الى القيام بما هو كفيلٌ بجعْله يحصل
على وجه جديد لا نراه حوالَينا كل يوم!
(وَقُـلْنا يا آدمُ اسْكُنْ اَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجنةَ وَكُلا مِنْها
رَغَداً حَيْثُ شِئتُما وَلا تَقْرَبا هذهِ اٌلشجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ
اٌلظالِمِينَ. فَاَزَلهُما اٌلشيْطانُ عَنها فَاَخرَجَهُما مِما كانا
فِيهِ وَقُـلْنا اهْبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُو وَلَكُم فِي الأرْضِ
مُستَقَرٌ وَمَتاعٌ اِلى حِينٍ) (البقرة: 35-36).
(وَيا آدم اسْكُنْ أنتَ وَزَوجُكَ الْجنة
فَكُلا مِن حيثُ شئِتُما ولا تَقْرَبا هذهِ الشجرةَ فَتَكونا مِنَ
الظالِمين. فَوَسْوَسَ لَهُما الشَيطانُ لِيُبديَ لَهُما ما وُرِيَ
عَنهُما مِنْ سَوآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبكُما عن هذهِ الشجرةِ
اِلا اَنَ تكونا مَلَكَين أو تَكونا مِن الخالِدِين. وَقاسَمَهُما اِني
لَكُما لَمِنَ اٌلناصِحِينَ. فَدَلاهُما بِغُرورٍ فَلَما ذاقا
الشَجَرةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخصِفانِ عَلَيهِما مِن
وَرَقِ الْجنة وَناداهُما ربهما اَلَمْ اَنْهَكُما عَنْ تِلْكُما
الشَجَرةِ وَأقُلْ لَكُما اِن الشيطانَ لَكُما عَدوٌ مُبِينٌ. قالا
ربنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَاِنْ لَم تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا
لَنَكوننَ مِنَ الخاسِرينَ. قالَ اهْبِطوا بَعَضُكُمْ لِبَعضٍ عَدوٌ
وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتاعٌ اِلى حينٍ) (الأعراف: 19-24).
(وَاِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدمَ فَسَجَدُوا اِلا
اِبْلِيسَ اَبى. فَقُلْنا يا آدمُ اِن هذا عَدُو لَكَ وَلِزَوْجِكَ
فَلا يُخْرِجَنكُما مِنَ الْجنة فَتَشْقى. اِن لَكَ اَلا تَجُوعَ فيها
وَلا تَعْرى. وَاِنكَ لا تَظْمَأُ فيها وَلا تَضْحى. فَوَسْوَسَ
اِلَيْهِ اٌلشيْطانُ قالَ يا آدمُ هَلْ اَدُلكَ عَلى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لايَبْلى. فَاَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجنةِ
وَعَصى آدمُ رَبهُ فَغَوى ثُم اجْتَباهُ ربه فَتابَ عَلَيهِ وَهدى.
قالَ اهْبِطا مِنْها جَميعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو فاِما
يَأتِيَنكُمْ مِني هُدىً فَمَنِ اتبَعَ هُدايَ فَلا يَضل وِلا يَشْقى.
وَمَنْ اَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِن لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ
يَوْم الْقِيامَةِ اَعْمى) (طه: 116-124).
اذاً هذا هو الذي حدث فجعل من الإنسانية جمعاء، الا قليلاً ممن فروا
الى الله، مُلتاثة الدماغ كما لا يعجز الواقعُ الإنساني عن جعْل
المتدبر فيه واجده لا محالة! ان القرآن العظيم بهذا الكشف المعرفي
المعجز قد بين لنا السبب الحقيقي الذي جعل من كل إنسان إنساناً كما
نعرفه! فاذا كان القرآن العظيم قد وافق الواقع الإنساني فيما يذهب اليه
بخصوص بشاعة الظاهرة الإنسانية فانه قد جاءنا ايضاً بعلمٍ لا قدرة لهذا
الواقع، ولا لأي واقع آخر مادام غير الهي، على ان يأتينا به! لقد عدنا
الى الماضي الجماعي للنوع الإنساني بهذا القرآن وكان لنا ان نقع
بواسطته على ما جعل من الإنسان، كل إنسان، إنساناً كما نعرفه، ولكن هل
لهذا القرآن ان يُبين لنا السبيل للعودة الى المستقبل الذي كان سيكون
هو المستقبل لو اننا لم نكن بهذا الماضي؟! نعم لقد بين القرآن العظيم
كل ما ينبغي على الإنسان ان يقوم به اذا ما هو اراد حقاً ان ينجو من
الآثار الكارثية التي جرَّها ماضيه عليه. فالقرآن العظيم جاءنا بطريقةٍ
مثلى للعبادة فصلتها آياتُه البينات طريقاً وحيداً للنجاة من كل آثار
ذلك الماضي الموغل في القدم. (قالَ اهْبِطا
مِنْها جَميعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو فاِما يَأتِيَنكُمْ مِني
هُدىً فَمَنِ اتبَعَ هُدايَ فَلا يَضل وِلا يَشْقى. وَمَنْ اَعْرَضَ
عَنْ ذِكْري فَاِن لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْم
الْقِيامَةِ اَعْمى) (طه: 133-124).
الا ان الإنسان لا يريد ان يبذل الجهد فيما ينفع حق النفع لا زائفه
مادام هذا الجهد يصب في غير قناة تأليهه لذاته واتباعه لهوى نفسه
المريضة جراء نشأته وانبثاقه عن ماضٍ لا يريد ان يغادره! ان الإنسان
أسير ماضيه هذا لا محالة. وسيبقى الإنسان أسير ذلك الماضي مادام غير
راغب في العودة اليه تصحيحاً لما حدث منه فيه يوم ان شارك أباه في أكله
من تلك الشجرة! فكل إنسان كان سيحذو حذو أبيه آدم لو انه كان مكانه!
فهل لنا ان نعجب حقاً لنشأتنا المشتركة وانبثاقنا الجماعي عن ذلك
الماضي الآدمي؟! ان الحاضر الإنساني بهذا الواقع المقيت شهادة بأن ماضي
الإنسانية لم يكن الا كما بيَّنه القرآن العظيم وكشف النقاب عنه.
فلماذا لا نستعين بهذا القرآن على تأسيس علم نفسٍ جديد يأخذ بنظر
الاعتبار هذه الحقائق التي تجلت امام العين عله ان يكون علمَ نفسٍ
داعياً الى الله مادام يريد لنفسه ان يكون الحل العلاجي للمشكلة
الإنسانية؟
ان الإنسان مريضٌ مادام واقعُه لا يشهد له الا بأنه ذو عقلٍ مُلتاث،
فهل لعلم النفس الجديد هذا ان ينقذه من لوثته هذه وذلك بدعوته له
للفرار الى الله؟ ان الإنسانية تعيش عيشاً ضنكاً بشهادة الآية القرآنية
الكريمة (وَمَنْ اَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِن
لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْم الْقِيامَةِ اَعْمى)
وذلك لأنها قد أعرضت عن ذكر الله، لا لشيء آخر، فهل لعلم النفس الجديد
ان يكون داعياً الى غير الله مادام الفرار الى الله هو وحده العلاج
الناجع للإنسانية جمعاء؟!
الدكتور جمال نصار حسين
ص.ب 941342 الشميساني، عمان 11194
المملكة الاردنية الهاشمية
unc@index.com.jo