بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مرحبا بكم مع الشيخ خالدالمغربي - المسجد الأقصى

018

الكهف

آية رقم 032

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا

صدق الله العظيم

 

جنان القرآن
 

بقلم الدكتور المهندس محمد عبد الهادي الشيخ

دكتوراه دولة في هندسة الزراعة ـ جامعات فرنسا

مــلـخـص

يمثل هذا البحث مدخلا لدراسة الاعجاز الزراعي في القرآن والسنة. ولقد انطلقنا من بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لصياغة الملامح العامة لنظام زراعي يستمد قواعده الأساسية من هذين المصدرين الشريفين.

واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا. الآيات 32/33 من سورة الكهف

فكان نظاما متوازنا، متكاملا من حيث الانتاج النباتي والحيواني، ذات محاصيل متنوعة ورؤية متجددة ومتطورة حسب الواقع الميداني.

وانبثق من هذا النظام الزراعي العام، نظام زراعي خاص بالمناطق الصحراوية، حيث حاولنا بلورة أشكاله التطبيقية على أرض الواقع حسب الوسائل التكونولوجية المتوفرة والمعادلات السوسيواقتصادية لهذه المنطقة في إطار من التدرج المنطقي والتناسق الايكولوجي. فكان هذا النظام الزراعي، والذي أطلقنا عليه اسم جنان القرآن، محاولة جديّة وقيمة لترشيد الاستصلاح الزراعي الذي يعاني من العديد من المشاكل والصعوبات الفنية والاقتصادية بهذه البيئة الجافة والقاسية. ولقد حاولنا تفصيل بعض الجوانب التقنية للمزارع النموذجية المنبثقة من هذا النظام على أمل اعتمادها كوثيقة نظرية جد هامة لإرساء أي مشروع زراعي بهذه المناطق من طرف المستثمرين المختصين.

1 ـ مــــدخــــــل

إن معظم أراضي الوطن العربي تزخر بثروات مائية جد هائلة وسواعد قوية ماهرة غير أن هذه الأوطان تشكو حدة الجوع والفقر وعدم الاكتفاء الذاتي الغذائي ولا تزال تستورد قوتها من وراء البحار مما يهدد أمنها وسيادتها وحريتها…. وهذا يفسر تبيعتها للغرب في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية….وقد قيل :"السلاح الأخضر أقوى سلاح ومن أمتلكه ربح المعركة".والوطن العربي مؤهل أكثر من غيره أن يمتلك هذا السلاح، فكل العوامل متوفرة: الأرض، الماء، اليد العاملة .... لكن شريطة وجود إرادة صادقة وعمل جدي متواصل لكسب هذا الرهان، وهنا ومن باب التفاؤل لابد من التذكير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب جنات وعيون"

فالانسان العربي منذ القدم دأب، بكل ما توفر لديه من وسائل مادية وتجارب ميدانية على تحقيق هذه الغاية، وكذلك في عصرنا هذا هناك عدة محاولات قيمة للاستصلاح الزراعي وتعمير الأراضي خاصة بعد ظهور التقنيات الفلاحية المعاصرة مثل الرش المحوري.

لكن يبدو أن طريقة إدخال هذه التقنيات لم تكن بصفة مدروسة ولم تراع خاصيات البيئة الصحراوية مما أدّى إلى ظهور العديد من المشاكل التقنية والعوائق الاقتصادية.

فهذه الدراسة تعتبر محاولة لإعطاء نفس جديد لطريقة الإستصلاح الزراعي بالصحراء في إطار نظام زراعي جديد ومتكامل يوازن بين الخاصيات البيئية للمنطقة ومتطلباتها السوسيوإقتصادية من جهة وبين التقنيات الفلاحية الحديثة من جهة أخرى ويستمد قواعده الأساسية من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وقد ارتأينا أن نطلق على هذا النظام الزراعي اسم جنان القرآن .

2 - المقومات الأساسية للنظام الزراعي المقترح : جنان القرآن

من أهم الخصائص التي تميز هذا النظام الزراعي أنه يستمد مبادئه الأساسية من القرآن الكريم ولا أتجوّر أن أقول بأنه التفسير القطعي والحقيقي للقرآن، إنما هو استقراء وإيحاء من بعض الآيات القرآنية التي من خلالها انطلقنا لإرساء القواعد العامة لهذا النظام الزراعي الجديد وهنا أركز على كلمة "جديد" لأنه في الحقيقة لم يسبق وجود مثل هذا النظام الزراعي لا نظريا ولا تطبيقيا. ونحن في مرحلة أولى سوف نقوم بالتنظير لهذا النظام وأسسه ودراسته دراسة موضوعية دقيقة على أن يتولى أصحاب القرار والمستثمرين في القطاع الفلاحي تجسيده ميدانيا على ارض الواقع.

يقول الله جل وعلا في سورة الرعد:" وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل" صدق الله العظيم

جاءت هذه الآيات لتبين طبيعة الاستصلاح الزراعي وترسم الملامح العامة لنظام زراعي شامل ومتكامل خاص بالبيئة الصحراوية حيث العوامل جد قاسية، فأقرت هذه الآيات بأن هذا النظام يتكون من ثلاثة عوامل أساسية النخيل، الزرع، الأعناب. في الآن نفسه تمثل هذه الزراعات نسيج ايكولوجي رائع متكون من ثلاثة طبقات نباتية مختلفة:

1) الزرع : الطبقة العشبية

2) الأعناب : (او الأشجار المثمرة بصفة عامة) الطبقة الجنبية

3) النخيل : الطبقة الشجرية

لكن هذه الآية لم تبين طريقة ترابط هذه الطبقات الثلاثة ولا العلاقة التفاعلية بينها فجاءت الآيات 32/33 من سورة الكهف لتبين مواقع هذه الطبقات الثلاثة وتصوغ الملامح النهائية لهذا النظام الزراعي المتكامل في إطار من التدرج المنطقي والإنسجام الإيكولوجي لا مثيل لهما في أي نظام زراعي آخر.

واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا.

أقرت الآية بأن النظام الزراعي المقترح يتكون أساسا من جنتين من أعناب (الطبقة الجنبية) يحيط بها النخيل (الطبقة الشجرية) ، وبين هاتين الجنتين الزرع (الطبقة العشبية). كما بينت الآية الكريمة النتيجة الحتمية لهذا الترابط بين الطبقات النباتية الثلاثة وهي الرفع من مستوى الانتاج (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) أي أنه لا يوجد خسائر في الانتاج نتيجة توفير كل العوامل الملائمة لإنتاج جيد كمّا وكيفا.

ولو أردناأن نرسم شكلا مبسطا لهذا النظام لكان كالآتي : (رسم رقم 1)

رسم رقم 1 : شكل مبسط للنظام الزراعي المقترح

3- الفوائد والتأثيرات العامة لهذا النظام الزراعي

يعد هذا النظام الزراعي تركيبة نباتية فريدة من نوعها لها فوائد وتأثيرات جد ايجابية على مستوى المناخ والتربة مما يساهم مساهمة فعالة في الرفع من مستوى الإنتاج من ناحية وتحقيق التوازن الأيكولوجي لجميع الكائنات المتواجدة بهذه المنطقة.

-31) الفـوائد المنـاخيـة :

  •  إحداث مناخ مصغر ذات عوامل مناخية أقل حدة من المناخ العام السائد

  •  التخفيف من حدة الرياح: عامل الرياح يمثل أخطر العوامل التي تهدد الانتاج النباتي بالمنطقة خاصة بالنسبة للطبقة العشبية (الزرع). في هذا النظام يلعب النخيل دور جدار أولي من مصدات الرياح لحماية الأشجار المثمرة إذ أنه يأثر على ارتفاع هام في حين أن نفاذية منطقة الجذع تعتبر جد هامة. فتأتي الطبقة الجنبية (الأشجار) لتكوّن جدارا ثانيا من مصدات الرياح ذات نفاذية منخفضة وارتفاع منخفض وبالتالي فإن نسبة الرياح الواصلة إلى الطبقة العشبية (الزرع) غير معتبرة وفاعليتها جد ضعيفة، علما وأن هذه الطبقة هي أكثر الطبقات حساسية ضد الرياح.

  •  التخفيض من حدة جفاف الهواء: هذا النظام بتركيبته هذه وطبقاته النباتية يوفر جوًا أكثر رطوبة.

  •  التخفيض من درجة الحرارة والفارق الحراري بين الليل والنهار.

  •  التخفيض من نسبة التبخر وبالتالي اقتصاد أكثر في نسبة مياه الرّي.

-32) التأثيرات على مستوى التربة :

* تعديل درجات حرارة التربة والتقليص من الفارق الحراري يؤدي إلى تحسين حركة الكائنات المجهرية داخل التربة وبالتالي تحسين في نسبة تحلل المواد العضوية.

* إن هذه الطبقات النباتية لها ثلاث مستويات للامتصاص وبالتالي هناك نوع من توازن المواد الكيميائية في هذه المستويات المختلفة من التربة.

-33) الفوائد السوسيو اقتصادية :

* تنويع الإنتاج بالمناطق الصحراوية يؤدي إلى الاكتفاء الذاتي الغذائي للسكان وبالتالي توفير مصاريف النقل من أماكن بعيدة.

* توزيع المحاصيل بالمزرعة يساهم في تخفيف الخسائر في حالة الكوارث الطبيعية والتقلبات المناخية والاقتصادية.

* استعمال أمثل للأرض واليد العاملة طيلة أيام السنة.

* تناسق هذه الطبقات النباتية الثلاثة يعطي منظرا طبيعيا رائعا وظروف عيش أكثر رفاهية وجمالا.

4- الشكل التطبيقي لهذا النظام الزراعي المقترح:

إذا أردنا إسقاط النظرية وتطبيق هذا النظام على الواقع وبلورته في شكل مزرعة نموذجية، آخذين بعين الاعتبار الوسائل التقنية الموجودة في الميدان الفلاحي، لخلصنا إلى صياغة وحدة انتاجية نموذجية تمثل الوحدة الأساسية المكونة لأي مشروع استثماري في الميدان الفلاحي بالمناطق الصحراوية.

تتكون هذه الوحدة الانتاجية من :

1) الزراعات الكبـرى

تتوسط المزرعة وتكون على شكل دائري نظرا لوسائل الري المتوفرة: المحور الرشاش. ويمكن زراعاتها بعدّة محاصيل حقلية مثل: قمح- شعير- علف- برسم- لفت سكري أو علفي- بطاطا- ذرّة- فول- حمص- شوفان – كاكاو.

ويجب أن نعتمد دورة زراعية معينة ونلتزم بها لتفادي السلبيات الزراعية مثل الأمراض، الأعشاب الضارة و نقص المرودية.

2) الأشجـار المثـمـرة

تتكون من قطعتين (جنتين) تحيطان بالمساحة الدائرية. وتتكون كل قطعة من المساحتين الجانبيتين اللتين تحيطان بالمساحة الدائرية المخصصة للزراعات الكبرى وشريط مستطيل عرضه شعاع الدائرة وطوله قطر الدائرة (أنظر الرسم رقم 2).

وفي هذه المساحة يمكن غراسة العنب، الزيتون الرمان، التين... وتكون طريقة الري قطرة قطرة للاقتصاد في كمية المياه المستعملة.

وحرصا لتنويع المحاصيل الزراعية بهذه الوحدة الانتاجية ارتأينا أن نقحم الزراعات البلاستيكية وتربية الماشية. ولأسباب فنية وتقنية ارتأينا أن نخصص المساحة الجانبية للدائرة للقيام بهذه الأنشطة.

فتكون المساحة موزعة كالآتي:

- جانبان مخصصان للزراعات البلاستيكية مثل الطماطم، الفلفل، القرع، البطيخ، الخيار، الفراولة، حيث نستعمل طريقة الري قطرة قطرة.

وهكذا تكون البيوت البلاستيكية محمية من الرياح (بالأشجار والنخيل) وفي الآن نفسه معرضة بصفة كليّة لأشعة الشمس.

- جانب ثالث مخصص للمخازن ومأوى للآلات الفلاحية.

- جانب رابع مخصص لزرائب الحيوانات مثل الأبقار، الأغنام والدجاج…

إذ أنّه في هذا الموقع تكون الظروف الحياتية أقل حدّة وأكثر ملائمة لمتطلباتها الفزريويجية: محمية من الرياح وأقل جفافا وحرارة وفي الآن نفسه قريبة من المساحة المخصصة للزراعات الكبرى والعلفية لسهولة الرعي وتنقل القطعان.

وبهذا نكون قد أقحمنا الانتاج الحيواني مع الانتاج النباتي، مستفدين بذلك من كلّ الفوائد الزراعية الناتجة عن هذه العلاقة التكاملية مثل توفير الغبار الطبيعي لتسميد الأرض واستغلال مخلفات المحاصيل لتغذية الحيوانات.

3) النـخيـل:

تتكون المساحة المخصصة للنخيل من شريطين مستطيلين يحيطان بالمساحة المخصصة للأشجار المثمرة ويكون عرض كل شريط: شعاع الدائرة. (رسم 2)

وبهذه الطريقة يكون هناك توازن بين المساحات المخصصة للأشجار والزرع والنخيل. فالآية ذكرت لفظ جنتين من أعناب (مثنى) والزرع والنخيل مفردين ونكرتين فارتأينا أن تكون المساحة المخصصة للأشجار هي الأهم مقارنة بالأصناف الأخرى وهناك تقارب في المساحة بين النخيل والزرع.

وحسب الشكل العام للوحدة الانتاجية فإن شعاع الدائرة المخصصة للزراعات هو الذي يحدد مساحة كل صنف من الأصناف.

مثال : قطر دائرة المحور الرشاش 800م، أي أن الشعاع: 400م، فتكون مساحة الدائرة 50 هـ ومساحة الأشجار المثمرة 78 هك، منها 14 هـ المساحة الجانبية للدائرة، ومساحة النخيل 64 هك، والمساحة الجملية 192. إذن نلاحظ أن هناك نوع من التوازن بين المساحات مع تفوق ملحوظ للأشجار بالنسبة للنخيل والزرع.

هكذا نكون قد حصلنا على وحدة انتاجية نموذجية، متكاملة الانتاج النباتي والحيواني، طبقاتها النباتية منسجمة ومتناسقة، مسخرين في ذلك "كل تطور علمي وتقني في الميدان الفلاحي.

(أنظر الرسم رقم 2)
 

الرسم رقم 2: الشكل العام للوحدة الانتاجية النموذجية

5- ملامح المزارع النموذجية المنبثقة عن هذا النظام الزراعي:

1- المزارع النموذجية ذات الحجم الصغير : وهي المزارع التي تتكون من وحدة انتاجية نموذجية واحدة. في هذا النوع من المزارع يجب علينا أن نغير قليلا من شكل الوحدة ونجعل من النخيل يحف كلا الجنتين من كل الجوانب فوجب علينا أن نخفض قليلا من عرض شريط النخيل.

مثال: شعاع دائرة المحور الرشاش 400 م. (رسم رقم 3)

الرسم رقم 3: الشكل العام لمزرعة نموذجية صغرى

مساحة الزرع : 50 هـ - مساحة الأشجار : 78 هـ

مساحة النخيل : 64 هـ. وتتكون المساحة المخصصة للنخيل من شريط عرضه 120 م تقريبا يلف كل المزرعة. إذن نلاحظ ان عرض الشريط قد أصبح 120 م بعد أن كان في الوحدة النموذجية 400م. إذن فهو نظام مرن حسب مساحة المشروع المزمع بعثه، المهم ان نحترم موقع الطبقات النباتية بعضها البعض والتناسب بين المساحات.

 

2- المزارع النموذجية ذات الحجم المتوسط : وهي المزارع التي تتكون من وحدتين نموذجيتين فأكثر. ولا يتجاوز عددها 15 وحدة لأن المزارع التي تظم 16 وحدة تنطوي تحت المزارع العملاقة التي سنتحدث عنها آنفا.

مثال: مزرعة نموذجية تتكون من 3 وحدات انتاجية نموذجية. (رسم رقم 4)

الرسم رقم 4: الشكل العام لمزرعة نموذجية متوسـطـة الحجم

- مساحة الزرع: 50 x 3 = 150 هك .شعاع المحور الرشاش : 400 م

- مساحة الأشجار : 78 x 3 = 234 هك .عرض الشريط : 400 م

- مساحة النخيل: 64 x 3 = 192 هك. عرض الشريط : 220م تقريبا

1- المزارع النموذجية العملاقة :

تندرج هذه المزارع في إطار إحياء الأراضي على نطاق واسع وإنشاء القرى الفلاحية. وتتطلب رؤوس أموال طائلة إلا أن لها أهمية قصوى في مجال تعمير الأراضي والاكتفاء الذاتي الغذائي وكذلك امتصاص اليد العاملة التي تعاني من البطالة. وتتكون المزرعة النموذجية العملاقة من 16 وحدة إنتاجية نموذجية فأكثر.

وفي صياغة هذه القرى الفلاحية علينا أن نراعي المبادئ العامة للنظام الزراعي المعتمد وفي الآن نفسه علينا ان نقحم عاملا جديدا ذات أهمية قصوى وهو عامل الإنسان وتهيئة ظروف عيشه، فلا بد إذن من إدخال حي سكني تتوفر فيه المقومات الأساسية للحياة العادية لأي إنسان. كما يمكن أن تضم هذه القرى الفلاحية مجموعة من المصانع لتعبئة وتعليب الـمنتجات الفلاحية كمصانع التمور ومراكز تجميع الحليب ومحطات خزن وتبريد. ويكون الشكل العام للقرية الفلاحية كما يلي:

الحي السكني يكون متمركزا في وسط القرية ويحيط به حزام من النخيل ثم من الأشجار المثمرة ثم تأتي بعد ذلك المساحة المخصصة للزراعات الكبرى ثم من جديد حزام من الأشجار المثمرة وأخيرا تأتي مساحة النخيل لتلف كل القرية. وبهذا نكون قد حققنا فوائد عدة.

- لقد حافظنا على المبادئ العامة للنظام الزراعي المتبع : فالزراعات محاطة بالأشجار من الجانبين وهذه الأخيرة محاطة أيضا بالنخيل من الجانبين.

- المنطقة السكنية بحكم موقعها، تمتاز بظروف مناخية أقل حدّة فهي محمية من الرياح وخاصة الرياح الرملية، والجو أكثر لطفا بسبب الطبقات النباتية التي تحيط بها.

- بالنسبة للمساحة المخصصة لكل نوع من المنتوجات فهي أيضا متوازنة ولا توجد أي صعوبة في حساب الأبعاد والقياسات : فحزام الأشجار المثمرة والنخيل يكون عرضه مساويا لشعاع الدائرة التي تكون الوحدة الإنتاجية النموذجية المستعملة.

- ولمزيد من الإيضاح، لنفترض قرية فلاحية تتكون من 16 وحدة انتاجية نموذجية.

وتكون القرية الفلاحية على شكل مربع يتكون ضلعه من 5 وحدات إنتاجية ويتمركز الحي السكني في وسط ذلك المربع وتكون مساحته حسب هذا التصميم ثلث مساحة للوحدة الإنتاجية المستعملة

الرسم رقم 5: مزرعة نموذجية عملاقة (قرية فلاحية)

  •  مساحة المزرعة: 16 x مساحة (و.إ.ن) = 16 x 192 = 3072 هك

  •  مساحة الحي السكني 3/1 x مساحة (و.ا.ن) = 3/1 x 192 = 64 هك

  •  المساحة الجملية للقرية الفلاحية = 64 + 3072 = 3136 هك

  •  مساحة الزراعات 800 هك

  •  مساحة الأشجار: 1248 هك

  •  مساحة النخيل: 1024 هك

وتبقى هذه الطريقة في الحسابات هي نفسها مع مراعات اختلاف عدد الوحدات المستعملة ونوع الوحدة المستعملة أيضا (أنظر رسم رقم 5).

6- خـــاتــمـــــة

في هذه الدراسة، انطلقنا من آيات قرآنية كريمات لنشيد صرحا عظيما في مجال الاعجاز الزراعي في القرآن والسنة النبوية. وتمكنا بفضل لله سبحانه من بلورة الملامح الأساسية لنظام زراعي يستمد مقوماته الأساسية من القرآن والسنة. وانبثق من هذا النظام العام شكلا تطبيقيا خاصا بالمناطق الصحراوية أطلق عليه اسم جنان القرآن، يوازن بين خاصيات البيئة الجافة ومتطلبات العصر التكنولوجية والسوسيو اقتصادية في إطار من التدرج المنطقي والتناسق الايكولوجي.

لقد قدمت هذه الدراسة الفوائد المناخية والبيئية والسوسيواقتصادية والتأثيرات الإيجابية على التربة مما يساهم في الرفع من مستوى الإنتاج وتحسين مردودية المحاصيل، كما شكلت الرسم التطبيقي للمزارع النموذجية المنبثقة عن هذا النظام والخاصة بكل أحجام المشاريع: الصغرى والضخمة والعملاقة.

لكن بالرغم من الأدلة الموضوعية والمنطقية التي قدمناها، تبقى هذه الدراسة وثيقة نظرية جدّ هامة لأي مشروع استثماري تحتاج إلى تطبيقها على أرض الواقع وملامسة فوائدها الاقتصادية ميدانيا لا نظريا فقط.

كما أن هذه الدراسة لا تخلو من الثغرات والنقائص، لذا فإني أوجه الدعوة لكافة المتخصصين وذوي الخبرة في الميدان الفلاحي لنقد هذه الدراسة وتقديم الاثراءات اللازمة والإضافات البناءة. كما أدعو كافة المستثمرين في الميدان الفلاحي إلى اعتمادها كوثيقة أساسية لإنجاز مشاريعهم الاستثمارية.

يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل التالي:

chemoh2000@yahoo.fr

 

 

الإعجاز العلمي في تصميم مزارع الأعناب
 

الدكتور محمد طاهر موسى

جامعة الإمارات العربية المتحدة

ربما كان العنب من أقدم النباتات التي عرفها الإنسان، فلقد عرفت أنواع منه منذ عهد سيدنا نوح عليه السلام، وهو نبات متسلق عن طريق المحاليق المتحورة عن البراعم الطرفية ويتبع العائلة العنبية، والعنب الذي عرف الأقدمون قيمته الطبية وفوائده التي لا تحصى، ويكفى أن العنب من أفضل الفواكه وأكثرها منافع، فهو يؤكل رطباً ويابساً وأخضراً ويانعاً، وهو فاكهة مع الفواكه، وقوت مع الأقوات، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة. العنب من أجود الفواكه غذاء، يسمن ويعالج الهزال، ويصفى الدم، وينظف القناة الهضمية، ونافع للأمراض المعدية والإمساك. لا يخلو كتاب من كتب الطب الشعبي من عشرات الوصفات العلاجية التي يدخل ضمنها العنب، ولكنى هنا أريد أن أركز على استخدامات (عصير العنب) في الطب الشعبي. يقول المجربون : إن تناول كوب من عصير العنب في الصباح قبل الإفطار وآخر في المساء قبل العشاء يساعد كثيراً في علاج مرضى البواسير وعسر الهضم وحصى الكلى والمرارة. وإذا كنت ممن أصيبوا بالأرق وتبحث عن النوم الهادئ فما عليك إلا أن تجرب تناول نصف كوب من عصير العنب وتستكمل الكوب بالماء الساخن قبل نومك بنصف ساعة. ولا يمكن أن نتحدث عن عصير العنب وننسى استخدامه كمرطب للوجه وصديق للجمال.

من المعروف أن أكثر العوامل البيئية تأثيراً على زراعة الفاكهة عموماً والعنب خصوصاً هى التربة التى ينمو فيها النبات، ويعيش ويستمد كافة إحتياجاته الغذائية والمناخ بعناصرة المختلفة من حرارة ورطوبة ورياح وضوء والتى تؤثر تأثيراً مباشراً على نمو النبات، وأن هذه العوامل تتداخل فيما بينها، وأن إرتباطها بشكل جيد يزيد من إنتاجية وجودة العنب، كما وأن التقلبات الجوية والسنوية تؤثر على نضج العناقيد، وبطريقة غير مباشرة، على تطور وانتشار الأمراض والأفات، فيؤدى إلى ظهور إختلافات فى نوعية العنب.

وأثبتت التجارب أن تعرض سطح التربة الزراعية للحرارة والرطوبة يؤثر على خواصها الطبيعية والكيميائية، كما يعرضها للتعرية وقد وجدأنهمن الأفضل زراعة محاصيل تغطية تحمى التربة، وجذور العنب من الجفاف والتعرض المباشر للضوء والحرارة، كماأن زراعة مصدات للرياح من شأنه حماية التربة والنباتات من العواصف الصحراوية الشديدة التى تقتلع الأشجار، وأوصت هذه الأبحاث بضرورة زراعة محاصيل تغطية شتوية حينما تتساقط أوراق العنب لتزيد من خصوبة التربة وتساعد على دوران العناصر بها ونشاط الكائنات الدقيقة النافعة ومكافحة الآفات وكذلك مصدات للرياح لحماية العنب من تساقط الأزهار والعقد وتثبيت التربة وحفظها من عوامل التعرية وبشرط توفير الإضاءة اللازمة للنبات لحاجتهإليها لأن التظليل يضرها كثيراً حيث لا يتحمل العنب سوى ظله فقط.

يُلقى البحث الضوء على جوانب من الإعجاز العلمى الذى تحدث عنهاالقرآن في وصف جنات العنب وطرق تصميمها بما يفوق ما تم التوصل إليه الآن )وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَالأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً  (الكهف: 32، وما أثبته العلم الحديث من أهمية وضع سياج حول مزارع العنب لحمايتها من عوامل التعرية والعواصف الشديدة التى تؤدى إلى تحطم مزارع العنب مع عدم منع الضوء عنها لحاجتها إليه )وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ(، كذلك زراعة محاصيل التغطية )وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً(لم لها من اهمية فى حفظ جذور النباتات من التعرض المباشر للحرارة والضوء. الإعجاز فى قوله تعالى )وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (الكهف: 33 أن مزارع العنب فى إحتياجها للماء لا يكون فى صور أمطار خصوصاً في فصل الصيف لأنها تكون فى مرحلة الإثمار، فكانت مشيئه الله أن يتدفق نهر خلال الجنتين.

التفسير القرآني:

)وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً(الكهف: 32.

قوله تعالى ) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ (هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ (الكهف : 28. واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما؛ فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد، وهما الأخوان المذكوران في قوله )قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(الصافات : 51، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال...؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة. وقيل: هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه؛ شبههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا؛ في قول ابن عباس. وقال مقاتل : اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال : اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى؛ وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له : ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك؟. قال : اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أإنك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أني كسبت وسفهت أنت، اخرج عني. ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب. قال عطاء : كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل : ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه : اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال : اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال : ما فعل مالك؟ فأخبره قصته فقال : وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له : أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما؛ فقال صاحبه : والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال : سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له : يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال : فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقة سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء؛ فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال : فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال : وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال : وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال )قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ(الصافات الآيتان 51، 52، فنادى مناد : يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم؛ فنزلت ) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً (.

بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في في قوله ) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ -إلى قوله- لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (الصافات : 51- 61. قال ابن عطية : وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عني بهذه الآية. وقد قيل : إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا؛ ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله أعلم.

قوله تعالى ) وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ(أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة؛ ويقال : حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به؛ ومنه ) حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ (الزمر : 75 ) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع.

وقوله تعالى: )كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا* وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (الكهف: 33-34. قوله تعالى ) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ(أي كل واحدة من الجنتين، واختلف في لفظ (كلتا وكلا)هل هو مفرد أو مثنى؛ فقال أهل البصرة : هو مفرد؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير (كل)في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول : رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب، تقول : رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء : هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل : كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر :

في كلت رجليها سلامى واحده           كلتاهما مقرونة بزائده

أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولأن معنى (كلا)مخالف لمعنى (كل)لأن (كلا)للإحاطة و(كلا)يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم (نحن)اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير

كلا يومي أمامة يوم صد                        وإن لم نأتها إلا لماما

فأخبر عن (كلا)بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله (آتت) ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما. واختلف أيضا في ألف(كلتا)؛ فقال سيبويه : ألف (وكلتا)للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث، والألف في (كلتا)قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي : التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده : فِعْتَل، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي : التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده : فِعْتَل، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي؛ ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس : وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول : كلتا الجنتين آتتا أكلهما؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء : كلتا الجنتين آتى أكله، قال : لأن المعنى كل الجنتين. قال : وفي قراءة عبد الله (كل الجنتين آتى أكله). والمعنى على هذا عند الفراء : كل شيء من الجنتين آتي أكله. والأكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل؛ ومنه قوله تعالى )أُكُلُهَا دَائِمٌ (الرعد : 35 وقد تقدم. ) آتَتْ أُكُلَهَا(تاما ولذلك لم يقل آتتا. ) وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (أي لم تنقص.

قوله تعالى )وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. )وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ (قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق )ثَمَرٌ (بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله )وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ (الكهف : 42 جمع ثمرة. قال الجوهري : الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار؛ مثل جبل وجبال. قال الفراء : وجمع الثمار ثمر؛ مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار؛ مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر؛ يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو )وَكَانَ لَهُ ثُمُر (بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس : ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في (الأنعام)نحو هذا مبينا. ذكر النحاس : حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال : لو سمعت أحدا يقرأ )وَكَانَ لَهُ ثُمُر(لقطعت لسانه؛ فقلت للأعمش : أتأخذ بذلك؟ فقال : لا؟ ولا نعمة عين. فكان يقرأ )ثُمُر(ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس : فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر؛ وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله أعلم؛ لأن قوله )كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا (يدل على أن له ثمرا.

قوله تعالى )فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ (أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال : كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا؛ أي ما رد جوابا. )أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (النفر : الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه.

)وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً   (الكهف: 35، 36

وقوله تعالى: )وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ(أي بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد، )قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا(وذلك اغترار منه، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف، وذلك لقلة عقله وضعف يقينه باللّه وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال: )وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً(أي كائنة، )وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا(أي ولئن كان معاد ورجعة إلى اللّه ليكوننَّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى )وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى(فصلت: 50، وقال تعالى: )أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا(مريم :77

)قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً* لَكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً(الكهف 37-41

يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر باللّه والاغترار: )أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ(، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه، وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: )كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُم ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَْ( البقرة: 28، أي كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، ولهذا قال المؤمن ) لَكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي(أي لكن لا أقول بمقالتك بل أعترف للّه بالواحدنية والربوبية، )وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً( أي بل هو اللّه المعبود وحده لا شريك له، ثم قال: )وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (هذا تخصيص وحث على ذلك، أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت اللّه على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه، ولهذا قال بعض السلف من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع عن أنَس رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما أنعم اللّه على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه، فيرى فيه آفة دون الموت) "أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي" وكان يتأول هذه الآية: )وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: )ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا باللّه).؟ وقال أبو هريرة، قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟) قال، قلت: فداك أبي وأمي، قال: )أن تقول لا قوة إلا باللّه). قال أبو بلخ وأحسب أنه قال: (فإن اللّه يقول أسلم عبدي واستسلم) "أخرجه الإمام أحمد في المسند".

 وقوله: )فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ  (أي في الدار الآخرة، ) وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا (أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى ) حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ(، قال ابن عباس والضحّاك: أي عذاباً من السماء، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: )فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً(، أي بلقعاً تراباً أملس، لا يثبت فيه قدم. وقال ابن عباس: كالجرز الذي لا ينبت شيئاً، وقوله: )أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرا( أي غائراً في الأرض وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض. فالغائر يطلب أسفلها، كما قال تعالى: )قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ(الملك:30 أي جار وسائح، وقال ههنا: )أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبا(، والغور مصدر. بمعنى غائر، وهو أبلغ منه كما قال الشاعر:

تظل جياده نوحاً عليه           تقلده أعنتها صفوفاً                  بمعنى نائحات عليه.                         

)وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً(الكهف: 42-43

يقول تعالى:)وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ( بأمواله وبثماره ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن، من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن اللّه عزّ وجلّ، )فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا(،وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها، )وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ (أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز ) يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً. هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ (الكهف: 43-44، أي الموالاة للّه، أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى اللّه وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: )فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (غافر: 84 وكقوله إخباراً عن فرعون )حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (يونس: 90 ومنهم من كسر الواو من {الوِلاية} أي هنالك الحكم للّه الحق، كقوله: ) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَِ (الأنعام: 62. ولهذا قال تعالى: ) هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا (: أي جزاء ) وَخَيْرٌ عُقْبًا (أي الأعمال التي تكون للّه عزَّ وجلَّ ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير.

تنتهى قصة الجنتين بإعجاز كبير فالماء الذى هو مصدر الحياة لكل الكائنات كان سبب الهلاك، وأصبحت الجنان خاوية على عروشها، لأن العنب لا يحتاج الماء إلا بقدر معلوم، ولذا كان الماء يتفق من العيون والأنهار الجارية، كما يحتاج النبات للرى عن طريق الجذر، أما عندما يأتى المطر الغزير من السماء، فذلك هو الدمار بعينه )وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (، أو لا يجد الماء الذى هو عنصر الحياة، وتلقى نفس المصير الموعود)أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً(. وسبحان من بيده مقاليد كل شىء، وهو على كل شىء قدير. وهكذا يكون الماء هلاك كل جنان الدنيا من أهل سبأ )فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ(سبأ:16،وأصحاب الجنة في سورة القلم )فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريمٍ(القلم: 19-20، وصاحب الجنتين هنا.

الجانب العلمي والإعجاز(العوامل البيئية التى تؤثر على زراعة العنب)

أولاً: العوامل المناخية 

1-           درجة الحرارة

تعتبر درجة الحرارة من أهم العوامل الجوية، في تحديد زراعة العنب حيث يحتاج النبات إلى صيف دافىء جاف نسبياً، والشتاء المعتدل، ولا توافق زراعته الصيف الرطب، نتيجة لقابلية ثمار العنب للإصابة بعدد من المراض الفطرية والحشرية التي يزيد إنتشارها في الجو الرطب، كما لا يقاوم العنب الشتاء الشديد البرودة، وكما ذكرت كتب التفسير فإن القصة التى حكاها القرآن كانت فى منطقة تتوافر فيها كل العوامل الى ذكرناها سالفاً.

2-           الضوء

كما هو معلوم أن الشمس، هى مصدر الحرارة، والضوء، وتأثيرها هو الأكثر على النبات مقارنة بالظواهر الجوية الأخرى، والعنب من النباتات المحبة للشمس،ولذا تنجح زراعتة فى المناطق المشمسة، ةالمضاءة كثيراً، وعلى ذلك فوجود اى من الأشجار الكبيرة، من أى نوع تصبحتصبح ضارة للكروم، وذلك بسبب تظليلها لها، لأنها كما يقال لا تتحمل إلا ظلها الخاص، وتنجح بصورة جيدة فى المناطق التى تسطع بها الشمس طوال النهار، حيث تستعمل الطاقة الحرارية والضوئية بصورة جيدة، فقد وجد ان السنين ذات السطوع الكبير للشمس، تعطى عناقيد، تحتوى بصورة إعتيادية على 170-280 جم/لتر من العصير سكر، مع حموضة قليلة وبالعكس.

ويؤثر الضوء مع درجة الحرارة بقوة، على وظائف الكرمة، وبصورة خاصة على عملية التمثيل الضوئى، وهذا ما ينعكس على النمو والإثمار، أما الظل فإنه يؤدى على إبطاء عملية التمثيل الضوئى، ويعوق العمليات الحيوية للكرمة، والذى يؤدى بدورة إلى قلة الاثمار، وقد وجد أن الإضاءة الشديدة ولمدة طويلة تؤدى إلى إطالة الفترة الخضرية، واطوارها، ويؤخر من عملية نضج الحبات، ونضج الخشب، وبالتالى تقل مقاومة الكروم للصقيع. )وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (الكهف: 32 

3-      الرطوبة والأمطار

تحتاج زراعة العنب إلى صيف جاف، أى نسبة رطوبة منخفضة، فى فترة تكوين الثمار، اما فى فترة الشتاء، فلا مانع من توفر نسبة رطوبة عالية، خصوصا على هيئة أمطار، فى المواقع التى تعتمد عليها زراعة العنب، ويلاحظ ان الأصناف المتأخرة، تتعرض للإصابة الشديدة بالأمراض الفطرية، وخصوصاً مرض البياض الزغبى والدقيقى، مما يعمل على تلف المحصول، وقد وجد أن فاعلية الأمطار الساقطة تتأثر برطوبة التربة، والحرارة وطبيعة التربة، وتركيبها، وعمق الماء الأرضى، ولا تؤثر امطار الشتاء مباشرة، على الكروم، ولكن يمكن إعتبارها كإحتياطى ماء متجمع فى التربة، فإذا كانت كمية المطار الساقطة فى الشتاء، أقل من 150 ملليمتر، يجب الرى قبل بدء الدورة الخضرية، حتى يكون هناك أحتياطى كافى من الماء للنمو )وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (

4-           الرياح

تتأثر زراعة العنب بفعل الرياح، ويتوقف هذا التأثير على إتجاهها، وشدتها، وسرعتها، والفصل الذى تهب فيه، فالرياح الباردة القوية، والمصحوبة بالأمطار أو الجافة، تكون ذات تأثير ضار يمكن تقسيم الضرر إلى:

أ‌-      ضرر ميكانيكى: حيث أن الرياح الشديدة، قد تعمل على إقتلاع الأشجار حديثة الزراعة بأكملها، حيث يكون المجموع الجذرى فيها سطحى، والجذور لم تثبت بعد فى التربة، ويحدث ذلك بكثرة فى الأراضى الرملية والخفيفةز

ب‌-    عامل التعرية: حيث تسبب الرياح الشديدة، إزاحة طبقات التربةالسطحية حول المجموع الجذرى، مما يسبب جفاف الجذور، وضعف التربة حول الأشجار.

ج‌-     الضرر الفسيولوجى: ويحدث ذلك، عند هبوب رياح جافة، حيث يحدث إختلال فى التوازن المائى، من جراء زيادة نسبة النتح عن الإمتصاص، ولهذا تتساقط نسبة كبيرة من الأزهار، والثمار وبالتالى تقل نسبة المحصول.

لهذا يجب مقاومة فعل الرياح، بزراعة مصدات الرياح في الجهات التي تهب منها، عند إنشاء المزرعة، وفى المناطق الصحراوية يجب زراعة أكثر من صف واحد. وسبحان العلى القدير)ٍوَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلًٍ (.

ثانياً: التربة

يزرع العنب في كثير من أنواع الأراضى، بشرط أن تكون مفككة، جيدة الصرف، مع الإحتفاظ بالرطوبة اللازمة ويساعد على ذلك وجود محاصيل تغطية لتزيد الرطوبة، والخصوبة خصوصاً فترة الصيف،ويزيد النشاط الميكروبى النافع، ويمنع التعرية و يساعد على دوران العناصر الغذائية، التي يحتاج إليها نبات العنب، وقد ثبت أن العنب تنجح زراعته فى الأراضى الرملية، والجيرية المحتوية على نسبة معقولة من الجير.

خاتمة

أثبتت التجارب الحديثة أن تعرض سطح التربة الزراعية للحرارة والرطوبة يؤثر على خواصها الطبيعية والكيميائية، كما يعرضها للتعرية وقد وجد من الأفضل زراعة محاصيل تغطية تحمى التربة، وجذور العنب من الجفاف والتعرض المباشر للضوء والحرارة، كم أن زراعة مصدات للرياح من شأنه حماية التربة والنباتات من العواصف الصحراوية الشديدة التى تقتلع الأشجار، وأوصت هذه الأبحاث بضرورة زراعة محاصيل تغطية شتوية حينما تتساقط أوراق العنب لتزيد من خصوبة التربة وتساعد على دوران العناصر بها ونشاط الكائنات الدقيقة النافعة ومكافحة الآفات وكذلك مصدات للرياح لحماية العنب من تساقط الأزهار والعقد وتثبيت التربة وحفظها من عوامل التعرية وبشرط توفير الإضاءة اللازمة للنبات لحاجتة إليها لأن التظليل يضرها كثيراً حيث لا يتحمل العنب سوى ظله فقط.

بالنظر إلى كل ماسبق من أبحاث ودراسات وإستنتاجات وبالعودة إلى كتاب ربنا الكريم نجد أن القرآن سبق هذه الإستنتاجات في كلمات  وبديعة نتأمل قول الله تعالى  )وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً(الكهف: 32  فسبحان ربى العظيم هذا الإعجاز الدقيق للجنتين تحفها النخل (مصدات الرياح) تحمى من العواصف وتثبت الرمال وهى نبات مثمر جذوره ليفية رغم إرتفاع النبات الشاهق فلا تؤذى النباتات المجاورة بالمنافسة على الغذاء ولا بظلها الكثيف خصوصاً أن العنب يحتاج للضوء كثيراً, ولنتدبر قول العلى القدير)وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً((نباتات التغطية) التي تحمى التربة من التعرية وتحفظ رطوبة التربة وتزيد من المواد العضوية بها، ومن الإعجاز فى قوله تعالى )وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (أن مزارع العنب في إحتياجها للماء لا يكون في صور أمطار خصوصا في فصل الصيف لأنها تكون في مرحلة الإثمار، فكانت مشيئه الله أن يتدفق نهر خلال الجنتين. 

يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل التالي : mousa176@hotmail.com

تعرف على المؤلف في سطور

المراجع العربية:

1-    فتح الباري على شرح صحيح البخاري: الفهارس جمع و إعداد و ترتيب خالد عبد الفتاح شبل أبو سليمان. بيروت، لبنان : دار الكتب العلمية، 1992.

2-    الطب النبوي شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ابن قيم الجوزية ؛ كتب المقدمة و راجع الأصل و صححه و أشرف على التعليقات عبد الغني عبد الخالق ؛ وضع التعاليق الطبية عادل الأزهري ؛ خرج الأحاديث محمود فرج العقدة. القاهرة، مصر : دار الكتب العربية، 1957

3-    المناخ وزراعة العنب في الطائف : المملكة العربية السعودية صقر علي العمري. الكويت : الجمعية الجغرافية الكويتية، 1999.

4-    الوجيز في أمراض العنب روجر بيرسون، أوستين جوهين ؛ ترجمة و مراجعة جميل فهيم سوريال، أحمد زكي علي.القاهرة، مصر : المكتبة الأكاديمية، 1996

5-            الأساليب الحديثة في زراعة و إنتاج العنب  محمد عبد الحليم حسن الأشرم.القاهرة مصر : دار الفكر العربي 1993

6-    فاكهة المناطق الصحراوية محمد منير محمد فؤاد، السيد إبراهيم بكر، محمد عبد الجواد شاهين ؛ مراجعة جورج رمزي ستينو.القاهرة، مصر : جامعة القاهرة، 1992.

7-    العنب: زراعته، رعايته و إنتاجه  محمد نظيف حجاج خليف، عاطف محمد إبراهيم، عبد الفتاح عبد الحكيم عثمان.الإسكندرية، مصر : منشأة المعارف، 1991.

8-            مزارع العنب عز الدين فراج.القاهرة، مصر : مكتبة النهضة المصرية، 1988.

9-            كروم العنب و طرق إنتاجها جميل فهيم سوريال..نيوقوسيا، قبرص: الدار العربية، 1986

10-   الأسس العلمية و الفسيولوجية لنبات العنب محمد عبد الحليم الأشرم، كريم صالح عبدول. بغداد، العراق : وزارة التعليم العالي، 1985.

11-       زراعة و إنتاج الكروم إبراهيم حسن محمد السعيدي.الموصل، العراق : جامعة الموصل، 1982.

12-       إنتاج الفاكهة النفضية جبار حسن النعيمي، يوسف حنا. البصرة، العراق: جامعة البصرة، 1980.

13-   طبايع النخيل و معاملاتها  تأليف سعد بن خلف العفنان. حائل، السعودية : د.ن.)، 1994 حائل، السعودية : مطابع المحيسن الحديثة.

14-   نخلة التمر : زراعتها، رعايتها و إنتاجها في الوطن العربي. عاطف محمد إبراهيم، محمد نظيف حجاج خليف. الإسكندرية، مصر: منشأة المعارف،1993 

15-   الجامع لأحكام القرآن  لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، قدم له خليل محي الدين الميس ؛ ضبط و مراجعة على الأصول صدقي جميل العطار ؛ خرج حديث عرفان العشا.بيروت : دار الفكر، 1999.

16-       النباتات الزهرية: نشأتها-تطورها- تصنيفها. د. شكرى إبراهيم سعد, دار الفكر العربى، مصر، 1994

مصدر الصور :

موقع الموسوعة الحرة http://wikipedia.org/

 

المراجع الأجنبية

1-     Allison, F.E.1973.Soil Organic Matter and Its Role in Crop Production. Elsevier Scientific Pub.Co.Amsterdam.637 p.

2-     May,J.T.1981.Organic matter in nursery soils.p.52-59.In:Proceedings of the 1981 Southern Nursery Conference.

3-     McLeod,E.1982.Feed the Soil Organic Agriculture Research Institute, Graton, California.209 p.

4-     Olmstead, M.A., Wample, R.L.,  Greene, S.L. and Tarara, J.M. (2001). Evaluation of Potential Cover Crops for Inland Pacific Northwest Vineyards.Am.J.Enol.Vitic.52(4):292-303.

5-      Piper, C.V. ,and A.J.Pieters.1922.Green Manuring USDA Farmer’s Bulletin 1250. 45 p.

6-     Rasmussen, R.R. et al.1980.Crop residue influences on soil carbon and nitrogen in a wheat-fallow system Soil Science Society of America Proceedings Volume 44.p.596-600.

7-     Sarrantonio,Marianne.1994.Northeast Cover Crop Handbook Rodale Institute, Emmaus,Pennsylvania.118 p.

8-     Schmid, O., and R.Klay.1984.Green Manuring Principles and Practice Woods End Agricultural Institute, Mt. Vernon, Maine Translated by W.F. Brinton, Jr., from a publication of the Research Institute for Biological Husbandry Switzerland. 50 p.

9-     Sullivan,P.G.1990.Rye and Vetch Intercrops for Reducing Corn N Fertilizer Requirements and Providing Ground Cover in the Mid-Atlantic Region. Ph.D. dissertation, Virginia Polytechnic Institute and State University, Blacksburg, Virginia.149 p.

 

 

وجعلنا بينهما زرعًا معجزة علمية
 

 

صورة لشجرة النخيل عند الغروب

 

نعيش في السطور التالية مع التفسير العلمي لقول الله تعالى: " واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعًا. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا وفجرنا خلالهما نهرًا. وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرًا " [الكهف: 32-34).
- قال الشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله في كلمات القرآن تفسير وبيان:
- جنتين: بستانين.
- وحففناهما: أحطناهما وأطفناهما.
- ولم تظلم منه: لم تنقص من أكلها.
- وفجرنا خلالهما: شققنا وأجرينا وسطهما.
- ثمر: أموال كثيرة مثمرة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:
- ( وحففناهما بنخل: أي في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصًا أشرف الأشجار العنب والنخل، فالعنب وسطها، والنخل قد حف بذلك، ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح، التي تكمل لها الثمار، وتنضج وتزدهر، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعًا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟
وهل لها ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كلتا الجنتين أتت أكلها: أي ثمرها وزرعها ضعفين أي: متضاعفًا وأنها ( لم تظلم منه شيئًا ) أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك فالأنهار في جوانبها سارحة، كثيرة غزيرة.
ثم قال: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وأرجحت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث ) انتهى.
قال الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله في التفسير المنير: ( ذلك المثل هو حال رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين ( أي بستانين ) من أعناب محاطين بنخيل، وفي وسطهما الزرع، وكل من الأشجار والزرع مثمر مقبل في غاية الجودة، فجمع بين القوت والفاكهة ( وحففناهما بنخل ) أي وجعلنا النخل محيطًا بالجنتين.
وقال: ( وفجرنا خلالهما نهرًا ) أي وشققنا وأجرينا وسط الجنتين نهرًا، تتفرع منه عدة جداول، تسقي جميع الجوانب ).
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير التحرير والتنوير.
( ومعنى: ( حففناهما ). يقال: حفه بكذا إذا جعله حافًا به، أي محيطًا .
- ومعنى ( وجعلنا بينهما زرعًا ) الهمناه أن يجعل بينهما، وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلاً بين الجنتين: كانت الجنتان تكتنفان حقل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة ) انتهى.
ونحن نقول وبالله التوفيق:
هذا مثل متميز ورائع لجنتين مثمرتين توافر لهما كل أسباب النمو والازدهار والإثمار والحماية والرعاية من الضوء والحرارة والرياح والماء والاتفاق والرعاية والاهتمام فهما جنتان من أعناب في الوسط يحيط بهما النخيل العالي الجميل، وبينه الزروع التي تملأ الفجوات الكبيرة ليتبادل النخيل الوضع مع تلك الأشجار المثمرة وفي الداخل يوجد البستان المليء بالعنب الذي يجاوره في بعض المواسم بعض النباتات الحولية المثمرة، ويشق البساتين نهر عظيم متدفق يكفي لري البستانين وما يجاورهما من بساتين أخرى، والخدمة متميزة في البساتين لمقدرة صاحبهما على الإنفاق عليهما ولفلاحتهما فلاحة متميزة وكثرة الرجال عنده ( وأعز نفرًا ) والدليل قوله تعالى: ( كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا )، وقوله تعالى: ( وكان له ثمر ) أي أن صاحب الجنتين له مصادر مالية أخرى فلا ديون على محاصيل الجنتين.
ومن أوجه الإعجاز في تلك الجنتين أن النخيل بأوراقه الريشية المركبة يعطي المنظر الجميل ويقوم بصد الرياح من دون أن تتمزق أوراقه لأنها أوراق مركبة ريشية متعددة الوريقات، والوريقات جلدية متينة ذات شكل رمحي مدبب الأطراف مرصوص على العرق الوسطي للورق بطريقة معجزة متلائمة مع البيئة الحارة لأن نخيل البلح يوجد في المناطق الحارة، وبين هذا النخيل من أسفل أشجار وشجيرات متوسطة الحجم تصد الرياح من بين جذوع النخيل، ومصدات الرياح هذه من أحدث أساليب الزراعة, وتلي هذه الطبقة من النخيل إلى الداخل طبقة شجيرات مثمرة كما قال تعالى: " وجعلنا بينهما زرعًا "، وإلى الداخل توجد شجيرات العنب التي تترك مسافات للزراعة بينهما في مواسم تساقط أوراقها وتوقف إثمارها وهذا عادة يكون في الموسم الأبرد من ناحية درجة الحرارة.
والري السطحي والسفلي له مميزات عدة أنه يروي الجذور من دون بلل الأوراق فبلل الأوراق في العنب بالذات يساعد على إصابة أوراق بالأمراض الفطرية مثل أمراض البياض.

صورة لضفتي نهر النيل في مدينة أسوان(جزيرة النباتات) قريبة من وصف الآية

كما أن الري السطحي يمنع سقوط الأزهار والثمار قبل عقدها، والبراعم الزهرية مما يساعد على زيادة الإنتاج وحماية الثمار أيضًا من أمراض البياض الخاصة بأوراق وثمار العنب.
وتوافر المياه بين الجنتين يساعد على شق قنوات فرعية للري ووصولها إلى كل النباتات بانتظام ومن دون تفريق وقرب المياه من المزروعات يوفر عملية رفع المياه ودفعها للوصول إلى المزروعات.
ويمكن زراعة حوليات مخصبة للتربة مثل الفول والبرسيم بين النباتات ( وجعلنا بينهما زرعًا )، كما أن ثمار العنب قابلة للعصر وصناعة العصير، وقابلة للتجفيف والحماية من الفساد فلا ضغط على المالك بتسويق المزروعات، والعنب يؤكل طازجًا ومجففًا ويشرب معصورًا خالياً من الكحول.
والحال كذلك بالنسبة إلى ثمار النخيل التي يمكن أكلها طازجة ومجففة. كما تستخدم المنتجات الأخرى للنخيل من السعف والعراجين والجريد في صناعة مصدات الرياح وتكاعيب العنب، والأحبال، والمقاعد، والأسرّة وأقفاص تعبئة العنب والبلح، فلا يوجد فاقد من العنب والنخيل كما هو الحال في بعض المحاصيل التي تسبب مشكلات عديدة للملاك وللبيئة.
- والنخيل على الحواف فلا يظلل شجيرات العنب مما يؤدي إلى فسادها بخلاف لو كان النخيل داخل المساحة المنزرعة , ووجود النخيل على الحواف ييسر خدمة قطع الأوراق والليف والكرانيف والثمار من دون سقوطها على شجيرات العنب في المحيط المجاور للنخيل، كما أن وجود النخيل على الحواف يحمي ثمار العنب من فضلات وبراز الطيور والأمراض التي قد تنقلها تلك الفضلات للإنسان، من هنا كان هذا المثل من الأمثلة المعجزة بالوصف الذي ساقه الله تعالى لعباده، وهذه النعمة تحتاج إلى شكر " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " [الكهف: 39]، فالله هو المنعم بالبذور والفسائل وعقل الزراعة، والجذور العرضية، والأوراق والأزهار والثمار والمال والماء والهواء والضوء، وثاني أكسيد الكربون، ومعادن الأرض كلها نعم تحتاج إلى شكر المنعم فكل شيء في الجنتين من نعم الله، هذا والله أعلم.

بقلم: أ. د. نظمي خليل أبو العطا موسى

يمكن التواصل على الإيميل التالي:

phy_tech@hotmail.com
العدد (10731) الجمعة 27 رجب 1428هـ - 10 أغسطس 2007م
أخبار الخليج – الإسلامي

www.nazme.net
 

 

 

مواضيع ذات علاقة

اسم الموضوع

هجري

تاريخ الموضوع

الإعجاز في النباتات

25 شعبان 1429

2008/08/26