بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مرحبا بكم مع الشيخ خالدالمغربي - المسجد الأقصى

021

الأنبياء

آية رقم 030

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ

صدق الله العظيم

 

المقاصد الصحية في أحكام المياه
 

بحث للدكتور محمود ناظم النسيمي

 يعتبر الماء من أهم ضروريات الحياة، فإنه يؤلف 63% على الوسط من تركيب الجسم منتشراً في جميع نسج البدن بلا استثناء، ولكنه بمقادير مختلفة.

وهو سواغ لحل السموم البدنية وأطراحها كما في البول والعرق. كما أنه ضروري لتعديل حرارة البدن بتبخره من مسام الجلد. وهو كذلك عنصر أساسي في جميع مفرزات البدن. والماء وسيلة فعالة قيمة في نظافة وطهارة جسم الإنسان ولباسه ومكانه من عوارض الأقذار والنجاسات. وصدق الله العظيم: " وجعلنا من الماء كل شيء حي "[1].

تقسم المياه في فن الصحة إلى :

      1.        مياه شريبة (صالحة للشرب) .

      2.        مياه صالحة للاستعمال(غير ملوثة ولكنها لا تكتمل فيها شروط الماء الشروب).

      3.        مياه ملوثة لا تصلح للشرب ولا للاستعمال ما لم تصلح .

وتقسم المياه من الناحية الفقهية وصلاحيتها للطهارة من الحدث والطهارة من الخبث إلى ثلاثة أقسام:

      1.        ماء طهور صالح للطهارة

      2.        وماء طاهر غير طهور (غير مطهر من الحدث ولكنه غير نجس).

      3.        وماء متنجس.

وأنبه في مقدمة هذا البحث بأن المياه التي حكم عليها الشرع بالطهارة أو بالطهورية هي بحسب الغالب كذلك.

وحكم الشرع له صفة الشمول والعموم، فهو يصلح لكل زمان ولكل الأقوام والبيئات، يصلح لزمن لم تكتشف فيه وسائل التحقق من عدم تلوث المياه ولزمن اكتشف فيه ذلك ، ويصلح للمثقف وابن المدينة في عصرنا هذا، كما يصلح للبدوي في صحرائه في العصور السالفة أيضاً.
وإذا اتبع الناس شرع الإسلام في وصاياه التي تقي المياه من التلوث، فإن الماء الطهور نادراً ما يتلوث، وتبقى صلاحيته للشرب هي الغالبة. وعلى من علم بتلوث ماء أن يتجنبه وأن ينبه غيره لذلك بعداً عن الضرر وحرصاً على ما ينفع، وذلك لقوله تعالى : " وخذوا حذركم" (سورة النساء:101)، " ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة" (سورة البقرة : 195)، " ولا تقتلوا أنفسكم"(سورة النساء:28)، وقول رسوله الكريم : "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز.." (رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجة عن أب هريرة رضي الله عنه كما في كشف الخفا برقم (2713).

 

الماء الطهور:

هو الماء الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهو كل ما ء نزل من السماء أو نبع من الأرض باقياً على أصل خلقته، لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي اللون والطعم والرائحة، أو تغير بشيء لا يسلب طهوريته، ولم يكن مستعملاً.
تتبخر مياه البحار والبحيرات والأنهار وغيرها من مصادر الماء الموجودة على سطح الأرض بصورة مستمرة بسبب حرارة الشمس والرياح وتغيرات الضغط والحرارة والكهرباء الجوي. وبعد تكاثفها تعود إلى الأرض بشكل مطر أو ثلج أو برد أو ندى. وبعد أن يفي كل من هذه الأصناف وظيفته يعود فيتبخر من جديد بسبب العوامل المتقدمة الذكر. وهكذا يستمر التبخر والتكاثف إلى ما شاء الله تعالى .
قال عز وجل : " وهو الذي أرسل الرياح بُشراً بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً، لنحيي به بلدة ميتاً، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيّ كثيراً "(سورة الفرقان:48_49).

وقال سبحانه :( وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ) (سورة الأنفال: 11).

إن ذلك الماء الطهور الذي نزل من السماء منه ما يجتمع على سطح الأرض، ومنه ما يجري بشكل سواقي أو جداول أو سيول أو أنها موقتة، ومنه ما ينفذ في الأرض مؤلفاً المياه الأرضية التي تؤلف الآبار والينابيع والعيون. وقد أشار الله تعالى في بعض آياته المحكمة إلى ذلك فقال سبحانه : " أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها .." (سورة الرعد: 19).

وقال جلت عظمته : " ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فلسكه ينابيع في الأرض.." (سورة الزمر : 21).

لقد أجمع الأئمة المجتهدون على أن جميع أنواع المياه السابقة طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها. أما ماء البحر فإن اسم الماء المطلق يتناوله وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته". وسيأتي تمام الحديث الشريف.

وأجمعوا عل أن كل ما يغير الماء، مما لا ينفك عنه غالباً، أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير فيصلح لإزالة الحدث به.

مثال ما لا ينفك عن الماء غالباً بعض الأملاح وبعض المعادن أو أشباهها التي تخالط الماء أثناء سلوكه في الأرض وتؤلف معه أحياناً المياه المعدنية، فهي طهورة . ومثلها الماء المتغير بالتبن أو بورق الشجر الذي تلقيه الرياح.

وهناك مغيرات أخرى للماء اختلفت فيها المذاهب في الحكم على بقاء طهوريته .

ولا يتسع المقام هنا إلى تفصيل ما اختلفوا فيه .

ليس كل ماء طهور صالحاً للشرب من الوجهة الصحية. ولذا رأيت أن أوجز صفات الماء الشريب وطرق إصلاح الماء الخاص خدمة في نشر الوعي الصحي.

 

الماء الشريب :

الماء الشريب هو ماء طهور امتاز بصفات على غيره تجعله صالحاً للشرب.

ليس كل ماء طهور صالحاً للشرب، فإن ماء البحر طهور، ومع ذلك فإنه لا يصلح للشرب بديهة. وإن الذوق السليم لينبو عن شرب ماء مستعمل، أو شرب ماء كثرت طحالبه أو ترابه أو ما يحمله الهواء إليه من غبار وأوراق شجر وأوساخ . كما إنه يعاف شرب ماء غير مستطاب الطعم ولو أنه أخذ من منبعه.

وإذا كانت حاسة الذوق أو الشم أو البصر تمنع الإنسان من شرب بعض المياه، مع أنها في الاستعمال طاهرة مطهرة شرعاً، فإن العلم بأن بعض المياه ثقيل على المعدة أو ضار بصحة الإنسان لكثرة ما فيه من أملاح ومعادن منحلة، أو لأنه يجلب الأمراض بما فيه من جراثيم وطفيليات، يمنع من شرب ذلك الماء ولو أنه في الظاهر طاهر مطهّر.

       أ‌.          فمن الوجهة الصحية يجب أن تكون مياه الشرب رائقة شفافة لا رائحة لها، وألا يطرأ عليها فساد بعد المكث، وأن يكون معتدلة البرودة مستطابة الطعم مهواة بكفاية، وأن تحوي كمية قليلة من الأملاح المعدنية المنحلة، وألا تكون خطرة على الصحة العامة أي ألا تحتوي على أجرام جرثومية ممرضة. وللتأكد من صلاحية الماء للشرب لابد من فحص كيماوي وجرثومي.

إن المياه الطبيعية الحائزة على هذه الشروط كلها قليلة جداً وهي :

      1.        ماء السماء إن جمع بطريقة صحية وأمكن حفظه من التلوث فيما بعد.

      2.        ماء الطبقة الغائرة العميقة، المستخرجة بصورة فنية صحية وهي الآبار العميقة، أو المنبجس بنفسه من مكان مناسب وهي الينابيع الحقيقة هي منبعها.

 

ثم إن المياه الصالحة في أصلها للشرب، لابد من حفظ سلامتها وتوزيعها بطراز فني صحي. أما ما كان غير صال فلابد من إصلاحه لإعداده للشرب.

هذا ويفضل صحياً أن تكون مياه الاستعمال هي ذات مياه الشرب.

وإذا لم يتيسر ذلك كما هو الحال في غير المدن، فإن مياه الاستعمال يجب أن لا تكون ملوثة. وإذا كانت ملوثة ولكنها غير نجسة في الحكم الشرعي فإن بحث إصلاح الماء يعلمنا كيف ندفع خطر الماء الملوث في نشر الأمراض.

ب. إن اختيار الماء الصالح للشرب،كما أنه إحدى الأسس الوقائية في حف صحة الإنسان، فإنه سنة نبوية . فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء ويؤتي إليه من الآبار ذات الماء الطيّب. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بيوت السقيا) قال قتيبة وهي عين بينها وين المدينة يومان[2] .

وأخرج الواقدي بسند له عن الهيثمي بن نصر بن زاهر الأسلمي قال : خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه في قوم محاويج، فكنت آتية بالماء من بير أبي الهيثم بن التيّهان جارهم، وكان ماؤها طيباً، ولقد دخل يوماً ضائقة على أبي الهيثم ومعه أبو بكر فذكر القصة..[3].

وإضافة إلى استعذاب الرسول عليه الصلاة والسلام لماء الشرب فلقد كان له قدح زجاج يشرب فيه لأنه ـ كما قال الذهبي في الطب النبوي ـ أقل ما يقبل الوضر ويرجع بالغسل جديداً ويرى فيه كدر الماء وكدر المشروب وقل أن يدس فيه الساقي السم.

عن أبن عباس قال: " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح قوارير يشرب فيه " [4] .

جـ . ومن البديهي ومن التصرف الحكيم أن الإنسان إذا تيسرت له مياه عديدة، واختلفت في صفاتها ومقاديرها، فإنه يختار أعلاها نقاوة وطيباً وأقربها لصفات الماء الشريب من أجل شربه، ثم لطهوره من الحدثين ونظافة جسمه، ثم لطهارة أو نظافة ثوبه، ثم لطهارة أو نظافة مكانه. كما إنه يتبع ذات الترتيب في التفصيل إذا قل الماء لديه.

هذه قصة صحابي يستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة تأتي دليلاً على ما ذكرت من أن طهورية الماء لا تعني صلاحيته للشرب، وأن سد حاجة الشرب مقدمة في استعمال المياه. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته" [5]

د ـ هذا وإذا كان الماء الطاهر لا يجوز شروط الماء الشريب، وليس هناك غيره، فإن من الواجب الصحي إصلاحه بالتصفية أو التطهير. والإصلاح نوعان :

      1.        إصلاح عام أو مركزي لسد حاجة جمع غفير من البشر في مدينة أو بلدة، وتقوم عليه مؤسسات خاصة، وتتوسع فيه كتب فن الصحة.

      2.        إصلاح خاص أ, موضعي لسد حاجة جماعة من الناس قليل عددها، وهو الذي يهم الفرد والأسرة خاصة في ريفنا وباديتنا. ويجب تثقيف أفراد المجتمع بذكر أصوله خدمة لصحة الأمة. ولذا رأيت من الواجب ذكر شيء عنه في هذا البحث إتماماً للفائدة ونشراً للوعي الصحي .

إصلاح الماء الخاص:

لهذا الإصلاح ثلاث وسائل:

1ـ الترشيح، 2ـ استعمال المواد الكيماوية ، 3ـ استعمال الوسائط الحكمية .

أ ـ الترشيح : معروف قديماً . وكانوا يكتفون باستعمال آنية بسيطة تصنع من الفخار الرملي . و(الزير) أحسن مثال لها، وتكون نتيجة الترشيح على هذه الطريقة جيدة أو لا بأس بها، لأنه تجعل الماء رائقاً مجرداً من أكداره وكثير من جراثيمه أيضاً. ولكن إذا كان الماء كثير الجراثيم أو كان فيه ما يخشى شره منها فلا بد عندئذ ن استعمال مراشح أكثر تجانساً وأدق مساماً مما سبق .

وكثيراً ما تصنع على شكل الشمعة لذلك تسمى بالشمعات المرشحة، مثل شمعات (شمبرلان) وشمعات (بركفلد) .

ب ـ استعمال المواد الكيماوية :

      1.        الكلور مركباته : يكفي إضافة 1سم 3 من محلول ماء جافل في الماء بنسبة 1% أن يطهر ليتراً من الماء الملوث في مدة نصف ساعة أو ساعة واحدة فقط.

أما كلور الكلس التجاري فيضاف منه مقدار 1 ـ 3غ إلى كل متر مكعب من الماء ويترك مدة 15 دقيقة على الأقل.

وفي السفر يستعمل محلول كلور الكلس بنسبة 1% يضاف منه 1سم 3 إلى كل ليتر من الماء فيطهر في مدة عشر دقائق .

إن الكلور يجعل طعم الماء غير مستطاب فيترك الماء المعقم بمركباته مدة ليفقد كلوره .

      2.        صبغة اليود: يضاف إلى كل لتر من الماء مقدار بين 8و 16 قطرة من صبغ اليود المهيأ . وبعد رجّه جيداً يترك مدة 30 دقيقة ثم يعدل اليود الباقي بإضافة قليل من منقوع الشاي أو القهوة أو بإضافة قليل ن هيبو سولفيت الصود.

ولا يجوز استعمال اليود طويلاً خشية من تخريش مخاطية المعدة .

      3.        فوق منغنات البوتاس :

أبسط طريقة لاستعمال هذه المادة أن تستعمل محلولة في الماء بأي نسبة كانت، ثم يقطر منها في كمية الماء المراد تطهيرها، على أن يتلون الماء كله باللون الأحمر الشاحب الثابت، ويترك نصف ساعة قبل الاستعمال ثم تزال فضلة هذه المادة بإضافة شيء قليل نم منقوع الشاي أو القهوة أو ما ماثل ذلك حتى يزول اللون ويروق الماء.

جـ التطهير بالحرارة :

يلجأ إليه لتطهير المشتبه به أو الماء الثابت تلوثه بالجراثيم مع الاضطرار إليه . يغلى الماء مدة عشرين دقيقة ثم يرفع عن النار حتى يبرد . ومعلوم أن الغلي يدفع هواء الماء فيجعله ثقيلاً غير مستطاب إلا إذا ترك مدة طويلة في الهواء بعد ذلك . ويمكن إسراع تهويته برجه.

الماء الطاهر غير الطهور:

هو ماء طاهر، ولكنه لا يصلح للوضوء ولا للغسل. وهو ثلاثة أنواع :

      1.        (أحدها) : الماء الطهور في الأصل إذا خالطه طاهر غير أحد أوصافه الثلاثة وكان مما يسلب طهوريته. وفيما يسلب الطهورية تفصيل المذاهب.

      2.        (ثانيها) : ما أخرج من نبات الأرض بعلاج كماء الورد، أو بغيره كماء البطيخ.

إن المدقق في مياه النوعين السابقين يلاحظ أن الماء فيهما غير صاف لا يحقق النظافة التامة التي يؤمنها الماء المطلق. إضافة إلى الاعتبارات الأخرى في بعضها من تلويث بدل تنظيف أو من إبدال تلوث من نوع بتلوث من نوع آخر.

      3.        (ثالثهما) : الماء القليل المستعمل:

اختلفت المذاهب في الحد بين القليل والكثير، واختلفت في تعريف المستعمل، أي في الأمور التي تجعل الماء القليل مستعملاً. وليس في بحثي هذا مجال لتفصيلها. فمن أحب التفصيل فليرجع إلى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد.وأكتفي هنا بذكر الملاحظات الصحية حول الماء القليل المستعمل في إزالة الحدث.

إن الماء القليل المستعمل في الوضوء أو الغسل يحوي من دنس وأوساخ الأعضاء المغسولة، ومن آثار المفرزات العرقية. ولذا فإن النفوس تعافه ولو لم تتغير أحد أوصافه .

وكما أن الوضوء والغسل طهارة من الحدث فإنّهما نظافة إجبارية.

فكلما كان الماء نقياً صافياً كان أكثر تنظيفاً وإزالة للأدران.

ولذا فإن استعمال الماء القليل يرفع عنه صفة الطهورية عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ويؤيدهم فن الصحة كما وضحت.

وذهبت المالكية إلى أن استعمال الماء لا يسلب طهوريته ولو كان قليلاً فهو من قسم الطهور، لا يجوز التيمم مع وجوده لأن فيه فائدة النظافة بالماء التي لا توجد في التيمم.

المثال : إنسان في بداية أو منطقة قليلة أو نادرة المياه، معه ماء طهور توضأ منه أو اغتسل.

وجمع ذلك الماء المستعمل الذي لم يتغير أحد أوصافه ليستعمله في إزالة نجاسة حسية أو غسل ثوب أو مكان أو سقي بهيمة، ثم فقد الماء الطهور لديه، ولم يتمكن من تأمينه، ولزمه وضوء أو غسل، فإنه يتيمم حسب اجتهاد المذاهب الثلاثة، أو يتوضأ بذلك الماء المستعمل حسب المذهب المالكي .

وإذا أراد ذلك المسلم أن يراعي اختلاف المذاهب فإنه يجمع بين الطهارة بالماء والتيمم، خاصة إذا دعت حاجة النظافة إلى استعمال ذلك الماء المستعمل ثانية.

مصادر تلوث المياه :

لابد لنا من معرفة مصادر تلوث المياه وفعل المياه الملوثة في نشر الأمراض، وذلك لنسعى جهدنا في وقاية المياه من التلوث وبخاصة مياه الشرب، ولنحترز عن الملوث منها، ولندرك حكمة هدي النبوة في وقاية المياه من التلوث، وفي الحكم على بعض المياه بالنجاسة، وفي وجوب التطهر من النجاسات، والتحرز عنها.

إن مصادر تلوث المياه هي غالباً التخلي عن الفلاة والمراحيض غير الفنية قرب المياه، وكذلك المجاري العامة والمزابل والسواد والجيف وبول الحيوانات ورجيعها ونحوها، إذا تسرب شيء منه إلى الماء. ولقد اعتبر الشارع الحكيم أن جميع تلك الأشياء نجسة يجب التحرز عنها كما عدها الطب مصدراً رئيسياً من مصادر الجراثيم وتلوث المياه.

وقد يتلوث الماء باغتسان الإنسان فيه إذا كان جلده ملوثاً.

إن تلوث المياه يثبت إذا كانت قليلة راكدة، بينما يخف أو يزول في المياه الجارية بعوامل طبيعية متعددة طبيعة متعددة كتأثير الهواء ونور الشمس في الأنهار وخاصة الصخور والرمال المتراكمة. وتتوفر تلك العوامل الطبيعية في الأنهار وخاصة طويلة الجريان.

وكذلك يخف التلوث أو يزول بترشيح الماء من طبقات الأرض.

فكلما كانت الطبقات سميكة ومساعدة على تصفية الماء كان الماء المترشح منها عقيماً خالياً من الجراثيم ولذا توصي كتب الصحة أن يكون التبرز في مراحيض فنية بعيدة عن الآبار وعن موارد المياه وذات تصريف فني إلى حفر فنية عميقة أو كهريس مستور. وكذلك الأمر بالنسبة للمزابل والسواد كما توصي أن يحتاط في اختيار مكان البئر وفي بناء جدرانه وفي إصلاح الأرض حول فوهته بصورة تمنع تلوث مائة.

 

فعل الماء الملوث في عدوى الأمراض:

آـ إن تلوث الماء ببراز الإنسان يكون واسطة للعدوى ببعض الأمراض عن طريق شربه أو تناول ما تلوث به، أو عن طريق الانغماس فيه. وذلك لاحتوائه جراثيم البراز وبيوض طفيلياته وأجنة بعض الطفيليات.

وإليكم أهم تلك الأمراض:

      1.        الإنتانات المعوية وقد يصبح الماء الملوث بجراثيمها سبباً في سراية بعض أنواعها بشكل جوائح أو أوبئة كالهيضة(الكوليراً) والحمى التيفية والزحار العصوي.

      2.        الإسهالات الطفيلية مثل الزحار المتحولي وداء اللامبليا.

      3.        الديدان المعوية مثل حيات البطن وشعرية الرأس والحرقص.

تلك أمراض تنتقل إلى الإنسان بواسطة الماء أو الغذاء الملوثين ببيوض تلك الديدان.

      4.        وهناك أمراض طفيلية تخترق أجنة طفيلياتها جلد الإنسان وتتطور في جسمه لتستقر في جهازه الهضمي محدثة أمراضها مثل داء الملقوات العفجية (الأنكيلوستوما)[6] وداء البلهارزيات [7] الحشوي والمعوي.

فإذا عرفنا فعل البراز في نشر الأمراض أدركنا إحدى الحكم في سنية تقليم الأظافر، ووجوب إزالة النجاسة وتطهير مكانها، وإن الأفضل في الإستنجاء الجمع بين المسح بجامد طاهر أولاً واستعمال الماء ثانياً. ويجب صحياً أن تغسل الأيدي بعده بالصابون.

ب ـ إن تلوث الماء ببول الإنسان قد يكون واسطة للعدوى بداء البلهارزيات المثاني وبأمراض الجراثيم المطروحة مع البول.

ج ـ إن تلوث الماء بالصديد ومفرزات بعض أمراض الجلد وتقرحاته يكون سبباً في انتقال الجراثيم والعوامل الممرضة ودخولها من جلد الإنسان المتلين بالماء أو من منافذه.

وإن داء الخيطيات المدنية(العرق المدني) يحدث بعد ابتلاع البلاعط الحاوية على أجنة تلك الخيطيات .ومن مكان تقرح جلد المصاب بها تلقي الدودة الكهلة أجنحتها كلما أحست ببردوة الماء حولها.

ولهذا يجب على المصاب بتلك الأمراض أن يتجنب تلويث المياه بغمس أعضائه المريضة أو السباحة أو الاغتسال فيها وخاصة إذا كان الماء قليلاً أو راكداً.
و ـ إن تلوث الماء ببول الحيوانات ورجيعها قد يكون واسطة لنقل بعض الأمراض الإنتانية والطفيلية. فمثلاً: إن الماء الملوث ببراز الكلاب المصابة بديدان الشريطية المكورة المشوكة (أو بفمها الملوث من برازها) يكون حاوياً على بيوض تلك الدودة فإذا شرب الإنسان من ذلك الماء الملوث تطورت البيوض في جسمه وأحدثت فيه داء الكيس المائي (أو الكيس الكلبي) كما سنرى .

ذلكم موجز عن فعل المياه الملوثة في نقل الأمراض ونشرها. ولذلكم يجب حفظ المياه من التلوث وتجنب الملوث منها، وإصلاح ما يضطر إلى استعماله منها.

هذا وتكافح النواعم والمحار التي تتطفل عليها أجنة منشقات الجسم (البلهارزيا) بتربية البط في المياه الحاوية عليها، ويمكن إتلاف المحار في المنابع بكبريتات النحاس وكبريتات النشادر، وتطهر تلك المياه بالكرهزيل بنسبة واحد إلى ألف، أو كلور الكلس بنسبة واحد إلى خمسة آلاف لمياه الشرب.

 

هدي النبوة في وقاية المياه من التلوث:

لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصايا في منهاج الحياة اليومية تحفظ المياه من التلوث.

بيّنها عليه السلام قبل اكتشاف العوامل الممرضة التي يحويها الماء الملوث بأكثر من عشرة قرون، فسجل له التاريخ سبقاً في المجال الصحي أيضاً.

وهاكم طائفة من تلك الوصايا:

      1.        النهي عن إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل أن يغسلها ويطهرها فلعله مسّ أو حك بها سوأته أو عضواً مريضاً متقرحاً من جسمه وهو نائم لا يشعر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده"[8].

      2.        تنظيم استعمال اليدين بإبعاد اليد اليمنى عن مجالات الأقذار والتلوث، وإن كان التطهير يتناولها. وذلك مفيد في حفظ الماء من التلوث حتى في زماننا، ففي الريف والبادية مثلاً حيث لا توجد شبكة توزيع للمياه ولا حنفيات مما يضطر معه الإنسان إلى غرفة الماء، وذلك يقتضي أن تكون إحدى اليدين أكثر طهارة وأبعد عن التلوث لتستعمل في الغرفة. فخصص الشارع الحكيم اليد اليمنى لذلك ولكن أمر يستدعي زيادة في الطهارة كتناول الطعام والشراب وكالمصافحة، أو يستدعي زيادة في الطهارة كتناول الطعام والشراب وكالمصافحة، أو يستدعي تعظيماً كتناول القرآن والأشياء المحترمة. ونهى أن تمس باليد اليمنى العورة أو النجاسة أو الأقذار والأذى .

فعن عائشة رضي الله عنها : " كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوه وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى " [9] وقال عليه الصلاة والسلام : "إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه ولا يتنفس في الإناء "[10].

      3.        النهي عن الشرب من في السقاء: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من فيّ السقاء" .

      4.        النهي عن التنفس في إناء الشرب وعن النفخ فيه، لمنع تغير رائحة الإناء ووصول لعاب الإنسان ورذاذ فمه وما يمكن أن يحمله من جراثيم ممرضة حتى ولو كان حاملها صحيحاً غير مريض.

فإذا كان الشارب شديد العطش لا يرتوي بتنفس واحد فليبعد الإناء عن فيه ليتنفس خارجه ثم ليعد للشرب وذلك مفضل من الناحية الصحية وفي الأدب الإنساني وفي الشرع. قال عليه الصلاة والسلام : " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينحِّ الإناء إن كان يريد "[11].

وعن أبي سعيد الخدري: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل : القذاة أراها في الإناء؟ قال : أهرقها، قال فإني لا أروى من نفس واحد . قال : فأبن القدح إذن عن فيك "[12].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " نهى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه "[13].

ومن المفيد صحياً أن يعتاد الإنسان الشرب على دفعات ثلاثة يتنفس في نهاية كل دفعة خارج الإناء كما هي السنة النبوية. وذلك حفظاً للماء وأبعد عن التنفس فيه وأمرأ أي أسهل أنسياغاً فلا يشرق، وأكثر ريّاً للشارب فيأخذ من الماء مع تقطيع الشرب أقل مما لو تجرعه دفعة واحدة .

وذلك أيضاً أبرأ أي أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، لأن الشارب إذا اعتاد الشرب بنفس واحد وأسرف في تناول الماء أدى به الأمر إلى توسع المعدة، أو إلى اضطراب الهضم. كما إن تجرع المتعرق الماء البارد بنفس واحد دون تقطع يؤدي أحياناً إلى السعال بتخريش الحنجرة والرغامى أو بالتهابهما أو التهاب القصبات.

تلك فوائد الشرب في ثلاثة أنفاس، أشار إليها الحديث الشريف، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثاً ويقول: إنه أروى وأبرأ وأمرأ . قال أنس : فأنا أتنفس في الشراب ثلاثاً "[14].

قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم : وقوله : "كان يتنفس في الشراب " معناه في أثناء شربه من الإناء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله فغذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثاً "[15].

      5.        الأمر بتغطية الإناء وربط سقاء الماء حتى لا يصل إليه الغبار ولا الحشرات المؤذية والحاملة للجراثيم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وغلّقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمّروا الطعام والشراب ولو بعود تعرض عليه"[16].

      6.        النهي عن الاغتسال في الماء الواقف الساكن الذي لا يجري، حتى لا يتلوث بما يكون على سطح الجسم من أوساخ وجراثيم ومفرزات. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، قالوا كيف يفعل يا أبا هريرة، قال : يتناوله تناولاً "[17].

وقال عليه السلام: " لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة "[18].

      7.        النهي عن التبول في الماء الدائم، والحكم على الماء القليل بنجاسة بالبول وعدم صلاحيته حينئذ للتطهر به فضلاً عن الشرب منه. وقد سلف أن وضحت ما ينقله البول من أمراض.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " .
وفي رواية الترمزي والنسائي:" لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه أو يتوضأ " [19]

هذا وإذا كان التبول في الماء الدائم محرماً ومنجساً له، فإن التبرز فيه أشد تحريماً ونجاسة.

      8.        النهي عن التبرز قرب الماء، لأن الماء بالبراز ينقل كثيراً من الأمراض كما وضحت سابقاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الملاعن الثلاثة : البراز في الموارد وقارعة الطريق والظلِّ "[20].


النجـاســات :

إن معظم مصادر تلوث المياه ونشر الجراثيم والطفيليات محكوم عليها في الشرع بالنجاسة. وإن الأحاديث النبوية الشريفة لتشير إلى ذلك.

وإذا كانت بعض الأدلة الشرعية واضحة وقطعية الدلالة على نجاسة بعض الأشياء، فهناك أدلة ليست قطعية الدلالة، اختلف معها المجتهدون في طريقة الاستدلال والاستنباط فاختلفوا في الحكم على نجاسة بعض الأشياء الأخرى، ولا يتسع المجال هنا لذكرها والتفصيل فيها.

اتفق المجتهدون والفقهاء السابقون على نجاسة أربعة أعيان:

      1.        ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي

      2.        لحم الخنزير بأي سبب مذهب لحياته.

      3.        دم الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً أعني كثيراً.

وسنرى إن شاء الله تعالى، المقاصد الصحية في الحكم بنجاسة الأعيان الثلاثة وتحريم تناولها في بحث المطعومات المحرمة.

      4.        بول الإنسان ورجيعه. وقد مر معنا ما ينقلانه من أمراض.

هذا وإن البول، وإن كان في معظم الأصحاء عقيماً خالياً من الجراثيم والطفيليات، إلا أنه مستقذر سريع التخمر، تتفكك ذرات البولة فيه إلى نشادر فتزداد رائحة كراهة، كما أنه وسط صالح لتكاثر الجراثيم فيه. ولا يمكن إثبات خلوه من الجراثيم إلا بعد زرعه مخبرياً.

ولذا حكم الشارع على بول الإنسان بالنجاسة كما حكم على برازه.

إن إزالة النجاسة واجبة عند أبي حنيفة والشافعي، وذلك من الأبدان ثم الثياب ثم المساجد ومواضع الصلاة. ويؤيدهم في حكمهم ذلك الدليل الشرعي والاعتبار الصحي.

وأشير هنا إلى أن الوقاية الصحية تتلاءم  مع مراعاة المذهب في تجنب ما اختلف في الحكم على نجاسته وإزالته وتطهير محله، وذلك لأن الكثير مما اختلف فيه مستقذر، أو مستنبت صالح لتكاثر الجراثيم، أو أنه سريع التفسخ والتخمر فيزداد قذارة وأذى وخبثاً.

والله تعالى يحب المتطهرين أي المتنزهين عن القذارة والأذى .

كما أشير إلى أن النجاسة المعفو عنها، إنما عفي عنها لدفع الحرج عن الإنسان في حياته اليومية التي تتخللها العبادات المشروطة لها الطهارة. أما الأفضل فهو التطهر منها فوراً وإلا ففي أقرب فرصة. ولا يعني العفو عنها طهارتها، فإنها مثلاً تنجس الماء القليل إذا حلت فيه وتنقل إليه الجراثيم التي تحملها.


الماء المتنجس:

هو نوعان عند الفقهاء:

(الأول): ما كان طهوراً في الأصل وحلّت فيه نجاسات أو لا قته فغيرت أحد أوصافه الثلاثة (اللون والطعم والرائحة) قليلاً كان أو كثيراً.
إن تغير أحد الأوصاف دليل حسِّي على كثرة التلوث من الناحية الصحية.

(الثاني) : ما كان طهوراً في الأصل قليلاً وحلت به نجاسات لم تغير أحد أوصافه . وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.

أما المالكية فقد قالوا : إن القليل من الماء الطهور، إذا حلت فيه نجاسة لم تغير أحد أوصافه، باق على طهوريته، إلا أنه يكره استعماله إن وجد غيره مراعاة للخلاف[21].

يؤيد الدليل الشرعي والاعتبار الصحي المذاهب الثلاثة فيما ذهبت إليه من أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولو لم تتغير أحد أوصافه.

أما الدليل الشرعي فهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل أن يغسلها، وعن الاغتسال في الماء الواقف الدائم، وعن التبول في الماء الدائم، وعن الوضوء والغسل من ذلك الماء الذي بال فيه. وقد مرت معنا أحاديث ذلك النهي، وسيأتي حديث القلّتين مؤيداً الاستنباط منها بان الماء القليل ينجس بالنجاسة القليلة . وذلك حكم يؤيده أيضاً الذوق السليم والمنطق الصحيح وفن الصحة القديم والحديث.

ولقد أوضحت في طبيعة البحث فعل المياه الملوثة في نقل الجراثيم والطفيليات وأمراضها. وأشير هنا إلى أن العدوى وشدتها لهما علاقة بكثرة الجراثيم الواردة . فالماء القليل أسرع تلوثاً، وإن تلوث يصبح أكثر نقلاً للأمراض.

لذلك كله يجب أن يؤول حديث بئر بضاعة من " أن الماء لا ينجس شيء" بما يتلاءم مع أحاديث النهي السابق وحديث القلتين، لا أن نؤولها كلها من أجل الأخذ بظاهر حديث بئر بضاعة. وفي تأويل بئر بضاعة كلام طويل للإمام النووي في كتابه المجموع، فمن أحب فليرجع إليه.

اختلفت الحنفية والشافعية والحنابلة في الحد بين الماء القليل والماء الكثير.

أخذ الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل بحديث القلتين الذي صح عندهما وعند الكثيرين من أئمة الحديث، والذي يفيد أن الماء الذي هو دون قلتين يتنجس بحلول النجاسة فيه ويحمل الخبث دن نظر إلى تغيير أوصافه.

ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع ؟ فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث "[22].

قال الترمذي بعد ذكره حديث القلتين : وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا : إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ما لم يتغير ريحه أو طعمه، وقالوا : يكون نحواً من خمس قريب.

وقال الخطابي في معالم السنن: ورد من غير طريق أبي داود " إذا كان الماء قلتين بقلال هَجَر.."[23] وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها. وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب ومنهم من قدرها بخمسمائة رطل.

وقال الإمام ابن الأثير الجزري في جامع الأصول : القلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة أو الحب وهي معروفة بالحجاز وهجر، تسع القلة مزادة من الماء، وقد قدرها الفقهاء مئتين وخمسين رطلاً إلى ثلاثمائة .

وفي كتاب نيل المآرب (في المذهب الحنبيلي) تقدر القلتان بخمسائمة رطل عراقي أو بمئة وسبعة أرطال دمشقية.

وفي الفقه على المذاهب الأربعة، تقدر القلتان وزناً بالرطل المصري بأربعمائة وستة وأربعين رطلاً وثلاثة أسباع الرطل.

أقوال : مما لا شك أن الرطل الشامي كان يختلف عن الرطل العراقي والبغدادي والرطل المصري، وأن القلال الهجرية ليست متساوي تماماً، وإنما هي متقاربة في السعة. وعليه فإن تحديد سعة القلة من الماء إنما هو تقريبي ولذلك جرى اختلاف يسير بين العلماء في تقدير سعة أو وزن القلتين .

إن صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز عيون السود: أمين الفتوى في حمص قدر القلتين في رسالة له بـ 162 كيلو غراماً[24].

وتقدر القلتان حجماً في إناء أو مكان مربع بسعة مكعب طول كل ضلع منه ذراع وربع ذراع، بذراع الآدمي المتوسط . ومقدارها في مكان مستدير سعة أسطوانة : قطر كل من قاعدتيها ذراع، وارتفاعها ذراعان ونصف ذراع[25].

ب ـ أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه لم يثبت عنده حديث القلتين . وبما أن كثيراً من الأحاديث الشريفة تشير إلى أن الماء القليل ينجس بقليل النجاسة فلا بد من تعيين حد تقريبي بين الماء القليل والماء الكثير فعينه من جهة القياس وذلك إنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر[26].

وعبر عن ذلك فقهاء الحنفية بقولهم : كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، وقولهم : كل ما لا يتحرك أحد طرفيه، بتحرك الطرف الآخر لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم تغير أحد أوصافه.

وامتحن الفقهاء بعدئذ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشراً في عشر فقدروه بذلك تيسيراً . والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف[27]. وعلى هذا فكل ماء لا ينحسر أسفله بالغرف، وكانت سطحه مئة ذراع مربع بالذراع المتوسط فهو ماء كثير عند الحنفية.

هذا وأعيد ما نبهت علهي في بحث الماء الشريب بأن الحكم بطهورية الماء أو بطهارته أو بعدم تنجسه لا يعني أنه صالح للشرب من الوجهتين الدينية والصحية . فإذا ثبت صحياً أن الماء ملوث ينقل الأمراض فإنه يجب التقيد بالتعاليم الصحية المتعلقة به. وإذا أضطر إليه فيجب إصلاحه كما مر أما الحكم الشرعي بعدم تنجسه فإنما هو تيسير من الدين ودفع للحرج في استعمال ذلك الماء في المقاصد الأخرى غير الشرب، ولأن الغالب في الماء الكثير الملوث والذي لم يتغير أحد أوصافه أن يكون تلوثه زهيداً أو أن لا يؤثر سوءً إذا استعمل لغرض غير الشرب، على أنه إذا علم المسلم أن ذلك الماء يؤدي إلى مرض أو ضر ولو استعمل للنظافة وغير الشرب وجب عليه تجنبه ابتعاداً عن إلقاء النفس إلى التهلكة وحرصاً على ما ينفع وذلك من الدين .

 

سؤر الحيوان :

السؤر هو فضلة الماء القليل الذي شُرب منه.
اتفق الأئمة الأربعة على طهارة أسآر بهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافاً كبيراً. والمسألة في كثير مما اختلفوا فيه اجتهادية محضة، يعسر أن يوجد فيها ترجيح جازم كما قال صاحب بداية المجتهد.

      1.        ذهب الحنفية إلى أن سؤر كل حيوان مأكول اللحم طاهر، وأن سؤر سباع البهائم نجسن، وأن سؤر الهرة والدجاجة المخلاّة وسباع الطير وسواكن البيوت مكروه، وأن سؤر الحمار والبغل مشكوك بطهارته لا يجوز الوضوء به [28].

      2.        وذهب الشافعية إلى أن كل حيوان طاهر السؤر ما عدا الخنزير والكلب[29].

      3.        وذهب الحنابلة إلى أن سؤر كل حيوان طاهر في الحياة طاهر ولو لم يؤكل لحمه كالهرة، والفأرة. وكل حيوان مأكول كالغنم والماعز والخيل والبقر والإبل وبعض الطيور، فسؤره وبوله وروثه ومنيه ولبنه طاهر إن كان أكثر علفه الطاهر، وإن كان أكثر علفه النجاسة فلحمه وجميع ما ذكر نجس حتى يحبس ويطعم الطاهرات ثلاثة أيام، عندها يعود لطهارته[30].

      4.        وعن الإمام مالك روايتان، إحداهما : أن كل حيوان طاهر السؤر، وثانيهما : تستثنى الخنزير فقط [31]

أما من الوجهة الصحية فإن الطب وفن الصحة يدعمان بقوة الحكم بنجاسة سؤر الكلب والخنزير. أما بقية الأسآر التي فيها حكم بالنجاسة أو الكراهة في أحد المذاهب فلا تعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه: إنها لا تصلح للشرب لعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه : إنها لا تصلح للشرب لعدم التأكد من تجافي فمها الأقذار والنجاسات ومن خلو لعابها من الجراثيم . وقد فرق سابقاً بين الماء الشريب فليذكر ذلك .

نجاسة سؤر السباع:

سأبين قريباً أن الكلاب هي السبب الغالب في إصابة الإنسان وحيواناته المجترة بداء الكيسة المائية، وأن الذئاب وبنات آوى من السباع يمكن أيضاً أن تكون سبب هذا الداء في الإنسان والحيوانات اللبونة الأخرى .

وبما أن السباع تأكل الجيف أيضاً، فإن فمها يتلوث من جراثيم تلك الجيف كما يتلوث من تنظيف استها بلسانها. وعلى ذلك فإن حديث القلتين السابق والنظرة الطبية يؤيد أن نجاسة سؤر السباع كما هو مذهب ابن القاسم والإمام أبي حنيفة. قال الإمام ابن الأثير الجزري في كتابه جامع الأصول في أحاديث الرسول بعد ذكره حديث القلتين: قال الخطابي [32] : وقد استدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع نجساً لقوله وما ينوبه من السباع، أي يطرقه ويرده، إذ لولا أن شرب السباع منه ينجسه لما كان لسؤالهم عنه ولا لجوابه صلى الله عليه وسلم إياهم بتقدير القلتين معنى . أ هـ .

وروى مالك في موطئه : " أن عمر وعمرو بن العاص وردا حوضاً، فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض أترد السباع ماءك هذا ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض لا تخبرنا " . فولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع يتعذر عليهما استعماله لما نهاه عن ذلك[33].

وتأويل الأحاديث التي تفيد طهارة سؤر السباع أنه كان في الابتداء قبل تحريم لحوم السباع، أو وقع السؤال في الحياض الكبار[34].

 

نجاسة سؤر الخنزير:

الخنزير حيوان قذر شره يلتهم الأقذار والنجاسة أيضاً. يقول تعالى في حقه : " .. أو لحم خنزير فإنه رجس.. " [35] وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه. ويزداد فمه ولعابه نجاسة بالتهام الأقذار والنجاسات، فسؤره كسؤر الكلب أحق بحكم النجاسة من الأسآر الأخرى .

وسأفصل إن شاء الله تعالى في بحث المطعومات المحرمة ما ينقله الخنزير من أمراض.

 

نجاسة سؤر الكلب :

إن الأدلة الشرعية والنظرية الطبية الصحية تدل بقوة على نجاسة سؤر الكلب والتشديد في تطهير ما يلغ فيه الكلب.

         أ‌-         الدليل الشرعي:

روى الإمام مسلم في صحيحه في باب حكم ولوغ الكلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات [36] " ثم روى عنه بلفظ " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب [37] " ثم روى عن ابن المغفل مرفوعاً بلفظ " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفّروه الثامنة في التراب " .

روى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً : " يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة [38] " .

قال الإمام النووي [39] : وقد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها، وفيها دليل على أن التقيد بـ " الأولى" وغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن . وأما رواية " وعفروه الثامنة بالتراب" فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعاً، واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم غسله فسميت ثامنة لهذا  أ. هـ .

قال في المهذب : " فإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضواً منه فيه وهو رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتربة، والأفضل أن يجعل التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه وفي أيهما جعل جاز لعموم الخبر.

وقال الإمام النووي في شرحه : وقد اختلف العلماء في ولوغ الكلب، فمذهبنا أن ينجس ما ولغ فيه، ويجب غسل إنائه سبع مرات إحداهن بالتراب، وبهذا قال أكثر العلماء . حكى ابن المنذر وجوب الغسل سبعاً عن أبي هريرة ابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو بن دينار ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور . قال ابن المنذر : وبه أقول .

 وقال النووي أيضاً: يستحب جعل التراب في الأولى فإن لم يفعل ففي غير السابعة أولى فأن جعله في السابعة جاز . أ . هـ .
إن وجوب غسل ما ولغ فيه الكلب سبع مرات هو مذهب الشافعية كما وضحه الإمام النووي .

أما الحنفية فقد أوجبوا غسله ثلاث مرات لأنه فعل الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه الذي رويت عنه أيضاً أحاديث(سبع مرات) . وجعلوا إبلاغ الغسل سبعاً مندوباً للروايات الأخرى .

فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء اهراقه ثم غسله ثلاث مرات [40] " فتعارض عمله مع حديث السبع، وهناك دلالة على تقدم حديث السبع للعلم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أو الأمر حتى أمر بقتلها فيتبعه حكم ما كان معه وفي عمل أبي هريرة على خلاف كمية ما روى دلالة ظاهرة على نسخ الغسل سبع مرات، لأنه تركه العمل به بمنزلة روايته للناسخ[41].

      ب‌-      المقصد الصحي :

تعيش في أمعاء الكلاب والذئاب وبنات آوى ديدان تعرف باسم (الشريطية المكورة المشوكة ) فيكون برازها مفعماً ببعوض هذه الديدان .

وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.

وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.

فإذا تلوث طعام الإنسان أو ماء شربه ببراز أو فم تلك الكلاب أصبحا خطراً عليه إذا تناولهما، لأن قشرة تلك البيوض تهضم ويخرج منها الجنين المسدس الشصوص فيخترق جدار المعدة أو الأمعاء، ويسلك أحد طريقين الطريق الدموي أو الطريق اللنفاوي أو الاثنين معاً. وفي أي عضو يستقر هذا الجنين يأخذ بالنمو رويداً حتى يشكل الكيس المائي(أو الكيس الكلبي ) الذي يصبح خطراً على العضو المؤوف به أو على حياة الإنسان.

قد يصاب الإنسان بالكيس المائي ، وكذلك قد تصاب الحيوانات اللبونة وخاصة آكلة اللحم والخنازير والحيوانات المجترة والقاضمة. فإذا أكل الكلب أو الذئب مثلاً من اللحم المؤوف بالكيسة المائية فإن الرؤوس الكامنة أو الأجنة المختبئة في الكيس تبدو بعد الإنحلال غشائها، وتصير بعد شهر تقريباً دودة كهلة في معي الكلب أو الذئب ويصبح برازه محتوياً على بيوضها. وقد يصاب الحيوان بعوارض مميتة إذا كان عدد هذه الأجنة كثيراً.

الوقاية : بما أن داء الكيس المائي وخيم ينتقل إلى ا لبشر بواسطة الكلاب غالباً، فخير واسطة في الوقاية إذن هي اجتناب التعرض للتلوث بهذا الحيوان النجس مطلقاً كما هو في تعاليم الدين الإسلامي، وتحديد اختلاطها بالبشر ما أمكن وذلك بما يلي :

1.    بإتلاف الكلاب الضالة، وتحديد ما يقتنى منها.

لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من الزمن بقتل الكلاب ثم أباح استبقاءها حية ولكنه حدد ما يقتنى منها.

قد تكون تلك الفترة تشديد تجاه تساهل العرب في جاهليتهم في أمر الكلاب. وقد تكون تلك الفترة ظهر فيها مرض الكلب (السُّعار) بين الكلاب فيخشى أن تعرض إنساناً أو حيواناً فتعديه بمرضها، إضافة إلى أنها سبب الإصابة بالكيسة المائية كما بينت. وتذكر كتب الطب الحديث أنه لا يمكن الاكتفاء بقتل الكلاب المسعورة وحدها، لأنه الاختبارات الصحية أثبتت أن لعاب الكلب يصبح مؤذياً بعضه قبل ظهور الأعراض الكلبية عليه بثلاثة أيام.
ويحتمل أن يكون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب بسبب كثرة إصابتها بالشريطة المكورة المشوكة مما يؤدي إلى كثرة إصابة الإنسان وحيواناته المجترة بالكيسة المائية بتناول طعام أو شراب ملوث بلعابها أو برازها.

وأياً كان السبب في أمر الرسول بقتل الكلاب فإنما هو بوحي من الله تعالى الذي وسع علمه كل شيء.

فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال : ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفّروه الثامنة في التراب[42] " .

وقال عليه الصلاة والسلام : " من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم[43]".

2.    بوضع الضرائب على الكلاب الأهلية التي تقتنى لضرورة ماسة .

3.    بالعناية بالكلاب اللازمة منها في الحراسة أو الصيد أو أعمال الشرطة بحمايتها من أكل تلك الأكياس المائية في المجازر أو خارجها،  وإتلاف كل عضو توجد فيه هذه الأكياس بالحرق، وتفهيم أصحاب الكلاب ما ينشأ عن إطعام كلابهم تلك الأعضاء المؤوفة ليجتنبوا ذلك .

جـ ـ حكمة التطهير بالتراب والماء:

إن تنظيف وتطهير الإناء الذي ولغ فيه الكلاب بالتراب مع قليل من الماء أقوى في إزالة ما يلتصق به من دسم وأقذار وبيوض الدودة المسببة للكيس المائي.

وبما أن شرعة الإسلام هي لكل زمان ومكان، والتراب متيسر في كل مكان، فاقتضت الحكمة أن يكون التراب في الغسلة الأولى كما هو مفضل وإلا ففي إحدى الغسلات الأجر قبل الأخيرة. وقد يأتي زمان تكتشف فيه فوائد لتطهير ما يلغ فيه الكلاب بالتراب أيضاً.
أما إراقة الماء والطعام الذي ولغ فيه الكلاب فإنها مستحبة شرعاً وواجبة صحياً ولو لم يرد استعمال الإناء. ولفظ الحديث المتقدم يوجبها بقوله صلى الله عليه وسلم :

" فليرقه ثم ليغسله سبع مرات " والحكمة في ذلك سلوك سبيل الوقاية فقد يتلوث الإناء أو الشراب أو الطعام ببيوض تلك الدودة الشريطية فيأتي حيوان أهلي أو إنسان لا علم له بولوغ الكلب أو طفل غافل فيبتلع منه فيتعرض للإصابة بالكيسة المائية. ولو أن هذه الحكمة مكتشفة قديماً لما اختلف العلماء في وجوب الإراقة لعينها، وأجمع الشافعية على ذلك . قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم : هل الإراقة واجبة لعينها أم لا تجب إلا إذا أراد استعمال الإناء أراقه ؟ فيه خلاف، ذكر أكثر أصحابنا: الإراقة لا تجب لعينها، بل هي مستحبة، فإن أراد استعمال الإناء أراقه . أ هـ .

ولا يخفى أن تطهير الإناء باحدى وسائل التطهير التي تذكرها كتب الصحة، زيادة على التطهير بالتراب والماء من جملة سنة الوقاية والحرص على ما ينفع .

د ـ سبق الإسلام :

وهكذا تبين لنا أن الإسلام سبق أيضاً بأحكامه المتعلقة بالكلاب ما توصل إليه الطب الحديث بقرون عديدة، فحذر من اقتناء الكلاب لغير ضرورة، وشدد في تطهير ما تنجسه.

أعطى تلك الأحكام في زمان لم يكن يعرف فيه طبياً أنها السبب الغالب في إصابة الإنسان بداء الكيسة المائية . ثم توالت قرون حتى تم اكتشاف ذلك، فسجل التاريخ معجزة جديدة لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم دالة على صدق نبوته وأنه رسول الله حقاً إلى الناس كافة على توالي الأزمان.

وفي ذلك درس للمسلم بألا يتوقف أبداً عن تنفيذ تعاليم الإسلام(في الأمر والنهي ) لأنه لم يدرك حكمتها طالما أنه يؤمن بأن الإسلام شرع العليم الأعلى الحكيم الخبير، وصدق الله العظيم : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" .
والخلاصة : إن التقيد بأحكام الإسلام في تجنب الكلاب وتطهير ماتنجسه يقي من الإصابة بداء الكيسات المائية (الكلبية ) ذالك الداء الوخيم الذي قد يودي بحياة الإنسان إذا استقر في أماكن خطرة كالدماغ مثلاً . هو دائماً يتطلب مداخلة جراحية لاستئصاله . أعاذنا الله تعالى من كل داء وبلاء، وجعلنا جميعاً من التوابين والمتطهرين والمتمسكين بشرعته المتبعين لهدي نبيه .

 

نجاسة جسم الكلب :

الكلب وما تولد منه نجس العين في المذهب الشافعي والحنبلي .

وقال الحنفية : إنه طاهر العين إلا أن لعابه نجس حال حياته تبعاً لنجاسة لحمه، فلو وقع في بئر وخرج حياً ولم يصب فمه الماء لم يفسد الماء، وكذا لو انتفض من بلله فأصابه شيئاً لم ينجسه .

وقال المالكية : كل حي طاهر العين ولو كان كلباً أو خنزيراً[44].

أقول والله أعلم : يظهر أن الحق في هذه المسألة مع الشافعية، لأن معظم الحيوانات اللبونة تنظف جسمها بلسانها ولعابها كما تنظف بهما شرجها.

وإضافة إلى ذلك فإن براز الكلب ولعابه أثبت الطب خطرهما في نقل بيوض الديدان الشريطية المكورة المشوكة التي تسبب للإنسان ولحيواناته الأهلية الإصابة بالكيسة المائية (الكلبية ) كما أوضحت. فمذهب المالكية وتفريع الحنفية في هذه المسألة لا ينسجمان مع الطب .

من آراء ابن حزم في أحكام المياه :

كثير الاستشهاد بآراء ابن حزم[45] وأقواله في عصرنا هذا وخاصة في السنين الأخيرة. والداعي إلى ذلك غايات متعددة تستأنس من كتابات المستشهدين وسلوكهم وواقع حياتهم. وهاكم أهم تلك الغايات:

1.    الاستفادة من رأي سديد أو تعليل صادر عن ابن حزم رحمه الله تعالى . وهذه الغاية لا غبار عليها، لأن الحكمة ضالة المؤمن الفطن.

2.    استكمال البحث العلمي وعرض كل ما قيل فيه ليشارك القارئ الكاتب في البحث ومطالعة الأدلة والوصول إلى النتيجة سواء أخذ الباحث برأي ابن حزم أو رد عليه . وهذه الغاية مقبولة أيضاً في البحث العلمي .

3.    تبني الكاتب الأخذ بظاهر النصوص الشرعية القريب المنال (مع فصله عن روح الشريعة ومقاصدها) . وسنرى كيف أن تقيد ابن حزم بحرفية ظاهر النص أوقعه في أخطاء لا يؤيدها المنطق العقلي ولا مقاصد الشريعة ولا تعاليم الطب والصحة.

4.    التفتيش عن آراء السابقين ولو شاذة لسبغ اسم الموافقة للشريعة على أعمال المسلمين اليوم، لئلا نرى كثرة مخالفاتهم . وهذا عمل ساذج لا يحول العاصين إلى التمسك، بيد أنه يعطي حجة للمنافقين أن يبرروا أعمالهم تجاه المسلمين الصادقين ويثبوا سموهم بين الغافلين والجاهلين.

5.    عمل نفاقي لستر الزيغ والعصيان وتبرز المخالفات وتشويه تعاليم الإسلام في أذهان المطلعين بالاستدلال على مشروعية أعمالهم بأن رأي ابن حزم أو غيره
يجيزها ويحكم بعد مخالفتها الشريعة . وشتان بين غايتهم هذه وغاية ابن حزم ولو أخطأ في بعض اجتهاداته رحمه الله تعالى .

وكل إنسان يؤخذ من كلامه، ويترك إلا صاحب العصمة. وإني في ذكر الآراء التي أخطأ فيها ابن حزم لا أقصد تجريحه وإنما أقصد إيضاح خطر الغايات الثلاثة الأخيرة في الاستشهاد بآراء ابن حزم، وخاصة إذا عرضت مع أدلتها دون ذكر أدلة الأئمة الأربعة في بحث استشهاد.

لقد أمتاز ابن حزم بسعة الإطلاع والاشتغال بعلوم عديدة. فكتب في الحديث والفقه والأصول والتاريخ والفرق والأدب والمنطق والنفس، وحفظ لنا في كتبه كثيراً من آراء السلف الفقهية فصارت مرجعاً في هذا الباب على قلة المصادر لمن أراد التعرف على آرائهم.

ولكنه لم يحقق في علم من العلوم التي كتب فيها، وذلك لعدم تخصصه في بعض تلك العلوم أي أنه زاد ثقافته على حساب حرمان نفسه من التخصص، فلم يتفرغ للتحقيق فيما أراده. فظن أن غزارة ثقافته تجيز له الإعجاب بآرائه في العلوم المختلفة وتسفيه آراء مخالفيه فتهجم على أئمة الإسلام والعلم. ومع أنه محدث فقد أقدم على الحكم بالجهالة على كثير من الرواة مع شهرتهم عند أئمة العلم بالرجال.

وبعض من أسند إلى أسمائهم الجهالة أبو عيسى الترمذي الإمام المشهور صاحب السنن[46]. وضعف ابن حزم كثيراً من الأحاديث الثابتة نتيجة حكمه على أحد رجال السنة بالجهالة. وإن كثيراً من الأحاديث التي ضعفها تخالف آراءه التي أقتنع بها.

لقد كان رحمه الله تعالى يأخذ بظاهر النصوص وإن أدى ذلك إلى نتائج تتنافى مع مقاصد الشريعة ومع المنطق العقلي. ولذلك وقع في أخطاء فاحشة لم يقع في مثلها غيره من المجتهدين والفقهاء، وهو الذي يقيم النكير عليهم وينقدهم نقداً لاذعاً أو ساخراً فيما يظن أنه خطأ اجتهادي منهم.

ولقد أشار إلى أخطائه في كتابه المحلى الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي في تعليقاته على ذلك الكتاب [47]تغمدهما الله بالرحمة .

       أ‌.          يجيز ابن حزم لمن بال في الماء الراكد ولغيره أن يشرب منه إن لم يتغير أحد أوصافه، مع أن ذلك يتنافى مع الذوق السليم ومع روح النظافة والطهارة الشرعية، ومع أدلة نجاسة الماء القليل بقليل النجاسة، ومع سنية استعذاب الماء وطلب السقيا من المياه الطيبة، ومع الحكم بعدم صلاحية ذلك الماء لوضوء البائل فيه، كما يتنافى مع الطب الذي يقرر أن بعض الأبوال تحوي جراثيم وبعضها يحتوي بيوض البلهارزيا أو غيرها من الطفيليات.

     ب‌.       ويفرق ابن حزم بين البول مباشرة في الماء الراكد وبين البول في جواره فجرى البول إليه. فالبول مباشرة يمنع البائل الوضوء والغسل من ذلك الماء، بينما يجيز له في الحالة الثانية إن لم يتغير أحد أوصاف الماء.

     ت‌.       ويجيز ابن حزم لغير البائل أن يتوضأ ويغتسل من ذلك الماء، لأن النهي ورد بخصوص البائل.
ان تلك الأحكام التي أخطأ فيها ابن حزم خطأ فاحشاً مذكورة في كتابه المحلى في المسألة (136) حيث يقول : إن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه التيمم إن لم يجد غيره. وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره إن لم يغير البول شيئاً من أوصافه .وحلال الوضوء به والغسل به لغيره . فلو أحدث في الماء أو بال خارجاً منه، ثم جرى البول فيه فهو طاهر، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئاً من أوصاف الماء فلا يجزي حينئذ استعماله أصلاً، لا له ولا لغيره . أ هـ.

لقد سق داود بن علي الظاهري [48] ابن حزم في تلك الأحكام المتجافية عن الصواب. قال الإمام النووي في شرحه على مسلم في باب النهي عن البول في الماء الراكد: لم يخالف في هذا أحد من العلماء إلا ما حكي عن داود بن علي الظاهري: أن النهي مختص ببول الإنسان بنفسه، وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء. وهذا الذي ذهب إليه خلاف إجماع العلماء، وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر. أ هـ .

     ث‌.       يحكم ابن حزم بنجاسة لعاب الكلب ثم يحكم بطهارة ما أكل منه الكلب من طعام، مع أن خطم الكلب بتماس غالب مع لسانه ولعابه.

      ج‌.        ويحكم بنجاسة عرق الكلب ثم يحكم بطهارة ما وقع فيه الكلب من شراب وطعام أو ما دخل فيه بعض أعضائه.. مع أن جلد الكلب أول ما يمسه عرقه،كما أن الكلب ينظف جلده وشعره بلسانه ولعابه.

      ح‌.        ولا يوجب ابن حزم غسل يد الإنسان إذا ولغ فيها الكلب لأنها ليست بإناء، والأمر بالغسل جاء للإناء..

أراد ابن حزم أن يبتعد عن القياس الذي لا يتعرف به فوقع في مثل هذه الأحكام اللامنطقية.

إن الأحكام الثلاثة الأخيرة لابن حزم مسجلة في المسألة (127) من كتابه المحلى حيث يقول : فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء و لا هرق ما فيه البتة، وهو حلال طاهر كله كما كان، وكذلك لو ولغ الكلب في بقعة من الأرض أو في يد إنسان أوفي ما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ولا هرق ما فيه . أ هـ.

قال المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذه الفقرة : كل هذا تغال ومبالغة في التمسك بالظاهر دون نظر إلى معاني الشريعة وما يتفق مع المعقول.

فما حرّم الله شيئاً إلا وهو قذر مؤذ، ولا حكم النجاسة شيء إلا وكان مما تتجنبه الطباع النقية، وإزالة النجاسات واجب معقول المعنى، فمن العجيب أن يفرق ابن حزم بين أكل الكلب من الإناء وبين شربه.

بل الأعجب أن يفرق بين الشرب وبين وقوع الكلب كله في الإناء..
أقول : إن الطب أيضاً يعجب من آراء ابن جزم في أحكام المياه تلك الآراء التي تتنافى مع مبادئ مع الصحة، ويؤدي الأخذ بها إلى انتشار الأمراض والأوبئة. وقد بينت فعل المياه الملوثة في نقل الأمراض، وأن الكلاب هي السبب الغالب في إصابة الإنسان بالكيسات المائية .

كلمة الختام :

لقد أوضحت فعل المياه في نشر الأمراض، وبينت هدي النبوة في وقاية المياه من التلوث، كما أوضحت المقاصد الصحية في أحكام المياه وبينت الأحكام التي هي أقرب إلى الأدلة الشرعية والاعتبارات الطبية، ليراعيها المسلم في التطبيق وخاصة في مياه شربه ثم في مياه طهوره ونظافة جسمه، ولو تساهل في مذهبه الفقهي مراعاة للصحة والمذاهب الأخرى.

فإن الأخذ بأسباب الوقاية الصحية مستحب. وإن مراعاة المذاهب مستحبة أيضاً، نص على ذلك فقهاؤها.

والله تعالى أعلم .

مصادر البحث :

إن مصادر أبحاث المقاصد الصحية في أحكام المياه هي:

      1.        جامع الأصول في أحاديث الرسول.

      2.        سنن الترمذي

      3.        شرح صحيح مسلم للإمام النووي

      4.        المجموع للإمام النووي(شافعي).

      5.        فتح باب العناية للهروي(حنفي).

      6.        بداية المجتهد ونهاية المقتصد

      7.        الاختيار شرح المختار (حنفي).

      8.        الفقه على المذاهب الأربعة

      9.        فن الصحة والطب الوقائي للأستاذ الدكتور أحمد حمدي الخياط

   10.      الجراثيم الطفيلية للأستاذ الدكتور أحمد حمدي الخياط.

   11.      مختصر الكيمياء الطبية للأستاذ الدكتور عبد الوهاب القنواتي

   12.      الأمراض الإنتانية للأستاذ الدكتور بشير العظمة

 


 

[1] سورة الأنبياء 30

[2] ذكره الأصبهاني في باب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وقال السمهودي في خلاصة: رواه أبو داود بهذا اللفظ وسنده جيد وصححه الحاكم. كما في نظام الحكومة النبوية.

[3] نظام الحكومة النبوية. وتمام القصة في صحيح مسلم وقالت امرأة أبي الهيثم للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءهم يسأل عن أبي الهيثم " ذهب يستعذب الماء" وفي الحديث دلالة على أن استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترف المذموم.

[4] أخرجه ابن ماجه ورمز السيوطي في الجامع الصغير لضعفه .

[5] أخرجه الموطأ والترمذي وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح كما في تحقيق جامع الأصول للأستاذ عبد القادر الأرناؤوط.

[6] يخرج الجنين من البيضة في الماء والأماكن الرطبة ذات السخونة القليلة (بين 25_30) كما في المناجم ويتطور فيصبح في طوره الثالث سرفة مغلقة معدية . وتسبب للإنسان ذات القصبات المنزلية وتحدث فيه الغمة واضطراب الهضم ونزف المعي الخفي المديد مما يؤدي إلى فقر الدم .

[7] ديدان رقيقة طويلة . تعيش الذكر و الأنثى ملتصقتين في وسط أوردة الجدر المعوية في النوع الياباني والماسوني، ا, أوردة الجملة المثانية الحوضية في النوع الدموي. تفقص فيها حتى يصبح جنيناً مذنباً يخرج منها، فإذا صادف إنسانأً نفذ من جلده المتلين بتأثير الماء.

[8] رواه مسلم وهناك روايات قريبة منها لأحمد والبخاري والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة كما في جامع الأصول.

[9] رواه أبو داود بإسناد حسن كما في التعليق على جامع الأصول .

[10] رواه البخاري.

[11] رواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه ورمز السيوطي لحسنه في الجامع الصغير كما روى النهي في الإناء (الجملة الأولى ) البخاري ومسلم .

[12] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

[13] رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح

[14] رواه البخاري ومسلم واللفظ له .

[15] أخرجه الطبراني في الأوسط بسند حسن كما في فتح الباري قبيل (باب الشرب في آنية الذهب ) وأصله في ابن ماجة، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البزار والطبراني .

[16] رواه البخاري في الأشربة والنسائي والترمذي في كتاب الأشربة باب تغطية الإناء ومعنى خمّروا : غطُّوا .

[17] أخرجه مسلم وأخرجه النسائي إلى قوله وهو جنب كما في جامع الأصول .

[18] رواه أبو داود .

[19] كما في جامع الأصول .

[20] رواه أبو داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وفي سنده جهالة وانقطاع ولكن له شواهد يتقوى بها، منها ما أخرجه الإمام مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا اللاعنين قيل ك وما اللاعنان قال : الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم.

[21] الفقه على المذاهب الأربعة. هذا وإن الإمام الحافظ ابن رشد يذكر في كتابه بداية المجتهد أن هناك روايتين عن الإمام مالك أحدهما ما ذكر أعلاه والثانية كقول الأئمة الثلاثة .

[22] أخرجه أبو داود والترمذي وفي رواية لأبي داود (فإنه لا ينجس ) وفي رواية النسائي " وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء .. " وذكر الرواية الأولى أ هـ.

[23] هَجَر : قرية قرب المدينة المنورة وليست هجر البحرين وكان ابتداء عمل هذه القلال بهجر فنسبت إليها ثم عملت في المدينة فبقيت النسبة على ما كانت كما في المجموع للإمام النووي أ هـ . من تعليقات الأستاذ عزت الدعاس على سنن الترمذي .

[24] نقل ذلك الأستاذ عزت الدعاس في تعليقاته على سنن الترمذي جـ 1 ص 62.

[25] كما في الفقه على المذاهب الأربعة وفي جواب سماحة مفتي دوما الشيخ أحمد صالح الشامي على سؤالي عن تقدير القلتين عند الحنابلة، ويؤخذ طول الذراع المتوسط من رؤوس أصابع اليد المبسوطة حتى المرفق وقد قدر الأستاذ أحمد الشامي القلتين بـ 209 كيلوغرام .

[26] كما في بداية المجتهد.

[27] كما في الاختيار شرح المختار جـ 1 ص 13 مصطفى البابي الحلبي ص 1355هـ .

[28] كما في فتح باب العناية  للإمام المحدث الشيخ علي القاري الهروي المتوفي سنة 1014 هـ سباع البهائم هي الأسد والنمر والفهد والذئب والضبع والكلب والخنزير والفيل ونحوها.

[29] كما في المجموع للإمام النووي.

[30] كما في نيل المآرب، باب المياه وباب النجاسة الحكمية. كما بينه لي مراسلة سماحة مفتي دوما الشيخ أحمد صالح الشامي رحمه الله  .

[31] كما في بداية المجتهد، وذهب ابن القاسم إلى أن كل حيوان طاهر السؤر ما عدا السباع، وهو يقول بكراهة أسآر الحيوانات التي لا تتوفى النجاسة غالباً مثل الدجاجة المخلاّة والإبل الجلالة والكلاب المخلاّة .

[32] العلامة أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي نسبة إلى زيد بن الخطاب أخي سيدنا عمر 319 ـ 388 هـ كان إمام في الفقه الشافعي والحديث والفقه كما في طبقات الشافعية تذكرة الحفاظ .

[33] كما في فتح باب العناية، وحديث الموطأ هذا إسناده منقطع كما في التعليق على جامع الأصول .

[34] كما في فتح باب العناية وفيه : أن حديث أبي هريرة عن الحياض التي بين مكة والمدينة معلول بعبد الرحمن بن زيد.

[35] الأنعام ـ 145ـ.

[36] ورواه النسائي أيضاً . ورواه النسائي أيضاً . ورواه البخاري بلفظ " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات " كما في جامع الأصول .

ولغ الكلب بلغ : أدخل لسانه في الإناء فحركه ليشرب. قال في العارضة : الولوغ للسباع والكلاب كالشرب لبني آدم . ولا يستعمل الولوغ في الآدمي، وقد يستعمل الشرب في السباع .

[37] رواه أبو داود أيضاً كما في جامع الأصول.

[38] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق.

[39] في شرحه على صحيح الإمام مسلم وفي كتاب المجموع أيضاً.

[40] رواه الدار قطني وقال ابن دقيق العيد في الإمام : وهذا سند صحيح كما في فتح باب العناية

[41] عن كتاب فتح باب العناية .

[42] أخرجه الإمام مسلم وأبو داود والنسائي وقال : " والثامنة عفروه بالتراب "  كما في جامع الأصول .

[43] رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .

[44] الفقه على المذاهب الأربعة .

[45] هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 هـ وهو من حفاظ الأندلس  وفقهائها، كما أنه إمام أهل الظاهر . ظاهر في الفروع مع أنه مؤول في آيات الصفات .

[46] انظر الصفحة 183 ـ 186 من كتاب الرفع والتكميل الطبعة الثانية مع التعليق عليه الطبعة الثانية بحلب .

[47] الذي نشرته إدارة المطبعة المنيرة سنة 1347 هـ وكانت حياة الشيخ أحمد شاكر من سنة 1309 ـ 1378 هجرية.

[48]  202 ـ 270 هـ إمام المذهب الظاهري، كان شافعياً، ثم اتخذ لنفسه مذهباً خاصاً قوامه الوقوف عند ظاهر النصوص. ترجم له الذهبي في التذكرة ص 572 ووصفه بالحفظ للحديث والورع والزهد. ثم قال : منع الإمام أحمد أن يدخل إليه داود وبدعه لكونه قال : القرآن محدث، وهو قدوة ابن حزم في نفي القياس والاستحسان والرأي والجمود عند الظاهر .

 

 

وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ
 

الدكتور منصور العبادي

جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

لقد ذكرنا في مقالتين سابقتين نشرتا على هذا الموقع وهما مقالة "خلق الأرض في يومين" ومقالة "وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين" إن الحياة على هذه الأرض لم يكن لها لتظهر لو لم يتم تصميم جميع أجزاء هذا الكون بتقدير بالغ في جميع مراحل خلقه حيث أن خللا بسيطاﹰ في تصميم مرحلة ما من هذه المراحل قد يحول دون أن تكون الأرض بالشكل والمواصفات التي هي عليها الآن.

وذكرنا كذلك بأن الأرض قد تم تصميمها بتقدير بالغ لكي تكون مؤهلة لظهور الحياة عليها وذلك من حيث تحديد بعدها عن الشمس التي تمدها بالطاقة وسرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس وكذلك إمالة وتأرجح محورها وشدة مجالها المغناطيسي وسمك قشرتها.

 وبما أن الكائنات الحية تحتاج لبناء أجسامها إلى عدد كبير من العناصر الطبيعية فقد تم توفير جميع العناصر التي أنتجتها نجوم هذا الكون في قشرة هذه الأرض بنسب متفاوتة. وأما تضاريس الأرض فقد تم تشكيلها بشكل بارع بحيث يكون فيها مناطق منخفضة لاستيعاب مياه الأرض فيها ومناطق مرتفعة لا يمكن للمياه أن تغمرها وذلك لتكون مناسبة لظهور مختلف أشكال الحياة عليها.

أما جو الأرض فقد تم تصميمه بحيث أن محتوياته عند بداية تكونه تختلف عن محتوياته عما هي عليه الآن وذلك لأن جو الأرض الأولي المكون من غازات الهيدروجين والأمونيا والميثان وبخار الماء قد لعب دوراً بالغ الأهمية في تكون المواد العضوية البسيطة التي تلزم لظهور الحياة لاحقا.

 ونظرا للدور البالغ الأهمية الذي يلعبه الماء  في ظاهرة الحياة على الأرض فقد لزم أن نفرد له مقالة خاصةنبين فيها بعض الحقائق العلمية المتعلقة بخصائص الماء وكذلك الدور الذي يلعبه في ظاهرة الحياة على الأرض مصداقاﹰ لقوله تعالى "وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ أفلا يؤمنون" الأنبياء 30.

يقدّر علماء الجيولوجيا كمية الماء الموجودة على الأرض بستة عشر بليون كيلومتر مكعب أو ما يساوي ستة عشر بليون بليون طن أي أن نسبة كتلته إلى كتلة الأرض تبلغ خمسة وعشرون بالألف. ويوجد القسم الأكبر من هذه الكمية والتي تقدر  بثلاثة عشر بليون كيلومتر مكعب في طبقات الأرض الواقعة تحت القشرة الأرضية وهي موجودة على شكل بخار ماء مضغوط وذلك بسبب الحرارة العالية لباطن الأرض. أما الكمية المتبقية والتي تقدّر بثلاثة بلايين كيلومتر مكعب فإن نصفها يدخل في تركيب الصخور والمعادن الموجودة في القشرة الأرضية بينما يوجد النصف الآخر في المحيطات والبحار والأنهار. ويتجمع معظم الماء الموجود على سطح الأرض في محيطات وبحار الأرض إلا أن هناك ما يقرب من مائة مليون كيلومتر مكعب من الماء  موجودة على اليابسة في تجاويف القشرة الأرضية وفي البحيرات والأنهار والتربة على شكل سائل وفي المناطق الجبلية والجليدية على شكل جليد. ويعتقد العلماء أن الماء الموجود على سطح الأرض قد خرج من باطنها فبعد أن تكونت القشرة الأرضية الصلبة بدأ الماء يخرج من باطن الأرض على شكل بخار مع الحمم التي تقذفها البراكين من باطن الأرض إلى سطحها وذلك مصداقا لقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها مائها ومرعاها" النازعات 30-31. ويقدّر علماء الجيولوجيا كمية الماء الذي يخرج من باطن الأرض في السنة الواحدة بحوالي كيلومتر مكعب واحد أو ما يعادل ألف مليون طن ويعتقدون أن هذه الكمية كافية لتشكيل الاحتياطي الإجمالي للماء على سطح الأرض بمرور بلايين السنين على نشأة الأرض.

لقد كان هذا الماء عند أول نشأة الأرض على شكل بخار يملأ جو الأرض الأولي بسبب ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض في تلك الحقّبة من الزمن وبعد أن برد هذا السطح بدأ بخار الماء بالتكثف ليسقط على شكل أمطار غزيرة لعبت دوراً كبيرا في تشكيل بعض تضاريس الأرض كالأودية والسهول الغنية بالتراب. ولو أن جميع ما في الأرض من ماء قد خرج من باطنها واستقر على سطحها لما وسعته المحيطات ولوصل ارتفاع الماء فوق سطح الأرض إلى ثلاثين كيلومتر ولكن من لطف الله بالناس أن تسعين بالمائة من هذا الماء لا زال محبوساً كبخار تحت القشرة الأرضية. ويقوم هذا المخزون الضخم من الماء المحبوس تحت القشرة الأرضية بتعويض كمية الماء الموجودة على السطح إذا ما نقص بسبب هروب بعضه إلى الفضاء الخارجي أو اتحاده بشكل دائم مع بعض العناصر والمركبات الأرضية. ولو أن الأرض بقيت على شكل كرة ملساء كما كان حالها عند بداية خلقها لغطت كمية الماء الموجودة على سطحها فقط جميع سطح الأرض بارتفاع  ثلاثة كيلومترات. ولكن بتقدير من الله عز وجل وبسبب ضغط الماء الهائل على قشرة الأرض التي كانت طرية ورقيقة عند بداية تكونها فقد بدأ جزء من سطح الأرض بالانخفاض تحت وطأة هذا الضغط ممّا جلب مزيداً من الماء لهذا الجزء الذي واجه مزيداً من الانخفاض. وقد توالت هذه العملية حتى تجمع الماء في جهة واحدة من سطح الأرض وانحسر عن الجزء المتبقي من السطح الذي ارتفع مستواه بسبب الضغط المعاكس على القشرة من  داخل الأرض مكونا اليابسة. ولقد تأكدت هذه الحقيقة بعد اكتشاف علماء الجيولوجيا أن المحيطات الحالية كانت محيطا واحدا وكذلك القارات التي كانت قارة واحدة ولكن وبسبب حركة الصفائح التي تتكون منها القشرة الأرضية بدأت القارة الأولية بالانقسام إلى عدة قارات بشكل بطيء جدا بما يسمى ظاهرة انجراف القارات.

وتغطي المحيطات الآن ما يقرب من سبعين بالمائة من سطح الأرض بينما تشكل اليابسة ثلاثين بالمائة من سطحها ويبلغ متوسط ارتفاع اليابسة عن سطح البحر ما يقرب من كيلومتر واحد بينما يبلغ متوسط انخفاض المحيطات عن سطح البحر أربعة كيلومترات تقريباً.  إن تحديد نسبة مساحة سطح اليابسة إلى مساحة سطح المحيطات لم يتم بطريقة عشوائية بل تم تقديره بشكل بالغ حيث بينت دراسات العلماء أن أية زيادة أو نقصان فيها قد يحول دون ظهور الحياة على الأرض. فمتوسط درجة حرارة سطح الأرض سيختلف عن الرقم الحالي البالغ خمسة عشر درجة فيما لو تغيرت هذه النسبة وذلك بسبب الاختلاف الكبير في الحرارة النوعية لكل من تراب اليابسة وماء المحيطات. وستتغير كذلك كمية ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي بسبب تفاوت نسب امتصاص البر والبحر لهذا الغاز الذي يعتبر مصدر الغذاء  الرئيسي لجميع الكائنات الحية وكذلك فإن كمية الماء التي ستسقط على اليابسة ستزداد أو تنقص تبعاً لقيمة النسبة بين مساحة كل من البر والبحر. وقد يقول قائل أن كمية الماء الهائلة الموجودة في المحيطات قد تكون أكبر ممّا تحتاجه الكائنات الحية وأن محيطات بمتوسط عمق أقل من ذلك قد تكون كافية لهذا الغرض. ولكن هنالك حكمة بالغة وراء تقدير تلك الكمية من الماء حيث أن مياه الأمطار التي تعود للمحيطات من خلال الأنهار تحمل معها كميات كبيرة من أملاح تراب اليابسة ممّا يزيد من ملوحتها مع مرور الزمن. إن زيادة ملوحة المحيطات عن حد معين سيؤدي حتما إلى موت جميع الكائنات الحية فيها وأكبر دليل على ذلك الحال الذي هو عليه البحر الميت في الأردن. ولكن بتقدير من الله وبفضل منه وبسبب هذه الكمية الهائلة من المياه في المحيطات فإن ملوحتها لا زالت دون الحد الذي يمنع عيش الكائنات الحية فيها رغم أن أنهار الأرض تلقي فيها كميات كبيرة من الأملاح  منذ ما يزيد عن أربعة آلاف مليون سنة وصدق الله العظيم القائل "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها" فاطر 12

 

إن تحديد نسبة مساحة سطح اليابسة إلى مساحة سطح المحيطات لم يتم بطريقة عشوائية بل تم تقديره بشكل دقيق حيث بينت دراسات العلماء أن أية زيادة أو نقصان فيها قد يحول دون ظهور الحياة على الأرض

ويتفرد كوكب الأرض من بين جميع كواكب المجموعة الشمسية بوجود هذه الكمية الضخمة من الماء على سطحه وذلك يعد أن تأكد للعلماء من خلال إرسال مركبات فضائية إلى كواكب المجموعة الشمسية أن سطوحها تخلو تماماً من الماء. ولا زال العلماء يتساءلون عن مصير الماء الذي كان موجوداً على هذه الكواكب حيث أنها قد تكونت بنفس الطريقة التي تكونت بها الأرض ولا بد والحال هذا أن جميعها قد أخذ نصيبه من الماء وكذلك من بقية العناصر والمركبات الطبيعية. ومن الخطأ أن نعتقد أن الماء إذا ما توفر في كوكب ما فلابد أن يشكل محيطات وبحار على سطحه كما هو الحال مع الأرض وذلك لأن الظروف التي يتشكل خلالها الكوكب هي التي تحدد الطريقة التي سيكون عليها حال الماء على سطحه. وهذا يعني أن ضمان ظهور الماء على سطح الكوكب يحتاج لتقدير بالغ في تحديد تسلسل الأحداث التي يمر بها تشكل الكوكب عند نشأته وأن حدوث خطأ بسيط في تسلسل هذه الأحداث قد يحول دون ظهور الماء عليه. ولو قمنا بتقصي الأسباب التي قد تحول دون ظهور الماء على سطح كوكب ما، على الرغم  من توفر الماء في جوفه لما أحصيناها عدداً. فعلى سبيل المثال،فمن الممكن أن الكواكب التي هي أبعد من الأرض عن الشمس قد تكونت قشرتها بشكل أسرع ممّا حدث على الأرض ممّا حالت دون خروج الماء من باطنها إلى ظاهرها من خلال البراكين. ومن الممكن أن هذا الماء قد تجمد بكامله في الكواكب الأبعد من الأرض عن الشمس بسبب البرودة الشديدة وتجمع في طبقات قشرة الكوكب أو عند أقطابه. ومن الممكن أنه قد تسرب إلى الفضاء الخارجي مع مرور الزمن وخاصة في الكواكب القريبة من الشمس بسبب ارتفاع درجة حرارة سطحها. ومن الممكن أيضا أن تكون  قشرة الكوكب من السماكة بحيث أن الماء  قد غار في طبقاتها المختلفة ولم يصل إلى باطن الكوكب الحار الذي يستطيع أن يخرجه كبخار مع البراكين وصدق الله العظيم القائل " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا علي ذهاب به لقادرون ".

إن عملية نقل الماء من المحيطات وتوزيعها على اليابسة تتم بآليات بالغة الإتقان حيث تستخدم الطاقة الشمسية لتبخير الماء من المحيطات بدون أن يتم رفع درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان.

 ويقدّر العلماء كمية الماء المتبخر من المحيطات في السنة الواحدة بأربعمائة ألف كيلومتر مكعب ومن اليابسة بستين ألف كيلومتر مكعب وتحتاج هذه الكمية الهائلة من الماء المتبخر من المحيطات إلى كمية هائلة من الطاقة تقدّر بمائتين وخمسين مليون بليون كيلواط ساعة في السنة الواحدة.

 
تستخدم الطاقة الشمسية لتبخير الماء من المحيطات بدون أن يتم رفع درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان.

وتتكفل الشمس بتوفير هذه الكمية الهائلة من الطاقة لعملية تبخير الماء من خلال الإشعاع الذي يصل إلى الأرض على شكل أمواج ضوئية وحرارية. ومن حسن التقدير أن طاقة التبخير هذه لا تذهب هدراً بل يتم الاستفادة منها عندما يتكثف بخار الماء في الجو فتنطلق هذه الطاقة لتسخن جو الأرض وخاصة أثناء الليل. وبعد أن يصعد هذا الماء المتبخر إلى طبقات الجو العليا مع التيارات الهوائية الصاعدة يبدأ البخار بالتكثف على شكل غيوم بسبب البرودة الشديدة لطبقات الجو العليا وصدق الله العظيم القائل "وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون" الأعراف 57

إن رفع هذا الكمية الهائلة من الماء إلى ارتفاع عدة كيلومترات فوق سطح البحر يحتاج إلى كمية هائلة من الطاقة لا تقل عن كمية الطاقة التي لزمت لتبخيرها. وتقوم الشمس أيضا بتوفير هذه الطاقة من خلال تسخين الهواء الملامس لسطح الأرض والذي يرتفع إلى الأعلى حاملاً معه بخار الماء وذلك بسبب أن كثافة الهواء الساخن أقل من كثافة الهواء البارد. إن هذه الطاقة تعاد بكاملها إلى الأرض عند نزول الماء على شكل أمطار من خلال تحول طاقتها الوضعية إلى طاقة حركية ويتحول جزء كبير من هذه الطاقة الحركية إلى طاقة حرارية عند ارتطام قطرات الماء بسطح الأرض أماالجزء المتبقي فيبقى كطاقة حركية تنقل مياه الأنهار والسيول والجداول من أعالي الجبال إلى المحيطات والبحار والبحيرات. ويستفاد من هذه الطاقة الحركية في مياه الأمطار لنقل التراب من رؤوس الجبال الشاهقة إلى السهول المنبسطة الصالحة للزراعة.ولولا هذا التقدير لخلت هذه السهول مع مرور الزمن من العناصر والمركبات اللازمة للحياة. وقد استفاد الإنسان في العصور الماضية من هذه الطاقة الحركية في تشغيل النواعير لرفع الماء من الأنهار والطواحين لطحن الحبوب وفي هذا العصر في توليد كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية. وبعد أن يرتفع بخار الماء إلى طبقات الجو المختلفة يبدأ بالتكثف ليكون الغيوم التي  تسوقها الرياح إلى مناطق اليابسة حيث تبدأ حبيبات الماء بالتكون لتسقط على شكل أمطار وثلوج وبرد وصدق الله العظيم القائل "ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثمّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزّل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلّب الله الليل والنهار إنّ في ذلك لعبرة لأولي الأبصار" النور 43-44.

 
وصف الله سبحانه السحاب أنه ثقيل (أقلّت سحاباً ثقالاً) كشف العلم الحديث أنه كل عام تهطل أمطار حجمها حوالي 460.000كم3  أما ثقلها فيقدر بآلاف ملايين الأطنان فمن أخبر محمد أنها ثقيلة

ولو قدر لهذه الكمية الهائلة من الماء المتبخر أن تنزل دفعة واحدة على سطح جميع القارات لوصل ارتفاع الماء إلى عشرة أمتار ولكن من لطف الله بعباده أن 370 ألف كيلومتر  مكعب منها ينزل على المحيطات بينما ينزل على اليابسة فقط 90 ألف كيلومتر مكعب.ولو وزع هذا الرقم الأخير على جميع مناطق اليابسة بالتساوي لكان نصيب كل متر مربع من الأرض مترا مكعبا واحدا من الماء. ومن لطف الله بالناس أن هذا الماء ينزل على مدى عدة أشهر وإلا فان نزول مثل هذه الكمية خلال يوم أو حتى أسبوع  قد يتسبب في حدوث كوارث لا تحمد عقباها وصدق الله العظيم القائل "وأنزلنا من السماء مآء بقدر فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين" المؤمنون 18-20. وإن ما حل بقوم سيدنا  نوح عليه السلام من دمار وعذاب كان بسبب زيادة سقوط المطر عن الحدود التي قدرها الله وقد صور القران الكريم هذا المشهد العجيب بقوله سبحانه "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد ٌقدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر" القمر 11-14.

إن كمية الماء التي تسقط على اليابسة والتي تقدّر بتسعين ألف كيلومتر مكعب تعود في النهاية إلى المحيطات والبحار حيث يعود ثلاثون ألف كيلومتر مكعب منها بشكل مباشر بواسطة الأنهار بينما تعود الستين ألف المتبقية بطريقة غير مباشرة من خلال عملية التبخر وذلك بعد أن يتم الاستفادة  منها من قبل الكائنات الحية المختلفة وخصوصا النباتات التي تستهلك الجزء الأكبر من هذه الكمية بامتصاصها من التربة. ومن الجدير بالذكر أن مجموع ما يستهلكه البشر سنوياً من الماء للأغراض الزراعية والمنزلية والصناعية يقدّر بثلاثة آلاف كيلومتر مكعب أي ما يساوي ثلاثة آلاف بليون متر مكعب فقط.إن عملية توزيع مياه الأمطار على جميع مناطق اليابسة لا تتم بشكل متساوي بسبب التفاوت الكبير لتضاريس اليابسة ومقدار بعدها عن المحيطات حيث تسقط الأمطار بكميات كبيرة على المناطق الساحلية وتقل تدريجياً كلما ابتعدنا عن شواطئ المحيطات والبحار. ومن فضل الله على الناس أن قام بتوفير آليات مختلفة لتزويد المناطق التي لا تسقط عليها كمية كافية من الأمطار بما يكفيها من الماء الذي يبعث فيها الحياة. فقد سخّر الله الأنهار التي تحمل الماء من المناطق الغنية به إلى المناطق الصحراوية الجافة كنهر النيل الذي يجلب الماء من الحبشة إلى السودان ومصر وكنهري دجلة والفرات التي تجلب الماء من تركيا إلى سوريا والعراق وكذلك الحال مع بقية أنهار الأرض وصدق الله العظيم القائل "أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءلهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون" النمل 61. ومن عجائب تصميم الأنهار أن ميلان الأرض قد تم تقديره بشكل بالغ الدقة بحيث أن الماء ينساب بشكل طبيعي من منابع الأنهار إلى مصابها رغم أنها تجري لآلاف الكيلومترات وصدق الله العظيم القائل " وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كلّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون " الرعد 3.

وبما أن الأمطار لا تسقط إلا في أشهر محددة من السنة في معظم أرجاء اليابسة  فقد وفر الله وسائل عدة لحفظ مياه هذه الأمطار لتزود الكائنات الحية بالماء على طول أشهر السنة. ومن هذه الوسائل الثلوج التي تغطي قمم الجبال الشاهقة والتي تذوب في الصيف لتمد الأنهار والينابيع وبحيرات الماء العذب  بكميات كبيرة من الماء وكذلك طبقات الصخور التي تختزن كميات كبيرة من المياه الجوفية  فتخرج على شكل ينابيع لا تكاد تخلو  منها أيّ منطقة  علىهذه اليابسة. ومن عجائب التقدير أن هذه الينابيع قد تتفجر في  مناطق قاحلة لا يسقط عليها المطر أبداً فيأتيها الماء من أماكن بعيدة على شكل أنهار تجري عبر طبقات الصخور وصدق الله العظيم القائل "ألم تر أنّ الله أنزل من السماء مآء فسلكه ينابيع في الأرض ثمّ يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثمّ يهيج فتراه مصفرا ثمّ يجعله حطاما إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب" الزمر 21 والقائل سبحانه "وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء مآء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين" الحجر 22. وبما أنه لا يمكن لكثير من الكائنات الحية أن تعيش بدون الماء لفترات لا تتجاوز عدة أيام فإن من فضل الله عليها أن قام بتوزيع مصادر الماء في كل ركن من أركان  هذه الأرض لكي ينتشر البشر وبقية الكائنات الحية في جميع أرجاء الكرة الأرضية وصدق الله العظيم القائل "وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء مآء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه ممّا خلقنا أنعاما وأناسيّ كثيرا ولقد صرّفناه بينهم ليذّكروا فأبي أكثر الناس إلاّ كفورا" الفرقان 48-50.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد مكن الحيوانات من الحركة لتصل إلى مصادر الماء والغذاء لتأخذ منهما حاجتها  فقد صمم آليات معقدة لتوفير الماء للنباتات التي لا يمكنها الحركة على الإطلاق. فقد تم تهيئة تراب الأرض وتشكيل الصخور التي تحتها بحيث تحتفظ  بماء الأمطار لفترات طويلة ولكي تتمكن النباتات بمختلف أنواعها  من الحصول على حاجتها من الماء في فترات انقطاع المطر عنها. وقد زود الله هذه النباتات بجذور يمكنها الغوص في أعماق التراب والصخور لكي تصل إلى أماكن الماء وصدق الله العظيم القائل "وأنزلنا من السماء مآء بقدر فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون" المؤمنون 18-19.

ومن البدهي أن يثار التساؤل حول السبب الذي جعل الماء أحد أهم عناصر الحياة التي لا يمكن لها أن تظهر على الأرض ولا على أيّ كوكب آخر بدونه. وللإجابة على هذه التساؤل لابد من التذكير بحقيقة مهمة عن طبيعة الحياة وهي قدرة الكائنات الحية على أن تصنع نسخاً عن نفسها بنفسها من العناصر والمركبات الموجودة على الأرض. فجميع أنواع الكائنات الحية تبدأ عملية تصنيعها من خلية واحدة يحتوي شريطها الوراثي على جميع مواصفات جسم الكائن الحي  ويتم تصنيع الكائن من خلال التعليمات التي يصدرها هذا الشريط لبعض مكونات الخلية. وتحتاج الكائنات الحية لبناء أجسامها إلى مواد مختلفة بمواصفات محددة وهذه المواد يتم تصنيعها من تراب هذه الأرض الذي يحتوي على جميع العناصر الطبيعية التي أنتجتها نجوم هذا الكون. وبما أن عملية تصنيع الكائنات الحية وما تحتاجه من مواد عضوية تتم بدون تدخل أيّ قوة خارجية فعلى هذه المواد أن تصنع نفسها بنفسها وأن تأخذ مواقعها في جسم الكائن من تلقاء نفسها. وبما أن هذه المواد ليس لها أيدي تمسك بها أو أرجل تمشي عليها فمن المستحيل أن تقوم بهذه المهمة إذا ما بقيت في أماكن تواجدها في تراب هذه الأرض. إن الطريقة الوحيدة التي تسهل حركة هذه المواد هو من خلال إذابتها في سائل ما يسمح لجزيئاتها  بالحركة من خلال ظاهرة طبيعية وهي ظاهرة الانتشار. وفي مثل هذا السائل يمكن لجزيئات المواد المختلفة أن تتحرك بحرية ممّا يساعدها على الالتقاء ببعضها البعض وقد يؤدي هذا الالتقاء إلى حدوث التفاعلات الكيميائية بين هذه المواد لإنتاج مواد أكثر تعقيداً. إن وجود مثل السائل هو أول شرط من شروط ظهور الحياة في أيّ مكان في هذا الكون فالمواد في حالتها الصلبة وخارج هذا الوسط السائل تحتاج إلى من يخلطها باستمرار لكي يحدث التفاعل فيما بينها أما في حالة وجودها مذابة في السائل فإن هذه المواد ستتحرك من تلقاء نفسها بسبب خاصية الانتشار.

 
جعل الله الماء أحد أهم عناصر الحياة التي لا يمكن لها أن تظهر على الأرض ولا على أيّ كوكب آخر بدونه

 ويؤكد العلماء على أن الحياة ظهرت على الأرض بسبب الخصائص الفريدة والعجيبة للماء فبدون هذه الخصائص لا يمكن للحياة أن تظهر أبداً. وممّا أثار استغراب العلماء أن جميع خصائص الماء الفيزيائية والكيميائية هي خواص شاذة أيّ أنها تختلف عن خواص مركبات مشابهة لها في التركيب ممّا حدا بعالم الكيمياء الفيزيائية الروسي "إيغور بتريانوف"بأن يصفه بأنه أغرب مادة في هذا الكون وذلك في كتابه "الماء تلك المادة العجيبة".  لقد اثبت العلماء أن الماء هو السائل الوحيد من بين جميع السوائل الطبيعية الذي يصلح لأن يكون وسطاً مناسباً لحدوث التفاعلات الكيميائية التي تلزم لتصنيع المواد التي تحتاجها أجسام الكائنات الحية. فقد وجد العلماء أن الماء هو أفضل المذيبات على الإطلاق بسبب ارتفاع ثابت عزله الكهربائي وهذه الخاصية بالغة الأهمية للحياة حيث أن الكائنات الحية تحتاج لآلاف الأنواع من الجزيئات التي يجب أن تصنع في داخل هذا الماء وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت هذه الجزيئات قابلة للذوبان في الماء. ويستطيع الماء إذابة مختلف أنواع العناصر والمركبات العضوية وغير العضوية وسواء أكانت هذه المواد في حالتها الصلبة أو السائلة أو الغازية. أما الخاصية الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى فهي أن الماء له القدرة على تأيين أنواع مختلفة من الجزيئات الضرورية للحياة أيّ أن الجزيء يتفكك إلى أيونات موجبة وأخرى سالبة وهذا شرط ضروري لحدوث التفاعلات الكيميائية  بين المواد المختلفة. بل الأعجب من ذلك أن الماء له القدرة على تأيين بعض جزيئاته وهذه الظاهرة ضرورية لإتمام كثير من التفاعلات الكيميائية التي تجري في داخل الخلايا الحية. فجزيء الماء المتأين ينتج أيون الهيدروجين الموجب والمسؤول عن ظاهرة الحموضة وأيون الهيدروكسايد السالب المسؤول عن ظاهرة القاعدية. وقد وجد العلماء أن بعض الأنزيمات لا تعمل إلا عند درجات محددة من الحموضة أو القاعدية في الماء.

 أما الخاصية الثالثة فهي قدرة الماء العالية للالتصاق بالأشياء التي يلامسها وهذه الخاصية تساعد في انتشار الماء بكل سهولة في أجسام الكائنات الحية بحيث يمكنه الوصول لكل خلية من خلايا أجسامها التي لا يمكن لها أن تعيش بدونه. وبما أن الماء لا يقوم بدوره هذا إلا وهو في الحالة السائلة فهذا  يتطلب أن يكون الماء في هذه الحالة السائلة على مدى نطاق واسع من درجات الحرارة. وقد وجد العلماء أن الماء يتميز على جميع المركبات السائلة الأخرى في وجود فرق كبير بين درجة تجمده ودرجة غليانه فهو يتجمد عند درجة الصفر ويغلي عند درجة مائة درجة مئوية أيّ بفارق مائة درجة. وبهذه الخاصية فإن الماء يشذ شذوذا كبيرا عن بقية هيدرات العناصر الأخرى فدرجة تجمده كان يجب أن تكون مائة درجة تحت الصفر ودرجة غليانه كان يجب أن تكون ثمانين درجة تحت الصفر إذا ما قورن مع مركبات مشابهة له في التركيب. ومن عجائب التقدير في خلق الأرض أن التفاوت في درجة حرارة معظم مناطق سطحها يقع ضمن المدى الذي يكفل بقاء الماء في حالته السائلة ولهذا نرى أن معظم الماء الموجود على سطح الأرض هو في الحالة السائلة. ومن العجيب أن الكائنات الحية التي تعيش في مناطق تهبط فيها درجات الحرارة إلى ما دون درجة تجمد الماء قد تم تزويدها بآليات تمنع الماء الموجود في أجسامها من التجمد على الرغم من أن الماء يشكل ما يزيد عن ثمانين بالمائة من أجسامها.

أما الخاصية الرابعة للماء فهي خاصية عجيبة لا يمكن أن توجد فيه إلا إذا كان الذي صنع هذا الماء من عناصره يعلم علم اليقين أن هذا الماء سيلعب دورا بالغ الأهمية في ظهور الحياة على الأرض. وتتلخص هذا الخاصية في أن أكبر كثافة للماء تحدث عندما تكون درجة حرارته أربع درجات مئوية أيّ أن الماء في حالته الصلبة أخف منه في حالته السائلة وهذا على عكس جميع السوائل الأخرى التي تزيد كثافتها كلما قلت درجة حرارتها. وهذه الخاصية ضرورية جدا لبقاء معظم الماء على سطح الأرض في حالته السائلة فلو كان حال الماء كحال بقية السوائل لتحولت جميع محيطات وبحار الأرض إلى جليد باستثناء طبقة رقيقة سائلة على سطوحها المعرضة للشمس. ولكن بسبب هذه الخاصية العجيبة فإن الماء عند سطح المحيطات إذا ما تعرض لدرجات حرارة منخفضة فإنه يهبط للأسفل إذا ما بلغت درجة حرارته أربع درجات مئوية ويتم استبداله بماء أسخن منه من أسفل المحيطات ممّا يحول دون تجمد السطح. وإذا ما بلغت درجة حرارة جميع ماء البحر أربع درجات مئوية فإن أول ما يبدأ بالتجمد ماء السطح ممّا يشكل طبقة عازلة تحول دون تجمد بقية ماء البحر وبهذا وفرت هذه الآلية العجيبة حياة آمنة لجميع الكائنات الحية البحرية  في مياه البحار والمحيطات وعند درجة حرارة لا تقل عن أربع درجات مئوية فسبحان القائل "وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا".

أما الخاصية الخامسة للماء التي لا تقل في الأهمية عن سابقاتها فهي ارتفاع حرارته النوعية حيث يمتلك أعلى حرارة نوعية من بين جميع العناصر والمركبات الموجودة على الأرض وقد تصل الحرارة النوعية للماء إلى مائة ضعف الحرارة النوعية لكثير من المعادن. والحرارة النوعية مقياس لكمية الطاقة التي تختزنها كمية محددة من المادة عندما ترتفع درجة حرارتها بمقدار درجة مئوية واحدة فعند يتم تسخين المواد فإن كمية الطاقة التي تختزنها تتناسب مع كتلتها ومقدار الزيادة في درجة حرارتها وكذلك حرارتها النوعية. وعندما تبرد هذه المواد فإنها تشع جميع الطاقة التي اختزنتها إلى الجو المحيط بها إذا ما هبطت درجة حرارتها إلى نفس الدرجة التي كانت عليها قبل تسخينها. إن الحرارة النوعية العالية للماء هي التي وفرت للكائنات الحية درجات الحرارة المناسبة لعيشها على سطح الأرض فلولا وجود الماء بهذه الكميات الكبيرة على سطح الأرض لهبطت درجة حرارة سطح الأرض إلى درجات متدنية جدا بسبب تدني الحرارة النوعية للمواد المكونة للقشرة الأرضية. ولكن مياه المحيطات التي تغطي سبعين بالمائة من مساحة سطح الأرض تقوم بامتصاص كميات كبيرة من الطاقة الشمسية خلال النهار ومن ثم تقوم أثناء الليل بإشعاع هذه الحرارة إلى جو الأرض لكي يحافظ على درجة حرارة سطح الأرض ضمن الحدود المسموح بها.                                     

وأما الخاصية السادسة للماء فهي شفافيته للضوء حيث أنه يسمح بمرور الضوء المنبعث من الشمس من خلاله بأقل فقد ممكن وهذه خاصية بالغة الأهمية لدوام حياة الكائنات في بحار ومحيطات الأرض فحياة جميع الكائنات البحرية تقوم على ما تنتجه الطحالب من مواد عضوية. وهذه الطحالب تقوم بتصنيع المواد العضوية من العناصر والمركبات  الذائبة في الماء بوجود الطاقة الشمسية من خلال عملية التركيب الضوئي. ولو لم يكن الماء شفافا للضوء لما تمكنت أشعة الشمس من الوصول إلى الطحالب التي تعيش في الطبقات العليا من مياه المحيطات ولتوقفت عملية تصنيع المواد العضوية التي تتغذى عليها جميع الكائنات البحرية. وتساعد شفافية الماء الكائنات الحية البحرية على رؤية الأشياء من حولها من خلال نظام الإبصار التي زودها الله بها وتساعد كذلك الإنسان والحيوان على كشف وجود شوائب ضارة في الماء قبل أن تقوم بشربه. وأما الخاصية السابعة للماء فهي إمكانية تحوله إلى بخار الماء عند درجات حرارة  أقل بكثير من درجة الغليان وبكميات كبيرة من خلال عملية التبخر المعروفة. وهذه الخاصية تقوم عليها حياة جميع الكائنات الحية التي تعيش على بر الأرض فبخار الماء المتكون على سطوح المحيطات تحمله تيارات الحمل إلى طبقات الجو الباردة فتحوله إلى غيوم تسوقها الرياح إلى اليابسة فتسقط أمطارا توفر الماء الذي يلزم لحياة الكائنات الحية البرية.

 

"وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون"  الشكل فوق يبين كيفية سوق الماء إلى الصحارى (الأرض الميتة كما وصفها القرآن).

وأما الخاصية الثامنة فهي أن درجة تجمده تقل عن الصفر المئوي في حالة وجود مواد ذائبة فيه وهذه خاصية بالغة الأهمية لحياة الكائنات الحية حيث أنها تتعرض في المناطق الباردة إلى درجات حرارة تقل عن الصفر في كثير من الأحيان. ولكن الماء في أجسام هذه الكائنات لا يتجمد بسبب المواد الذائبة فيه ولو كان الحال غير ذلك لماتت الكائنات الحية بمجرد تعرضها لدرجات حرارة تقل عن الصفر لفترة قصيرة من الزمن. وأما الخاصية التاسعة فهي الخاصية الشعرية والناتجة عن التوتر السطحي العالي للماء وتساعد هذه الخاصية الماء على الارتفاع في الأنابيب الشعرية بدون الحاجة لقوة تضخه إلى أعلى رغم وجود الجاذبية الأرضية وبهذه الخاصية يصل الماء من جذور الأشجار إلى معظم أجزاءها رغم ارتفاعها الكبير عن سطح الأرض. بل إن هذه الخاصية هي التي تعمل على حفظ الماء في خلايا جميع الكائنات الحية بنفس النسبة رغم تفاوت ارتفاع مواقعها في جسم الكائن ولولا هذه الخاصية لتجمع الماء في الأجزاء السفلى من جسم الكائن بسبب فعل الجاذبية الأرضية. وأما الخاصية العاشرة فهو أن الماء لا طعم له ولا رائحة ولو كان الحال غير هذا لطغى طعمه ورائحته على طعم ورائحة جميع المواد التي يدخل في تركيبها وخاصة تلك الموجودة في أجسام الكائنات الحية كثمار وأزهار النباتات ولحوم وألبان الحيوانات.

ولا يقتصر دور الماء في ظاهرة الحياة على كونه السائل الوحيد الذي يسهل التفاعلات الكيميائية بين جزيئات المواد التي تلزم لبناء أجسام الكائنات الحية بل إنه يدخل في تركيب المواد العضوية التي تنتجها الخلايا الحية. فالمواد العضوية تتكون بشكل رئيسي من أربعة عناصر وهي الكربون والهيدروجين والأوكسجين والنيتروجين وكميات قليلة من بقية العناصر الأرضية كالكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم والحديد والفوسفور واليود. إن المصدر الرئيسي للكربون والأوكسجين هو ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء أو المذاب في الماء وأما مصدر الهيدروجين فهو الماء وأما مصدر النيتروجين فهو الهواء الذي تقوم الكائنات الحية الدقيقة بتثبيته في تراب الأرض ومياهها. إن عملية تصنيع المواد العضوية من مكوناتها الأساسية أو موادها الخام تبدأ أولا بتصنيع سكر الجلوكوز في خلايا النباتات والطحالب ومن ثم يستخدم هذا السكر لاحقا لتصنيع مختلف أنواع المواد العضوية. ويتم تصنيع سكر الجلوكوز من ثاني أكسيد الكربون والماء في داخل البلاستيدات الخضراء الموجودة في خلايا النباتات والطحالب بوجود الطاقة الشمسية من خلال عملية التركيب الضوئي. وفي هذه العملية تتحد ستة جزيئات من ثاني أكسيد الكربون وستة جزيئات من الماء لتنتج جزيئاواحدامن سكر الجلوكوز وستة جزيئات من الأوكسجين. إن عملية إنتاج سكر الجلوكوز من الماء وثاني أكسيد الكربون من التعقيد بحيث أن علماء هذا العصر لا زالوا يقفون عاجزين عن تقليد هذه العملية رغم توفر التكنولوجيا المتقدمة في مختبراتهم ومصانعهم. ويقدّر العلماء كمية الماء الذي تمتصه النباتات من الأرض والطحالب من البحر بأربعمائة وعشرة بلايين طن وكمية ثاني أكسيد الكربون التي تأخذه النباتات من الهواء  والطحالب من  البحر بخمسمائة  بليون طن وكمية الطاقة التي تستمدها من ضوء الشمس  بجزء من ألفي جزء من مجموع الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض وذلك في السنة الواحدة. وفي المقابل تنتج البلاستيدات الموجودة في النباتات والطحالب ثلاثمائة وواحد وأربعين بليون طن من سكر الجلوكوز ومائتين وخمسة بلايين طن من الماء  وثلاثمائة وأربعة وستون بليون طن من الأوكسجين. ومن عجائب التقدير أن سكر الجلوكوز عند تحلله بعد الاستفادة من الطاقة المخزنة فيه يعيد هذه الكميات الضخمة من الماء وثاني أكسيد الكربون إلى الطبيعة ليعاد استخدامها من جديدولولا هذا التقدير لنفدت جميع الكميات الموجودة على الأرض من الماء وثاني أكسيد الكربون منذ زمن بعيد. ويشكل الماء نسبه عالية من وزن أجسام الكائنات الحية حيث تتراوح هذه النسبة بين خمس وستين بالمائة وتسعين بالمائة وتذكرنا هذه النسبة بنسبة مساحة سطح المحيطات إلى مساحة سطح الأرض الكلية والتي تبلغ ما يقرب من سبعين بالمائة.وقد ذكرنا سابقا أن هذه النسبة كانت ضرورية لحفظ درجات حرارة سطح الأرض ضمن حدود تناسب الكائنات وذلك بسبب الحرارة النوعية العالية للماء. وهذا أيضا ما ينطبق على أجسام الكائنات الحية فإن كمية الماء العالية في أجسامها تساعد نظام حفظ الحرارة على حفظ حرارة أجسامها عند درجات حرارة محددة وذلك لأن درجة حرارة الماء لا تستجيب بسرعة للتغيرات في درجة حرارة الجو المحيط به بسبب ارتفاع حرارته النوعية.

 

"ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءًَ فسلكه ينابيع في الأرض "

 ونظرًا للدور البالغ الأهمية الذي يلعبه الماء في ظاهرة الحياة على سطح هذه الأرض فقد أكثر القرآن الكريم من ذكره فتحدث عن أهميته وطرق تكونه وتوزيعه على مناطق الأرض ووسائل تخزينه في الأرض ودوره في خلق الحياة الأرض ودوره في حياة الكائنات الحية. فقد أكد القرآن الكريم أنه لا يمكن للحياة أن تظهر بدون الماء مصداقاﹰ لقوله تعالى "أولم ير الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ أفلا يؤمنون" الأنبياء 30. وأكد على أن جميع الكائنات الحية قد خلقت من هذا الماء مصداقاﹰ قوله تعالى "والله خلق كلّ دآبّة من مآء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير" النور 45وقوله تعالى "ألم تر أنّ الله أنزل من السماء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها" فاطر 27. وبين كذلك طرق  توزيع الماء على جميع أرجاء الأرض كما في قوله تعالى "أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون" السجدة 27. وأشار كذلك إلى طرق تخزينه في بحيرات على ظاهرها  وأحواض في باطنها ومن ثم إخراجه على شكل أنهار وينابيع كما في قوله سبحانه "ألم تر أنّ الله أنزل من السماء مآء فسلكه ينابيع في الأرض ثمّ يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثمّ يهيج فتراه مصفرا ثمّ يجعله حطاما إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب" الزمر 21. ونبه القرآن البشر إلى أنه من السهل أن يغور الماء الذي ينزل على الأرض في أعماق القشرة الأرضية لولا أن الله قد صمم الطبقات العليا لقشرة الأرض بشكل بارع لكي تحتفظ بالمياه وعلى مسافات قريبة من سطح الأرض لقوله تعالى "وأنزلنا من السماء مآء بقدر فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون" المؤمنون 18وقوله تعالى "قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين" الملك 30. وأكد القرآن كذلك على أن الماء على اليابسة قد تم توزيعه على جميع أرجائها بحيث يضمن الحياة لكل كائن حي على ظهرها مصداقاﹰ لقوله تعالى "وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء مآء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه ممّا خلقنا أنعاما وأناسيّ كثيرا ولقد صرّفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا" الفرقان 48- 50. وأكد القرآن الكريم على أن كمية الماء التي تسقط على اليابسة قد تم تقديرها بشكل بالغ حيث أن الزيادة في كمية الأمطار الساقطة على الأرض قد تؤدي لتدمير الحياة عليها وذلك مصداقاﹰ لقوله تعالى "والذي نزّل من السماء مآء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون" الزخرف 11وقوله تعالى "أنزل من السماء مآء فسالت أودية بقدرها" الرعد 17. وأكد على الدور المهم الذي تلعبه الرياح في نقل السحاب المحمل بالماء ومن ثم توزيعه على جميع مناطق  اليابسة  كما في قوله تعالى "وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون" الأعراف 57 وقوله سبحانه "وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء مآء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين" الحجر 22. وأشار القرآن الكريم كذلك إلى أن حصول خطأ بسيط في مكونات جو الأرض أو تراب الأرض قد يحول الماء العذب إلى ماء حامض أو مالح فقال عز من قائل "أفرءيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون" الواقعة 68-70

ولقد أكد القرآن الكريم على أن الحياة منذ نشأتها الأولى احتاجت إلى الماء كعامل أساسي لظهورها حيث ذكر أن الطين كان أول مراحل خلق الكائنات الحية والطين هو التراب المعجون بالماء فقال عز من قائل "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين" السجدة 7.

إن الدور المهم الذي يلعبه الماء في حياة الكائنات الحية يمكن أن ندركه عندما نقارن حال الأرض قبل وبعد نزول الماء عليها فهي جرداء قاحلة في غياب الماء وخضراء يانعة بعد نزوله عليها وصدق الله العظيم القائل "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج" الحج 5 والقائل سبحانه "ألم تر أنّ الله أنزل من السماء مآء فتصبح الأرض مخضرّة إنّ الله لطيف خبير" الحج 63 والقائل سبحانه "هو الذي أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كلّ الثمرات إنّ في ذلك لآية لقوم يتفكّرون" النحل 10-11.

الكاتب: الأستاذ الدكتور منصور ابراهيم  أبوشريعة العبادي

قسم الهندسة الكهربائية-جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، اربد – الأردن

تلفون ثابت: عمان 5412220 -6-962  خلوي: عمان 0795574238

mabbadi@just.edu.jo 

سيرة المؤلف في سطور

مواضيع ذات صلة :

المراجع


1-   بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 200م.

2-    الماء: تلك المادة العجيبة، تأليف إيغور بتريانوف، ترجمة عيسى مسوح،  دار "مير" للطباعة والنشر، موسكو.

3-   الماء والحياة، الأستاذ  فراس نور الحق، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

    4-   طبيعة الحياة،  تأليف فرانسيس كريك، ترجمة أحمد مستجير، عالم المعرفة، أيار 1988م، الكويت.

5 - مصدر بعض الصور الموسوعة الحرة .

 

 

التحديد القـرآني لـدور الميـاه فـي الحيـاة
 

 

يقول الله تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي

 

د. إسلام محمد الشبراوي (رحمـه الله تعالى)

يناقش هذا البحث التحديد القرآني لدور الماء في عالم الأحياء ما بين الخلق والجَعل, على ضوء المكتشفات العلمية الحديثة, مثل اكتشاف أنواع من البكتيريا لا يدخل الماء في تفاعلاتها مثل (بكتيريا الكبريت القرمزية), ويناقش كذلك الجزيئات الحديثة التي عليها شواهد من نظريات تكون الحياة على الأرض مثل بدء الحياة كلها_ باستثناء الإنسان _ في الماء مبدئياً, وتكوّن أوكسجين الغلاف الجوي من مادة الماء ذاتها, ويثبت البحث مدى دقة اللفظ القرآني الذي سبق هذه النظريات الحديثة بأربعة عشر قرناً كاملة, مما يدعو إلى إعادة تناول اللفظ القرآني بدقة تلتزم ثوابت اللغة العربية والأسلوب القرآني المتفرد وصولاً إلى فهم أصح لما يحتويه القرآن الحكيم من إعجاز علمي مذهل.

قال الله سبحانه وتعالى:﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كفروا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حي أَفَلا يُؤْمِنُونَ {30} [الأنبياء]. 

وقال الله سبحانه: ﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا {54}[الفرقان].

نصَّ القرآن الكريم على أن الماء هو أهم مكونات الخلق, ولا يخفى على العلماء الدور الذي يلعبه الماء في الخلق والحياة, والمقصود من تكرار الحقائق القرآنية هو إظهار الدقة الشديدة للفظ القرآني عند التناول العلمي للقضايا المختلفة, وكيف أن الخلط أحياناً في تأويل اللفظ القرآني قد يَجُرُّ لمشكلات تنبع من محاولة التفسير الخاطئ المتسرع الذي يدقق بحرص متناه في اللفظ القرآني ذاته.

الماء هذا السائل الذي يُكَوِّن من 70 – 90%  من أوزان معظم أنماط الحياة, وهو سائل شديد التفاعلية وله خواص كيميائية تختلف عن كل السوائل الأخرى, إن للماء وجزيئاته (H2O), أو لمركباته الكهربية المتأينة مثل الهيدرنيوم (H3O+), أو للهيدروكسيد (OH-), أهمية ضخمة في كل التفاعلات الحيوية التي تحدث داخل الخلية, وهذه الميزات هي التي تحدد كل الخواص البيولوجية للمواد العضوية الكيماوية الأخرى مثل البروتينات والأحماض النووية وأغشية الخلايا والريبوسومات وغيرها من التراكيب, ومنه فتغير نسب الماء قد يدمر كل التفاعلات الكيميائية, وبالتالي الوظائف الحيوية للخلية.

وينتج الماء من تفاعل الهيدرنيوم مع الهيدروكسيد وفق المعادلة العكوسة التالية:

 

ولكن بالرغم من دور الماء الهام في التفاعلات الحيوية للكائنات ظهر استثناء في عالم النبات, لا يحتاج لاستعمال الماء في عملياته الحيوية هي (بكتيريا الكبريت القرمزية)Purple Sulphur Bacteria , وهذا النوع من البكتيريا (بكتيريا خلايا نباتية بدائية) اكتشفت قرب الحمم البركانية على البر وفي أعماق المحيط, وهي لا تستعمل الماء مثل كل الكائنات الأخرى لإنتاج موادها العضوية التي تتغذى عليها، بل إنها تستعمل (كبريتيد الهيدروجين) مع ثاني أكسيد الكربون ولا يدخل الماء في التفاعل الكيميائي مطلقًا.

مما جعل أعداء الإسلام يضعون الشبهات حول آيات القرآن الكريم وخصوصاً في قول الله سبحانه وتعالى:

 ﴿ أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كفروا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حي أَفَلا يُؤْمِنُونَ {30} [الأنبياء].

وسأل المعارضون: كيف جعل الله سبحانه من الماء كلَّ شيء حيّ, وهذه البكتيريا لا تحتاج للماء في حياتها؟

مع العلم أنهم درسوا النظرية العلمية لنشوء الحياة.

وحسب هذه النظرية تعتمد الكائنات وبالذات الحيوانية والنباتية والبشرية على عاملين هما:

الماء والأوكسجين, وتنص على التالي:

أ ـ إن كل أنماط الحياة بدءًا بالنباتية ثم تلتها الحيوانية نشأت من الماء وفي الماء أولاً ثم خرجت لاحقًا لليابسة.

ب ـ إن جو الأرض أولاً لم يكن به أوكسجين على الإطلاق، ونشأ هذا الأوكسجين وتراكم تدريجيٌّا في الغلاف الجوي للأرض بعد نشوء الحياة نتيجة لعملية (التمثيل الضوئي) للنباتات البدائية الموجودة في مياه المحيطات التي كانت تغمر الأرض حينذاك، أي أن غاز الأوكسجين الهام جدٌّا في (كل شيء حي) هو نتائج لعمليات بيولوجية تمت في الماء وبواسطة الكائنات المائية البدائية. (وجود الأوكسجين أو قريبه الكيميائي الأوزون (O3) في أي منطقة كونية يثبت فورًا وقطعيٌّا ـ حسب النظريات العلمية ـوجود الحياة، أما وجود الماء فهو قرينة على إمكانية نشوء حياة وليست دليلاً قاطعًا على وجودها بالفعل).

للرد على المشككين في صحة آيات الذكر الحكيم نبين مواطن الإعجاز في الآية الكريمة:

1 – الإعجــاز البيــانـي

أ- الفرق بين فعل (خلـق) وفعل ( جعـل).

ليس هناك تعارض مطلقًا بين النص القرآني، والمكتشفات العلمية، إنما التشوّش نشأ عن الخلط والتسرع في تفسير النص القرآني دون مراقبة اللفظ القرآني بدقة، ودون اللجوء للقرآن ذاته كمفسر لذاته.

وبمراجعة الآيات الكريمة السابقة نجد أن الله سبحانه وتعالى عبّر عن دور الماء في (كل شيء حي) بصورة عامة بالفعل( جَعَلْنَا ), بينما عبّر عن الأنماط الحيّة القادرة على الحركة بأنماطها المختلفة (الدواب) بفعل(خلق).

واختلاط الأمور نشأ أولاً من الخلط بين معنى الفعلين (جعل) و(خلق). 

ولتبين الحقيقة نقول:

 إنالخلق هو الإيجاد المبدئي من العدم، وهو فعل يدل على خاصية إلهية لا يجوز أن تنسب لبشر.

 أما(جَعَلَ) فهو فعل يعني تقدير أو إنتاج أو إضفاء هيئة معينة وحال معين على شيء تم خلقه فعلاً قبلاً.

 ودعنا نلاحظ النصوص القرآنية العديدة التي جمعت الفعلين معا لندرك الفرق بينهما.

قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَلَكُم مِّمَّا خَلَقَظِلالاً {81} [النحل].

 ويقول تعالى: ﴿ اللَّهُ الذي خَلَقَكُممِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَمِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَمِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُمَا يشاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ {54} [الروم].

ويقول سبحانه:﴿وَهُوَ الذي خَلَقَمِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُنَسَبًا وَصِهْرًا {54}[الفرقان].

ويقول الله(عزَّ وجلّ):﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُوَحِيدًا {11}وَجَعَلْتُلَهُ مَالاً مَّمْدُودًا {21}[المدثر].

ويقول الله العلي القدير:﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّاخَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْشُعُوبًا وقبائل لتعارفوا {13} [الحجرات].

ويقول الله (جلّ في علاه): ﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى {38} فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى{39}[القيامة].

ومن هذه الآيات الكريمات كلها نستطيع أن نلحظ أن معنى الفعل (خلق) يختلف لغويٌّا تمامًا عن الفعل (جعل)، وبالذات في نطاق الخلق والتقدير الإلهي للكائنات الحية.

ولكن هناك موضع واحد في قصة الخلق كلها يتم فيه التعبير بصورة متساوية بفعلي (خلق) و(جعل) عن قضية واحدة وبنفس المعنى، هذا الموضع هو المتعلق بخلق الزوج (الأنثى), بداية من الزوج الأول حواء عليها السلام حيث أن إيجاد حواء من جسد آدم عليهما السلام (أي خلق الخلية الأنثوية من الخلية الذكرية)، هو واقعة بيولوجية غير متكررة، ولن تحدث مرة ثانية على الأرض، فتلك الواقعة إذَن يمكن التعبير عنها تمامًا بفعل (خلق),

ولكن لأنها واقعة غير مسبوقة ولا متكررة وهي حادثة فريدة في التكاثر البشري ولا يمكن أن تحدث على الأرض حسب النواميس الإلهية، فهي إذَن أيضًا يمكن التعبير عنها بـ (خلق).

يقول تعالى:﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُممِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَمِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا ونساء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الذي تساءلون بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{1} [النساء].

وعلى هذا فالخلاصة، أن فعل (خلق) المعروف يختلف عن فعل (جعل) قرآنيٌّا، وإن كان ذلك لا يمنع اقتراب المعنى في بعض المواقف المحددة فقط، مثل الموقف المعبر عن خلق الزوج (حواء عليها السلام).

وهذا يعني:

_ إضفاء حالة وهيئة وتقدير وصيرورة معينة على الخلق.

_ تحويل المخلوق من هيئة لأخرى.

صورة لبكتيريا الكبريت القرمزية

_ جعل فيه: تعني وضع أو ألقى فيه أو بداخله.

وبالعودة إلى الآية الكريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي).

نجد أن التعبير (جعلنا) يخالف التعبير(خلقنا) هنا ولا يتطابق معه، فلو قال الله تعالى: (وخلقنا من الماء كل شيء حي) مثلاً، لعنى ذلك أن الماء لابد وأن يكون جزءًا رئيسًا وحيويٌّا في تراكيب ووظائف كل الخلق الحي، ولابد أن يعتمد عليه كل الأحياء، بلا استثناء في حياتهم,

 أما التعبير بـ(جعلنا) فيعني أن (الماء) له علاقة شديدة بكل أنماط الحياة، لكنه لا يعني بالضرورة وجودها في تركيب الخلق ذاته بكل أنماطه.

ب- معنى حرف (مـن) في الآية الكريمة:

من أسرار اللغة العربية تعدد معنى الحرف الواحد فمثلاً:

حرف الجر (مِن) قد يستعمل لغويٌّا لثلاثة أغراض رئيسة: حيث إن (مِن) بالكسر هو حرف خافض وهو أولاً يستعمل لابتداء الغاية، كقولك: خرجت مِن بغداد للكوفة، حيث إن بغداد هنا هي بداية الرحلة.

وثانيًا: قد يكون للتبعيض(بعض الشيء) كقولك: (هذا الدرهم مِن الدرهم).

 وثالثًا: قد يكون للبيان والتفسير كقولك: (لله دره من رجل)، وقد ساق الإمام الرازي في مختار الصحاح مثلاً قرآنيٌّا رائعًا تظهر فيه الثلاثة مواضع السابقة في قوله تعالى: ﴿ وَيُنَزِلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾[النور: 43]. حيث إن (مِن) الأولى لابتداء الغاية، و(مِن) الثانية للتبعيض، و(مِن) الثالثة للتفسير والبيان.

ومن مناقشة الفرضية القوية لنشوء الكائنات كلها(عدا الإنسان) من أصول مائية، أي أن الحياة نشأت أولاً (في الماء ومن الماء)، فنقول هنا: إنه يجب أن نلاحظ في آيتنا الكريمة: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حي﴾، أن المفسرين تبنّوا تفسير حرف الجر(مِنَ) بأنه للتبعيض، أي أن الماء هو ولابد أن يكون من مكونات كل الحياة والأحياء بلا استثناء (كل شيء حي).

ونقول: إن حرف الجر (من) يستعمل أيضًا لابتداء الغاية. أي أن (كل شيء حي) أتى (من) (الماء) أولاً ثم خرج لليابسة بعد ذلك.

الإعجـاز العلمـي في الآيـة الكريمـة:

أولاً: (المـاء): العامل الأول الهام في إيجاد الحياة.

إن الإعجاز البلاغي القرآني هو أحد المفاتيح الذي يعبر عن الحقائق العلمية بدقة متناهية، ففي المثال الذي ضربناه عن (بكتيريا الكبريت القرمزية) والقليل من الكائنات الشبيهة بها، نرى أن تلك البكتيريا لا تعتمد على الماء (H2O) للحصول على ذرات الهيدروجين اللازمة لإنتاج الكربوهيدرات التي تتغذى عليها ـ مثلما يحدث في كل الأحياء الأخرى ـ بل هي تعتمد على مركب آخر هو كبريتيد الهيدروجين (H2S)، ونلاحظ أن هذا هو النمط الحي الوحيد الذي تم اكتشافه ولا يعتمد على الماء، وحتى هنا لا يقع أي تصادم أو تعارض مع الآية القرآنية التي عبّرت عن إيجاد الأحياء (كل شيء حي) بفعل (جعل) وليس (خلق)، هذا لأنهم اكتشفوا أنه في تلك البكتيريا يحدث التفاعل التالي:

أ ـ معادلة التمثيل الضوئي في هذه البكتيريا (لا عكوسة)  هي:

 

وهنا نرى على الرغم من أن الماء لا يدخل في التفاعل، إلا أنه ينتج عنه، كمنتج أساسي لا غنى عنه لإتمام العملية الحيوية، وهكذا فالماء لا يزال هنا له علاقة شديدة بخاصية الحياة لدى تلك البكتيريا الحية، ورغم أنها لا تستهلكه إلا أنها لو توقفت عن إنتاجه لفسدت العملية كلها وانتهت حياة هذا المخلوق.

الكثير جدٌّا من تلك البكتيريا والأنماط المشابهة لها، تعيش في أعماق المحيط بجوار فوهات البراكين الموجودة فيها، وتلك البكتيريا الموجودة في الأعماق لا تعتمد على الضوء لإنتاج الغذاء واستمرار الحياة، حيث إن تلك البكتيريا تقوم بالتمثيل الكيمائي synthesis ` Chemo بدلاً من التمثيل الضوئي synthesis ` Photo(لعدم وجود الضوء في الأعماق)، وتعتمد على شيء واحد هام لاستمرار تلك التفاعلات الجوهرية لحياتها والتي لا يدخل فيها الماء أحيانًا، وهذا الشيء الواحد هو الماء أيضًا، وتفسير ذلك اكتشاف البحوث العلمية أن مياه المحيط تندفع في الشقوق الموجودة في الصخور البركانية بين صفائح القشرة الأرضية (التكتونية) الحارة جدٌّا، وعلى هذا فالماء المتواجد هناك حارٌّ جدٌّا، والأهم من ذلك أن هذا الماء الساخن يتفاعل كيميائيٌّا مع الصخور الموجودة تحت القشرة الأرضية في تلك الظروف من الضغط والحرارة المرتفعة جدٌّا (300 درجة للحرارة و280 كيلوجرام على كل سنتيمتر مربع للضغط)، وهنا تحدث تفاعلات كيميائية أهمها هو اختزال مادة الكبريتات (السلفات) Sulphates الموجودة في ماء البحر إلى كبريتيد الهيدروجين (الذي تعتمد عليه تلك البكتيريا كبديل للماء) وباستعمال الطاقة المستخلصة من الماء الحار بدلاً من الطاقة الضوئية.

وهنا تقوم تلك البكتيريا بأكسدة الكبريتيدات لتأخذ طاقة تمكنها من القيام بالغذاء.. إذَن فتلك الأنماط البكتيرية التي لا تستعمل الماء لا تزال:

تعيش في الماء وعلى أعماق كبيرة منه ويلعب الماء الدور الأساس والرئيس لاستمرار حياتها ـ رغم أنه لا يدخل في التفاعلات ـ وذلك عن طريق التجهيز الحراري والكيميائي اللازم للمواد المتفاعلة.

الماء إذاً منتج جانبي رئيسي لتلك العمليات الحيوية.

ثانياًً: (الأوكسـجين): العامل الثاني الهام في إيجاد الحياة.

حسب النظرية العلمية لنشوء الحياة نجد غاز الأوكسجين, الذي لولاه ما كانت الحياة(كل شيء حي) على الأرض، والذي تشير الأدلة العلمية أنه نشأ على الأرض نتيجة لعمليات بيولوجية (مثل التمثيل الضوئي) للكائنات المائية البدائية، وما كان موجود قبلاً في الغلاف الغازي لكوكب الأرض.

 وهنا نلاحظ:

أ-  أن العملية التي أدت لإنتاج هذا الأوكسجين تمت كلها في الماء وبواسطة الكائنات التي تعيش في الماء ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حي ﴾ ، وتلك نقطة قرآنية هامّة لها مصداقيتها العلمية نستطيع تبينها من الآية الكريمة.

ب ـ إن عملية إنتاج الأوكسجين كما تحددها النظريات العلمية الآن لم تتم فقط في الماء أو بواسطة الماء، بل إن غاز الأوكسجين المتواجد في الهواء (والذي هو أساس لحياتنا؛ نحن وكل الأنماط الحية المتحركة) ثبت أنه مستخلص من جزئي الماء (H2O) وليس ثاني أكسيد الكربون (CO2) كما كان معتقدًا حتى وقت قريب.

إذن فغاز الأوكسجين الذي يمثل الأساس للحياة، لم ينشأ فقط في الماء أو بواسطة الكائنات النباتية المائية، بل هو نفسه مستخلص من الماء وجزء منه.

وأخيرًا فإننا عندما نقول: إن التعبير الإلهي الوارد في القرآن المجيد بشأن الإيجاد بواسطة الماء بفعل (خلق) فإن هذا التعبير قد جاء في وصف (الدواب) و(البشر) في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن ماء ﴾[النور: 45]، وقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ﴾[الفرقان: 54]، فإن الحقيقة العلمية القاطعة تقول: إن كل الكائنات التي لها خاصية الحركة، والتي تتميز بها الأنماط الحية الأكثر رُقِيٌّا (تسمى قرآنيٌّا الدواب، والأسلوب البيولوجي لوحداتها الحركية مذكور في الآية نفسها من سورة النور) كلها مخلوقة من الماء الذي يدخل في كل تفاعلاتها الكيماوية الخلوية، ولذا لا تستغني عنه مطلقًا، وهذا ينطبق أيضًا على البشر، ولعله من الغريب هنا أن نقول: إن الأنماط البيولوجية التي ذكرناها قبل ولا تستهلك الماء كلها أنماط نباتية دنيا (المملكة الحيوانية تختلف عن المملكة النباتية بخواص أهمها خاصية القدرة على الحركة)، وأيضًا وكما أن البكتيريا عمومًا تنقسم إلى متحركة Motile عن طريق الأهداب وغيرها، وغير متحركة Immotile، فإن البكتيريا التي لا تستهلك الماء مثل بكتيريا الكبريت القرمزية تقع ضمن الطائفة (غير المتحركة) أي التي لا تدب, أي ببساطة أن الآيات القرآنية التي تحدثت عن دخول الماء كمكون أساس في أجساد المخلوقات الحية (بفعل خلق)، والتي خصصت الآيات القرآنية منها اثنتين بالتحديد هما, الدواب والبشر أي الكائنات القادرة على الحركة، لتثبيت قطعي أن القرآن الكريم هو وحي من عند الله، أما النقاش القرآني للكائنات الحية عمومًا ودور الماء فيها، فإنه لوجود بعض الاستثناءات الضئيلة التي اكتشفت حديثًا، فقد جاء التعبير القرآني فيها بفعل (جعل) وليس (خلق).. كلها حقائق قرآنية إعجازية يشيب لها الولدان وتقشعر لها الأبدان .. فسبحان الله العظيم.

شكر خاص للأخ الأستاذ حسن شهاب الدين الذي قام باختصار البحث وتهيئته للنشر.

المـراجع

1-    القرآن الكريم.

2-    المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، بحاشية المصحف الشريف، محمد فؤاد عبد الباقي، توزيع دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1407هـ، 1987م

3-    مختار الصحاح، الإمام الرازي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1979م.

4-    المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم، القاهرة.

5-    المعجم الطبي الموحد (مجلس وزراء الصحة العرب، اتحاد الأطباء العرب، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)، الطبعة الثالثة، 1983م، ميدليفنانت، سويسرا.

6-    الجديد في المنظور العلمي للقرآن المجيد، الجزء الأول، د. إسلام الشبراوي، دار الرسالة الجدي

.7- Biology, Helena Curtis, Fourth Edition, 1983, Worth Publishers Inc. U.S.A.

    8- Biochemistry, ALBERT L. Lehninger, Second Edition, 1975, Worth Publishers Inc.

9.               Textbook of Biochemistry with clinical correlations, Thomas M. Devlin, Editor, A Wiley Medical Publications. 1982.

 

 

المياه الجوفية Ground Water
 

إن للمياه دور فعال في جميع نواحي الحياة بل وبدونها لا تكون هناك حياة على الإطلاق لقوله تعالى "..... وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ  ...." الأنبياء30 فماذا عن طبيعة المياه وكيفية تكوينها وأماكن تواجدها وكيفية البحث عنها وأنواعها وغير ذلك من خصائصها.

دورة الماء في الطبيعة:

تبدأ الدورة من تبخير المياه  Evaporationلأسطح البحار والمحيطات بفعل أشعة الشمس ثم تكثفها Condensationعلى هيئة سحب ثم سقوطها على هيئة أمطار ولكن هناك عوامل أخرى تدخل في تكوين المياه أيضاً فمنها على سبيل المثال وليس الحصر مثل الجبال، فالجبال لها دور في تكوين المياه فقمم الجبال العاتية (الشامخات) تكون باردة  فعند اصطدام السحب بها تتكون الشلالات لقوله تعالى "وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا"المرسلات27.

 وأيضاً نجد للرياح دور فهي تعمل بمثابة لواقح للسحب فينتج عنها سقوط الأمطار لقوله تعالى "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ" الحجر22.

وأيضاً تتكون نسبة كبيرة من المياه تصل إلى 70% من خلال البراكين الصاعدة على ظهر الأرض أو تحت مياه البحار والمحيطات وصدق الله العظيم إذ يقول "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)". النازعات. 

وإنه بعد سقوط الأمطار يحدث أن تتشبع الصخور المسامية بالماء وبعد تخزنه داخل خزانات Aquifersوتعرضه لضغوط الطبقات التحت سطحية فإنه يمكن للماء أن يتسرب إلى سطح الأرض خلال الصدوع والفوالق على هيئة ينابيع وصدق الله العظيم إذ يقول "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ" الزمر21.

أو أن يخزن (يسكن) في الأرض على صور متعددة منها خزانات المياه الجوفية وفى هذا يقول الله تعالى " وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ"المؤمنون18.

الشكل التالي يبين دورة المياه في الطبيعة

 والعجب كل العجب أن نجد بعض آبار المياه الجوفية تكون على أعماق عميقة وهذا ينطبق مع قوله تعالى" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ" الملك30، فيجب علينا شكر الله تعالى وإلا تحول الماء العذب إلى ماء مالح لقوله تعالى"لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ" الواقعة70 .

طرق تكوين المياه في الطبيعة:

1- وهج الشمس (حرارة الشمس) :

إن أشعة الشمس الساقطة على أسطح البحار والمحيطات والبحيرات والأنهار تقوم بعملية تبخير المياه فيتصاعد إلى أعلى الغلاف الجوى فيتكسف على هيئة سحب وعندما يقابل منطقة باردة فتسقط الأمطار. يقول عز وجل: (وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً) (سورة النبأ)

2- الرياح:

وللرياح دور فعال في عملية تلقيح السحب حيث إنها تكون محملة بالغبار وذرات الملح الناعمة والتي تتكثف حولها قطرات الماء وبالتالي تتكون شحنات كهربية موجبة وأخرى سالبة مما ينتج عنه برق ورعد ثم سقوط أمطار. يقول عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)  الروم.

وتأمل معي المراحل التي حددتها الآية الكريمة:

ـ إرسالُ الرياح:لترفع ذرات الماء من البحار إلى الجوّ.

ـ إثارة السحاب:من خلال تلقيحه وتجميعه.

ـ بسطُ السحاب:من خلال الحقول الكهربائية.

- جعلُه كِسَفاً:أي قطعاً ضخمة وثقيلة.

- نزول الودْق:وهو المطر.

 3- الجبال: 

 عند اصطدام السحب بقمم الجبال الشاهقة الباردة تتولد السيول منهمرة إلى أسفل الجبال مكونة الأنهار ومنها ما يتخلل الصخور ذات نفاذية ومسامية مكونة المياه الجوفية. يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً) [المرسلات:

4- البراكين:

البراكين الصاعدة على ظهر الأرض أو تحت قيعان البحار والمحيطات فإنها تكون محملة بنسبة كبيرة تصل إلى حوالي 70% مياه والباقي عبارة عن مكونات صخرية. يقول الله تعالى:(أخرج منها ماءها ومرعاها) [النازعات: 31].

5- الينابيع Springs

إن المياه المتخللة داخل الطبقات التحت سطحية والمتكونة على هيئة خزانات جوفية تكون تحت ضغط تلك الطبقات من جميع الجهات، فعند حدوث فالق في تلك الطبقات فإنها تندفع إلى أعلى السطح مكونة فيما يعرف بالينابيع Springs.

 وصدق الله العظيم إذ يقول "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ" الزمر21

ويعبر عن المياه التي تسرى ذاتياً وباستمرار من الطبقات التحت سطحية إلى الطبقات السطحية بالينابيع أو العيون.

وتنقسم الينابيع إلى عدة أنواع أهمها :

أ- ينابيع الانخفاضات Depression Springs

وهذه تتكون عندما يتقاطع سطح الأرض في منخفض مع سطح الماء الأرضي Water Tableولذلك فتسمى أيضاً ينابيع مستوى الماء الأرضي وعادة ما يكون تصرف هذه الينابيع صغيرا ومحكوما بنفاذية التكوين الحامل للماء .

ب- ينابيع التلاقي Contact Springs 

     وهذه تتكون عندما تتقابل الطبقة غير المنفذة والحاملة لطبقة الماء الأرضي مع سطح الأرض. وتتكون هذه الينابيع عادة عند سفوح المرتفعات وهي قليلة التصرف محدودة السريان.

ج – الينابيع الارتوازية Artesian Springs 

     وتتكون عندما يجد الماء المحصور بين طبقتين غير منفذتين والواقع تحت ضغط ارتوازي منفذاً لهذا الضغط نتيجة لضعف في الطبقة غير المنفذة أو لوجود صدع فيها. وتكون سرعة السريان في هذه الينابيع ومعدلات التصرف كبيرة .

د- ينابع الشقوق Fractured Springs 

     وهذه نتيجة لصدع يمتد في القشرة الأرضية وتتميز بمياه معدنية بصورة واضحة.

ج – الينابيع الحارة Thermal Springs 

     وهذه تحدث نتيجة للغازات وللحرارة تحت سطح الأرض والتي يتولد عنها ضغوط كبيرة ومنها الينابيع الفوارة ( المراجل ) Geyserوالتي يتدفق منها الماء في صورة نافورة إلى سطح الأرض على فترات .

6- المياه الجوفية:

إن تصرف مياه الأمطار داخل الطبقات التحت السطحية تكون خزانات مياه جوفية وبالتنقيب عليها بواسطة عمليات الاستكشاف والحفر فإنه يمكن استخدامها لأغراض الشرب والري وغير ذلك من الاستخدامات حسب درجة العذوبة والملوحة.

 يقول الله تعالى " وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ"المؤمنون18.

أنواع خزانات المياه الجوفية

 (1)  الخزان الجوفي الحر Unconfined Aquifer 

ويحد هذا الخزان طبقة صماء من أسفله أما أعلاه متصلاً اتصالاً مباشراً بالضغط الجوى ويحده المستوى المائي الأرضي من أعلاه وتتصل هذه الطبقة اتصالا وثيقا بسطح الأرض حيث تتأثر بمياه الري والأمطار.

 (2) الخزان الجوفي المحصور Confined Aquifer

الشكل التالي يبين بعض الخزانات الجوفية

     ويحد الطبقات الحاملة للمياه من أسفل ومن أعلى طبقات صماء غير منفذة للمياه وبهذا تكون المياه داخل الخزان تحت ضغط كبير وتكون بهذا معزولة عن المياه السطحية ومصدر هذه المياه عادة يكون بعيداً جداً. وإذا كان الضغط البيزومترى لهذه الطبقات أعلا من سطح الأرض قيل عن الخزان بأنه خزان ارتوازي Artesian Aquiferوالآبار الارتوازية تندفع منها المياه دون الحاجة لاستخدام مضخات ويوجد مثل هذه الخزانات بالصحارى المصرية مثل الوادي الجديد.

(3) الخزان شبه المحصور Semi Confined Aquifer

وفيه إحدى الطبقات التي تحده من أعلى أو من أسفل ذات نفاذية ضئيلة ومنه تتسرب المياه إلى الطبقات الخارجية أو اليها.

(4)  الخزان الجوفي المعزول Perched Water 

الخزان الجوفي المعزول

وهو نتيجة للتراكيب الجيولوجية وتوجد ارتفاعات وانخفاضات في الطبقات غير المنفذة فعند الانخفاضات تحتجز المياه الجوفية وفى هذه الحالة يكون الخزان الجوفي محدود وغير متصل بأي خزانات أخرى ومصدرها عادة أما سطحي أو نتيجة للتسرب البطئ من خزانات أخرى تحته.

(5)  الخزان الأثري Connate Water

وهذه المياه الجوفية عادة تكون محتجزة لحظة تكوين الصخور أو منذ إنشائها وهذه المياه عادة ليس لها أي اتصال أو مصادر خارجية.

(2) استكشاف المياه الجوفية

        إن لمسامية ونفاذية صخور القشرة الأرضية دور فعال في تكوين المياه الجوفية فمن خلال تلك الخاصتين تجد المياه السطحية (مثل مياه الأمطار) مسلك لتكوين خزانات مياه بداخل هذه الصخور ويمكن لهذه المياه الجوفية مرة أخرى تجد مسلكاً آخر إلى السطح عبر الينابيع أو أن تشقق الأرض عنها عن طريق عمليتي البحث والتنقيب  ويقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي(..‏ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار‏,‏ وإ ن منها لما يشقق فيخرج منه الماء‏..)البقرة‏:74)‏

يتم استكشاف المياه الجوفية بعدة طرق جيوفيزيقية ومن أهمها الطرق الكهربية Electric Methods 

بقلم د./إبراهيم طرابية

 دكتوراه في الجيوفيزياء

 ibrtarb@hotmail.com

المصادر:القرآن الكريم       - مواقع علمية على شبكة الإنترنيت

 

 

المكون البيئي المعجز والأهم
 

بقلم الدكتور نظمي خليل أبو العطا*

       حديثنا اليوم عن السهل الممتنع، ذلك المكون البيئي المهم والرئيس والمعجز، احتار العلماء في تعريفه وتفسيره قديماً: وفُسر قديماً، فقالوا: وفُسر الماءُ بعد الجهد بالماء، وذلك لانتشاره وملازمته للحياة ملازمة جعلت الإنسان يحتار في ماهيته وتعرفه لقرون طويلة، وكما أجهد الماءُ العلماءَ في الماضي فقد أجهدهم البحث عنه في الكواكب السيارة في الفضاء، وكلما انفتح أمامهم باب الأمل في العثور عليه بعدت الشقة بينهم وبينه، فهو دليل الحياة ومؤشرها الحقيقي، ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى بين الماء والحياة برباط إلهي وثيق تعجز البشرية عن الإنفكاك منه قال تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي) (الأنبياء: 30 ) فالماء صنو الحياة، ولا حياة بدون ماء، ويندر أن تغيب الحياة عن الماء على سطح الأرض وباطنها، فحول الينابيع الحارة التي تبلغ حرارتها 95 درجة سيليزية، وفي الماء المغلي عند فوهات هذه الينابيع تعيش الطحالب الخضراء المزرقة وبعض الطحالب الخضراء وتنمو وتتغذى وتتكاثر وتكون فلوراً خاصة حول هذه الينابيع الحارة.

صورة مجهرية لطحلب(Cyanidium caldarium) الذي يعيش في مياه الينابيع الحامضية الحارة

 وعلى الثلوج الباردة في سيبريا وفي داخلها تعيش بعض الأنواع من الطحالب التي تضفي ألوانها على تلك الثلوج، وما بين الينابيع الحارة وخط الاستواء والقطب الشمالي ترتبط الحياة النباتية والحيوانات وحياة الكائنات الحية الدقيقة ارتباط وثيقاً بالماء، حتى في الصحراء القاحلة وعلى الصخور الصّلدة  الجافة الحارة تعيش تكيّسات بعض الأُشنات وبعض الحيوانات وبيضاتها، وبذور وحبوب وجراثيم بعض النباتات والكائنات الحية الدقيقة والتي تحوي قدراً من الماء يصعب على عوامل الجفاف والحرارة العالية استخلاصها من تلك العُصبّات المكيِّسة والمعجزة، حتى إذا نزل المطر ازدهرت الحياة في تلك البيئة القاحلة، وملأت الأزهارُ الصحراء، وتحركت البرك المائية وعجت بالحياة، ولذلك حير الماء العلماء كما حير الشعراء والأدباء قديماً.

                                        

 صورة لطحالب الثلج الذي يلون الثلج باللون الأحمر وهو موجدة في أمريكا الشمالية والقطب الشمالي واليابان حيث يفضل أن يبقى على سطح الثلج بداً من التجمد في الجليد

صورة مجهرية لبكتريا (Boulder Spring bacteria)  والذي يعيش في مياه الينابيع الحامضية الحارة

الخصائص المميزة والمعجزة للماء:

عند دراسة الخصائص الكيميائية والفيزيائية والأحيائية للماء احتار العلماء أيضاً في خصائصه فقالوا: الخصائص الشاذة للماء، وقد أخطأ العلماء في هذا أيضاً فالشذوذ بُعدٌ عن الفطرة وعن المرغوب، ولكن الخصائص الفريدة للماء بين سوائل الحياة جعلتهم يظنون أيضاً أنها خصائص شاذة ولكنها في الحقيقة خصائص فريدة ومعجزة وبدونها تغيب الكفاءة التي ربطت الماء بالحياة.

فللماء حرارة نوعية عالية عن كثير من السوائل، وله حرارة تبخر وحرارة كامنة عاليتان بصورة فريدة، وتساعد هاتان الخاصيتان على بقاء الماء بصورته السائلة في درجات حرارة مختلفة، تجعله صالحاً لحياة الكائنات الحيّة في درجات الحرارة العالية أو المنخفضة .

      بدون تكون المواد أعلى كثافة في درجة التجمد، ولكن يتفرد الماء عن ذلك حيث تكون أعلى كثافة له عند درجة حرارة أربعة درجة سيليزية، وبذلك يطفو الجليد على سطح الماء في البحار والمحيطات والأنهار المتجمدة، فيصبح عازلاً مانعاً للماء السفلي من التجمد، وهذا يحمي الكائنات البحرية من الهلاك والانقراض.

     ويتضمن الماء بصفات هامة جداً للنظام الحيوي منها : خاصية التّماسك بين جزيئاته، والتلاصُق بين جزيئاته والمواد الأخرى خاصة السليلوز المكون النباتي الأكثر شيوعاً في النبات، وكذلك التوتر السطحي والضغط الأسموزي الخصائص المهمة في نقل الماء والأملاح والمعادن والأيونات داخل النبات .

     ويتميز الماء بالتحلل أو التأين المائي الضوئي المهم في عملية التمثيل الضوئي أهم عملية لتكوين الغذاء في البيئة الأرضية والتي بغيابها تغيب الحياة عن البيئة الأرضية ويعتبر الماء مذيباً جيداً للأملاح والمركبات العضوية، وبذلك يمثل وسطاً مثالياً لنقل تلك المركبات في الكائنات الحية ويسهل حدوث عمليات الأيض والاتزان بخاصية التحلل المائي الفريدة في الكائنات الحية.

ولذلك يحتوي قنديل البحر 99% من جسمه ماء، والطماطم 94% من وزنها ماء، والكرنب (الملفوف) 92.5% والعنب 80% والسمك 66% واللبن 87% وتتراوح نسبة الماء في جسم الإنسان من 20% من العظام إلى 85% في خلايا المخ ويمثل 70% من جسم الإنسان عامة.

يفقد الإنسان في المتوسط 2600 مل ماء يومياً، ويدخل إليه فقط 2255مل بالغذاء المقدم إليه، أي أن هناك نفس (1/7) الكمية، فمن أين يأتي الجسم بالكمية الزائدة عن الداخل إليه؟ لقد وجد أن ذلك يأتي للجسم من التمثيل الغذائي الداخلي.

يحتاج نبات واحد من الذرة خلال فترة حياته إلى 180لتر ماء، فكم يحتاج الفدان الواحد؟

يحتاج إنتاج كيلوجرام واحد من الأرز إلى 1700 لتر ماء.

يحتاج إنتاج كيلوجرام واحد من اللحم إلى 22000لتر  ماء .

تحتوي الطماطم على 94% من وزنها ماء، والكرنب يحتوي على 93.5%  والعنب 80%، والبرتقال 85% والمانجو 86% ولحم الضأن 63% والكبد 70% والمسك 66% واللبن 87%  وقنديل البحر 99% من وزنه ماء.

     من السابق نعلم أن الماء المكون البيئي المعجز والأهم من البترول (الذهب الأسود) ومن الذهب الأصفر، والملح والقطن (الذهب الأبيض)، ولذلك سيكون الماء هو محور الحروب في القرن القادم، ومن هنا جعلت إسرائيل حدودها من النيل إلى الفرات، وبدأت في مدها إلى الفرات، فهل نحن واعون لأهمية المياه في حياتنا؟ وهل دبرنا مستقبلنا المائي؟ أم سيأتي علينا اليوم الذي ينطبق علينا فيه قول الشاعر :

العيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورهنا محمول

فإذا لم تُسلب مواردنا المائية منا بالاستعمال الخارجي، سلبها الله منا بالتلوث والهدر والجهل والإهمال والإفساد اليومي في البيئة البرية والبيئة المائية.

ـــــــــــــــ

·        أستاذ علم النبات

·        المدير العام لمركز ابن النفيس البحرين

·        باحث في التربية البيئية

بعص المصادر العلمية :

http://www.chikyu.ac.jp/takeuchi/snowalgae_ak.html

http://www.bact.wisc.edu/Bact303/b21

 

 

ثبات كمية المياه
 

معجزة للرسول الكريم

بقلم عبد الدائم الكحيل

منذ القديم يحاول الإنسان معرفة أسرار نزول المطر وأين تذهب الأمطار. وبقيت الأساطير تُنسج حول هذه العملية حتى جاء عصر العلوم الحديثة ليكشف أسرار تصريف الأمطار على الكرة الأرضية.

فقد تبين أن الغيوم الموجودة في السماء هي ذرات مياه تبخرت من البحار وصعـدت إلى طبقات الجوّالباردة حيث تكثفت وتحولت إلى غيوم. عن معدل درجات الحرارة على سطح الكرة الأرضية ثابت تقريباً ويتغير بمعدلات طفيفة جداً.

وهذا يؤدي إلى ثبات كمية المياه المتبخرة كل عام وبالتالي ثبات كمية الأمطار الهاطلة أيضاً. واليوم يخبرنا علماء الأرصاد بأن كمية المياه على سطح الكرة الأرضية أكثر من (1300) مليون كيلومتراً مكعباً. نسبة المياه المالحة أكثر من 97 % ، والمياه العذبة بحدود 3 % أو أقل. وهذا الماء العذب يتركز ثلثيه في الجبال الجليدية وعلى قمم الجبال العالية على شكل ثلوج. وأقل من ثلثه موجود على شكل بحيرات عذبة وأنهار ومياه جوفية.

إن معدل التبخر السنوي بحدود (380) ألف كيلومتر مكعب. أي أن هنالك ثلاث مئة وثمانون مليون مليون طن من المياه تتبخر كل عام وتصعد إلى طبقات الجو لتشكل السحاب ثم تنزل هذه الكمية نفسها في مناطق متفرقة على سطح الأرض.

والحقيقة العلمية التي يعترف بها اليوم كل العلماء هي ثبات كمية الأمطار كل عام، وهذا ما حدثنا عنه بدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً بقوله: (ما من عام بأقلّ مطراً من عام ولكن الله يصرِّفه) [رواه البيهقي]. والآن لنتدبر هذا الحديث الشريف من الناحية العلمية لندرك أنه مطابق تماماً لأحدث معطيات العلم .

لقد حدد هذا الحديث الفترة التي يتم خلالها حساب نسبة الأمطار على سطح الكرة الأرضية تختلف من شهر لآخر ومن فصل لآخر حسب درجة الحرارة وحالة الطقس. ولكن إذا حسبنا كمية الأمطار الهاطلة خلال (12 شهراً) نجدها ثابتة. وهذا الأمر لم يكن أحد يعلمه في ذلك العصر، بل كان جميع الناس يظنون أن نسبة الأمطار تختلف من سنة لأخرى.

ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين وضع القوانين العلمية للمطر قبل أن يكتشفها العلم الحديث بقرون طويلة! ونتساءل عن القسم الثاني من الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن الله يصرِّفه)، هذا تأكيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الماء يتوزع بشكل منتظم على سطح الكرة الأرضية.

إن الذي يتأمل الكرة الأرضية من الخارج ويدرس توزع الغيوم ونظام تصريف مياهها على الأرض، يجد أن هنالك نظاماً محسوباً بدقة فائقة ويتكرر كل عام، أليس ما يكتشفه العلماء اليوم هو ما أشار إليه الحديث الشريف:(ما من عام بأقلّ مطراً من عام ولكن الله يصرِّفه)؟!

فكلمة (التصريف) تعني التوزيع لهذه الأمطار وفق مخطط دقيق. وهذا ما أثبته العلم الحديث وهو أن المياه تتوزع بنسب دقيقة في مختلف أجزاء الكرة الأرضية. وهذه النسب أيضاً شبه ثابتة على مدار العام، ولو أنها اختلَّت قليلاً لاختلَّت معها الحياة على سطح الكوكب.

فسبحان الله الذي علم هذا النبي الأميّ وقال في حقه: (هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة: 2].

المراجع

1- الإعجاز العلمي في السنة النبويَّة للدكتور زغلول النجار.

2- http://www.awwa.org/Advocacy/learn/info/425FactsAboutWater.cfm

3- http://www.tribuneindia.com/2003/20030531/windows/main1.htm

 

 

زمزم لما شربت له
 

بقلم الدكتور زغلول النجار

قال صلى الله عليه وسلم :

1.    " إنها مباركة، إنها طعام طعم وشفاء سقم " [ورد في الطبراني في الكبير برواية عبد الله بن عباس، تصحيح السيوطي :حسن ].

  1. " خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم: فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم. وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقبة حضرموت، كرجل الجراد من الهوام: يصبح يتدفق، ويمسي لا بلال به" [أورده الطبراني في الكبير عن ابن عباس، تصحيح السيوطي : حسن ].
  2. " ماء زمزم لما شرب له: فإن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته مستعيذا أعاذك الله، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا إسماعيل" [الدارقطني في السنن والحاكم في المستدرك عن ابن عباس، تصحيح السيوطي: صحيح].
  3. روى ابن ماجة في سننه (كتاب المناسك، حديث 3053) قال : حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم قال : قال عبد الله ابن المؤمن أنه سمع أباً الزبير يقول : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ماء زمزم لما شربت له " .

شرح الحديث :

بئر زمزم فجرها جبريل (عليه السلام ) بأمر من الله تعالى تكريماً لأم إسماعيل ورضيعها اللذين تركهما نبي الله إبراهيم (عليه السلام ) بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وعندما هم بالانصراف فزعت هذه السيدة الصالحة من قفر المكان، وخلوه من الماء والنبت والسكان، فجرت وراء زوجها تسائله: إلى من تكلنا؟

إلى من تتركنا في هذا المكان القفر ؟ قال إلى الله عز وجل، قالت قد رضيت بالله عز وجل، ثم سألته بثقتها فيه، ويقينها بأنه نبي مرسل : الله أمرك بهذا ؟ فأجاب بنعم واستمر في سيرته، حتى غاب عن زوجته وولده فاستقبل بوجهه البيت ودعا الله لهما بالأنس والرزق والستر. وقفلت أم إسماعيل راجعة وهي تقول: إذاً فلن يضيعنا، ورداً على هذا الإيمان العميق بالله، واليقين الصادق بقدرته ورحمته، ومعيته أكرمها ربنا (تبارك وتعالى ) بتفجير هذه البئر المباركة بغير حول منها ولا قوة ...!

وخروج بئر وسط صخور نارية ومتحولة شدية التبلور، مصمطة، لا مسامية فيها، ولا نفاذية لها في العادة، أمر ملفت للنظر، والذي هو أكبر من ذلك وأكثر أن تظل هذه البئر تتدفق بالماء الزلال على مدى أكثر من ثلاثة آلاف سنة على الرغم من طمرها وحفرها عدة مرات على فترات ويبلغ معدل تدفقها اليوم ما بين 11، 18.5لتراً في الثانية فهي بئر مباركة، فجرت بمعجزة.

كرامة لسيدنا إبراهيم، وزوجته، وولده (عليهم جميعاً من الله السلام ).

ولم يعرف مصدر المياه المتدفقة إلى بئر زمزم إلا بعد حفر الأنفاق حول مكة المكرمة، حين لاحظ العاملون تدفق المياه بغزارة في تلك الأنفاق من تشققات شعرية دقيقة، تمتد لمسافات هائلة بعيداً عن مكة المكرمة وفي جميع الاتجاهات من حولها، وهذا يؤكد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنها نتجت عن طرقة شديدة وصفها بقوله الشريف:

هي : (هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل)، والهزمة في اللغة الطرقة الشديد.

وبئر زمزم هي إحدى المعجزات المادية الملموسة الدالة على كرامة المكان، وعلى مكانة كل من سيدنا إبراهيم وولده سيدنا إسماعيل. وأمه الصديقة هاجر عند رب العالمين وسيدنا إبراهيم عليه السلام هو خليل الرحمن وأبو الأنبياء، وسيدنا إسماعيل هو الذبيح المفتدى بفضل من الله (تعالى) والذي عاون أباه في رفع قواعد الكعبة: المشرفة وانطلاقاً من كرامة المكان، وعميق إيمان المكرمين فيه، كان شرف ماء زمزم الذي وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله " ماء زمزم لما شرب له "، وبقوله : " خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام طعم، وشفاء سقم " .

ويروى عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله تبارك وتعالى عنها ) أنها كانت تحمل من ماء زمزم كلما زارت مكة المكرمة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمل منه كذلك ليسقي المرضى، ويصب على أجزاء أجسادهم المصابة فيشفون وتشفى أجسادهم بإذن الله .

ولقد جاء في كتاب " فيض القدير" في شرح حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم ) الذي يقول فيه : " ماء زمزم لما شرب له " .
ما نصه : " وأما قوله (لما شرب له ) فلأنه سقيا الله وغياثه لولد خليله، فبقى غياثاً لم بعده، فمن شربه بإخلاص وجد ذلك الغوث، وقد شربه جمع من العلماء لمطالب فنالوها" .

وذكر ابن القيم (رحمه الله ) في كتابه (زاد المعاد) " وقد جربت أنا وغيري من الأستشفاء بما زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرئت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو الأكثر، ولا يجد جوعاً.

وذلك تصديقاً لوصف المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذا الماء المبارك بقوله : " فيه طعام طعم وشفاء سقم ".

وذكر الشوكاني (رحمه الله ) في كتابه ( نيل الأوطار ) ما نصه : " قوله (ماء زمزم لما شرب له ) فيه دليل على أن ماء زمزم ينفع الشارب لأي أمر شربه لأجله، سواء كان في أمور الدنيا أو الآخرة لأن (ما) في قوله (لما شرب له ) من صيغ العموم "، وقد دونت في زماننا أحداث كثيرة برئ فيها أعداد من المرضى بأمراض مستعصية بمداومتهم على الارتواء من ماء زمزم.

وقد أثبتت الدراسات العلمية التي أجريت على ماء بئر زمزم أنه ماء متميز في صفاته الطبيعية والكيميائية، فهي ماء غازي عسر، غني بالعناصر والمركبات الكيميائية النافعة التي تقدر بحوالي (2000) ملليجرام بكل لتر، بينما لا تزيد نسبة الأملاح في مياه آبار مكة وآبار الأودية المجاورة عن 260ملليجرام بكل لتر، مما يوحي ببعد مصادرها عن المصادر المائية حول مكة المكرمة، وبتميزها عنها في محتواها الكيميائية وصفاتها الطبيعة.

صورة لماء زمزم وهي تتدفق من البئر

والعناصر الكيميائية في ماء زمزم يمكن تقسيمها إلى أيونات موجبة وهي بحسب وفرتها تشمل : أيونات كل من الصوديوم (حوالي 250ملليجرام /لتر)، والكالسيوم (حوالي 200ملليجرام /لتر ) والبوتاسيوم(حوالي 120 ملليجرام /ليتر) والمغنسيوم (حوالي 50ملليجرام /ليتر)، وأيونات سالبة وتشمل أيونات كل من الكبريتات (حوالي 372 ملليجرام /ليتر) والبيكربونات (حوالي 366ملليجرام /ليتر).

والنترات (حوالي 273/لتر)، والفوسفات (حوالي 0.25ملليجرام /ليتر)، والنشادر (حوالي 6ملليجرام/لتر) .

وكل مركب من هذه المركبات الكيميائية له دوره المهم في النشاط الحيوي لخلايا جسم الإنسان، وفي تعويض الناقص منها في داخل تلك الخلايا، ومن الثابت أن هناك علاقة وطيدة بين اختلال التركيب الكيميائي. لجسم الإنسان والعديد من الأمراض. ومن المعروف أن المياه المعدنية الصالحة وغير الصالحة للشرب قد استعملت منذ قرون عديدة في الاستشفاء من عدد من الأمراض من مثل أمراض الروماتيزم، ودورها في ذلك هو في الغالب دور تنشيطي للدورة الدموية، أو دور تعويضي لنقص بعض العناصر في جسم المريض.

والمياه المعدنية الصالحة للشرب ثبت دورها في علاج أعداد غير قليلة من الأمراض من مثل حموضة المعدة، عسر الهضم، أمراض شرايين القلب التاجية(الذبحة الصدرية أو جلطة الشريان التاجي)،وغيرها، أما المياه المعدنية غير الصالحة للشرب فتفيد في علاج العديد من الأمراض الجلدية، والروماتيزمية، والتهاب العضلات والمفاصل وغيرها.

وقد ثبت بالتحاليل العديدة أن كلا من ماء زمزم، والصخور والتربة المحيطة بها، خالية تماماً من أية ميكروبات حتى من تلك التي توجد عادة في كل تربة .

فسبحان الذي أمر جبريل (عليه السلام ) بشق بئر زمزم فكانت هذه البئر المباركة، وسبحان الذي أمر الماء بالتدفق إليها عبر شقوق شعرية دقيقة،تتحرك إلى البئر من مسافات طويلة، وسبحان الذي علم خاتم أنبيائه ورسله بحقيقة ذلك كله، فصاغه في عدد من أحاديثه الشريفة التي بقيت شاهدة له صلى الله عليه وسلم بالنبوة وبالرسالة .

 

 

الماء والحياة
 

 إعداد فراس نور الحق  

لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض والسماء وأراد أن يخلق الإنسان على هذه الأرض خلق له الماء الذي فيه قوام حياته وحياة من حوله من الكائنات الحية قال الله عز وجل:

 (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الانبياء:30) 

و الماء هو مادة الحياة وإكسيرها السحري الذي بدونه لاستحالت الحياة على سطح هذا الكوكب .

و لقد ذكر الله تعالى الماء في القرآن الكريم منكراً " ماء " 33 مرة وذكره معرفاً " الماء " 16 مرة  .

وأمتن الله على المؤمنين أن أنزل عليهم الماء الذي فيه قوام حياتهم قال تعالى:

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْه شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُل الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11} ِّ [سورة النحل ] .

ووصف الله الماء على أنه مباركاً أي أنه كثير العطاء قال الله تعالى :

 (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّات وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (سورة ق).

ٍوذكر الله تعالى أن إنزاله الماء من السماء وإحيائه الأرض بعد موتها هو دليل وآية على وجود الله قال تعالى :

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنهار والفلك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّر ِبَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لقوم يعقلون {164} سورة البقرة  وقال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْق خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {24} سورة الروم

َو أمتن الله على الكافرين بأن جعل من الماء كل شيء حي قال تعالى :{29} أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {30} سورة الأنبياء.

و ذكر الله الماء على أنه من نعيم الجنة وأن أهل النار يعذبون بحرمانهم منه قال تعالى :( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ {50} الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًاوَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {51}سورة الأعراف

كما ذكر الله الماء على أنه جند من جنود الله يهلك بها الظالمين قال تعالى :

{39} حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْل وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ {40} وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ {41} وَهِي تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَان فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ {42} قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِم الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَان مِنَ الْمُغْرَقِينَ {43} وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيل بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{44} سورة هود

و قال تعالى :(كذبت قبلهم قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ {9} فدعا ربه أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ {10} فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ  السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ{11} وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ {12}وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ {13} تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كان كفر {14} وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ {15} فَكَيْفَ كان عذابي وَنُذُرِ {16} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر )سورة القمر.

و ذكر الله إحدى فوائد الماء وهي التطهير قال تعالى :

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّل عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْز الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ {11} سورة الأنفال وقال تعالى : وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَالرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا {48} سورة الفرقان.

و أمرنا الله بالوضوء عند كل صلاة  والاغتسال بالماء عند كل جنابة قال تعالى (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغسلوا وجوهكم وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِط أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُم وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {6} سورة المائدة .

وقد أمرنا رسول الله بالاقتصاد في استعمال الماء وعدم الإسراف ورد عنه  صلى الله عليه وسلم : مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ مَا هَذَا السَّرَفُ فَقَالَ أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ قَالَ نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَار   ابن ماجة 419 .

 تكوين الماء :

يتألف الماء من جزيئات متلاصقة متماسكة، يتكون الجزيء الواحد من ارتباط ذرة أوكسجين مع ذرتين من الهيدروجين ، ويتم هذا الارتباط وفق رابطة تشاركيه قوية قيمتها 30 ــ 100 كيلو حريرة / مول .

 

منشأ الماء :

ظهرت العديد من النظريات لتفسير أصل الماء على سطح الكرة الأرضية ، من هذه النظريات.

أ ـ  نظرية المياه الكونية المنشأ :

تتلخص هذه النظرية بأن الماء أتى إلى الأرض من الفضاء الخارجي ، وتفيد بأن هناك تيارات من الأشعة الكونية تتحرك دائماٍ في الفضاء الكوني مكّونة من جسيمات ذات طاقة ضخمة جداً ، تحتوي على نوى ذرات اليدروجين ، أي على البروتونات ، لدى حركة كوكب الأرض أثناء دورانه حول نفسه وحول الشمس تخترق هذه البروتونات جو الأرض ، وتحصل على الإلكترونات الضرورية ، وتتشكل ذرة الهيدروجين ، حيث تتفاعل مباشرة مع الأوكسجين مشكلة جزيئات على ارتفاعات كبيرة، وفي ظل درجات حرارة منخفضة ، تتكاثف على جسيمات من الغبار الكوني مكونة سحباً فضية ، حيث يعتقد العلماء أيضاً بأن الماء المتشكل بهذه الطريقة خلال التاريخ الطويل الذي مرت به الكرة الأرضية أثناء تشكلها يكفي لملء المحيطات كافة على سطح هذه الأرض

و لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم هذه الظاهرة أنه سبحانه أنزل من السماء الماء وذكر مادة الماء منكرة دون تعريف ليدل على أن عموم جنس الماء نزل من السماء وذلك في أكثر من  عشرين آية نذكر منها بعض الآيات .  

1 ـ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَج بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُم تَعْلَمُونَ {22}   (سورة البقرة ).

2ـ قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164) 

 

ِ3 ـقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:99) 

 

ب ـ نظرية المياه أرضية المنشأ :

تتخلص هذه النظرية بأن الصخور المكونة للطبقة الواقعة بين نواة الأرض والقشرة الأرضية ( طبقة السيما ) كانت تنصهر في بعض المواقع تحت تأثير الحرارة الناشئة عن التفكك الإشعاعي للنظائر المشعة ، حيث تنطلق منها مكونات طيارة كلآوزون والكلور ومركبات الكربون المختلفة والكبريت ، وأكثرها أبخرة الماء .

كانت هذه المكونات تقذف إلى الطبقات السطحية أو على السطح بواسطة الثورات البركانية خلال تاريخ الأرض الطويل ، وتكفي هذه الكمية لملء جميع المحيطات على سطح الكرة الأرضية.

و قد أشار القرآن إلى تلك الحقيقة قبل ألف وأربعمائة سنة حينما قال :

قال تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا) {31}( سورة النازعات ).

و أنا أعتقد كلاً من النظريتين صحيح فبعض الماء كان منشأه من الأرض و البعض الآخر كان منشأه من السماء .

 

أهمية الماء

يشكل الماء 70% من مساحة اليابسة ويشكل الماء 65% من وزن الإنسان فإن ما بين 40 ـ 50 ليتراً من الماء هي أنت .

 كما أن للماء دور كبير في سير التفاعلات الكيميائية داخل أجسام النباتات والحيوانات وذلك من أجل الحصول على الطاقة وللماء دور في تغير سطح الأرض من خلال عمليات الحت.

خواص الماء الكيميائية والفيزيائية الفريدة :

1 ـ الرابطة التشاركية القوية : إن البناء الفريد للماء يجعل جزيئاته متماسكة ومرتبطة بروابط هيدروجينية، ويصبح كل جزيء مرتبطاً بأربعة جزيئات مجاورة، وكل منها بأربعة، وهكذا تبدوا جميع الجزيئات مرتبطة ببعض في شبكة فراغية متماسكة، ولولا هذا لكانت درجة غليان الماء (-80م) ودرجة تجمده ( -100 م ) ولاستحال وجود الماء على شكل سائل وصلب على سطح الأرض ولاستحالت الحياة فمن غيرُ الله يعرف خواص كل من الأوكسجين والهيدروجين ويعلم أنه إذا شكلا جزيئاً فإنه لن يتواجدا بحالة سائلة أو صلبة إلا إذا كانت الرابطة التي تربط بينهما رابطة هيدروجينية قوية  .

2 ـ السعة الحرارية الكبيرة للماء : من  المعلوم أن درجة غليان الماء مرتفعة وذلك لقوة رابطته التشاركية لذلك  فهو يمتص قدرة حرارية كبيرة لكي يتبخر حيث كل غرام من الماء السائل يحتاج إلى 540 حريرة ليتحول إلى بخار وهذه الخاصية تعطي الماء دوراً فريداً في نقل القدرة من مكان لآخر، فالماء الذي يتبخر من المحيطات تسوقه الرياح مئات وآلاف الكيلومترات إلى أماكن باردة فعند تبرد البخار وتحببه وتساقطه على شكل قطرات مطر ينشر معه الطاقة التي أمتصها أثناء تبخره فيساهم في رفع درجة الحرارة في تلك المناطق وتلطيف حرارة الجو وكذلك في أثناء تساقط الثلوج فكم هذه الحرارة المنتشرة كبيرة إذا علمنا أنه يتبخر كل عام 520 ألف كيلوا متر مكعب من الماء .

3 ـ تمدد الماء عند تصلبه : وهناك  خاصة فريدة أخرى للماء فنحن نعلم أن كل الجوامد المعروفة يتناقص حجمها عندما تتبرد ، و هذا صحيح في جميع أنواع السوائل المعروفة على السواء عندما تتناقص درجات حرارتها ، وأثناء ذلك تتناقص حجمها، و أثناء تناقص حجمها تزداد الكثافة، وبالتالي تغدوا الأجزاء الباردة من السائل أثقل ، ولهذا السبب تزن الأشكال الصلبة للمواد أكثر ( بالحجم ) من كونها في الشكل السائلي لكن توجد حالة واحدة لا ينطبق فيها هذا القانون و هي حالة الماء ، فهو مثل جميع السوائل يتقلص في الحجم كلما صار أبرد ، ويفعل ذلك فقط مادامت درجة حرارته فوق أربع درجات مئوية ، و لكن ما أن يصل لدرجة أربع درجات مئوية خلافاً للسوائل المعروفة فإنه يبدأ بالتمدد ، وأخيراً عندما يتجمد فإنه يتمدد أكثر من ذلك ، و نتيجة لتصلب الماء و تمدده يصبح وزنه أخف من الماء السائل فيطفوا على سطح الماء، ولهذه الخاصية البديعة فائدة عظيمة لتلك الكائنات المائية التي تعيش في المناطق الباردة والمتجمدة فعندما تنخفض درجة حرارة الماء في فصل الشتاء في الأحواض المائية ( نهر _بحيرة _ بحر... ) نتيجة انخفاض درجة حرارة الغلاف الجوي المحيط تتجمد طبقة الماء السطحية فتتمدد وتزداد كثافتها فتطفوا على سطح الماء وتشكل عازلاً طبيعياً بين الغلاف الجوي البارد والماء أسفل الحوض فتساهم تلك الخاصة في خفض درجة حرارة الماء واعتداله مم يحول دون تجمد الحوض المائي فيساهم هذا العازل الطبيعي إضافة إلى الحرارة المنتشرة من تجمد الجليد على تلطيف حرارة الماء والمحافظة على حياة الأحياء المائية وتجنيبها خطر التجمد والموت .

4 ـ التوتر السطحي للماء عالية : نتيجة لقوى التجاذب بين جزيئات الماء يلاحظ أن قيمة التوتر السطحي للماء عالية جداً وتبلغ 72 ميلي نيوتن /المتر وهي تفوق الضغط الجوي فهذه الخاصة هي التي تجعل الماء يرتفع بنفسه في الأوعية الشعرية في الأشجار وتعرف بالخاصة الشعرية فيحمل الماء من خلالها الغذاء إلى الخلايا النباتية حتى ارتفاعات عالية  ، كما أنها هي المسئولة عن تحريك الماء في المسامات والفراغات والأقنية والشقوق الدقيقة في التربة والصخور نحو الأعلى حتى تتساوى قوة التوتر السطحي للماء مع قوة الجاذبية الأرضية مم يسهل على جذور النباتات الحصول على الماء في المناطق الجافة والصحراوية .

5 ـ تعد قيمة ثابت العزل الكهربائي للماء عالية جداً وهي نحو ( 80 ) في جزيئات الماء وتكون مراكز الشحنات الموجبة والسالبة منزاحة كثيراً عن بعضها البعض، فنلاحظ أنه عند غمر جسم ما في الماء نلاحظ أن القوى الناشئة بين الجزيئات أو الذرات على سطحه تضعف تحت تأثير الماء مئة مرة تقريباً ، فإذا أصبحت الرابطة بين الجزيئات غير قادرة على مقاومة فعل الحركة الحرارية بدأت جزيئات الجسم أو ذراته بالانفصال عن سطحه والانتقال إلى الماء، وبدأ الجسم عندئذ بالذوبان حيث يتفكك إلى جزيئات مستقلة كما يحدث للسكر عند ذوبانه في كأس من الشاي أو يتفكك إلى جسيمات مشحونة ( أيونات ) كما يحدث لملح الطعام .

و يعتبر الماء ، بفضل ثابت عزله الكهربائي الكبير جداً، من أقوى المذيبات      ( المحلات )، فباستطاعته أن يذيب أي صخر كان على سطح الأرض، والماء يفتت ببطء الغرانيت ويسحب أو يمتص منه الأجزاء السهلة الذوبان فتحمل مياه الأنهار والجداول والسواقي الشوائب المنحلة فيها وتقذف بها في المحيطات التي تتراكم فيها الأملاح والشوائب على مدى العصور ،لذلك تكون مياه البحار والمحيطات مشبعة بالأملاح والمعادن والشوائب التي بدورها تمنع المياه من أن تتسنه وتتنتن وتتحول إلى مستنقعات  فتموت بالتالي معظم الأحياء البحرية .

و لهذه الخاصة أهمية كبيرة للنبات فالماء يذيب الأملاح والمعادن والشوائب الضرورية لحياة النبات التي تنتقل عبر الأنابيب الشعرية إلى الخلايا النباتية  فتبارك الله أحسن الخالقين .

6.المفعول(الأعلى، الأخفض ) للتجمد :

تتجمد السوائل عادة من الأسفل نحو الأعلى لكن الماء على العكس فهو يتجمد من الأعلى نحو الأسفل، وطبعاً هذه أول خاصة غير مألوفة للماء، وهذه الخاصة هي خاصة حاسمة لبقاء الماء على سطح الأرض، وإذا لم تكن تلك الخاصة محققة، أي إذا كان الجليد لا يطفو فكثير من ماء كوكبنا سوف يحتجز بشكل جليد، عندئذ تصبح المياه غير ممكنة في بحارها وبحيراتها وبركها وأنهارها .

دعنا نفحص هذا بالتفصيل ولنرى لماذا ؟ يوجد العديد من الأماكن في الأرض حيث تهبط درجات الحرارة في الشتاء إلى ما دون الصفر المئوية، وغالباً ما يتم ذلك بشكل معتبر، وطبعاً مثل ذلك البرد سيؤثر في ماء البحار والبحيرات ..

فتأخذ تلك العوالم المائية بالتبرد شيئاً فشيئاً وتبدأ أجزاء منها بالتجمد فإذا كان الجليد لا يسلك الطريق التي يسلكها عادة وهي أنه يطفو، فالجليد سوف يغرق للأسفل بينما الأجزاء الأدفئ من الماء سوف تصعد للسطح وتتعرض للهواء الذي درجة حرارته مازالت تحت التجمد، فيحدث تجمد تالي وهكذا تغرق كلها إلى الأسفل، وسوف تستمر هذه العملية حتى لا يصبح هناك ماء سائل موجود على الإطلاق، لكن ليس ذلك هو ما يحدث، بل ما يحدث هو شيء آخر مختلف أي ما يحدث بدلاً من ذلك هو التالي : أثناء تبرد الماء يتزايد الماء في ثقله حتى تصل درجة حرارته إلى (4س) وعند تلك النقطة يحدث تغير مفاجئ لكل شيء، فبدلاً من حدوث تقلص للماء فإنه يبدأ بالتمدد ويصبح وزنه أخف مع هبوط درجة الحرارة، والنتيجة هي أن الماء ذي الدرجة (4س) يبقى في الأسفل والماء ذي الدرجة (3س) يكون فوقه وماء الدجة (2س) فوقه وهكذا يالتدريج حتى الوصول إلى السطح، عندئذ تكون درجة حرارته هي الصفر المئوية فقط وهنا يحدث التجمد، أي أن السطح فقط هو الذي يتجمد، أما طبقة الماء ذات الدرجة (4س ) فإنها تبقى سائلة تحت الجليد، وهي كافية لاستمرار حياة المخلوقات والنباتات تحت سطح الماء .

يجب أن نشير هنا إلى الخاصية الخامسة للماء وهي انخفاض الناقلية الحرارية للجليد والثلج فهي أيضاً حاسمة في هذه العملية، وبسبب كونهما ضعيفتين جداً للنقل الحراري فطبقاتهما تحتفظ بحرارة الماء في الأسفل وتمنعها من الهروب للجو، ونتيجة لذلك فحتى ولو هبطت درجة حرارة الهواء لما دون الصفر وليكن لـ( -0.5س )، فطبقة الجليد في البحر سوف لن يزيد سمكها عن مترٍ أو مترين لدى المخلوقات التي تقطن المناطق القطبية مثل الفقمة ( عجل البحر ) والبطريق، فهي تستفيد من ذلك لتصل الماء أسفل الجليد .

مرة أخرى دعنا نتذكر ماذا سيحدث لو كان الماء لا يسلك هذا الطريق وإنما سلك طريقاً نظامية بدل ذلك، ولنفرض أن الماء استمر في تكثفه مع انخفاض درجة حرارته وأن سلوكه هذا يماثل سلوك بقية السوائل الأخرى كلها وأن الجليد غرق إلى الأسفل، فماذا يحدث عندئذ ؟

حسناًُ في هذه الحالة فإن عملية التجمد في البحار والمحيطات ستبدأ من الأسفل وتتابع كل الطريق نحو الأعلى بسبب عدم وجود طبقة من الجليد على السطح لتمنع الحرارة الباقية من النجاة والهروب للجو .

وبكلمة أخرى فإن معظم بحيرات الأرض والبحار والمحيطات ستصبح جليداً صلباً مع بقاء طبقة من الماء سمكها بضع أمتار على سطح الجليد وليس تحته .

وحتى ولو تزايدت درجة حرارة الهواء فإن الجليد في الأسفل سوف لن ينصهر كلياً بشكل مطلق، ففي بحار هذا العالم ( الافتراضي ) لن تكون هناك حياة، وأيضاً وفق مبادئ علم ( الإيكولوجي ) وهو علم يدرس العلاقة بين الأحياء وبيئتها في البحار، فوفق هذا النظام سوف لن تكون هناك حياة على اليابسة أيضاً، وبكلمة أخرى إذا كان الماء لا يسيء سلوكه وتصرفه، وعمل بشكل نظامي فإن كوكبنا سيكون عالماً ميتاً لا محالة .

لماذا لا يسلك الماء سلوكاً نظامياً ؟ ولماذا يبدأ بالتمدد فجأة عند الدرجة (4س) بعد أن تقلص بالطريقة التي يجب أن تكون ؟

طبعاً لأن الله سبحانه وتعالى قد جعله ملائماً للحياة .

7. اللزوجة المثالية للماء :   

إذا فكرنا في السائل الذي يملئمخنا نجده مادة قوامها مائع تماماً، وفي الحقيقة أن لتلك السوائل درجات عالية من الاختلاف في لزوجتها، فلزوجة القطران والغليسرين وزيت الزيتون وحمض الكبريت هي أمثلة تختلف عن بعضها بشكل كبير ومعتبر، وعندما نقارن مثل تلك السوائل بالماء يصبح هذا الفرق أكثر بشكل كبير، فالماء أكثر سيولة بعشرة ملايين مرة من القطران وبألف مرة من الغليسرين، ومئة مرة من زيت الزيتون وعشرين مرة من حمض الكبريت . من هذه المقارنة نكتشف أن للماء أقل لزوجة ممكنة عن سواه من المواد السائلة . لأنه في الحقيقة إذا استبعدنا قليلاً من المواد مثل الأثير والهيدروجين السائل نجد أن الماء لزوجة هي أقل من أية مادة ما عدا الغازات .

هل لانخفاض لزوجة الماء أية أهمية لنا ؟ هي ستكون الأشياء مختلفة إذا كان ذلك السائل الحيوي أكثر قليلاً أو أقل قليلاً في لزوجته، وقد أجاب(ميشيل دينتون )على هذا السؤال وقال:

" سيكون تلاؤم الماء أقل إذا كانت لزوجته منخفضة جداً، وستتعرض النظم الحية لحركات عنيفة بتأثير قوى قصية غاية في الشدة إذا كانت اللزوجة منخفضة جداً مثل لزوجة الهيدروجين السائل .. وإذا كانت لزوجة الماء أقل من ذلك أيضاً فالتركيبات اللطيفة ( الرقيقة ) سوف تتمزق بسهولة، وعندئذ لن يكون الماء قادراً على دعم أي تركيبات مجهرية معقدة دائمة، وهكذا لا يعد التركيب الضوئي الدقيق الجزيئي للخلية موجوداً عندئذ . فإذا كانت اللزوجة أعلى فالحركات المجُبرة للجزيئات الكبيرة المنفردة مثل الميتاكونديريات أو العضيات الصغيرة ستكون غير ممكنة، ويصبح ذلك أيضاً في عمليات انقسام الخلية، وستكون عندئذ كل النشاطات الحيوية للخلية مجمدة بشكل فعال، وستكون الحياة الخليوية لأي نوع منعزلة يشابه ذلك الذي نحن معتادون عليه غير ممكن، وكذلك فإن تطور العضويات العليا والتي يعتمد بشك لجدي على قدرة الخلايا على الحركة والدوران خلال مراحل تكون الجنين سيكون ذلك بالتأكيد غير ممكن إذا كانت لزوجة الماء أكبر حتى بقليل مما هي عليه في الواقع " 82[1]

إن انخفاض لزوجة الماء هو شيء أساسي ليس فقط من أجل الحركة الخليوية ولكن أيضاً من أجل نظام الدوران الدموي، فلكل مخلوق حي حجم جسمه أكبر من ربع ميليمتر واحد نظام دورة دموية مركزي والسبب في ذلك هو أن كل كائن حي له حجم خلف ذلك ليس من الممكن على الغذاء والأوكسجين أن ينتشرا عبر عضويته ببساطة، لأنه لا يمكن إدخالهم مباشرة للخلية كما لا يمكن تفريغ منتجاتهم الأخرى . كما أنه يوجد في جسم العضوية العديد من الخلايا ومن الضروري أن يصل لها الأوكسجين والطاقة، ويتم ذلك بدخولهما وتوزعهما بالضخ عبر أقنية ( أنابيب ) من نوع ما، كما توجد أقنية أخرى ضرورية لتحمل الفضلات بعيداً، وتلك الأقنية بنوعيها الأوردة والشرايين، ويشكلان النظام الدوري الدموي في العضوية الحسية، والقلب هو المضخة التي تحفظ حركة هذا النظام بينما يحمل المادة عبر هذه الأقنية سائل يدعى الدم ومعظمه ماء، الذي يشكل 95% من بلازما الدم ـ وهي المادة المتبقية بعد إزالة خلايا الدم، والبروتينات والهرمونات من الدم .

هذا هو السبب في أن للزوجة الماء أهمية كبيرة جداً، فهي هامة لأنها تسهل وظيفة النظام الدوري الدموي في العضوية الحية، فإذا كانت لزوجة الماء كبيرة مثل تلك التي للقطران فبالتأكيد لا يستطيع أي قلب أن يضخ، أما إذا كانت لزوجة الماء مثل لزوجة زيت الزيتون والتي هي أقل بمئة مليون مرة منها للقطران فالقلب قد يتمكن من الضخ لكنها ستكون عملية صعبة جداً والدم سوف لن يتمكن من الوصول إلى كل البلايين من الأنابيب الشعرية والملتفة طرقها عبر أجسامنا .

لنأخذ نظرة أقرب للأنابيب الشعرية، والتي هدفها هو حمل الأوكسجين والغذاء والهرمونات .. الخ ..

وهي ضرورية لحياة كل خلية وفي كل أنحاء الجسم، فإذا كان بُعد الخلية عن الأنبوب الشعري أكثر من خمسين ميكروناً ( الميلمتر هو ألف ميكرون ) عندئذ لا يمكنها أن تستفيد من الخدمات الشعرية، وبالتالي فالخلايا التي بعدها عن الشعريات الدموية أكثر من خمسين ميكروناً سوف تجف حتى الموت، ويجب أن نتذكر أن الميكرون هو جزء واحد من ألف جزء من الميلمتر الواحد .

ولهذا السبب خلق جسم الإنسان بحيث تشكل الشعيرات الدقيقة شبكة تنتشر في كل دقيقة من دقائق جسده، وفي الجسم البشري العلوي يوجد حوالي خمسة بلايين أنبوب شعري يبلغ طولها الإجمالي إذا مددت طولياً حوالي (950كيلومتر اً ) .

وفي بعض الثديات ربما بلغ عدد تلك الشعيرات حوالي ( 3000) في كل سانتيمتر مربع من نسيجها العضلي، وإذا جمعت عشرة آلاف من أدق الشعيرات في جسم الإنسان معاً كان الناتج هو حزمة سمكها مثل سمك قلم الرصاص، وأقطار تلك الشعيرات يترواح بين 5.3ميكرون، أي من ثلاثة إلى خمسة أجزاء من ألف من الميلمتر الواحد .

و إذا كان الدم سيخترق الممرات الضيقة دونما إعاقة أو إبطاء فبالتأكيد سوف تسيح أو تنغمر، ولكن يعود الفضل في عدم حدوث ذلك إلى لزوجة الماء، وطبقاً لكتاب (دينتون ) إذا كانت لزوجة الماء أكثر بقليل مما هي عليه فعلاً عندئذ سيكون النظام الدوري غير مجد بتاتاً، كما يقول :

يعمل النظام الشعري إذا كان للسائل ( الذي يضخ عبر أنابيب ) لزوجة منخفضة جداً .

وانخفاض لزوجة السائل أساسية بسبب أن الجريان يتناسب عكسياً مع اللزوجة .. لهذا من السهل أن نرى، لو كان للزوجة الماء قيمة أكبر بعدة مرات مما هي عليه، فإن ضخ الدم عبر النظام الشعيري سيتطلب ضعطاً كبيراً وبالتالي فإن أي نوع من هذا النظام الدوري سوف لن يعمل .. لكن لو صارت لزوجة الماء أكبر بقليل وإزداد قطر أصغر الأنابيب الشعيرية العاملة من (3) ميكرون إلى (10) ميكرون عندئذ ستحتل الشعيرات نظرياً كل النسيج العضلي ليقدم الأوكسجين والغلوكوز، وطبعاً سيكون من الواضح أن أشكال الحياة في هذه الحالة غير ممكنة أو سوف تعاني صعوبات جمة في أداء عملها .

ولهذا يجب أن تكون لزوجة الماء قريبة جداً لما هي عليه فعلاً عندئذ يكون الماء وسطاً ملائماً للحياة . 2

في الخاتمة نعلم أن هذا السائل العجيب الذي هو الماء قد أعده الله سبحانه ليكون ملائماً لحياة الكائنات الحية فتبارك الله أحسن الخالقين وصدق الله سبحانه في قوه

 (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الانبياء:30) 


[1] MICHAEL DENTON ,NATURE,S DESTINY P.35

[2] MICHAEL DENTON ,NATURE,S DESTINY P.35

  المـراجــع :

القرآن الكريم

بعض كتب الحديث

الماء تلك المادة العجيبة  تأليف البر فسور  إ . بتريانوف أستاذ في معهد مندلييف في موسكوا.

علم المياه  تأليف الدكتور جهاد على الشاعر

كتاب خلق الكون  تأليف الكاتب التركي هارون يحيى

 

 

الرتق والفتق نظرة علمية قرآنية
 

بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك

 باحث لغوي في الإعجاز البياني

 للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية

قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾       (الأنبياء:30)

تشير هذه الآية الكريمة إلى حقيقتين من حقائق هذا الكون، تدلان على إلهية الله تعالى، ووحدانيته، وأنه لا مبدع، ولا خالق سواه: الأولى منهما تتعلق بوحدة هذا الكون العجيب الصنع.والثانية تتعلق بسرِّ الحياة في هذا الكون الفسيح.

والخطاب في الآية الكريمة يراد به عموم الذين كفروا، وإن كان في حقيقته موجهًا لليهود؛ لأنهم المعنيون به، فهم الذين كفروا بوجوده سبحانه، وبقدرته، وسرِّ صُنعه؛ ولهذا أنكر الله تعالى عليهم كفرهم بآياته، في أول الآية بقوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾، ثم وبَّخَهم على كفرهم في آخرها بقوله:﴿ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ، فجاء آخر الآية مُطابقًا لأولها. أي: أفلا يكفِهم ذلك دليلاً على الإيمان!! 

أما الحقيقة الأولى فيشير إليها الشِّقُّ الأول من الآية الكريمة؛ وهو قوله تعالى:﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾

أي: أولم يرَ هؤلاء أن السموات والأرض، كانتا منضمتين إلى بعضهما. أي: ملتحمتين، لا فضاء بينهما، ففصلناهما عن بعضهما. أي: كانتا كرة واحدة، ثم انفصلتا بإرادة الله وقدرته! 

أخرج الطبري عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:كانتا ملتصقتين . وعن عبيد بن سليمان، قال:سمعت الضَّحَّاك يقول في قوله:﴿ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾، كان ابن عباس يقول: كانتا ملتزقتين، ففتقهما الله . 

وقال البَغَوِيُّ:قال ابن عباس- رضي الله عنهما- وعطاء وقتادة: كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين، ففصلنا بينهما بالهواء .

والرَّتْقُ في اللغة: السَّدُّ. والفَتْقُ: الشَّقُّ. يقال منه: رَتَقَ فلان الفَتْقَ: إذا سَدَّه، فهو يرتقه رَتْقًا ورُتًوقًا، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجُها ملتحمٌ: رَتْقَاءُ.

وقوله تعالى:﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ استفهام إنكاري، الغرض منه التنبيه، أو التذكير. وكوْنُه كذلك يقتضي أن ما بعده قد وقع، وعلم به الناس إما عن طريق المشاهدة، أو عن طريق السماع؛ نحو قوله تعالى﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾(يس:77). فهذا تنبيه وتذكير للإنسان ممسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعدما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به.

وقيل في تفسير قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ (الفيل:1):الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو، وإن لم يشهد تلك الوقعة، لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها .

وكذلك قوله تعالى:﴿ أََوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾يقتضي أن الذين كفروا رَأَوْا هذه الظاهرة العجيبة، إماعن طريق المشاهدة، أو عن طريق السماع. ولو لم يكونوا قد شاهدوها حقًّا، لما جاز خطابهم بهذا الخطاب، الذي يقتضي أن ما بعده قد وقع، وأنهم شاهدوه، أو شاهدوا آثاره، وسمعوا به.

قال الفخر الرازي عند تفسير هذه الآية الكريمة:اليهود، والنصارى كانوا عالمين بذلك؛ فإنه جاء في التوراة: إن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها بعين الهيبة، فصارت ماء، ثم خلق السموات، والأرض منها، وفتق بينها. وكان بين عَبَدَةِ الأوثان، وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك .

والخطاب في الآية الكريمة لم يكن مقتصرًا على الكفار في عصر النبوة من اليهود، والنصارى، وغيرهما؛ لأن المراد به العموم، فيشمل الكفار في كل زمان ومكان. فإن لم تكن الرؤية قد تحققت للكفار في العصور القديمة، فقد تحققت لهم في عصرنا هذا، فرأوا بأعينهم هذه الظاهرة العجيبة، التي أخبر الله تعالى عنها منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة مضت.

ومذهب المفسرين أن الاستفهام في الآية الكريمة للتقرير؛ ولهذا قال الزمخشري:فإن قلت: متى رأوْهما رَتقًا، حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أنه واردٌ في القرآن، الذي هو معجزة في نفسه، فقام مَقام المَرْئِيِّ المُشاهَد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما، كلاهما جائزٌ في العقل؛ فلا بدَّ للتباين دون التلاصق من مخصِّص؛ وهو القديم سبحانه .

وحَمْلُ هذا الاستفهام على التقرير لا يستقيم مع المعنى المراد من الآية الكريمة؛ لأن التقرير هو حَمْلُ المخاطب على أمر قد استقرَّ عنده، وعلم به، ثم جَحَدَه. وهؤلاء لم يَجْحَدوا ما علموا به، ولم ينكروا ما رأوه؛ ولكنهم بدلاً من أن يؤمنوا كفروا عنادًا واستكبارًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:

﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ  (البقرة:89)

وهذا ما أنكره الله تعالى عليهم بقوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. ﴾؟ لأن المتوقع ممن رأى هذه الظاهرة الكونية أن يعترف بوحدانية الخالق جل وعلا، وقدرته، وأن يؤمن به، ولا يشرك به أحدًا من خلقه؛ ولهذا أنكر عليهم سبحانه وتعالى كفرهم به، ثم وبخهم عليه في نهاية الآية بقوله:﴿ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ؟

 

توصل علماء الفلك أن الكون كله كان مركزاً في كتلة صغيرة بحجم البيضة تم تسميتها بالبيضة الكونية ثم أنفجر هذا الكون لينتج عنه هذا الكون الفسيح وهذا أقرب ما يكون للتفسير القرآني لنشأة الكون

ونحو ذلك قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام:﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾(البقرة:260).

أي: قد ثبت إيمانك بإحياء الموتى، فلمَ تسأل ؟ مشيرًا بذلك إلى قوله:﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى ﴾(البقرة:260)؟ فأنكر سبحانه وتعالى عليه سؤاله عن كيفية الإحياء؛ ولهذا أجاب إبراهيم عليه السلام بقوله:﴿ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾(البقرة:260).

وهذا الاستفهام لا يجوز حمله على استفهام التقرير، لما ذكرنا من أن التقرير هو حمْل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد علمه، واستقرَّ عنده، ثم جحد به عنادًا واستكبارًا. يبين ذلك قوله تعالى:

﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً (النمل:14).

ويؤكِّد العلماء المعاصرون من الكفار خاصة في أبحاثهم على أن الكون كله كان شيئًا واحدًا متصلاً من غاز، ثم انقسم إلى سَدائمَ، وأن عالمَنا الشمسي كان نتيجة لتلك الانقسامات. والسَّدائمُ جمع سَديمٍ، يراد به السحب، ويطلق فَلَكِيًّا على مجموعة هائلة من النجوم. 

ويؤيدون أقوالهم بأنهم استدلوا على أن الشمس تتألف من سبعة وستين عنصرًا من عناصر الأرض، وأن عناصر الأرض تبلغ اثنين وتسعين عنصرًا، وسيزيد المستدل عليه من العناصر في الشمس، إذا ما ذللت الصعوبات، التي تقوم في هذا الشأن. ومن هذه العناصر: الهيدروجين، والهليوم والكربون، والآزوت، والأوكسجين، والفسفور، والحديد.. الخ.

وقد استدلوا على ذلك كله بالتحليل الطيفي؛ وهو الذي يستدل به الكيمّاويون اليوم في معاملهم، على ما تحتويه المواد الأرضية من عناصر، يكشفون عن نوعها ومقدارها. فالعناصر، التي في الشمس هي عينها في الأرض، والشمس نجم، يتمثل فيه سائر النجوم, والنجوم هي الكون. وهذا يعني: أن العناصر، التي بُنِيَ فيها الكون على اختلافها هي عناصر واحدة.. هذا من جهة. 

ومن جهة أخرى فإن النيازك هي الأشياء الملموسة الوحيدة، التي حصل عليها العلم من الفضاء الخارجي؛ فقد لاحظ العلماء أن أكثر العناصر شيوعًا في الأرض هي العناصر الشائعة في النيازك الحجرية.

وأما الحقيقة الثانية- وهي سِرُّ الحياة- فقد أشار إليها الشق الثاني من الآية الكريمة؛ وهو قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . أي: أوجدنا من الماء كل شيء حيٍّ، وكوَّناه بقدرتنا.

وقال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا ﴾، ولم يقل:﴿ خَلَقْنَا ﴾؛ لأن{ جَعَلَ }لفظ عام في الأفعال. ولمَّا كان قوله تعالى:﴿ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ مرادًا به عموم المخلوقات، ناسب التعبير عنه بفعل يدلُّ على العموم. 

وقال تعالى- هنا-:﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، وقال في  سورة النور:﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ﴾(النور:45)، فعرَّف لفظ﴿ الْمَاء  في الأول، ونكَّره في الثاني.

أما تعريفه في الأول فلأن المعنى: أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس، الذي هو الماء، فجاء ذِكْرُ الماءِ- هنا- معرَّفًا بأل الجنسية؛ ليشمل أجناس المخلوقات المختلفة الأنواع.

وأما تنكيره في الثاني فلأن المعنى: أن الله سبحانه خلق كل دابة من نوع مخصوص من الماء؛ وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات، بحسب اختلاف نطفها: فمنها هوامٌ، ومنها ناسٌ، ومنها بهائمٌ..

﴿  فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾(النور:45).

وتحرير الفرق بين القولين: أن الغرض من الأول إظهار الآية بأن أشياء متفقة في جنس الحياة، قد تكونت بالقدرة من جنس الماء المختلف الأنواع.

أما الغرض من الثاني فهو إظهار الآية بأن شيئًا واحدًا، قد تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة.. فتأمل أسرار الله تعالى في خلقه، وفي كلامه، الذي سجد لبلاغته وفصاحته البلغاء والفصحاء.

محمد إسماعيل عتوك

لمراسلة المؤلف : mattouk44@mail.sy

 

 

إنهم يرون فَتْق الرّتق حقا..أفلا يؤمنون
 

  بقلم: د. حسنى حمدان

  أستاذ الجيولوجيا المساعد-جامعة المنصورة

عضو المجلس الأعلى للسئون الإسلامية

إلا بقصد

فَ - تَ - قَ
رَ - تَ - قَ
الفعلان: رتق. وفتق
الحدثُ: فَتْق الرّتق
تاريخ الحدِث: مولد الزمان الكوني.
نِتَاجُ الحدثِ: السموات والأرض وما بينهما.
من الذي رتق وفتق؟
تأتي الإجابة عن السؤال من مصدرين: من الله ومن العلم.
والله هو الأول والآخر, أخبرنا عن حدث لم يره البشر إلا بعد مرور ما يزيد علي قرابة 13 ألف مليون سنة. في وقت لم تكن فيه قائمة للأرض ولا للسماوات علي الحالة التي نعهدها الآن. حيث يخبر رب العزة قائلا:
((أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ))(الأنبياء:30).

 والله هو الذي فتق الرتق الذي جاء منه السماوات والأرض. سبحانه خلق الرتق. وأحدث به الفتق. ففلق منه السماوات والأرض.
أي نظم هذا. وأي وفاء بالقصد. خمس كلمات كُتبت من أجلهن آلاف المراجع وأجريت الأبحاث. واستخدمت لتحقيقهن أعلي تقنيات العلم من سفن الفضاء ومراكز أبحاث الذرة. والكلمات الخمس
"السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما" هذا هو الإخبار الإلهي عن حالة الكون عند نشأته. فماذا عن الإخبار العلمي؟تأتينا الإجابة اليوم علي لسان واحد من أبرز العلماء يعدونه أينشتين الوقت الحالي, منالأستاذ الدكتور ستيفن هوكنج.. الأستاذ بقسم الرياضيات التطبيقية - جامعة كامبردج ببريطانيا. والذي وَجهتُ إليه رسالة نُشرت بجريدة "الجمهورية" يوم الخميس 8/11/2001 تحت عنوان "رسالة من مسلم إلي ستيفن هوكنج". 

 

الأستاذ الدكتور ستيفن هوكنج.. الأستاذ بقسم الرياضيات التطبيقية - جامعة كامبردج ببريطانيا


وهذه شهادته علي وجود القدرة العليا وراء خلق الكون والتي سماها "القصد". بعد أن تأكدت لديه الصورة الصحيحة عن مولد الزمان في قوله "وإذن فإننا واثقون تماما من أن لدينا الصورة الصحيحة علي الأقل بما يرجع وراء إلي ما يقرب من الثانية بعد الانفجار الكبير" "تاريخ موجز للزمان- ص107" وقبل الشهادة أرجو أن ننتبه إلي الكلمات التي بين القوسين السابقين. وقول الحق تعالي "أولم ير الذين كفروا".
وهذه شهادة ستيفن هوكنج وأرجو الانتباه إلى الكلمة الأخيرة منها: "ويعني هذا أن الحالة الابتدائية للكون يلزم أن يكون فيها بالضبط نفس الحرارة في كل مكان حتي يمكن تفسير حقيقة أن الخلفية الميكروويفية لها نفس الحرارة في كل اتجاه ننظر إليه كما أن السرعة الابتدائية للتمدد يجب أن يتم اختيارها اختيارا مضبوطا جدا حتي تظل سرعة التمدد قريبة جدا من المعدل الحرج اللازم لتجنب التقلص ثانية. ويعني هذا أن الحالة الابتدائية للكون يجب أن تكون قد تم اختيارها بحرص بالغ. حقا لو كان نموذج الانفجار الساخن صحيحا رجوعا إلي بدء الزمان مباشرة - وسيكون من الصعوبة البالغة تفسير السبب في أنه ينبغي أن يبدأ الكون بهذه الطريقة بالضبط إلا بقصد".
تأمل كلمات هوكنج يلزم - بالضبط - اختيارا مضبوطا جدا وأخيرا إلا بقصد وقول الحق تعالى:
((شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(آل عمران:18).

هل رأوا فتق الرتق؟

 تحقق قول الحق فيهم:((أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)) يتلخص في الآتي:
1
-الدليلالأول:أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أن السماء تتسع عن طريق ما يعرف بالإزاحة الحمراء (Red Shift) لأطياف المجرات. وأن سرعة ارتداد المجرات يزداد كلما بعدت عنا, حتي أن سرعة أشباه المجرات "الكوازرات" تبلغ سرعة ارتدادها حوالي تسعة أعشار سرعة الضوء.. أي قرابة 270.000 كيلو متر في الثانية الواحدة. وإذا كان إثبات أن الكون يتسع (expansion of the universe)يُعد أعظم كشف في القرن العشرين, فإن سبب الاتساع مازال يحير العلماء مع أن الأمر هين إذا اندرج تحت قدرة اللهالذى يقول: ((وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) (الذاريات:47). وبما أن الكون يتسع باستمرار منذ نشأته وحتي الآن فلابد أنه كان في بدايته مضموما؛ أي رتقا.
2- الدليل الثانيعلىأنهم رأوا "فتق الرتق" إشعاع الخلفية الميكرويفيةللكون (Cosmic background Radiation)التي تم رصدها من أطراف الكون,والتي لها نفس درجة الحرارة في كل اتجاه ننظر إليه. وهذه الأشعة مصدرها الإنفجار الأعظم. إنها بقايا أصلية تمثل عينة من مادة الرتق بعد أن فُتق مباشرة.

 

 صورة لخلفية الإشعاع الكوني كما تم تصويرها

3- الدليل الثالث علي أنهم رأوا فتق الرتق أتي من الذرات الأول التي تكونت في لحظة الفتق. من الدوتريوم(Deuterium)النظير الثقيل للهيدروجين, لأن هذا العنصر لم يتكون إلا في بداية نشأة الكون. إن الدوتريوم الذي لم يبق منه سوي جزء من 10.000 من الدوتريوم الأصلي والذي لم يتحول إلي الهيدروجين والهليوم يمثل رؤية حقيقية لجزء من مخلفات الإنفجار الأعظم- أقصد جزءاً من مخلفات فتق الرتق. سبحانك ربي ألهذا الحد أخبرت في القرآن الكريم أنهم سيرون فتق الرتق الذي حدث قبل آلاف الملايين من السنين. وإذا بالذين كفروا يرونه بل يكرسون حياتهم من أجل تلك الرؤية. يا رب أنا شهيد علي أنهم رأوا فلا ريب إذن أنك القائل((أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)). وأن محمدا صلي الله عليه وسلم رسولك هو الذي بلغنا بذلك القرآن.
4-الدليل الرابع:بقي دليل ولن يكون الدليل الأخير بل ستعقبه أدلة علي صدق الإخباربفتق الرتق لأن التعبير بصيغة الفعل المضارع "يروا" تجعل السؤال التقريري أولم يروا؟ يتردد إلي آخر الزمان ليقيم الحجة علي الكافرين حينما يرون أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقت بقوى هائلة.  يتمثلذلك الدليلفي أنهم حاولوا أن يروا ذلك الإنفجار الأعظمالذي حدث في بداية نشأة الكون عن طريق محاكاة الحدث, فحملوا البروتونات طاقة رهيبة بلغت 100 جيجا الكترون فولت. وعند تصادمها في مصادم مبتكر حديث تضخمت كرة النار الناتجة من التصادم 1000 بليون مرة. وهذه تمثل حالة الكون حينما فُتِق الرّتق.

 

 الشكل التالي يبين كيفية تشكل الكون بعد الفتق الكوني الكبير (الانفجار الكوني العظيم )

وقد عبر عن بداية الكون ستيفن هوكنج حينما سطر بقلمه في كتاب "تاريخ موجز للزمان":وإذن فإننا واثقون تماما من أن لدينا الصورة الصحيحة علي الأقل بما يرجع وراء إلي ما يقرب من الثانية بعد الانفجار العظيم". وصدق الله حيث يقول: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت:53).

أطلع على سيرة المؤلف الذاتية

يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل : hamamahem@hotmail.com

 

 

الرتق و الفتق
 

 بقلم: الأستاذ الدكتور حسنى حمدان

  أستاذ الجيولوجيا المساعد- جامعة المنصورة

عضو المجلس الأعلى للسئون الإسلامية 

إنها قضية من أعقد القضايا. شغلت ولاتزال تشغل عقول البشر. شغلت العلماء والفلاسفة علىمر التاريخ. إنها قضية أصل الكون؛ بأرضه وسماواته, وما بينهما. والقضية ربما لا تحتل جزءاًَ كبيرا من تفكير المؤمنين بالله؛ لأنهم يقينا يؤمنون أن وراء الكون إلهاً جاءت منه بداية كل شيء, وإليه تنتهي نهاية كل شيء. ولكن القضية تشغل الذين كفروا شغلاًكبيراًلسببين: السبب الأول أنهم مرتابون في وجود الله, ولكن وجود الله أكبر من أن ينكر لأنه الفطرة التيلا يستطيعون أن يطمسوها, فيحاولون كمن قتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر, ثم عبس وبسر. لعلهم يقنعون أنفسهم المريضة أنهلا توجد بداية للكون, ولا توجد له نهاية. ومن ثم يركنون إلي هواهم المريض, الذي يزين لهم أن الإله غير موجود(مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (الكهف: .5)
أما السبب الثاني أنهم يبحثون عن الحقيقة لعلهم يؤمنون. ومن ثم يجب أن نتدبر فاصلة "نهاية الآية التي هي مناط حديثي" الآية 30 من سورة الأنبياء وفيها يقول الحق تبارك وتعالي: ((أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)).  وفي الآية السابقة استفهام إن وخبر.

  الاستفهام الأول:أو لم ير الكفار فتق الرتق؟.

 والثاني :أما آن لهم بعد أن رأوا فتق الرتق أن يؤمنوا؟ أما الخبر فهو أن الماء حياة كل شيء حي وأساس كل شيء حي.
والعجيب من أمر الجهلاء المتعالمين. أنهم يقرون البحث في الخبر وينكرون البحث في الاستفهام متعللين بأنهم يحفظون للقرآن جلاله وقدسيته. لأنه كتاب هداية لا كتاب علم. وهم دون أن يعلموا خاصة في القضية التي نحن بصددها يهدمون العقيدة. لأن محاولة إثبات أن الذين كفروا رأوا فتق الرتق هو
فى حد ذاته شهادة على صدق القرآن.

 لأنهم إن لم يروا فتق الرتق فقد انتفت قضية صدق القرآن. إن رؤيتهم لفتق  الرتقبينما هم لم يكونوا غير موجودين  وقت حدوثه لدليل آكد على أن الإخبار حتما من عند الله. والعجيب أن هؤلاء المعارضين لقضية الإعجاز العلمي القرآني يثبتون قضية صدق القرآن بأن أبا لهب وامرأته قد ماتا على الكفر,وهذه حقيقة. لأنهم الو ماتا مسلمين كأن ينطقا بالشهادة  لا نتفت قضية صدق القرآن في قوله تعالي: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)  (المشد:1).

ونحن نثبت الوحدانية لله,حينما نوضح أن الذين كفروا قد رأوا أن السماوات والأرض كانتا رتقا قد فتق. لأنهم لو لم يكونوا قد رأوا ذلك,لا نتفت قضية صدق القرآن, وحاشا لله أن يحدث ذلك. وحينما نثبت أن ما رأوه, قد أخبر رب العزة به قبل أن يروه بألف وأربعمائة عام تقريباتكون هذه شهادة علي صدق الوحي والرسالة. ومن العجيب أن الحدث ذلك؛ أقصد كون السماء والأرض كانتا جمعا ففتقهما الله, قد وقع قبل أن تكون هناك السماوات والأرضون  منذ ما يزيد علي 13 ألف مليون سنة.

 

 الشكل التالي يبين ولادة الكون بالرتق ثم توسع السماء

وربما كانت تلك الوقفة مناسبة, ونحن نتحدث عن مولد الزمان الكوني, أن نهدي تلك الكلمات الرائعة لإخواننا من المسلمين الذين يقفون معارضين  قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكلمات. والكلمات هي للدكتور عبد المحسن صالح قد وردت في مقدمة كتابه"ومن كل شيء خلقنا زوجين" فقد اقشعر جلدي خشية من الله حينما قرأته. يقول في مقدمته: "إن رجل العلم الحقيقي يعيش دائما مع القوانين الكونية. والنواميس الطبيعية. ومن خلال تعامله معها بالبحث والتمحيص والتجريب. يكتشف أن كل شيء قد نظم تنظيما بديعا. وخلق خلقا. فسري كل أمر بموازين عظيمة لا يعتريها خلل. ولا تداخلها فوضي. بل إن النظام هو القانون الأول من قوانين الكون والحياة.. بداية من الذرة, إلى الجزيء, إلى الخلية, إلى الكائن الحي, والسماوات بما تحوي من أقمار وكواكب وشموس ومجرات". ويضيف قائلا: "ذلك أن العلم متطور. والقرآن مناسب تماماً لهذا التطور. بشرط أن يكون قارؤه متطوراً غير جامد. ولا متعصب لرأي لا يستقيم مع عقل راجح أو فكر صائب".
ويكفينا الإقرار غير المباشر علي وجود الله, علي لسان عالم بحث دون أن يدري في فتق الرتق وهو يناقش قضية ال
إنفجار الأعظم.

أقرأ المزيد  إنهم يرون فَتْق الرّتق حقا..أفلا يؤمنون

أطلع على سيرة المؤلف الذاتية

يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل : hamamahem@hotmail.com 

 

 

تأملات في سورة الأنبياء
 

 د. ســلامه عبد الهادي

أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان

قال الله تعالى:(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)[سورة الأنبياء:30].

القرآن الكريم نور يهدى إلى الله و إلى طريقه... و لكل آية من آيـات القرآن إشعـاع خـاص  بها ... منه مـا يهدي إلى صـراط الله المستقيم و سعـادة الدارين و الاطمئنـان بهمـا..

 

 

 

 و منـه مـا يلقي على آيــات الله فى الكون فـيـتـعمق فى أسـرارهـا بحكمة خـالقهـا، يعي منهـا المتدبر بحسـب علمه و تخـصـصـه، ليهتدي بهـا إلى عظمـة الخـالق الذي وسع كل شيء رحمـة و علمـا... وعندمـا يعجز العلم عن الوصول إلى تفسير كيف بدأ الخلق و من هو القائم عليه حتى يستمر ويسير بهذا النظام الثابت والواحد فى كل شيء و كيف ينتهي... نجد فى آيـات القرآن الرد التـام و الكـامل و التي هي بمثابة إعلان من الله أنه هو الخالق و الحي القيوم والقائم على كل هذا... ودليل و برهان على حقائق مطلقة يدركها العربي و الأعجمي تنتهي إلى الإيمان بعظمة الله و قدرته...  يأتي هذا البرهان بالقول الذي يعجز عن أن يأتي بمثله من فى الأرض جميعـا و لو اجتمعوا له... وما نتطرق إليه فى هذا المقال وجه واحد من أوجه الإعجاز فى هذه الآيات... و هو الإعجاز الذي يراه مهندس تطبيقي... ولكن هناك الإعجاز الأدبي والبلاغي و الجمالي والتضافرى والتركيبي والعلمي وأوجه أخرى يراهـا كل إنسان بحسب معارفه وتخصصه فى كل آية و كلمة و حرف من هذه الآيات... دليلا على صدق هذه الرسالة... خاتمة رسالات الله إلى خلقه و التي تتناسب مع هذا العصر و علومه.    

        و لنـنظر إلى آيات نـقرأهـا فى  القرآن الكريم أو نراهـا فى هذا الكون البديع و نختص فى هذا المقال  بآيات جاءت متعاقبة فى سورة الأنبياء حيث يقول الحق :

(أو لم ير الذين كفـروا أن السماوات والأرض كـانتـا رتقـا فـفـتقـنـاهمـا و جـعلنـا من المـاء كل شيء حي أفلا يـؤمنـون، وجعلنـا فى الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنـا فيهـا فـجـاجـا   سبـلا لعلهم  يهتدون، وجعلنـا السمـاء سـقفـا محفـوظـا وهم عن آيــاتهـا معرضون وهو الذي جعل الليل و النهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون) الأنبيـاء (30 ـ 33 ).

        ثم ننظر لمتابعة نفس الموضوع إلى آيـة جـاءت فى نهـاية نـفس السورة لتعـبر عمـا يحدث للسماء فى يـوم القـيـامة حيث يقول الحق(يوم نطوى السماء كطي السجل للكتب،  كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا عليـنا،  إنـا كنـا فـاعلين)[سورة الأنبياء:104].

        تخـاطب هذه الآيـات الكـافـرون بوحدانية الله وقدرته فى كل زمـان، فتعرض عليهم بأقوى الأسـانيد العلمية و الأدلة المـرئية مـا يـؤيد دعوته إلى كل الأنبياء و إلى خـاتم المرسلين أنه لا إله إلا الله... أو لمالآيــات بقول الحق... أو  لم  يـر ... دليلا على أن من له الرؤية السليمـة سـوف يصل إلى هذه الحقـائق.

        و قد أقـر جمهور علمـاء الطبيعـة أن خلق هذا الكـون جـاء من مـادة واحدة ملأت الكون فى بدايته... وأن هذه المـادة المنتـشرة التي ملأت الكون فى بـداية خلقـه جـاءت جميعهـا من أصل واحــد ومن نبت واحد بحيث تـشابهـت في كل أركـان هذا الكون.. فقد رأوا نفس الذرات والعنـاصـر والمركبات فى كل أركان الأرض بل وعلى سطح القمـر وفى المريخ والشمـس والكواكب الأخرى..و فى النجوم و المجـرات جميعهـا.. فالمعـادن التي على الأرض هي نفس المعـادن التي وجدتهـا مركبات الفضـاء فوق سطح القمـر والمـريخ... والغـازات التي تكون الشمس وتحيط بهـا هي نفـس الغـازات التي نجدهـا فى معـاملنـا على الأرض.. وجميع الكواكب تخضع فى حركتهـا إلى نفس القوانين التي تخضع لهـا الأرض.. وجميع النجوم تخضع فى تفـاعلاتهـا إلى نفس القوانين التي تخضع لهـا الشمس ولهـا نفس مكونـاتهـا.. لهذا وضع العلمـاء نـظريـاتهم عن بداية هذا الكون أن المـادة التي جـاء منهـا خلق الكون كـانت جميعهـا مجتمعـة فى حـالة إنضغـاط لإنهائي قبل ولادة الكون...ثم وقع على قدر تخيلهم حدث بدأ و انتهى فى لحظة واحدة و نشأ عنه انـتـشار هذه المادة فى الكون كله و أسموا هذا الحدث " الانفجـار الكبير "... ثم تحولت مـادة الكون بعـد هذا الانفجـار إلى إشـعـاع مـلأ الكون كله... ثم تحول الإشعاع بفعل بـرودة الكون إلى ذرات تمـاثلت جميعهـا فى تكوينهـا و أشكـالهـا... ثم تجمعت الذرات فى نظـام واحد إلى نـجـوم ثم كواكب تـابعة للنجوم... وتجمعت النجوم فى مجـرات و حـارات.. أي تشـابهت النجوم و الكواكب والمجـرات منذ بداية الكون و اتزنت وانتظمت بجميع مكونـاتهـا على حد قولهم بفعل انفجـار كبير لم يستغرق سـوى لحظـة واحدة.

        لقد أصـابت النظـرية فى أن مــادة الكون كما رآها هؤلاء نشأت جميعهـا من أصـل واحد ومن مـصـدر واحــد لأن نـسيج الكون كـله متـشـابه فى كـل شيء... ولكن إنكـار يـد الخـالق الذي دبــر أن يأتي هذا الكون من منشـأ واحد ثم إرجـاع هذه النـشـأة إلى انفجـار كبـير جاء فى لحظة وحدة يمثل تعـامي عن الحـقـائق... فمـا ينـشـأ عن انفجـار كبير هو الدمـار و ليس عمـارة الكون بهذا النظـام الكامل والوحدة الرائـعــة... هو الفوضى وليس اتـزان النجوم فى مجراتهـا والكواكب فى أفـلاكهـا منذ اللحظة الأولى... هو الاختلاف و ليس تـشـابه الكون فى كل أركـانه و أنحـائه  

        كيف يكون هذا الكمـال والاتزان والتمـاثل نتيجة لانفجار عشوائي... ثم مـا الذي أحدث انفجـار هذه المـادة وفى هذا الوقت القصير بحيث تملأ مـادته الكون كله على اتـســاعه بهذه الدقة المتنـاهية و التماثل التام فينـشـأ عنه كـون متسع يـتسم بالكمـال والجمـال و الوحدة و الاتـزان منذ لحظـته الأولى... إن العلم المجرد من الإيمان يقف عـاجزا عن الرد عن هذه الاستفسارات... و لا يستطيع أحدا أن يملك الرد على كل هذه الاستفـسـارات سوى خـالق هذا الكون الذي أنـشأه و شــهد نـشــأتـه... خـالق لم يرضى أن يترك النـاس فى حـيرة و شـك عندمـا يدركون مـا فى هذا الكون من تمـاثل أو تشابه جاء منذ بدايته دون أن يجدوا لهذا تفسـيراً.... فـأرسل كتـاباً يهدى به إلى الحق و الحقيقة وإلى صـراط الله المـستقيم... فجـاءت هذه الآية بالرد الحق على كل مـا رآه العلمـاء وحاولوا أن يـجدوا له سبـبـاً...( أو لم يـر الذين كفـروا أن السماوات و الأرض كـانتـا رتقـاً ففـتقـنـاهمـا )...      أي أن وراء هذا الكمـال والوحدة والاتـزان حالقا قديراً.. جعل ولادة هذا الكون من نسيج واحد أو رتق واحد، ثم فصل أو فتق هذا الرتق الذي كان يجمع السماوات والأرض فى حيز محدود من نسيج واحد إلى خيوط تـشابهت جميعهـا فى أشكـالهـا و خـامـاتها...  فجـاء هذا الفتق بحكمته و علمه إلى هذه الأفلاك والأجسام والنجوم والكواكب والمجرات والحارات التي تشابهت جميعا فى تكوينها وقوانينهـا وطاعتهـا و خاماتها و نسيجها وذراتها و عناصرها وتسبيحها... لهذا جـاء التوحيد والتمـاثل والاتزان والإبداع فى كل أرجـاء الكون.. ...  هكذا جـاءت كلمتـا( الرتق و الفتق ) بكل المعاني التي عبرت عن كل مـا وجده و حـار فى تفسيره العلمـاء و ليرد على من ينكروا أن وراء نظم هذا الكون وانتظامه بالمنطق والتفسير و العلم والحكمة خـالق قدير وعظيم... و هل يـتأتى إحكام هاتان الكلمتـان لأحد سوى خـالق السماوات و الأرض... خـالق الرتق و محدث الفتق....إنهـا حكمة لا تتأتى لأحــد غيره.. وهذا هو الرد المعجز على كل من ينكر فضله وآياته فى عمـارة هذا الكون و فى كتابه.

لقد كان الكون عبارة عن كتلة واحدة مجتمعة  وحدث انفجار هائل لا يمكن تصوره كان على أثره خلق الكواكب والحيوانات والإنسان وهذا نفس الكلام الذي حدثنا عنه الله في قرآنه قبل أكثر من 1400 سنة

        ثم تأتى الآية التـالية بدليل آخــر أمـام الكـافرين بوحدانية خـالق هذا الكون و الحياة، فكمـا خلق الله الكون من نسيج واحد جـاء فتقه و نشره بقدرته فصـار لهذا الكون اتسـاعه و إبداعه، جعل من الماء كل شيء حي فيقول الحق وجعلنـا من المـاء كل شيء حي..  من ينظر إلى هذه النجوم العملاقة يجد أنهـا جـاءت من أحد عنصري المــاء و هو الهيدروجين ثم نجد نتيجة مـا يحدث فى هذه النجوم من تفاعلات أثنـاء حياة النجم أو عند انقباضه يتحول النجم إلى مجموعة من العناصر الأخرى التي لهـا ذرات عمـلاقة...

         هناك من يدعى أن بعض هذه الذرات العملاقة قد كونت بالصدفة الأحمـاض النووية والأمينية العملاقة ثم اشتركت هذه الأحمـاض بالصدفة أيضـا فى تكوين أول   خلية جـاءت إلى الأرض، ثم دبت بهذه الصدفة الحياة فى تلك الخلية دون أن يعرفوا مــادة الحياة أو يقولوا مـا هي عناصر الحياة التي دبت فى الخلية بحيث ينشأ منهـا كل هذا الخلق، إن العقل البشرى يوقن أن مـا يحويه عنصري المـاء ( ذرتي الهيدروجين و الأكسيجين ) من إلكترونات و بروتونات و نيوترونات وجسيمات نووية و ذرية أخرى لا نعلم منهـا إلا القليل يمكن أن يتراص ويأتلف ليكون كل العنـاصر التي تراصت وترتبت لتكوين تلك الأحمـاض الامينية و النووية... و لكن هذا الترتيب والتنسيق لهذه المكونات والذرات لا يمكن أن يتأتى إلا بـإعجـاز خالق مبدع... فالأحمـاض النووية وهي تشكل وحدة بنـاء نواة الخلية التي تتمركز بداخل الخلية وتراقب عملهـا، لها عدد من الذرات الداخلة فى تركيبهـا يصل إلى ملايين الذرات بترتيـبـات محددة،  ونواة الخلية التي لها هذا التركيب هي المسئولة عن متابعة قيام الخلية بوظـائفهـا وانقسامها وتعاملهـا مع المحيط الخارجي وتعاونهـا مع باقي الخلايـا المحيطة بهـا فى الجسم البشرى أو جسم أي كائن حي... وجميع الخلايا الحية على الأرض سواء كانت نباتية أو حيوانية تتمـاثل جميعهـا فى هذا الترتيب، و لو اختل هذا الترتيب بأي درجة مهمـا كانت ضآلتهـا لانهـار بناء الخلية و لمـا كانت لهـا القدرة على القيام بوظـائفهـا المتعددة... إذا كيف تقوم الصدفة بهذا الترتيب المعجز لهذه الذرات و بهذا النظام المبهر لجزيئاتها العملاقة لكي تؤدى كل هذه الوظائف... إن هذا التفسير الذي افترضه العلماء لإنكار يد الخـالق لوحد االذى دبر هذا التركيبي الثابت شيء بعيد عن كل عقل و كل منطق... و كذلك الأحماض الامينيه التي تشكل جسم الخلية وهي المسئولة عن  تنفيذ مـا تحدده لهـا النواة من مهــام و القيام به على أتم وجه.... وللأحمـاض الامينية أيضا جزيئـات عملاقة تتكون من ملايين الذرات التي لهـا ترتيب خـاص و مبهـر و لو اختلفت فى ترتيب أي منهـا مـا كان لها أن تؤدى مـا لهـا من مهـام...وكل الخلايا الحية قد جـاءت بهذا التركيب ومن هذه الأحمـاض وكلهـا جميعـاً جـاءت من نفس مكونات المـاء كمـا أثبتت علومنـا... و لكن حكمة الخـالق جعلت كل خلية تختلف عمـا تؤديه أي خلية أخرى بحسب موقعهـا فى نبات أو حيوان أو حشرة أو طير أو فى أمعـاء أو فى سـاق وبحسب ما تختزنه نواتهـا من أسرار... ويطلق العلماء على مادة الخلية الحية اسم البروتوبلازم... و عنصري المـاء والماء نفسه هو المكون الرئيسي لهذه المادة كما جاء فى هذه الآية بهذا النص المعجز... فـإذا جف المـاء فى الخلية توقفت حياة هذه الخلية.

        و إذا نظرنـا إلي الحب الذي يلقى فى الأرض بدون المـاء فلن تكتب له الحـياة أو الحركة، فـإذا ارتوت الأرض فإن هذه الحبوب تعود و تدب فيهـا الحياة والنمـاء والحركة والاخضرار بما تحصل عليه من المـاء، فنـجدهـا بهذا المـاء قادرة على أن تذيب ما فى الأرض من عنـاصر وأملاح فتمتص من الأرض مـا تمتصه لتكون به أحمـاضـا نووية و أمينية ينشأ بهـا خـلايـا أخرى، و تستمر الخلايـا فى التكاثر ويستمر النبات فى النمو و النمـاء... مـا هو سـر هذا المـاء الذي لا تستقيم الحياة يدونه، فمن هذا المـاء جاء خلق كل خلية... وبدون هذا الماء لن تكون للنبات حياة، وبدون النبات لن تكون للإنسان أو الحيوان أو أي شيء آخـر حـياة،  و كل المخلوقات تسير على هذه السنة الثابتة.

        هكذا تبلغنـا هذه الآية الكريمة أن كل النجوم و الكواكب و المجرات و مـا يملأ الكون من جـاء من نسيج واحد تفتق بأيدي خـالق واحد فكـان هذا التماثل والوحدة، و جـاء خلق كل الأحـياء على الأرض من مـاء واحد وبيد خـالق واحد فكان هذا التماثل و الوحدة، ألا يدل هذا على وحدانية خـالق هذا الرتق وهذا الماء الذي جعلهمـا من أسراره... إن العلم قد وصل إلى وحدة نسيج هذا الكون... ثم عجز عن تفسير سـر هذه الوحدة فلجئوا إلى نظرية الانفجـار الكبير...  و لو نظر هؤلاء العلمـاء إلى هذا الإعلان الذي جـاء منذ أربعة عشر قرنـا فى خـاتم رسـالات رب السماوات و الأرض لسلموا من هذا الـخـلط... ثم أن العلم وصل إلى أن المـاء هو مـادة الحياة. و لكن العلمـاء عجزوا عن معرفة كيف يمكن لهذا الجزيء الذي تتكون منه الماء هو من ذريتين صغيرتين أن يتحول إلى هذه الجزيئـات العملاقة التي تتكون منهـا الأحماض الامينية و النووية و البروتوبلازم و مكونات الخلية الحية، ثم كيف تتحول هذه الجمادات إلى شيء حي يتحرك و يتنفس و يتكاثر و يتكامل مع الخلايا الأخرى... لو كانت الصدفة هي المسئولة عن هذه الترتيبات و هذا أبعد شيء عن العقل، فمـا هي مادة الحياة... الرد هو التسليم بقول الحق أنه هو الذي جعل من المـاء مـا وهبه الحياة فأصبح حي...و قد جـاء إعلانه لخلقه عمـا حـاروا فى تفسيره بهذا النص المعجـز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه...  ... إنهـا قدرة الخـالق على كل شيء و إعجـازه فى كل شيء.. فمـا للكـافرين لا يؤمنون...  و لهذه جـاء قول الحق بعد هذه الإثبـاتات...  أفلا يــؤمـنـون.. نحن نؤمن و نسلم بخالقنا.. فـأمامنـا هذا الإعجـاز الذي فتح الله إليه قلوبنـا و أزال من عليهـا هذا الوقر الذي يصيب قلوب و آذان و أبصـار الكافرين... و ندعو الله لهم بالهداية إلى هذا النور الذي أرسله سبحـانه ليكون لنـا نورا يهدى إلى الحق و إلى صراط الله المستقيم.

        لقد اختص الخـالق هذه الأرض بـرحمته حتى تحتضن الحياة والأحياء عليهـا، والآيـات التـالية تذكرنـا بهذه الرحمـة الإلهية، و لكي نتعرف على مظــاهر هذه لرحمة لا بد لنـا من إطلالة قصيرة على الكواكب الأخرى فى مجمـوعتنـا الشمسية كي نرى لم عجزت هذه الكواكب عن احتضـان أي نوع من أنواع الحياة عليهـا.

        نبدأ بعطــارد،  وهو أصغـر كوكب يدور حول الشمس و أقربهـا إليهـا، و كتلته أصغـر من كتلة الأرض و لهذا تقل قدرته على جذب الأشـيـاء إلى أقل من ربع الجـاذبية الأرضية ممـا يفقده القدرة على الاحتفـاظ بغلاف جوى مثل الغلاف الجوى للأرض، يحميه من القصف المباشر للنيازك، و لهذا نجد سطح هذا الكوكب مغطى بالبثور و الفوهات نتيجة الـصدام المباشر مع النيازك،  كمـا تلعب مكونـات هذا الكوكب دورا أســاسيا فى سـرعة دورانه حول نفسه حيث أصـابته بالبطء الشديد فيصل اليوم فى عطـارد إلي 60 يومـا من أيـام الأرض، و لهذا ترتفع درجة حرارة سطحه المضيء إلى 400 درجة مئوية... و نتيجة هذا الارتفاع فى درجات الحرارة لا يوجد أثـر للمـاء على هذا الكوكب و كذلك أي أثر لحياة بجيولوجية من أي نوع، و من المشاهد أن هذا الكوكب غير متزن حيث أن سطحه غير مستقر و يهبط بصورة مستمرة مـمـا جعل التجـاعيد تغطى وجهه، و بالتالي فإنـه غير ممهـد لقيـام الحياة عليه بأي صورة.

        ثم إذا انتقلنـا إلى كوكب الزهـرة، وهو كوكب من كواكب المجموعة الشمسية و يـساوى الأرض فى الكتلة و الحجم.. ولهذا نجد أن له جـاذبية تعادل جـاذبية الأرض مـمـا مكنته من الاحتفاظ بغـلاف جـوى... و لكننـا نجد أن سماء هذا الكوكب الذي احتفظ بهـا قد امتلأت بغـاز ثاني أكسيد الكربون مع سحب من حـامض الكبريتيك... و غـاز ثاني أكسيد لكربون غـاز ثـقيل و له قدرة عـالية على امتصـاص أشعة الشمس ممـا جعل جو هذا الكوكب جحيمـا لا يطـاق كمـا أن سحبه تسقط أمطـارا حمضية حولت سطح هذا الكوكب إلى كيان هش لا يحتمل السير عليه... ويصل طول اليوم الواحد فى الزهرة إلى 243 من أيـام الأرض نتيجة لاختلاف أبعاده و بعده عن الشمس، مما جعل درجة حرارة الوجه المضيء تصل إلى 450 درجة و الضغط الجوى فيه يصل إلى 90 ضعف الضغط لجوى على الأرض... و هكذا نجد هذا الكوكب بأرضه و سمـائه غير قـادرين على الاحتفاظ بالمـاء و من ثم بأي حياة بيولوجيه على سطحه.

        ثم إذا نظرنـا إلى المريخ و هو أقرب كوكب إلى الأرض،  فنجد أنه يدور حول نفسه مرة واحدة كل 24 سـاعة مثل الأرض، و لكن الغلاف الجوى الذي يحيط بالمريخ يتكون أسـاسـا من غـاز ثاني أكسيد الكربون عند ضغط منخفض جدا، و لأن المريخ أبعد عن الشمس من الأرض فنجد أن درجة الحرارة على سطحه تصل إلى الصفر فى أيام الصيف الشديد و تهبط إلى 123 درجة مئوية تحت الصفر فى أيام الشتاء.. و نتيجة لهذا الانخفاض فى درجات الحرارة على سطح المريخ، نجد أن المـاء المتجمع عليه فى حـالة جليد دائم، و لعـل هذا هو السبب فى اختفـاء أي أثـر للحياة على سطح المريخ.

و قد فشلت جميع الرحلات التي ذهبت إلى المريخ أو إلى أي كواكب أخرى من كواكب المجموعة الشمسية فى العثور على أي أثر للحياة على هذه الكواكب،  فقد اختص خـالق الأرض بأسباب لم يهبها أو يهيئها سوى للأرض بحيث تكون لديهـا هذه القدرة على احتضان الحياة عليهـا، و هذا مـا تبينه الآيــات التالية، و نبدأ أولا بهذه للآية الكريمة:    و جعلنـا فى الأرض رواسي أن تميد بهم فقد أرسى الخـالق فى هذه الأرض الكتلة و المكونات التي تنضبط بها قدرة الأرض على جذب الأشياء فوقهـا فتنضبط عليهـا حركة البشر و جميع المخلوقات فلا تميد بهم و لا تنهـار من تحتهم،  و كذلك أدى استقرار القشـرة الأرضية إلى استقرار الغلاف الجوى و ضغطه الثابت و استقرار المـاء فى البحـار و الأنهـار و كذلك استقرت على الأرض حياة البشر، و جعل الخالق بهذه الرواسي مـا يرسى للأرض فلكـا ثـابتا حول الشمس و حول نفسهـا لا تحيد عنهما، بحيث تتزن سـرعـتهـا و بعدهـا   عن الشمس فتنضبط عليهـا درجـات الحرارة و اتـزان حرارتهـا المفقودة أثناء الليل مع مـا تكتسبه من حرارة أثناء النهـار، وكذلك جعل للأرض بهذه الرواسي مجالا مغناطيسيا يحدد ميلا لمحور الأرض مع محور دورانها حول الشمس، فكـان للأرض بهذا الميل فصولا محددة كل عـام و مسارات للسحاب و الرياح و خرائط للأمطـار، ممـا أتاح للبشر الحياة المستقرة عليهـا.

        إن من يتدبر هذه الكلمـات أن تميد بهم   و التي تدل على أن الخـالق قد ضبط كتلة الأرض أو مـا أودعه الخـالق فى الأرض من رواسي بحيث لا تميد بهم فلا تتقلص القشرة الأرضية تحت أقدامهم كمـا يحدث فى عطـارد، و لا يطيرون من فوقهـا كما يحدث على القمر و لا يلتصقون بهـا كمـا يحدث فى المريخ، و تحفظ لهم غلافـا جويـا حاميا بالضغط المناسب، و تحقق لهم درجة الحرارة المناسبة لهم بحيث مكنهم من الحياة عليهـا، وقد تحددت بهذه الرواسي و تكوينهـا الذي لا يعلمـه إلا الله البعد المناسب عن الشمس و الميل المطلوب مع محور الشمس و السرعة المطلوبة حول الشمس و حول نفسهـا فلا يكون للأرض انحرافـات عن المعدلات المطلوبة لحياة الأحياء عليهـا، و مـا ذا يحدث لو لم تكن لهـا هذه الرواسي و مـادت الأرض عن فلكهـا و مسـارهـا حول الشمس بأدنى انحراف فزاد مثلا بعدهـا عن الشمس بأدنى مقدار، ستتجمد المياه والحياة كلهـا على الأرض لأن الطاقة الساقطة عليهـا تتغير بتغير مربع بعدهـا عن الشمـس، ومـاذا يحدث لو اقتربت بـقدر يسير من الشمس لا يتعدى مثلا  1 % من بعدهـا الحالي ، سيصل متوسط درجـات الحرارة على الأرض إلى مـا يزيد عن درجـة غليان المـاء ، أي عن 100 درجة مئوية وهذا الحد كـافيـا لتحول  كل مياه البحار و المحيطات والأنهـار إلى بخـار أو سحب و تتوقف الحياة على الأرض ، وسيتغير أطوال الفصول ومقدار أيام لسنة الشمسية ممـا يؤدى إلى هلاك كل مـا نقوم بزراعته و نـتغذى عليه  نحن و كل الأحياء ، و مـاذا يحدث أيضـا لو لم تكن فى الأرض رواسي  بهذا القدر المحكم فتبـاطأت سرعة الأرض حول نفسهـا فيتكرر  لنـا مـا يحدث على كوكب الزهرة ، فتزيد درجة حرارة الوجه المضيء و تفقد البحار ميـاهها على هذا الوجه ، و تتجمد المياه فى البحـار على الوجه المعتم و تتوقف الحياة عليه ، و كذلك يلتصق الأحياء على الأرض كمـا يحدث على هذا الكوكب  ، و بنفس هذه التأثيرات لو زادت سرعة دوران الأرض حول محورهـا ، فـينخفض متوسط درجـات الحرارة على الوجهين و نطير من على سطح لأرض كمـا يحدث فى القمـر ، و لا يبقى لنا غلاف جوى مثل عطارد ، هكذا جـاءت حكمة الخـالق و علمـه فى تحديد الرواسي التي يتحدد بهـا كل شيء فترسو حياتنـا و نرسو على هذا الكوكب الذي أعده الخـالق ليحتضننـا عليه بكل الرحمة ، فكانت للأرض هذه الرواسي حتى لا تميد بنـا كما جاء فى قول الحق  و جعلنـا  فى الأرض رواسي أن تميد بـهم   إن الحرف أن جـاء إعلانـا بأن الخـالق  أحكم كل شيء فى  هذا الكون  فدبر رواسي الأرض  بهذا التقدير الحكيم و بهذا العلم الدقيق حتى يكون للأرض مـا لهـا من استقرار و رسو دون أي انحراف أو تجـاوز  فتكون مرسى لهذا الكائن الذي مهد خالفه  كل شيء من أجله .   

        ثم تستكمل الآية الكريمة فى فضل الله علينـا فى هذه الأرض التي يسرهـا لنـا بقوله سبحانه و جعلنـا فيهــا فجــاجــا سـبلا إن من يذهب إلى القمـر و لا يجد عليه سـوى فوهـات أو على عطـارد فلا يجد عليه سـوى التجـاعيد أو إلى الزهرة فلا يجد إلا تربة هـشة لا يستطيع السير عليهـا، سيستشعر نعمـة الله علينـا فى هذه الفجـاج التي يسرهـا الله لنـا على الأرض كي نحيـا و نسير عليهـا و تيسـر لنـا سـبل الزراعة و التجـارة و الصنـاعة و الترحـال و الانتقال بسهولة و يسـر،  فقد امتدت القشرة الأرضية فى تمـاسـك و صـلابة و استواء و امتداد... فاتسعت رقعتهـا للغـابـات و الوديان و الطرق و الأنهـار و البحـار القرى و المدن و كل مـا يبغيه البشر من سبل لحياتهم و متاعهم و رزقهم و أنعامهم و عرباتهم و طـائراتهم ، لقد يسـر الله هذه الفجـاج ليهتدوا إلى سبل الرزق و الحياة و التعارف ثم  يهتدون إلى خـالقهم و مانحهم هذه النعم و موفر لهم هذه الأرض بانبسـاطهـا و امتدادهـا و طرقهـا ، و هكذا كان ختام هذه الآية بهذه الكلمـات لعلهم يهتدون... أليس فى هذه السبل و الفجاج هداية إلى معرفة فضل الله علينا و هداية إلى الحياة على الأرض و الانتفاع بخبراتها.

        ثم تأتى الآية التـالية لتذكرنـا بفضل الخـالق فى أن يخصنا بسمـاء تحفظنـا من فوقنـا برحمته،  فنرى فضل الله فى خلقهـا لنـا بهذه الكيفية من يستعرض الكواكب من حولنـا فلا يرى لها سمـاءا حافظة و محفوظة مثل سماء الأرض، فبها غـلاف جـوى يحمينـا من أشعة الشمس الضـارة، فيسمح هذا الغلاف بمرور مـا ينـفـعـنـا من هذه الأشعة و يحتجز مــا يضرنـا بطبقة تسمى طبقة الأوزون، ثم اختص هذا الغلاف بنسبة عـالية من غازي الأكسيجين  و النيتروجين، و كلاهمـا لا يمتصـان أشعة الشمس فتنفذ الأشعة النافعة من خلالهمـا لتصل أشعة الشمس إلى النبات ليختزن الطـاقة اللازمة له و لمن حوله، ثم أن وجود هذه النسبة من الأكسيجين فى الهواء الجوى تحرق أي نيازك قبل أن تصل إلى الأرض فلا ترى هذه الفوهـات و البثور على أرضهـا مثل باقي الكوكب التي لم يخصها الله برحمته، و فى الهواء نسبة ضئيلة من غـاز ثاني أكـسيد الكربون القـادر على امتصاص أشعة الشمس لا تتعدى جزء من الواحد بالمـائة كي يتغذى عليها النبات، و لكن لو زادت لحدث لنـا مثل ما يحدث على كوكب الزهرة الذي يـسـتحيل الحياة عليه، و قد حفظه الخالق لنا بهذا الثبات حتى نتمكن من الحياة على الأرض إلى أن يشـاء الله، ثم نجد أن غـاز الأكسيجين يؤدى أدوارا عديدة أخرى فى حياتنـا حيث يحترق به الغذاء فى أجسامنـا و النار من حولنا، و كذلك غـاز النيتروجين و مـا يؤديه فى حياة النبات الذي يتغذى عليه

          كل هذه الأدوار تؤديهـا  سمـاءً حفظهـا الخالق لنـا و حفظنـا بهـا كسقف يمنع عنـا أن يصيبنـا من فوقنـا مـا يصيب كواكب أخرى حولنــا  و يتيح لنـا الحياة عليهـا دون أن نحترق أو نختنق ، هل جـاءت سماء أرضنـا كمـا قال خـالقهـا سقفـا  محفوظا بكل هذه الخصوصيات و الآيـات  بدون  تدبير أو تنظيم أو تقدير خـالق عـزيز عليم  ... كيف نعرض عن كل هذه الآيـات و لا نتدبرها حق التدبر... هكذا يعاتبنـا الخـالق بقوله سبحانه و هم عن آيـاتهـا معرضون فالسمـاء كلهـا آيـات على عظمة خـالقهـا و رحمته و عزته و علمه.. علينـا أن نتدبر بهـا بهذا الاستدلال المعجز الذي أرسله الخـالق إلينا فى خـاتم كتبه.. و هل يستطيع بشرا أن يضع لفظـا جـامعـا يصف هذه السمـاء و مـا تؤديه من أدوار فى حياتنـا كسقف حـافظ و محفوظ لنـا و لأرضنـا بأبدع و أروع من هذه الكلمـات... إنهـا كلمـات جاءت حقا من خالق الأرض و السمـاء.

        ثم تأتى الآية التالية التي تذكرنـا بـفضل الله و آيـاته فى هذه الأشياء التي من حولنـا.. فى الليل و النهـار.. الشمس و القمــر... كيف انتظمـت و توافقت مع حياتنا و خلقنا و عملنا و راحتنا و دورات حياتنا و أعمـارنـا و انتظم بهم كل شيء من حولنا..  الحياة المستقرة و العمل نهارا و النوم ليلا ومـا يناسب أجسامنا من درجـات الحرارة و ضغط الهواء.. نحن لا نستطيع أن نحيا على كوكب الزهرة الذي يصل طول اليوم فيه إلى  243 مثيله على الأرض فتصل درجة الحرارة على سطحه إلى مئات الدرجات .. إنه لا يتوافق مع حياتنـا و مع تكويننـا و مع خلقنـا... فمن سخر كل هذه الأشياء لنـا... من سخر كل هذا التوافق و الانسجام بيننا و بين كل هذه الأفلاك... من دبر للأرض و خلقهـا تدور حول نفسهـا بهذه السرعة الثابتة أمام الشمس ليأتي الليل و النهـار منسجمـا مع بعد الأرض عن الشمس و راحة الإنسان و حرارته و حياته و سعيه... من سخر الأرض تدور حول الشمس بهذا الخضوع و هذا الثبات فيأتي هذا التعاقب للفصول بهذا الإبداع و الالتزام فى كل أنحاء الأرض ومع مـائهـا و هوائهـا و رمـالهـا و سحابهـا و كل شيء عليـهـا... من سخر للقمر دورته حول الأرض و أمام الشمس فيأتي هلالا و بدرا و تتعاقب أشكاله بهذا الإبداع و الانسجام مع كل مـا خلق الله على الأرض... أنهم جميعـا يسبحون لخـالقهم بهذا الالتزام و هذه الطـاعة المتنـاهية و المتمثلة فى هذا الانسجام الشامل و الكـامل.

         لقد أعلن العلمـاء أنه حتى نرى كوكبـا آخر يمكن أن تقوم حياة عليه فى هذا الكون فيجب أن تكون له كتلة مثل كتلة الأرض و حجمـا مثل حجم الأرض و قمرا مثل قمر الأرض و له زاوية ميل و سرعة دوران حول نفسه و حول شمسه مثل مـا للأرض و أن تكون له شمسا مثل شمسنا عمرا و حجما و كتلة و إشعاعا و أبعادا و ثباتـا.. وأن يكون لهم جميعا نفس الأفلاك و الظروف و المقادير... و هذايسبح كل شئ بنفس هذه التسبيحات و فى نفس هذه الأفلاك.. و  هذا مـا تنص عليه  هذه الآية فى نهايتهـا    كل في فلك يسبحون  ..  فإنهـا سبـاحة وتسبيح بعلم خـالق عزيز وعليم وقدير ومقدر لكل شيء بحكمته.. فهـل لنا أن نسبح معهم.

الشكل التالي يبين كواكب المجموعة الشمسية بحسب بعدها عن الشمس

        كمـا رأينـا أن يد الخـالق هي التي بدأت هذا لكون، و كيف أيقن العلمـاء بهـا بعد أن تداعت نظرياتهم فى الانفجـار الكبير و اعترفوا أن من ينظـر إلى الكون يشعـر أن هناك يد خـالق واحد نسقت كل هذا الكون فجـاء كله وحدة واحدة أوله مثل آخره، و أعلن الخـالق عن أن يده هي اليد العليـا فى هذا الكون المنتظم فى خاتم كتبه بآيات يعجز البشـر عن أن يأتــوا بمثلهــا، و لكن نرى أن هؤلاء العلمـاء يتخبطون مرة ثانية و هم يحـاولون أن يعرفوا كيف ينتهي هذا الكون دون اللجوء إلى الله... فقد أثبتت نظـريـاتهم بأنه أي الكون يتمدد و يتسع دائمـا.. و قد أشـار الحق فى خـاتم كتبه إلى هذه الحقيقة الجـامعة بقوله سبحـانه و السمـاء بنينـاهـا بأيد و إنــا لموسعون ( الآية  47  من سورة الذاريات ) ... هكذا تفسر الآية أن هذا التوحد و التماثل و التشابه فى بناء هذا الكون قد جـاء لأن يدا واحدة كان لهـا مـطلق الخلق و التشكيل فيه.. يدا تعلن عن نفسهـا و لا أحد غيرها يتطـاول أن يدعى سوى هذا... و تأتى هذه الآية أيضـا لنـقـر بالحقيقة الأخرى التي اكتشفهـا العلمـاء أن إرادته وحده هي التي جعلت هذا الكون يتسع و يتمدد دائمـا، و يتم هذا التوسع بنفس الانتظام و على نفس السنة منذ أن بدأ خلق المكان و الزمـان منذ أن شـاء الله فتق الرتق الأول حتى يومنـا هذا... و يأتي سـؤال آخــر من العلم و العلمــاء... إلى متى يستمر فتق هذا الرتق الذي بدأ منه الخلق فى التمدد و التوسع... إذا كان هذا الرتق محدودا فهو لن يستمـر فى التمدد و التوسع إلى الأبد.. و لكن سوف تأتى لحظـة معينة بحسب نظريات العلماء سيبلغ فيها المكان و الزمان نهايتهما... و سوف تـعود المـادة التي ملأت هذا الكون فتتجمع مرة أخرى و يتساقط الكون فى حدث أطلقوا عليه اسم الانسحاق العظيم و هو اسم مرادف للاسم الذي أطلقوه على بداية الكون بالانفجار العظيم... حيث سينسحق هذا الكون كمـا تسحق النجوم التي ملأت الكون عن آخره فتتحول إلى ثقوب سوداء.

         و يبقى السؤال الذي لا رد له إلا الإيمان بخالق هذا الكون وباعثه.. متى تأتى هذه اللحظة.. و مـاذا يحدث بعدهـا.. و هل ستكون هناك دورة جديدة يتجدد فيهـا المكان و الزمان مرة أخرى... و من له اليد العليا فى تحديد هذه اللحظة.. هل هي المـادة ذاتهـا التي تقوم بهذا الحدث من تلقـاء نفسهـا ودون أي إرادة أعلى.

        إنـنـا و نحن نواجه أقوال العلمـاء و هم يذكرون هذا الحديث نشعر بأنـنـا أمام افتراضات عقلانية و غير قادرة على إقامة الدليل على شيء محدد فلم يرى أحد كيف بدأ الخلق و كيف ستكون نهايته...و لكننا سنحاول بالقدر الذي أتاحه الله لنـا من العلم و هذا النور الذي بين أيدنـا أن نتدبر فى خلق الله... فالكون له بداية كمـا أثبت العلم و العلمـاء و أقـر الخـالق هذه الحقيقة  فى قرآنه .. و كل شيء له بداية بهذا الإبداع و الانسجام و الانتظام لا بد أن له مبدأ.. و هذا مـا أقره الخـالق و أعلن أنه هو المبدأ فى قرآنه.. وكل شيء له بداية أيضـا فإن لـه نهـاية.. وهذا مـا أثبته العلمـاء أيضـا بنظريتاهم و أسـانيدهم... و لكن لن يستطيع أن يصف تلك اللحظـات الأخيرة لهذا الكون سوى خـالق الكون و مسيره.. فهو مبدأ الكون و العالم و المقدر و القادر و العالم بنهـايته وكيف ينهيه.. هو الموجود من قبل و من بعد و له اليد فى كل شيء... و لكننا نوقن بما يسره الله لنا من علمه أنه لا بد أن يعود هذا الكون مرة أخرى بشكل لا يـعلمه إلا خـالقه و مبدؤه... و كل مـا توصلنـا إليه هو محض فروض بنيت على المنطق العلمي و مـا اكتشفه العلمـاء من توسع الكون بالقياسات العلمية و عبرت عنهـا كلمـات شــاذة مثل الانفجار العظيم و الانسحاق العظيم لا يستطيع أحد إدراكها أو يتخيل حدوثهـا لو كان له ذرة من العقل و المنطق و البصيرة، و لكن معرفة هذا لن تتأتى دون الإيمان بالله خالق الكون و مبدعه و القائم على أمره و القادر عليه.

        تعالوا نترك الآن أقوال العلمـاء و نقف أمام قول الحق فى نهاية نفس السورة التي عبرت فى أولهـا عن بداية الخلق، حيث تحدثنـا عن يوم القيامة، اليوم الذي قدره الخالق لنهـاية حياتنـا الأرضية و بداية حياة أخرى لا يعلمهـا إلا هو:  يوم نطوى السماء كطي السجل للكتاب، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا علينـا إنـا كنـا فـاعلين أي أن السمـاء كانت مطوية فى هذا الرتق الذي عبرت عنه الآيات الأولى فى السـورة، ثم إذا جـاء أمره فى نهـاية الحياة الدنيـا سوف تعود و تطوى بقدرته مرة أخرى... لتعود سيرتهـا الأولى.. ثم مـا ذا يكون بعد ذلك هذا علمــه وحده.

        هكذا يكون تعبير الخالق عن خلقه.. كلمـات ذات معنى يفهمهـا المرء دون صخب أو تعب أو ضجر أو ملل.. فليس انسحاق عظيم.. و لكن طي بيد الخالق الذي فتق أو أفرد صفحـات هـذه المادة التي ملأت الكون برحمته و علمه و فضله...و انسحاق مادة الكون لا يدل على انقباض المكان... و لكن الطي يحوى انحسار المكان و الزمان و الكون كله... و الانسحاق معناه التحول إلى العدم.. و لكن الطي معناه إعـادة الشيء إلى أصله و بدايته... و الانسحاق معناه الغوغائية و أللانتظام  ... ولكن الطي معناه الحكمة و الـتمهل و النظام... والانسحاق معناه أن المادة هي المسيطرة و تنسحق وقتمـا تشاء... ولكن الطي يبيد الخالق الذي جـاءت البداية بيديه و كما بدأ أول خلق يعيده كما تذكر الآيات...والانسحاق معناه اللاعودة أو النهاية لكل شيء... و لكن الطى معناه نهـاية مرحلة و بداية أخرى... هل يستطيع عـالم مهمـا بلغ علمـه أن يأتي بكل هذه المعاني فى كلمـات محدودة أوعت كل شيء.. و هل يستطيع عـالم أن يقرر هذه الحقائق بهذه القدرة و الطلاقة و البيان.. إننـا حقـا أمام أنوار الحق تضيء لنـا الحقائق التي تخرجنا من الظالمات إلى النور.. ظلمـات المـادية التي تصور المـادة على أن لهـا القدرة على أن تنفجر وقتمـا تشاء و تنسحق وقتمـا تشـاء.. و تصورنـا ألعوبة فى يد مـادة بلا عقل أو تفكير فتقوم بنفسهـا بانفجـار كبير فتنشأ كونـا متسعـا و متوسعـا منتظما و منسقا،  أو تنتهي و تتحول بدون مقدمـات من تلقاء نفسهـا بانسحاق عظيم فينتهي الكون كله بمكانه و زمانه.. هل يقبل العقل مـا يقوله المـاديون بهذه المسميات المادية الغير متعقله أم يقبل هذه الآيات من خالق السماء و الأرض... (يوم نطوى السماء كطي السجل للكتاب كمـا بدأنـا أول خلق نعيده وعدا علينـا إنـا كنـا فاعلين)... صدق الله العظيم

        لقد أثبت العلم أن من كانوا ينادون بأن المـادة هي أصل كل شيء بدعوى قـانون بقـاء المـادة قد وقعوا فى وهم شديد.. فالمـادة ليست بـاقية كما أعتقد هؤلاء بعد إثبات أن المـادة تتحول إلى طـاقة و الطـاقة أيضـا ليست باقية كمـا ظن الناس قديمـا.. فهي تهبط من الدرجة الأعلى إلى الأدنى و لا تعود مرة أخرى... و هكذا أتضح أن المـادة لهـا نهـاية و أن المـادية وهم فى وهم.. و لهذا انهـارت المـادية فى العـالم أسـسـا و تطبيقـا و فلسفة.. و انهـارت معهـا الشيوعية و كل أدع يائها ... وأعلن أهلهـا أنهـا كانت أسوأ  مـا عرفته البشرية من نظريات أو فلسفات ...  فليس للمـادة من إرادة.. و لكن إرادة الخالق هي التي فتقت المـادة فى البداية لتنتشر فى الكون الآخذ فى التوسع و تطـويهـا فى النهـاية لتعود كمـا أراد لهـا خـالقهـا، و لا مناص لنـا من لاعتراف بقدرته و العودة إليه فى تفسير كيف بدء الخلق ثم كيف ينتهي.. فلم نشهد و لم يشهد أحد على الأرض هذه اللحظة، حيث يقول الحق ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم ( الكهف 51 ) لهذا فلا بد لنـا أيضـا من الاعتراف أنه بعد نهـاية الكون فسوف ينبعث مرة أخرى ليعود كمـا يريد له خالقه و ومبدؤه ثم معيده.. و لهذا نجد أن هذه المعاني قد جاءت فى كتاب الله العزيز عدة مرات ( الله الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ) [الروم 11 ]،  (أو لم  يروا  كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير) [العنكبوت: 19] لنفطن إلى هذه الحقيقة التي لم نراها عند بدء الخلق أو لا نعرفهـا لأن الكون لم ينتهي بعد ... و لكن الخالق يضعهـا أمـامنـا حتى لا نضل ونشقى... فبأي حديث بعده يؤمنون صدق الله العظيم  

مكن المراسلة على البريد التالي:

salama_abdelhady@hotmail.com
 

 

 

مواضيع ذات علاقة

اسم الموضوع

هجري

تاريخ الموضوع

الإعجاز في علوم الأرض في القرآن الكريم

30 شعبان 1429

2008/08/31

الإعجاز الطبي والدوائي في القرآن الكريم

12 شعبان 1429

2008/08/13