بحث للدكتور محمود ناظم النسيمي
يعتبر
الماء من أهم ضروريات الحياة، فإنه يؤلف 63% على الوسط من تركيب الجسم
منتشراً في جميع نسج البدن بلا استثناء، ولكنه بمقادير مختلفة.
وهو سواغ لحل السموم البدنية وأطراحها كما في البول والعرق. كما أنه
ضروري لتعديل حرارة البدن بتبخره من مسام الجلد. وهو كذلك عنصر أساسي
في جميع مفرزات البدن. والماء وسيلة فعالة قيمة في نظافة وطهارة جسم
الإنسان ولباسه ومكانه من عوارض الأقذار والنجاسات. وصدق الله العظيم:
" وجعلنا من الماء كل شيء حي ".
تقسم المياه في فن الصحة إلى :
1.
مياه شريبة (صالحة للشرب) .
2.
مياه صالحة للاستعمال(غير ملوثة ولكنها لا تكتمل فيها شروط الماء
الشروب).
3.
مياه ملوثة لا تصلح للشرب ولا للاستعمال ما لم تصلح .
وتقسم المياه من الناحية الفقهية وصلاحيتها للطهارة من الحدث والطهارة
من الخبث إلى ثلاثة أقسام:
1.
ماء طهور صالح للطهارة
2.
وماء طاهر غير طهور (غير مطهر من الحدث ولكنه غير نجس).
3.
وماء متنجس.
وأنبه في مقدمة هذا البحث بأن المياه التي حكم عليها الشرع بالطهارة أو
بالطهورية هي بحسب الغالب كذلك.
وحكم الشرع له صفة الشمول والعموم، فهو يصلح لكل زمان ولكل الأقوام
والبيئات، يصلح لزمن لم تكتشف فيه وسائل التحقق من عدم تلوث المياه
ولزمن اكتشف فيه ذلك ، ويصلح للمثقف وابن المدينة في عصرنا هذا، كما
يصلح للبدوي في صحرائه في العصور السالفة أيضاً.
وإذا اتبع الناس شرع الإسلام في وصاياه التي تقي المياه من التلوث، فإن
الماء الطهور نادراً ما يتلوث، وتبقى صلاحيته للشرب هي الغالبة. وعلى
من علم بتلوث ماء أن يتجنبه وأن ينبه غيره لذلك بعداً عن الضرر وحرصاً
على ما ينفع، وذلك لقوله تعالى : " وخذوا
حذركم" (سورة النساء:101)، " ولا
تلقوا بأيدكم إلى التهلكة" (سورة البقرة : 195)، " ولا تقتلوا
أنفسكم"(سورة النساء:28)، وقول رسوله الكريم
: "احرص على ما ينفعك واستعن
بالله ولا تعجز.." (رواه الإمام أحمد
ومسلم وابن ماجة عن أب هريرة رضي الله عنه كما في كشف الخفا برقم
(2713).
الماء الطهور:
هو الماء الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهو كل ما ء نزل من السماء أو
نبع من الأرض باقياً على أصل خلقته، لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي
اللون والطعم والرائحة، أو تغير بشيء لا يسلب طهوريته، ولم يكن
مستعملاً.
تتبخر مياه البحار والبحيرات والأنهار وغيرها من مصادر الماء الموجودة
على سطح الأرض بصورة مستمرة بسبب حرارة الشمس والرياح وتغيرات الضغط
والحرارة والكهرباء الجوي. وبعد تكاثفها تعود إلى الأرض بشكل مطر أو
ثلج أو برد أو ندى. وبعد أن يفي كل من هذه الأصناف وظيفته يعود فيتبخر
من جديد بسبب العوامل المتقدمة الذكر. وهكذا يستمر التبخر والتكاثف إلى
ما شاء الله تعالى .
قال عز وجل : " وهو الذي أرسل الرياح بُشراً
بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً، لنحيي به بلدة ميتاً،
ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيّ كثيراً "(سورة
الفرقان:48_49).
وقال سبحانه :( وينزل عليكم من السماء ماءً
ليطهركم به
…)
(سورة الأنفال: 11).
إن ذلك الماء الطهور الذي نزل من السماء منه ما يجتمع على سطح الأرض،
ومنه ما يجري بشكل سواقي أو جداول أو سيول أو أنها موقتة، ومنه ما ينفذ
في الأرض مؤلفاً المياه الأرضية التي تؤلف الآبار والينابيع والعيون.
وقد أشار الله تعالى في بعض آياته المحكمة إلى ذلك فقال سبحانه
: " أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها
.." (سورة الرعد: 19).
وقال جلت عظمته : " ألم تر أنّ الله أنزل من
السماء ماءً فلسكه ينابيع في الأرض.." (سورة الزمر : 21).
لقد أجمع الأئمة المجتهدون على أن جميع أنواع المياه السابقة طاهرة في
نفسها مطهرة لغيرها. أما ماء البحر فإن اسم الماء المطلق يتناوله وقال
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو
الطهور ماؤه، الحلّ ميتته". وسيأتي تمام الحديث الشريف.
وأجمعوا عل أن كل ما يغير الماء، مما لا ينفك عنه غالباً، أنه لا يسلبه
صفة الطهارة والتطهير فيصلح لإزالة الحدث به.
مثال ما لا ينفك عن الماء غالباً بعض الأملاح وبعض المعادن أو أشباهها
التي تخالط الماء أثناء سلوكه في الأرض وتؤلف معه أحياناً المياه
المعدنية، فهي طهورة . ومثلها الماء المتغير بالتبن أو بورق الشجر الذي
تلقيه الرياح.
وهناك مغيرات أخرى للماء اختلفت فيها المذاهب في الحكم على بقاء
طهوريته .
ولا يتسع المقام هنا إلى تفصيل ما اختلفوا فيه .
ليس كل ماء طهور صالحاً للشرب من الوجهة الصحية. ولذا رأيت أن أوجز
صفات الماء الشريب وطرق إصلاح الماء الخاص خدمة في نشر الوعي الصحي.
الماء الشريب :
الماء الشريب هو ماء طهور امتاز بصفات على غيره تجعله صالحاً للشرب.
ليس كل ماء طهور صالحاً للشرب، فإن ماء البحر طهور، ومع ذلك فإنه لا
يصلح للشرب بديهة. وإن الذوق السليم لينبو عن شرب ماء مستعمل، أو شرب
ماء كثرت طحالبه أو ترابه أو ما يحمله الهواء إليه من غبار وأوراق شجر
وأوساخ . كما إنه يعاف شرب ماء غير مستطاب الطعم ولو أنه أخذ من منبعه.
وإذا كانت حاسة الذوق أو الشم أو البصر تمنع الإنسان من شرب بعض
المياه، مع أنها في الاستعمال طاهرة مطهرة شرعاً، فإن العلم بأن بعض
المياه ثقيل على المعدة أو ضار بصحة الإنسان لكثرة ما فيه من أملاح
ومعادن منحلة، أو لأنه يجلب الأمراض بما فيه من جراثيم وطفيليات، يمنع
من شرب ذلك الماء ولو أنه في الظاهر طاهر مطهّر.
أ.
فمن الوجهة الصحية يجب أن تكون مياه الشرب رائقة شفافة لا رائحة لها،
وألا يطرأ عليها فساد بعد المكث، وأن يكون معتدلة البرودة مستطابة
الطعم مهواة بكفاية، وأن تحوي كمية قليلة من الأملاح المعدنية المنحلة،
وألا تكون خطرة على الصحة العامة أي ألا تحتوي على أجرام جرثومية
ممرضة. وللتأكد من صلاحية الماء للشرب لابد من فحص كيماوي وجرثومي.
إن المياه الطبيعية الحائزة على هذه الشروط كلها قليلة جداً وهي :
1.
ماء السماء إن جمع بطريقة صحية وأمكن حفظه من التلوث فيما بعد.
2.
ماء الطبقة الغائرة العميقة، المستخرجة بصورة فنية صحية وهي الآبار
العميقة، أو المنبجس بنفسه من مكان مناسب وهي الينابيع الحقيقة هي
منبعها.
ثم إن المياه الصالحة في أصلها للشرب، لابد من حفظ سلامتها وتوزيعها
بطراز فني صحي. أما ما كان غير صال فلابد من إصلاحه لإعداده للشرب.
هذا ويفضل صحياً أن تكون مياه الاستعمال هي ذات مياه الشرب.
وإذا لم يتيسر ذلك كما هو الحال في غير المدن، فإن مياه الاستعمال يجب
أن لا تكون ملوثة. وإذا كانت ملوثة ولكنها غير نجسة في الحكم الشرعي
فإن بحث إصلاح الماء يعلمنا كيف ندفع خطر الماء الملوث في نشر الأمراض.
ب. إن اختيار الماء الصالح للشرب،كما أنه إحدى الأسس الوقائية في حف
صحة الإنسان، فإنه سنة نبوية . فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستعذب له الماء ويؤتي إليه من الآبار ذات الماء الطيّب. فعن عائشة رضي
الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يستعذب له الماء من بيوت السقيا) قال قتيبة وهي عين
بينها وين المدينة يومان
.
وأخرج الواقدي بسند له عن الهيثمي بن نصر بن زاهر الأسلمي قال : خدمت
النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه في قوم محاويج، فكنت آتية بالماء
من بير أبي الهيثم بن التيّهان جارهم، وكان ماؤها طيباً، ولقد دخل
يوماً ضائقة على أبي الهيثم ومعه أبو بكر فذكر القصة...
وإضافة إلى استعذاب الرسول عليه الصلاة والسلام لماء الشرب فلقد كان له
قدح زجاج يشرب فيه لأنه ـ كما قال الذهبي في الطب النبوي ـ أقل ما يقبل
الوضر ويرجع بالغسل جديداً ويرى فيه كدر الماء وكدر المشروب وقل أن يدس
فيه الساقي السم.
عن أبن عباس قال: " كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم قدح قوارير يشرب فيه "
.
جـ . ومن البديهي ومن التصرف الحكيم أن الإنسان إذا تيسرت له مياه
عديدة، واختلفت في صفاتها ومقاديرها، فإنه يختار أعلاها نقاوة وطيباً
وأقربها لصفات الماء الشريب من أجل شربه، ثم لطهوره من الحدثين ونظافة
جسمه، ثم لطهارة أو نظافة ثوبه، ثم لطهارة أو نظافة مكانه. كما إنه
يتبع ذات الترتيب في التفصيل إذا قل الماء لديه.
هذه قصة صحابي يستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة تأتي
دليلاً على ما ذكرت من أن طهورية الماء لا تعني صلاحيته للشرب، وأن سد
حاجة الشرب مقدمة في استعمال المياه. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال : (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله،
إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ
من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته"
د ـ هذا وإذا كان الماء الطاهر لا يجوز شروط الماء الشريب، وليس هناك
غيره، فإن من الواجب الصحي إصلاحه بالتصفية أو التطهير. والإصلاح نوعان
:
1.
إصلاح عام
أو مركزي لسد حاجة جمع غفير من البشر في مدينة أو بلدة، وتقوم عليه
مؤسسات خاصة، وتتوسع فيه كتب فن الصحة.
2.
إصلاح خاص
أ, موضعي لسد حاجة جماعة من الناس قليل عددها، وهو الذي يهم الفرد
والأسرة خاصة في ريفنا وباديتنا. ويجب تثقيف أفراد المجتمع بذكر أصوله
خدمة لصحة الأمة. ولذا رأيت من الواجب ذكر شيء عنه في هذا البحث
إتماماً للفائدة ونشراً للوعي الصحي .
إصلاح الماء الخاص:
لهذا الإصلاح ثلاث وسائل:
1ـ الترشيح، 2ـ استعمال المواد الكيماوية ، 3ـ استعمال الوسائط الحكمية
.
أ ـ الترشيح : معروف قديماً . وكانوا يكتفون باستعمال آنية بسيطة تصنع
من الفخار الرملي . و(الزير) أحسن مثال لها، وتكون نتيجة الترشيح على
هذه الطريقة جيدة أو لا بأس بها، لأنه تجعل الماء رائقاً مجرداً من
أكداره وكثير من جراثيمه أيضاً. ولكن إذا كان الماء كثير الجراثيم أو
كان فيه ما يخشى شره منها فلا بد عندئذ ن استعمال مراشح أكثر تجانساً
وأدق مساماً مما سبق .
وكثيراً ما تصنع على شكل الشمعة لذلك تسمى بالشمعات المرشحة، مثل شمعات
(شمبرلان) وشمعات (بركفلد) .
ب ـ استعمال المواد الكيماوية :
1.
الكلور مركباته : يكفي إضافة 1سم 3 من محلول ماء جافل في الماء بنسبة
1% أن يطهر ليتراً من الماء الملوث في مدة نصف ساعة أو ساعة واحدة فقط.
أما كلور الكلس التجاري فيضاف منه مقدار 1 ـ 3غ إلى كل متر مكعب من
الماء ويترك مدة 15 دقيقة على الأقل.
وفي السفر يستعمل محلول كلور الكلس بنسبة 1% يضاف منه 1سم 3 إلى كل
ليتر من الماء فيطهر في مدة عشر دقائق .
إن الكلور يجعل طعم الماء غير مستطاب فيترك الماء المعقم بمركباته مدة
ليفقد كلوره .
2.
صبغة اليود:
يضاف إلى كل لتر من الماء مقدار بين 8و 16 قطرة من صبغ اليود المهيأ .
وبعد رجّه جيداً يترك مدة 30 دقيقة ثم يعدل اليود الباقي بإضافة قليل
من منقوع الشاي أو القهوة أو بإضافة قليل ن هيبو سولفيت الصود.
ولا يجوز استعمال اليود طويلاً خشية من تخريش مخاطية المعدة .
3.
فوق منغنات البوتاس :
أبسط طريقة لاستعمال هذه المادة أن تستعمل محلولة في الماء بأي نسبة
كانت، ثم يقطر منها في كمية الماء المراد تطهيرها، على أن يتلون الماء
كله باللون الأحمر الشاحب الثابت، ويترك نصف ساعة قبل الاستعمال ثم
تزال فضلة هذه المادة بإضافة شيء قليل نم منقوع الشاي أو القهوة أو ما
ماثل ذلك حتى يزول اللون ويروق الماء.
جـ التطهير بالحرارة :
يلجأ إليه لتطهير المشتبه به أو الماء الثابت تلوثه بالجراثيم مع
الاضطرار إليه . يغلى الماء مدة عشرين دقيقة ثم يرفع عن النار حتى يبرد
. ومعلوم أن الغلي يدفع هواء الماء فيجعله ثقيلاً غير مستطاب إلا إذا
ترك مدة طويلة في الهواء بعد ذلك . ويمكن إسراع تهويته برجه.
الماء الطاهر غير الطهور:
هو ماء طاهر، ولكنه لا يصلح للوضوء ولا للغسل. وهو ثلاثة أنواع :
1.
(أحدها) : الماء الطهور في الأصل إذا خالطه طاهر غير أحد أوصافه
الثلاثة وكان مما يسلب طهوريته. وفيما يسلب الطهورية تفصيل المذاهب.
2.
(ثانيها) : ما أخرج من نبات الأرض بعلاج كماء الورد، أو بغيره كماء
البطيخ.
إن المدقق في مياه النوعين السابقين يلاحظ أن الماء فيهما غير صاف لا
يحقق النظافة التامة التي يؤمنها الماء المطلق. إضافة إلى الاعتبارات
الأخرى في بعضها من تلويث بدل تنظيف أو من إبدال تلوث من نوع بتلوث من
نوع آخر.
3.
(ثالثهما) : الماء القليل المستعمل:
اختلفت المذاهب في الحد بين القليل والكثير، واختلفت في تعريف
المستعمل، أي في الأمور التي تجعل الماء القليل مستعملاً. وليس في بحثي
هذا مجال لتفصيلها. فمن أحب التفصيل فليرجع إلى كتاب الفقه على المذاهب
الأربعة وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد.وأكتفي هنا بذكر الملاحظات
الصحية حول الماء القليل المستعمل في إزالة الحدث.
إن الماء القليل المستعمل في الوضوء أو الغسل يحوي من دنس وأوساخ
الأعضاء المغسولة، ومن آثار المفرزات العرقية. ولذا فإن النفوس تعافه
ولو لم تتغير أحد أوصافه .
وكما أن الوضوء والغسل طهارة من الحدث فإنّهما نظافة إجبارية.
فكلما كان الماء نقياً صافياً كان أكثر تنظيفاً وإزالة للأدران.
ولذا فإن استعمال الماء القليل يرفع عنه صفة الطهورية عند الحنفية
والشافعية والحنابلة، ويؤيدهم فن الصحة كما وضحت.
وذهبت المالكية إلى أن استعمال الماء لا يسلب طهوريته ولو كان قليلاً
فهو من قسم الطهور، لا يجوز التيمم مع وجوده لأن فيه فائدة النظافة
بالماء التي لا توجد في التيمم.
المثال : إنسان في بداية أو منطقة قليلة أو نادرة المياه، معه ماء طهور
توضأ منه أو اغتسل.
وجمع ذلك الماء المستعمل الذي لم يتغير أحد أوصافه ليستعمله في إزالة
نجاسة حسية أو غسل ثوب أو مكان أو سقي بهيمة، ثم فقد الماء الطهور
لديه، ولم يتمكن من تأمينه، ولزمه وضوء أو غسل، فإنه يتيمم حسب اجتهاد
المذاهب الثلاثة، أو يتوضأ بذلك الماء المستعمل حسب المذهب المالكي .
وإذا أراد ذلك المسلم أن يراعي اختلاف المذاهب فإنه يجمع بين الطهارة
بالماء والتيمم، خاصة إذا دعت حاجة النظافة إلى استعمال ذلك الماء
المستعمل ثانية.
مصادر تلوث المياه :
لابد لنا من معرفة مصادر تلوث المياه وفعل المياه الملوثة في نشر
الأمراض، وذلك لنسعى جهدنا في وقاية المياه من التلوث وبخاصة مياه
الشرب، ولنحترز عن الملوث منها، ولندرك حكمة هدي النبوة في وقاية
المياه من التلوث، وفي الحكم على بعض المياه بالنجاسة، وفي وجوب التطهر
من النجاسات، والتحرز عنها.
إن مصادر تلوث المياه هي غالباً التخلي عن الفلاة والمراحيض غير الفنية
قرب المياه، وكذلك المجاري العامة والمزابل والسواد والجيف وبول
الحيوانات ورجيعها ونحوها، إذا تسرب شيء منه إلى الماء. ولقد اعتبر
الشارع الحكيم أن جميع تلك الأشياء نجسة يجب التحرز عنها كما عدها الطب
مصدراً رئيسياً من مصادر الجراثيم وتلوث المياه.
وقد يتلوث الماء باغتسان الإنسان فيه إذا كان جلده ملوثاً.
إن تلوث المياه يثبت إذا كانت قليلة راكدة، بينما يخف أو يزول في
المياه الجارية بعوامل طبيعية متعددة طبيعة متعددة كتأثير الهواء ونور
الشمس في الأنهار وخاصة الصخور والرمال المتراكمة. وتتوفر تلك العوامل
الطبيعية في الأنهار وخاصة طويلة الجريان.
وكذلك يخف التلوث أو يزول بترشيح الماء من طبقات الأرض.
فكلما كانت الطبقات سميكة ومساعدة على تصفية الماء كان الماء المترشح
منها عقيماً خالياً من الجراثيم ولذا توصي كتب الصحة أن يكون التبرز في
مراحيض فنية بعيدة عن الآبار وعن موارد المياه وذات تصريف فني إلى حفر
فنية عميقة أو كهريس مستور. وكذلك الأمر بالنسبة للمزابل والسواد كما
توصي أن يحتاط في اختيار مكان البئر وفي بناء جدرانه وفي إصلاح الأرض
حول فوهته بصورة تمنع تلوث مائة.
فعل الماء الملوث في عدوى الأمراض:
آـ إن تلوث الماء ببراز الإنسان يكون واسطة للعدوى ببعض الأمراض عن
طريق شربه أو تناول ما تلوث به، أو عن طريق الانغماس فيه. وذلك
لاحتوائه جراثيم البراز وبيوض طفيلياته وأجنة بعض الطفيليات.
وإليكم أهم تلك الأمراض:
1.
الإنتانات المعوية وقد يصبح الماء الملوث بجراثيمها سبباً في سراية بعض
أنواعها بشكل جوائح أو أوبئة كالهيضة(الكوليراً) والحمى التيفية
والزحار العصوي.
2.
الإسهالات الطفيلية مثل الزحار المتحولي وداء اللامبليا.
3.
الديدان المعوية مثل حيات البطن وشعرية الرأس والحرقص.
تلك أمراض تنتقل إلى الإنسان بواسطة الماء أو الغذاء الملوثين ببيوض
تلك الديدان.
4.
وهناك أمراض طفيلية تخترق أجنة طفيلياتها جلد الإنسان وتتطور في جسمه
لتستقر في جهازه الهضمي محدثة أمراضها مثل داء الملقوات العفجية
(الأنكيلوستوما)
وداء البلهارزيات
الحشوي والمعوي.
فإذا عرفنا فعل البراز في نشر الأمراض أدركنا إحدى الحكم في سنية تقليم
الأظافر، ووجوب إزالة النجاسة وتطهير مكانها، وإن الأفضل في الإستنجاء
الجمع بين المسح بجامد طاهر أولاً واستعمال الماء ثانياً. ويجب صحياً
أن تغسل الأيدي بعده بالصابون.
ب ـ إن تلوث الماء ببول الإنسان قد يكون واسطة للعدوى بداء البلهارزيات
المثاني وبأمراض الجراثيم المطروحة مع البول.
ج ـ إن تلوث الماء بالصديد ومفرزات بعض أمراض الجلد وتقرحاته يكون
سبباً في انتقال الجراثيم والعوامل الممرضة ودخولها من جلد الإنسان
المتلين بالماء أو من منافذه.
وإن داء الخيطيات المدنية(العرق المدني) يحدث بعد ابتلاع البلاعط
الحاوية على أجنة تلك الخيطيات .ومن مكان تقرح جلد المصاب بها تلقي
الدودة الكهلة أجنحتها كلما أحست ببردوة الماء حولها.
ولهذا يجب على المصاب بتلك الأمراض أن يتجنب تلويث المياه بغمس أعضائه
المريضة أو السباحة أو الاغتسال فيها وخاصة إذا كان الماء قليلاً أو
راكداً.
و ـ إن تلوث الماء ببول الحيوانات ورجيعها قد يكون واسطة لنقل بعض
الأمراض الإنتانية والطفيلية. فمثلاً: إن الماء الملوث ببراز الكلاب
المصابة بديدان الشريطية المكورة المشوكة (أو بفمها الملوث من برازها)
يكون حاوياً على بيوض تلك الدودة فإذا شرب الإنسان من ذلك الماء الملوث
تطورت البيوض في جسمه وأحدثت فيه داء الكيس المائي (أو الكيس الكلبي)
كما سنرى .
ذلكم موجز عن فعل المياه الملوثة في نقل الأمراض ونشرها. ولذلكم يجب
حفظ المياه من التلوث وتجنب الملوث منها، وإصلاح ما يضطر إلى استعماله
منها.
هذا وتكافح النواعم والمحار التي تتطفل عليها أجنة منشقات الجسم
(البلهارزيا) بتربية البط في المياه الحاوية عليها، ويمكن إتلاف المحار
في المنابع بكبريتات النحاس وكبريتات النشادر، وتطهر تلك المياه
بالكرهزيل بنسبة واحد إلى ألف، أو كلور الكلس بنسبة واحد إلى خمسة آلاف
لمياه الشرب.
هدي النبوة في وقاية المياه من التلوث:
لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصايا في منهاج الحياة اليومية
تحفظ المياه من التلوث.
بيّنها عليه السلام قبل اكتشاف العوامل الممرضة التي يحويها الماء
الملوث بأكثر من عشرة قرون، فسجل له التاريخ سبقاً في المجال الصحي
أيضاً.
وهاكم طائفة من تلك الوصايا:
1.
النهي عن إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل أن يغسلها
ويطهرها فلعله مسّ أو حك بها سوأته أو عضواً مريضاً متقرحاً من جسمه
وهو نائم لا يشعر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في
الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده".
2.
تنظيم استعمال اليدين بإبعاد اليد اليمنى عن مجالات الأقذار والتلوث،
وإن كان التطهير يتناولها. وذلك مفيد في حفظ الماء من التلوث حتى في
زماننا، ففي الريف والبادية مثلاً حيث لا توجد شبكة توزيع للمياه ولا
حنفيات مما يضطر معه الإنسان إلى غرفة الماء، وذلك يقتضي أن تكون إحدى
اليدين أكثر طهارة وأبعد عن التلوث لتستعمل في الغرفة. فخصص الشارع
الحكيم اليد اليمنى لذلك ولكن أمر يستدعي زيادة في الطهارة كتناول
الطعام والشراب وكالمصافحة، أو يستدعي زيادة في الطهارة كتناول الطعام
والشراب وكالمصافحة، أو يستدعي تعظيماً كتناول القرآن والأشياء
المحترمة. ونهى أن تمس باليد اليمنى العورة أو النجاسة أو الأقذار
والأذى .
فعن عائشة رضي الله عنها : " كانت يد رسول
الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوه وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه
وما كان من أذى "
وقال عليه الصلاة والسلام
: "إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه ولا
يستنج بيمينه ولا يتنفس في الإناء ".
3.
النهي عن الشرب من في السقاء:
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:
"نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من فيّ السقاء" .
4.
النهي عن التنفس في إناء الشرب وعن النفخ فيه،
لمنع تغير رائحة الإناء ووصول لعاب الإنسان ورذاذ فمه وما يمكن أن
يحمله من جراثيم ممرضة حتى ولو كان حاملها صحيحاً غير مريض.
فإذا كان الشارب شديد العطش لا يرتوي بتنفس واحد فليبعد الإناء عن فيه
ليتنفس خارجه ثم ليعد للشرب وذلك مفضل من الناحية الصحية وفي الأدب
الإنساني وفي الشرع. قال عليه الصلاة والسلام :
" إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا
أراد أن يعود فلينحِّ الإناء إن كان يريد ".
وعن أبي سعيد الخدري: " أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل : القذاة أراها في الإناء؟
قال : أهرقها، قال فإني لا أروى من نفس واحد . قال : فأبن القدح إذن عن
فيك ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " نهى
رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه
".
ومن المفيد صحياً أن يعتاد الإنسان الشرب على دفعات ثلاثة يتنفس في
نهاية كل دفعة خارج الإناء كما هي السنة النبوية. وذلك حفظاً للماء
وأبعد عن التنفس فيه وأمرأ أي أسهل أنسياغاً فلا يشرق، وأكثر ريّاً
للشارب فيأخذ من الماء مع تقطيع الشرب أقل مما لو تجرعه دفعة واحدة .
وذلك أيضاً أبرأ أي أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد،
لأن الشارب إذا اعتاد الشرب بنفس واحد وأسرف في تناول الماء أدى به
الأمر إلى توسع المعدة، أو إلى اضطراب الهضم. كما إن تجرع المتعرق
الماء البارد بنفس واحد دون تقطع يؤدي أحياناً إلى السعال بتخريش
الحنجرة والرغامى أو بالتهابهما أو التهاب القصبات.
تلك فوائد الشرب في ثلاثة أنفاس، أشار إليها الحديث الشريف، فعن أنس
رضي الله تعالى عنه قال : " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثاً ويقول: إنه أروى وأبرأ
وأمرأ . قال أنس
: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثاً ".
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم : وقوله : "كان
يتنفس في الشراب " معناه في أثناء شربه من الإناء. وعن أبي
هريرة رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله
فغذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثاً ".
5.
الأمر بتغطية الإناء وربط سقاء الماء حتى لا يصل إليه الغبار ولا
الحشرات المؤذية والحاملة للجراثيم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وغلّقوا
الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمّروا الطعام والشراب ولو بعود تعرض عليه".
6.
النهي عن الاغتسال في الماء الواقف الساكن الذي لا يجري، حتى لا يتلوث
بما يكون على سطح الجسم من أوساخ وجراثيم ومفرزات. فعن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب،
قالوا كيف يفعل يا أبا هريرة، قال : يتناوله تناولاً ".
وقال عليه السلام: " لا يبولنَّ أحدكم في
الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة ".
7.
النهي عن التبول في الماء الدائم، والحكم على الماء القليل بنجاسة
بالبول وعدم صلاحيته حينئذ للتطهر به فضلاً عن الشرب منه. وقد سلف أن
وضحت ما ينقله البول من أمراض.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " لا يبولنَّ أحدكم في
الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " .
وفي رواية الترمزي والنسائي:" لا
يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه أو يتوضأ "
هذا وإذا كان التبول في الماء الدائم محرماً ومنجساً له، فإن التبرز
فيه أشد تحريماً ونجاسة.
8.
النهي عن التبرز قرب الماء، لأن الماء بالبراز ينقل كثيراً من الأمراض
كما وضحت سابقاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اتقوا الملاعن الثلاثة : البراز في
الموارد وقارعة الطريق والظلِّ ".
النجـاســات :
إن معظم مصادر تلوث المياه ونشر الجراثيم والطفيليات محكوم عليها في
الشرع بالنجاسة. وإن الأحاديث النبوية الشريفة لتشير إلى ذلك.
وإذا كانت بعض الأدلة الشرعية واضحة وقطعية الدلالة على نجاسة بعض
الأشياء، فهناك أدلة ليست قطعية الدلالة، اختلف معها المجتهدون في
طريقة الاستدلال والاستنباط فاختلفوا في الحكم على نجاسة بعض الأشياء
الأخرى، ولا يتسع المجال هنا لذكرها والتفصيل فيها.
اتفق المجتهدون والفقهاء السابقون على نجاسة أربعة أعيان:
1.
ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي
2.
لحم الخنزير بأي سبب مذهب لحياته.
3.
دم الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً
أعني كثيراً.
وسنرى إن شاء الله تعالى، المقاصد الصحية في الحكم بنجاسة الأعيان
الثلاثة وتحريم تناولها في بحث المطعومات المحرمة.
4.
بول الإنسان ورجيعه. وقد مر معنا ما ينقلانه من أمراض.
هذا وإن البول، وإن كان في معظم الأصحاء عقيماً خالياً من الجراثيم
والطفيليات، إلا أنه مستقذر سريع التخمر، تتفكك ذرات البولة فيه إلى
نشادر فتزداد رائحة كراهة، كما أنه وسط صالح لتكاثر الجراثيم فيه. ولا
يمكن إثبات خلوه من الجراثيم إلا بعد زرعه مخبرياً.
ولذا حكم الشارع على بول الإنسان بالنجاسة كما حكم على برازه.
إن إزالة النجاسة واجبة عند أبي حنيفة والشافعي، وذلك من الأبدان ثم
الثياب ثم المساجد ومواضع الصلاة. ويؤيدهم في حكمهم ذلك الدليل الشرعي
والاعتبار الصحي.
وأشير هنا إلى أن الوقاية الصحية تتلاءم مع مراعاة المذهب في تجنب ما
اختلف في الحكم على نجاسته وإزالته وتطهير محله، وذلك لأن الكثير مما
اختلف فيه مستقذر، أو مستنبت صالح لتكاثر الجراثيم، أو أنه سريع التفسخ
والتخمر فيزداد قذارة وأذى وخبثاً.
والله تعالى يحب المتطهرين أي المتنزهين عن القذارة والأذى .
كما أشير إلى أن النجاسة المعفو عنها، إنما عفي عنها لدفع الحرج عن
الإنسان في حياته اليومية التي تتخللها العبادات المشروطة لها الطهارة.
أما الأفضل فهو التطهر منها فوراً وإلا ففي أقرب فرصة. ولا يعني العفو
عنها طهارتها، فإنها مثلاً تنجس الماء القليل إذا حلت فيه وتنقل إليه
الجراثيم التي تحملها.
الماء المتنجس:
هو نوعان عند الفقهاء:
(الأول): ما كان طهوراً في الأصل وحلّت فيه نجاسات أو لا قته فغيرت أحد
أوصافه الثلاثة (اللون والطعم والرائحة) قليلاً كان أو كثيراً.
إن تغير أحد الأوصاف دليل حسِّي على كثرة التلوث من الناحية الصحية.
(الثاني) : ما كان طهوراً في الأصل قليلاً وحلت به نجاسات لم تغير أحد
أوصافه . وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
أما المالكية فقد قالوا : إن القليل من الماء الطهور، إذا حلت فيه
نجاسة لم تغير أحد أوصافه، باق على طهوريته، إلا أنه يكره استعماله إن
وجد غيره مراعاة للخلاف.
يؤيد الدليل الشرعي والاعتبار الصحي المذاهب الثلاثة فيما ذهبت إليه من
أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولو لم تتغير أحد أوصافه.
أما الدليل الشرعي فهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن إدخال المستيقظ يده
في الإناء قبل أن يغسلها، وعن الاغتسال في الماء الواقف الدائم، وعن
التبول في الماء الدائم، وعن الوضوء والغسل من ذلك الماء الذي بال فيه.
وقد مرت معنا أحاديث ذلك النهي، وسيأتي حديث القلّتين مؤيداً الاستنباط
منها بان الماء القليل ينجس بالنجاسة القليلة . وذلك حكم يؤيده أيضاً
الذوق السليم والمنطق الصحيح وفن الصحة القديم والحديث.
ولقد أوضحت في طبيعة البحث فعل المياه الملوثة في نقل الجراثيم
والطفيليات وأمراضها. وأشير هنا إلى أن العدوى وشدتها لهما علاقة بكثرة
الجراثيم الواردة . فالماء القليل أسرع تلوثاً، وإن تلوث يصبح أكثر
نقلاً للأمراض.
لذلك كله يجب أن يؤول حديث بئر بضاعة من "
أن الماء لا ينجس شيء" بما يتلاءم مع أحاديث النهي السابق وحديث
القلتين، لا أن نؤولها كلها من أجل الأخذ بظاهر حديث بئر بضاعة. وفي
تأويل بئر بضاعة كلام طويل للإمام النووي في كتابه المجموع، فمن أحب
فليرجع إليه.
اختلفت الحنفية والشافعية والحنابلة في الحد بين الماء القليل والماء
الكثير.
أخذ الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل بحديث القلتين الذي صح عندهما
وعند الكثيرين من أئمة الحديث، والذي يفيد أن الماء الذي هو دون قلتين
يتنجس بحلول النجاسة فيه ويحمل الخبث دن نظر إلى تغيير أوصافه.
ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض
وما ينوبه من الدواب والسباع ؟ فقال : إذا
كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ".
قال الترمذي بعد ذكره حديث القلتين : وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق
قالوا : إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ما لم يتغير ريحه أو طعمه،
وقالوا : يكون نحواً من خمس قريب.
وقال الخطابي في معالم السنن: ورد من غير طريق أبي داود
" إذا كان الماء قلتين بقلال هَجَر.."
وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها. وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب
ومنهم من قدرها بخمسمائة رطل.
وقال الإمام ابن الأثير الجزري في جامع الأصول : القلة إناء للعرب
كالجرة الكبيرة أو الحب وهي معروفة بالحجاز وهجر، تسع القلة مزادة من
الماء، وقد قدرها الفقهاء مئتين وخمسين رطلاً إلى ثلاثمائة .
وفي كتاب نيل المآرب (في المذهب الحنبيلي) تقدر القلتان بخمسائمة رطل
عراقي أو بمئة وسبعة أرطال دمشقية.
وفي الفقه على المذاهب الأربعة، تقدر القلتان وزناً بالرطل المصري
بأربعمائة وستة وأربعين رطلاً وثلاثة أسباع الرطل.
أقوال : مما لا شك أن الرطل الشامي كان يختلف عن الرطل العراقي
والبغدادي والرطل المصري، وأن القلال الهجرية ليست متساوي تماماً،
وإنما هي متقاربة في السعة. وعليه فإن تحديد سعة القلة من الماء إنما
هو تقريبي ولذلك جرى اختلاف يسير بين العلماء في تقدير سعة أو وزن
القلتين .
إن صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز عيون السود: أمين الفتوى في حمص قدر
القلتين في رسالة له بـ 162 كيلو غراماً.
وتقدر القلتان حجماً في إناء أو مكان مربع بسعة مكعب طول كل ضلع منه
ذراع وربع ذراع، بذراع الآدمي المتوسط . ومقدارها في مكان مستدير سعة
أسطوانة : قطر كل من قاعدتيها ذراع، وارتفاعها ذراعان ونصف ذراع.
ب ـ أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه لم يثبت عنده حديث
القلتين . وبما أن كثيراً من الأحاديث الشريفة تشير إلى أن الماء
القليل ينجس بقليل النجاسة فلا بد من تعيين حد تقريبي بين الماء القليل
والماء الكثير فعينه من جهة القياس وذلك إنه اعتبر سريان النجاسة في
جميع الماء بسريان الحركة فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن
فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر.
وعبر عن ذلك فقهاء الحنفية بقولهم : كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا
ينجس بوقوع النجاسة فيه، وقولهم : كل ما لا يتحرك أحد طرفيه، بتحرك
الطرف الآخر لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم تغير أحد أوصافه.
وامتحن الفقهاء بعدئذ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشراً في عشر فقدروه بذلك
تيسيراً . والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف.
وعلى هذا فكل ماء لا ينحسر أسفله بالغرف، وكانت سطحه مئة ذراع مربع
بالذراع المتوسط فهو ماء كثير عند الحنفية.
هذا وأعيد ما نبهت علهي في بحث الماء الشريب بأن الحكم بطهورية الماء
أو بطهارته أو بعدم تنجسه لا يعني أنه صالح للشرب من الوجهتين الدينية
والصحية . فإذا ثبت صحياً أن الماء ملوث ينقل الأمراض فإنه يجب التقيد
بالتعاليم الصحية المتعلقة به. وإذا أضطر إليه فيجب إصلاحه كما مر أما
الحكم الشرعي بعدم تنجسه فإنما هو تيسير من الدين ودفع للحرج في
استعمال ذلك الماء في المقاصد الأخرى غير الشرب، ولأن الغالب في الماء
الكثير الملوث والذي لم يتغير أحد أوصافه أن يكون تلوثه زهيداً أو أن
لا يؤثر سوءً إذا استعمل لغرض غير الشرب، على أنه إذا علم المسلم أن
ذلك الماء يؤدي إلى مرض أو ضر ولو استعمل للنظافة وغير الشرب وجب عليه
تجنبه ابتعاداً عن إلقاء النفس إلى التهلكة وحرصاً على ما ينفع وذلك من
الدين .
سؤر الحيوان :
السؤر هو فضلة الماء القليل الذي شُرب منه.
اتفق الأئمة الأربعة على طهارة أسآر بهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا
ذلك اختلافاً كبيراً. والمسألة في كثير مما اختلفوا فيه اجتهادية محضة،
يعسر أن يوجد فيها ترجيح جازم كما قال صاحب بداية المجتهد.
1.
ذهب الحنفية إلى أن سؤر كل حيوان مأكول اللحم طاهر، وأن سؤر سباع
البهائم نجسن، وأن سؤر الهرة والدجاجة المخلاّة وسباع الطير وسواكن
البيوت مكروه، وأن سؤر الحمار والبغل مشكوك بطهارته لا يجوز الوضوء به
.
2.
وذهب الشافعية إلى أن كل حيوان طاهر السؤر ما عدا الخنزير والكلب.
3.
وذهب الحنابلة إلى أن سؤر كل حيوان طاهر في الحياة طاهر ولو لم يؤكل
لحمه كالهرة، والفأرة. وكل حيوان مأكول كالغنم والماعز والخيل والبقر
والإبل وبعض الطيور، فسؤره وبوله وروثه ومنيه ولبنه طاهر إن كان أكثر
علفه الطاهر، وإن كان أكثر علفه النجاسة فلحمه وجميع ما ذكر نجس حتى
يحبس ويطعم الطاهرات ثلاثة أيام، عندها يعود لطهارته.
4.
وعن الإمام مالك روايتان، إحداهما : أن كل حيوان طاهر السؤر، وثانيهما
: تستثنى الخنزير فقط
أما من الوجهة الصحية فإن الطب وفن الصحة يدعمان بقوة الحكم بنجاسة سؤر
الكلب والخنزير. أما بقية الأسآر التي فيها حكم بالنجاسة أو الكراهة في
أحد المذاهب فلا تعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه: إنها لا تصلح
للشرب لعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه : إنها لا تصلح للشرب لعدم
التأكد من تجافي فمها الأقذار والنجاسات ومن خلو لعابها من الجراثيم .
وقد فرق سابقاً بين الماء الشريب فليذكر ذلك .
نجاسة سؤر السباع:
سأبين قريباً أن الكلاب هي السبب الغالب في إصابة الإنسان وحيواناته
المجترة بداء الكيسة المائية، وأن الذئاب وبنات آوى من السباع يمكن
أيضاً أن تكون سبب هذا الداء في الإنسان والحيوانات اللبونة الأخرى .
وبما أن السباع تأكل الجيف أيضاً، فإن فمها يتلوث من جراثيم تلك الجيف
كما يتلوث من تنظيف استها بلسانها. وعلى ذلك فإن حديث القلتين السابق
والنظرة الطبية يؤيد أن نجاسة سؤر السباع كما هو مذهب ابن القاسم
والإمام أبي حنيفة. قال الإمام ابن الأثير الجزري في كتابه جامع الأصول
في أحاديث الرسول بعد ذكره حديث القلتين: قال الخطابي
: وقد استدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع
نجساً لقوله وما ينوبه من السباع، أي يطرقه ويرده، إذ لولا أن شرب
السباع منه ينجسه لما كان لسؤالهم عنه ولا لجوابه صلى الله عليه وسلم
إياهم بتقدير القلتين معنى . أ هـ .
وروى مالك في موطئه : " أن عمر وعمرو بن
العاص وردا حوضاً، فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض أترد السباع
ماءك هذا ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض لا تخبرنا " . فولا أنه كان إذا
أخبر بورود السباع يتعذر عليهما استعماله لما نهاه عن ذلك.
وتأويل الأحاديث التي تفيد طهارة سؤر السباع أنه كان في الابتداء قبل
تحريم لحوم السباع، أو وقع السؤال في الحياض الكبار.
نجاسة سؤر الخنزير:
الخنزير حيوان قذر شره يلتهم الأقذار والنجاسة أيضاً. يقول تعالى في
حقه : " .. أو لحم خنزير فإنه رجس.. "
وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه. ويزداد فمه
ولعابه نجاسة بالتهام الأقذار والنجاسات، فسؤره كسؤر الكلب أحق بحكم
النجاسة من الأسآر الأخرى .
وسأفصل إن شاء الله تعالى في بحث المطعومات المحرمة ما ينقله الخنزير
من أمراض.
نجاسة سؤر الكلب :
إن الأدلة الشرعية والنظرية الطبية الصحية تدل بقوة على نجاسة سؤر
الكلب والتشديد في تطهير ما يلغ فيه الكلب.
أ-
الدليل الشرعي:
روى الإمام مسلم في صحيحه في باب حكم ولوغ الكلب عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات
" ثم روى عنه بلفظ
" طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن
يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب
" ثم روى عن ابن المغفل مرفوعاً بلفظ
" إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع
مرات، وعفّروه الثامنة في التراب " .
روى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً : " يغسل
الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا
ولغت فيه الهرة غسل مرة
" .
قال الإمام النووي
: وقد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها،
وفيها دليل على أن التقيد بـ " الأولى" وغيرها ليس على الاشتراط بل
المراد إحداهن . وأما رواية " وعفروه الثامنة بالتراب" فمذهبنا ومذهب
الجماهير أن المراد اغسلوه سبعاً، واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن
التراب قائم غسله فسميت ثامنة لهذا أ. هـ .
قال في المهذب : " فإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضواً منه فيه وهو
رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتربة، والأفضل أن يجعل
التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه وفي أيهما جعل جاز لعموم
الخبر.
وقال الإمام النووي في شرحه : وقد اختلف العلماء في ولوغ الكلب،
فمذهبنا أن ينجس ما ولغ فيه، ويجب غسل إنائه سبع مرات إحداهن بالتراب،
وبهذا قال أكثر العلماء . حكى ابن المنذر وجوب الغسل سبعاً عن أبي
هريرة ابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو بن دينار ومالك والأوزاعي
وأحمد وإسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور . قال ابن المنذر : وبه أقول .
وقال النووي أيضاً: يستحب جعل التراب في الأولى فإن لم يفعل ففي غير
السابعة أولى فأن جعله في السابعة جاز . أ . هـ .
إن وجوب غسل ما ولغ فيه الكلب سبع مرات هو مذهب الشافعية كما وضحه
الإمام النووي .
أما الحنفية فقد أوجبوا غسله ثلاث مرات لأنه فعل الصحابي أبي هريرة رضي
الله عنه الذي رويت عنه أيضاً أحاديث(سبع مرات) . وجعلوا إبلاغ الغسل
سبعاً مندوباً للروايات الأخرى .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أنه كان إذا
ولغ الكلب في الإناء اهراقه ثم غسله ثلاث مرات
" فتعارض عمله مع حديث السبع، وهناك
دلالة على تقدم حديث السبع للعلم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أو
الأمر حتى أمر بقتلها فيتبعه حكم ما كان معه وفي عمل أبي هريرة على
خلاف كمية ما روى دلالة ظاهرة على نسخ الغسل سبع مرات، لأنه تركه العمل
به بمنزلة روايته للناسخ.
ب-
المقصد الصحي :
تعيش في أمعاء الكلاب والذئاب وبنات آوى ديدان تعرف باسم (الشريطية
المكورة المشوكة ) فيكون برازها مفعماً ببعوض هذه الديدان .
وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.
وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.
فإذا تلوث طعام الإنسان أو ماء شربه ببراز أو فم تلك الكلاب أصبحا
خطراً عليه إذا تناولهما، لأن قشرة تلك البيوض تهضم ويخرج منها الجنين
المسدس الشصوص فيخترق جدار المعدة أو الأمعاء، ويسلك أحد طريقين الطريق
الدموي أو الطريق اللنفاوي أو الاثنين معاً. وفي أي عضو يستقر هذا
الجنين يأخذ بالنمو رويداً حتى يشكل الكيس المائي(أو الكيس الكلبي )
الذي يصبح خطراً على العضو المؤوف به أو على حياة الإنسان.
قد يصاب الإنسان بالكيس المائي ، وكذلك قد تصاب الحيوانات اللبونة
وخاصة آكلة اللحم والخنازير والحيوانات المجترة والقاضمة. فإذا أكل
الكلب أو الذئب مثلاً من اللحم المؤوف بالكيسة المائية فإن الرؤوس
الكامنة أو الأجنة المختبئة في الكيس تبدو بعد الإنحلال غشائها، وتصير
بعد شهر تقريباً دودة كهلة في معي الكلب أو الذئب ويصبح برازه محتوياً
على بيوضها. وقد يصاب الحيوان بعوارض مميتة إذا كان عدد هذه الأجنة
كثيراً.
الوقاية : بما أن داء الكيس المائي وخيم ينتقل إلى ا لبشر بواسطة
الكلاب غالباً، فخير واسطة في الوقاية إذن هي اجتناب التعرض للتلوث
بهذا الحيوان النجس مطلقاً كما هو في تعاليم الدين الإسلامي، وتحديد
اختلاطها بالبشر ما أمكن وذلك بما يلي :
1.
بإتلاف الكلاب الضالة، وتحديد ما يقتنى منها.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من الزمن بقتل الكلاب ثم
أباح استبقاءها حية ولكنه حدد ما يقتنى منها.
قد تكون تلك الفترة تشديد تجاه تساهل العرب في جاهليتهم في أمر الكلاب.
وقد تكون تلك الفترة ظهر فيها مرض الكلب (السُّعار) بين الكلاب فيخشى
أن تعرض إنساناً أو حيواناً فتعديه بمرضها، إضافة إلى أنها سبب الإصابة
بالكيسة المائية كما بينت. وتذكر كتب الطب الحديث أنه لا يمكن الاكتفاء
بقتل الكلاب المسعورة وحدها، لأنه الاختبارات الصحية أثبتت أن لعاب
الكلب يصبح مؤذياً بعضه قبل ظهور الأعراض الكلبية عليه بثلاثة أيام.
ويحتمل أن يكون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب بسبب كثرة
إصابتها بالشريطة المكورة المشوكة مما يؤدي إلى كثرة إصابة الإنسان
وحيواناته المجترة بالكيسة المائية بتناول طعام أو شراب ملوث بلعابها
أو برازها.
وأياً كان السبب في أمر الرسول بقتل الكلاب فإنما هو بوحي من الله
تعالى الذي وسع علمه كل شيء.
فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : "
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال : ما بالهم وبال
الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال إذا ولغ الكلب في الإناء
فاغسلوه سبع مرات وعفّروه الثامنة في التراب
" .
وقال عليه الصلاة والسلام : " من اقتنى
كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل
يوم".
2.
بوضع الضرائب على الكلاب الأهلية التي تقتنى لضرورة ماسة .
3.
بالعناية بالكلاب اللازمة منها في الحراسة أو الصيد أو أعمال الشرطة
بحمايتها من أكل تلك الأكياس المائية في المجازر أو خارجها، وإتلاف كل
عضو توجد فيه هذه الأكياس بالحرق، وتفهيم أصحاب الكلاب ما ينشأ عن
إطعام كلابهم تلك الأعضاء المؤوفة ليجتنبوا ذلك .
جـ ـ حكمة التطهير بالتراب والماء:
إن تنظيف وتطهير الإناء الذي ولغ فيه الكلاب بالتراب مع قليل من الماء
أقوى في إزالة ما يلتصق به من دسم وأقذار وبيوض الدودة المسببة للكيس
المائي.
وبما أن شرعة الإسلام هي لكل زمان ومكان، والتراب متيسر في كل مكان،
فاقتضت الحكمة أن يكون التراب في الغسلة الأولى كما هو مفضل وإلا ففي
إحدى الغسلات الأجر قبل الأخيرة. وقد يأتي زمان تكتشف فيه فوائد لتطهير
ما يلغ فيه الكلاب بالتراب أيضاً.
أما إراقة الماء والطعام الذي ولغ فيه الكلاب فإنها مستحبة شرعاً
وواجبة صحياً ولو لم يرد استعمال الإناء. ولفظ الحديث المتقدم يوجبها
بقوله صلى الله عليه وسلم :
" فليرقه ثم ليغسله سبع مرات "
والحكمة في ذلك سلوك سبيل الوقاية فقد يتلوث الإناء أو الشراب أو
الطعام ببيوض تلك الدودة الشريطية فيأتي حيوان أهلي أو إنسان لا علم له
بولوغ الكلب أو طفل غافل فيبتلع منه فيتعرض للإصابة بالكيسة المائية.
ولو أن هذه الحكمة مكتشفة قديماً لما اختلف العلماء في وجوب الإراقة
لعينها، وأجمع الشافعية على ذلك . قال الإمام النووي في شرحه على صحيح
مسلم : هل الإراقة واجبة لعينها أم لا تجب إلا إذا أراد استعمال الإناء
أراقه ؟ فيه خلاف، ذكر أكثر أصحابنا: الإراقة لا تجب لعينها، بل هي
مستحبة، فإن أراد استعمال الإناء أراقه . أ هـ .
ولا يخفى أن تطهير الإناء باحدى وسائل التطهير التي تذكرها كتب الصحة،
زيادة على التطهير بالتراب والماء من جملة سنة الوقاية والحرص على ما
ينفع .
د ـ سبق الإسلام :
وهكذا تبين لنا أن الإسلام سبق أيضاً بأحكامه المتعلقة بالكلاب ما توصل
إليه الطب الحديث بقرون عديدة، فحذر من اقتناء الكلاب لغير ضرورة، وشدد
في تطهير ما تنجسه.
أعطى تلك الأحكام في زمان لم يكن يعرف فيه طبياً أنها السبب الغالب في
إصابة الإنسان بداء الكيسة المائية . ثم توالت قرون حتى تم اكتشاف ذلك،
فسجل التاريخ معجزة جديدة لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم دالة
على صدق نبوته وأنه رسول الله حقاً إلى الناس كافة على توالي الأزمان.
وفي ذلك درس للمسلم بألا يتوقف أبداً عن تنفيذ تعاليم الإسلام(في الأمر
والنهي ) لأنه لم يدرك حكمتها طالما أنه يؤمن بأن الإسلام شرع العليم
الأعلى الحكيم الخبير، وصدق الله العظيم : " ألا يعلم من خلق وهو
اللطيف الخبير" .
والخلاصة : إن التقيد بأحكام الإسلام في تجنب الكلاب وتطهير ماتنجسه
يقي من الإصابة بداء الكيسات المائية (الكلبية ) ذالك الداء الوخيم
الذي قد يودي بحياة الإنسان إذا استقر في أماكن خطرة كالدماغ مثلاً .
هو دائماً يتطلب مداخلة جراحية لاستئصاله . أعاذنا الله تعالى من كل
داء وبلاء، وجعلنا جميعاً من التوابين والمتطهرين والمتمسكين بشرعته
المتبعين لهدي نبيه .
نجاسة جسم الكلب :
الكلب وما تولد منه نجس العين في المذهب الشافعي والحنبلي .
وقال الحنفية : إنه طاهر العين إلا أن لعابه نجس حال حياته تبعاً
لنجاسة لحمه، فلو وقع في بئر وخرج حياً ولم يصب فمه الماء لم يفسد
الماء، وكذا لو انتفض من بلله فأصابه شيئاً لم ينجسه .
وقال المالكية : كل حي طاهر العين ولو كان كلباً أو خنزيراً.
أقول والله أعلم : يظهر أن الحق في هذه المسألة مع الشافعية، لأن معظم
الحيوانات اللبونة تنظف جسمها بلسانها ولعابها كما تنظف بهما شرجها.
وإضافة إلى ذلك فإن براز الكلب ولعابه أثبت الطب خطرهما في نقل بيوض
الديدان الشريطية المكورة المشوكة التي تسبب للإنسان ولحيواناته
الأهلية الإصابة بالكيسة المائية (الكلبية ) كما أوضحت. فمذهب المالكية
وتفريع الحنفية في هذه المسألة لا ينسجمان مع الطب .
من آراء ابن حزم في أحكام المياه :
كثير الاستشهاد بآراء ابن حزم
وأقواله في عصرنا هذا وخاصة في السنين الأخيرة. والداعي إلى ذلك غايات
متعددة تستأنس من كتابات المستشهدين وسلوكهم وواقع حياتهم. وهاكم أهم
تلك الغايات:
1.
الاستفادة من رأي سديد أو تعليل صادر عن ابن حزم رحمه الله تعالى .
وهذه الغاية لا غبار عليها، لأن الحكمة ضالة المؤمن الفطن.
2.
استكمال البحث العلمي وعرض كل ما قيل فيه ليشارك القارئ الكاتب في
البحث ومطالعة الأدلة والوصول إلى النتيجة سواء أخذ الباحث برأي ابن
حزم أو رد عليه . وهذه الغاية مقبولة أيضاً في البحث العلمي .
3.
تبني الكاتب الأخذ بظاهر النصوص الشرعية القريب المنال (مع فصله عن روح
الشريعة ومقاصدها) . وسنرى كيف أن تقيد ابن حزم بحرفية ظاهر النص أوقعه
في أخطاء لا يؤيدها المنطق العقلي ولا مقاصد الشريعة ولا تعاليم الطب
والصحة.
4.
التفتيش عن آراء السابقين ولو شاذة لسبغ اسم الموافقة للشريعة على
أعمال المسلمين اليوم، لئلا نرى كثرة مخالفاتهم . وهذا عمل ساذج لا
يحول العاصين إلى التمسك، بيد أنه يعطي حجة للمنافقين أن يبرروا
أعمالهم تجاه المسلمين الصادقين ويثبوا سموهم بين الغافلين والجاهلين.
5.
عمل نفاقي لستر الزيغ والعصيان وتبرز المخالفات وتشويه تعاليم الإسلام
في أذهان المطلعين بالاستدلال على مشروعية أعمالهم بأن رأي ابن حزم أو
غيره
يجيزها ويحكم بعد مخالفتها الشريعة . وشتان بين غايتهم هذه وغاية ابن
حزم ولو أخطأ في بعض اجتهاداته رحمه الله تعالى .
وكل إنسان يؤخذ من كلامه، ويترك إلا صاحب العصمة. وإني في ذكر الآراء
التي أخطأ فيها ابن حزم لا أقصد تجريحه وإنما أقصد إيضاح خطر الغايات
الثلاثة الأخيرة في الاستشهاد بآراء ابن حزم، وخاصة إذا عرضت مع أدلتها
دون ذكر أدلة الأئمة الأربعة في بحث استشهاد.
لقد أمتاز ابن حزم بسعة الإطلاع والاشتغال بعلوم عديدة. فكتب في الحديث
والفقه والأصول والتاريخ والفرق والأدب والمنطق والنفس، وحفظ لنا في
كتبه كثيراً من آراء السلف الفقهية فصارت مرجعاً في هذا الباب على قلة
المصادر لمن أراد التعرف على آرائهم.
ولكنه لم يحقق في علم من العلوم التي كتب فيها، وذلك لعدم تخصصه في بعض
تلك العلوم أي أنه زاد ثقافته على حساب حرمان نفسه من التخصص، فلم
يتفرغ للتحقيق فيما أراده. فظن أن غزارة ثقافته تجيز له الإعجاب بآرائه
في العلوم المختلفة وتسفيه آراء مخالفيه فتهجم على أئمة الإسلام
والعلم. ومع أنه محدث فقد أقدم على الحكم بالجهالة على كثير من الرواة
مع شهرتهم عند أئمة العلم بالرجال.
وبعض من أسند إلى أسمائهم الجهالة أبو عيسى الترمذي الإمام المشهور
صاحب السنن.
وضعف ابن حزم كثيراً من الأحاديث الثابتة نتيجة حكمه على أحد رجال
السنة بالجهالة. وإن كثيراً من الأحاديث التي ضعفها تخالف آراءه التي
أقتنع بها.
لقد كان رحمه الله تعالى يأخذ بظاهر النصوص وإن أدى ذلك إلى نتائج
تتنافى مع مقاصد الشريعة ومع المنطق العقلي. ولذلك وقع في أخطاء فاحشة
لم يقع في مثلها غيره من المجتهدين والفقهاء، وهو الذي يقيم النكير
عليهم وينقدهم نقداً لاذعاً أو ساخراً فيما يظن أنه خطأ اجتهادي منهم.
ولقد أشار إلى أخطائه في كتابه المحلى الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي في تعليقاته على ذلك الكتاب
تغمدهما الله بالرحمة .
أ.
يجيز ابن حزم لمن بال في الماء الراكد ولغيره أن يشرب منه إن لم يتغير
أحد أوصافه، مع أن ذلك يتنافى مع الذوق السليم ومع روح النظافة
والطهارة الشرعية، ومع أدلة نجاسة الماء القليل بقليل النجاسة، ومع
سنية استعذاب الماء وطلب السقيا من المياه الطيبة، ومع الحكم بعدم
صلاحية ذلك الماء لوضوء البائل فيه، كما يتنافى مع الطب الذي يقرر أن
بعض الأبوال تحوي جراثيم وبعضها يحتوي بيوض البلهارزيا أو غيرها من
الطفيليات.
ب.
ويفرق ابن حزم بين البول مباشرة في الماء الراكد وبين البول في جواره
فجرى البول إليه. فالبول مباشرة يمنع البائل الوضوء والغسل من ذلك
الماء، بينما يجيز له في الحالة الثانية إن لم يتغير أحد أوصاف الماء.
ت.
ويجيز ابن حزم لغير البائل أن يتوضأ ويغتسل من ذلك الماء، لأن النهي
ورد بخصوص البائل.
ان تلك الأحكام التي أخطأ فيها ابن حزم خطأ فاحشاً مذكورة في كتابه
المحلى في المسألة (136) حيث يقول : إن البائل في الماء الراكد الذي لا
يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه
التيمم إن لم يجد غيره. وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره إن لم
يغير البول شيئاً من أوصافه .وحلال الوضوء به والغسل به لغيره . فلو
أحدث في الماء أو بال خارجاً منه، ثم جرى البول فيه فهو طاهر، يجوز
الوضوء منه والغسل له ولغيره إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئاً من
أوصاف الماء فلا يجزي حينئذ استعماله أصلاً، لا له ولا لغيره . أ هـ.
لقد سق داود بن علي الظاهري
ابن حزم في تلك الأحكام المتجافية عن الصواب.
قال الإمام النووي في شرحه على مسلم في باب النهي عن البول في الماء
الراكد: لم يخالف في هذا أحد من العلماء إلا ما حكي عن داود بن علي
الظاهري: أن النهي مختص ببول الإنسان بنفسه، وأن الغائط ليس كالبول،
وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء. وهذا الذي
ذهب إليه خلاف إجماع العلماء، وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على
الظاهر. أ هـ .
ث.
يحكم ابن حزم بنجاسة لعاب الكلب ثم يحكم بطهارة ما أكل منه الكلب من
طعام، مع أن خطم الكلب بتماس غالب مع لسانه ولعابه.
ج.
ويحكم بنجاسة عرق الكلب ثم يحكم بطهارة ما وقع فيه الكلب من شراب وطعام
أو ما دخل فيه بعض أعضائه.. مع أن جلد الكلب أول ما يمسه عرقه،كما أن
الكلب ينظف جلده وشعره بلسانه ولعابه.
ح.
ولا يوجب ابن حزم غسل يد الإنسان إذا ولغ فيها الكلب لأنها ليست بإناء،
والأمر بالغسل جاء للإناء..
أراد ابن حزم أن يبتعد عن القياس الذي لا يتعرف به فوقع في مثل هذه
الأحكام اللامنطقية.
إن الأحكام الثلاثة الأخيرة لابن حزم مسجلة في المسألة (127) من كتابه
المحلى حيث يقول : فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله
أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء و لا هرق ما فيه البتة،
وهو حلال طاهر كله كما كان، وكذلك لو ولغ الكلب في بقعة من الأرض أو في
يد إنسان أوفي ما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ولا هرق ما فيه
. أ هـ.
قال المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذه الفقرة : كل هذا
تغال ومبالغة في التمسك بالظاهر دون نظر إلى معاني الشريعة وما يتفق مع
المعقول.
فما حرّم الله شيئاً إلا وهو قذر مؤذ، ولا حكم النجاسة شيء إلا وكان
مما تتجنبه الطباع النقية، وإزالة النجاسات واجب معقول المعنى، فمن
العجيب أن يفرق ابن حزم بين أكل الكلب من الإناء وبين شربه.
بل الأعجب أن يفرق بين الشرب وبين وقوع الكلب كله في الإناء..
أقول : إن الطب أيضاً يعجب من آراء ابن جزم في أحكام المياه تلك الآراء
التي تتنافى مع مبادئ مع الصحة، ويؤدي الأخذ بها إلى انتشار الأمراض
والأوبئة. وقد بينت فعل المياه الملوثة في نقل الأمراض، وأن الكلاب هي
السبب الغالب في إصابة الإنسان بالكيسات المائية .
كلمة الختام :
لقد أوضحت فعل المياه في نشر الأمراض، وبينت هدي النبوة في وقاية
المياه من التلوث، كما أوضحت المقاصد الصحية في أحكام المياه وبينت
الأحكام التي هي أقرب إلى الأدلة الشرعية والاعتبارات الطبية، ليراعيها
المسلم في التطبيق وخاصة في مياه شربه ثم في مياه طهوره ونظافة جسمه،
ولو تساهل في مذهبه الفقهي مراعاة للصحة والمذاهب الأخرى.
فإن الأخذ بأسباب الوقاية الصحية مستحب. وإن مراعاة المذاهب مستحبة
أيضاً، نص على ذلك فقهاؤها.
والله تعالى أعلم .
مصادر البحث :
إن مصادر أبحاث المقاصد الصحية في أحكام المياه هي:
1.
جامع الأصول في أحاديث الرسول.
2.
سنن الترمذي
3.
شرح صحيح مسلم للإمام النووي
4.
المجموع للإمام النووي(شافعي).
5.
فتح باب العناية للهروي(حنفي).
6.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد
7.
الاختيار شرح المختار (حنفي).
8.
الفقه على المذاهب الأربعة
9.
فن الصحة والطب الوقائي للأستاذ الدكتور أحمد حمدي الخياط
10.
الجراثيم الطفيلية للأستاذ الدكتور أحمد حمدي الخياط.
11.
مختصر الكيمياء الطبية للأستاذ الدكتور عبد الوهاب القنواتي
12.
الأمراض الإنتانية للأستاذ الدكتور بشير العظمة