الأستاذ الدكتور كارم السيد غنيم
أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر
أستاذ دكتور في علوم الحشرات
أمين جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
اتخذ بعض من لا دين لهم (حديث الذباب) تكئة للتنديد بالدين، وأنكره بعض
ضعاف الإيمان، وحاول المستنكرين من المتدينين أن يبحثوا عن تأويل مقبول
له، لمواجهة استهجان بعض المتخصصين في العلوم والطب، أو سخرية البعض
الآخر من نص هذا الحديث النبوي.
ونحن ـ فيما يلي من صفحات لا ندَّعي أننا سنأتي على جميع جوانب
الموضوع، وإنما بحسب ما توافر لدينا من مراجع، وما أسعفنا به الوقت،
سنوضح جوانب في الموضوع، ونجلي أوجهاً من الغموض الذي واجه البعض في
فهم هذا الحديث النبوي الشريف.
الحديث النبوي: سنداً ومتناً:
روى البخاري في صحيحه وابن ماجه في سننه عن أبي هريرة قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (إذا وقع الذباب في
شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء في الآخر شفاء).
ذكره البزار، وكذلك التبريزي في (مشكاة المصابيح)، وابن حجر في (تلخيص
الحبير).
وروى البخاري في صحيحه وابن ماجه في سننه وأحمد في مسنده عن أبي هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ـ كله ـ ثم لينزعه، فإن في أحد
جناحيه داء وفي الآخر شفاء) ذكره البزار، وكذلك التبريزي في
(مشكاة المصابيح)، وابن حجر في (تلخيص الحبير).
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم
فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء). وامقلوا يعني
إغمسوه، كما ورد في النهاية لابن الأثير.
وروى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : (أحد جناحيْ الذباب سم والآخر
شفاء، فإذا وقع في الطعام، فامقلوه، فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء).
وروى النسائي وابن ماجه في سننيهما عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : (إن في أحد جناحيْ
الذباب سم والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام، فامقلوه، فإنه يقدّم السم
ويؤخر الشفاء).
هذا وقد أورد صاحب (مصباح الزجاجة)
حديثاً مختصراً عن النسائي في (السنن الصغرى) عن عمرو بن علي عن يحيى
بن سعيد القطان عن ابن أبي ذئب، بلفظ:( إذا
وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله).
وعن ابن أبي ذئب حدّث أحمد في مسنده، أيضاً، فقال : حدّثنا يحيى،
حدّثنا ابن أبي ذئب قال : حدثني سعيد بن خالد عن أبي سلمة، عن أبي سعيد
الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه).
وروى أحمد في مسنده، أيضاً، عن بشر بن مفضل، عن ابن عجلان عن سعيد
المقبري، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فإن في أحد
جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وإنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه
كله).
وروى أحمد في مسنده، أيضاً، عن وكيع عن إبراهيم بن الفضل، عن سعيد بن
أبي سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:( إذا وقع الذباب في طعام أحدكم أو شرابه
فليغمسه إذا أخرجه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وإنه يقدّم
الداء).
وروى أحمد في مسنده، أيضاً، عن يونس، عن ليث، عن محمد، عن القعقاع، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، فإذا وقع في إناء أحدكم
فليغمسه، فإنه يتقى بالذي فيه الداء، ثم يخرجه).
روى الدارمي في سننه عن سليمان بن حرب، عن حماد بن سلمة، عن ثمامة بن
عبد الله ابن أنس، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي
الآخر شفاء).
وروى البخاري في صحيحه عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن عتبة بن مسلم
مولى بني تيم، عن عبيد بن حنين مولى بني زريق، عن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع
الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء
وفي الآخر داء).
تتبع صاحب كتاب (الإصابة)
سند حديث الذباب في باب كامل من كتابه، وجعل
الفصل الأول فيه حول طرق هذا الحديث، والفصل الثاني فيه حول دراسة
أسانيد هذا الحديث. أما طرق الحديث فتناول فيها خمساً، هي : طرق حديث
أبي هريرة، طرق حديث أبي سعيد الخدري، طرق حديث أنس بن مالك، وطرق حديث
على بن أبي طالب.
أما حديث أبي هريرة فقد رواه البخاري من طريقين، ورواه كل من أبي داود
وابن ماجه من طريق واحد، وأخرجه أحمد بن حنبل من عشر طرق، ورواه
الدارمي من طريقين، ورواه البيهقي من ثلاث طرق، ورواه كل من ابن خزيمة
وابن حبان وابن الجارود من طريق واحد، ورواه الطحاوي من ست طرق، ورواه
البغوي من ثلاث طرق، ورواه ابن السكن وابن عبد البر .. الخ . هكذا،حتى
أحصى صاحب الكتاب أربعاً وثلاثين طريقاً من حيث الإجمال، واثنين
وأربعين طريقاً من حيث التفصيل، وقد أثبت رواة الحديث كل هذه الطرق.
ثم تناول طرق حديث أبي سعيد الخدري (للذبابة)، وقد أخرجه أحمد بن حنبل
من طريقين، وكل من النسائي وابن ماجه وابن حبان وأبي داود الطيالسي
والبيهقي وابن قتيبة وأبي عبيد وابن عبد البر والبغوي وعبد بن حميد، من
طريق واحد، ورواه الطحاوي من طريقين، وكذلك الطبراني وأبو يعلى
والحاكم... الخ.
وكذلك فعل صاحب الكتاب دراسة أسانيد الحديث من طرقه المختلفة، وأثبت في
هذه الدراسة بما لا يدع مجالاً لشك صحة هذا الحديث، فهو إذن حديث صحيح،
بل هو من أعلى درجات الصحة. ثم ختم بقوله : إن هذا الخبر (أي : حديث
الذباب) قد كثرت طرقه بحيث زادت على خمسين طريقاً، كما هو مرسوم في
شجرة الرواية، لكل من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وأنس ـ رضي الله عنهم
أجمعين، كما أن هذه الطرق قد وردت بأسانيد صحيحة ورجالها ثقات. وبهذا
يتبين أن هذا الحديث قد صُحُّح من حديث الرواية والسند، وأن حكم أئمتنا
عليه بالصحة قول صحيح سليم، لا غبار عليه، وأن من خالف وأنكر ـ من حيث
الرواية ـ فعليه البرهان، وهيهات، وأنىّ له ذلك، وقد رواه الأئمة
الثقات الإثبات، والحمد لله.
وفي الباب الثاني من كتابه، درس د/خليل خاطر(متن
الحديث) وبيّن الخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس، وهو (عدم التفريق بين
المستحيل والمستغرب)، لأن المستحيل يعود إلى أصل الشيء ونكرانه، ولكن
المستغرب يعود إلى ضعف القائم بالتصوير وعدم إدراكه( فإذا جاءت هذه
الأحاديث من طرق ثابتة تفيد القطع، فيجب اعتقادها، ولا يصح إنكارها،
لأن إنكار المقطوع به كفر، والعياذ بالله تعالى . وهذا واضح إذ كم من
أمر جاء موافقاً لما قاله صلى الله عليه وسلم، بعد سنين او مئات
السنين. وإن جاءت هذه الأحاديث عن طريق غلبة الظن، فليس من شأن المسلم
أن يبادر إلى تكذيبها، بل يلزمه التأني، والسؤال عن صحة الخبر، حتى لا
يقع في التناقض بعد ثبوته.
وبهذا نرى كثيراً من الناس لا يفرقون بين ما يرفضه العقل ويحكم
باستحالته، وبين فاضح وتجنيِّ على الحقائق، وغرور في النفوس، وتقديس
للعقول.. على أننا نرى من الاستقراء التاريخي، وتتبع التطور العلمي،
والفكري، أن كثيراً مما كان غامضاً على العقول، أصبح مفهوماً وواضحاً،
بل نرى كثيراً مما كان ينكره العقل، أصبح الآن يقره، ويسّلم بوجوده،
وصار عنده من الحقائق.
وهكذا يكون (حديث الذباب) قد رواه العديد من المحدّثين وأثبتوه في
كتبهم، ولم يوجد لأحد من نقّاد الحديث طعناً في سنده، فهو في درجة
عالية من الصحة، وكل ما وقع من الطعن فيه من بعض المتساهلين إنما هو من
جهة متنه ومدلوه، فقد قالوا: كيف يكون الذباب الذي هو مباءة الجراثيم
فيه دواء؟ وكيف يجمع الله الداء والدواء في شيء واحد؟ وهل الذباب يعقل
فيقّدم أحد الجناحين على الآخر؟
.
وإذا كان البعض قد ادّعى ان الحديث غير صحيح، وأنه يتعارض مع الآية
القرآنية : (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا
يستنقذوه منه..) فإن الآية لا تخص الذباب وليست في قضيته، وإنما
جاء الذباب في معرض ضرب المثل لمن يعبدون الأصنام، بأن الأصنام لا تقدر
على خلق الذباب مع صغره، ولو اجتمعوا لخلقه، ثم بيّن غاية جهلهم بأن
هذه التماثيل لا تقدر على خلق أقل الأحياء، ولا تقوى على مقاومته، أو
استنقاذ ما يختطفه منها، فقال الله تعالى :
(يا أيها الناس ضّرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن
يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه
منه، ضعف الطالب والمطلوب)[سورة الحج].
إن حديث الذباب إسناده صحيح.. وجميع رواياته متصلة وصحيحه، زادت عن
عشرين طريقاً.
أما من حيث المتن، فإن الذباب مما يتعذر دفعه كثيراً، وتصعب الوقاية
منه في كثير من الأحوال، فإذا دعت الضرورة ووقع الذباب في الطعام، فإن
الحديث النبوي يكشف عن وجود مواد مضادة لكثير من الأمراض، فإن نحن
غمسنا الذبابة وخرج منها السائل قتلت المادة الموجودة فيه تلك الجراثيم
المرضية، وهذا غير مرفوض عقلياً، وإن كان مستغرباً، والغرابة تأتي من
الجهل بمادته، ولأن النفس تعافه.
يقول ابن قتيبة: إن من حمل أمر الدين على ما شاهد، فجعل الذباب لا يعلم
موضع السم، موضع الشفاء، واعترض على ما جاء في الحديث مما لا يفهمه،
فإنه منسلخ من الإسلام، مخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
وما جاء به عليه الأخبار ـ من صحابته ـ والتابعون. ومن كذّب ببعض ما
جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمن كذّب به كله.
يقول الخطابي : تلكم على هذا الحديث من لا خلاق له، فقال : كيف يجتمع
الشفاء والدواء في جناحي الذباب؟ كيف يعلم ذلك في نفسه حتى يقّدم جناح
الداء، وما ألجأه إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل، فإن كثيراً
من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة، وقد ألف منها وقهرها على الاجتماع،
وجعل منها قوى الحيوان. وإن الذي ألهم النحلة البيت العجيب الصنعة
للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدّخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة
نصفين لئلا تُستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحاً وتؤخر
الآخر.. وقال ابن الجوزي: إن النحلة تعسل من أعلاها وتلقى السم من
أسلفها.. والحية القاتل سمّها تدخُل لحومُها في الترياق، الذي يُعالج
به السم.
ويقول صاحب كتاب (السنة النبوية في مواجهة التحدي):
يعترف علماء الطب والطبيعة وغيرهم بأنهم ما وسعوا كل شيء علماً، ولم
يحيطوا بدقائق كل العلوم والمعارف.. واكتشافات العلم كانت وما زالت
تتوالى من اكتشاف شيء بعد آخر.. فبأية عقيدة وإيمان ينفي هؤلاء
المنكرون أن يكون الله تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر لم
يصل إليه علماء الطب وعلماء الطبيعة بعد.
ما حكم منكر الحديث؟
إن الحديث الذي يدور حوله كلامنا إنما هو حديث صحيح، ولكنه مما انفرد
به البخاري، فمسلم لم يذكره في مسنده الصحيح، وبالتالي فالحديث غير
متفق عليه.. كما أنه من أحاديث الآحاد، أي أنه ليس من الأحاديث
المتواترة التي تفيد اليقين.. كما سبق لنا أن أوردنا رأي البعض في حكم
منكره.
وإذا كان بعض العلماء قد ذهب إلى خروج منكر أحاديث الآحاد ـ عموماً ـ
من الإسلام فإن البعض الآخر لا يحكم بخروجه من الإسلام، لأن الذي يخرج
من الدين هو إنكار ما كان منه قطعياً يقينياً، أي (المعلوم من الدين
بالضرورة)... أما من يتخذ من هذا الحديث (حديث الذباب) أو غيره من
أحاديث الآحاد سبيلاً لإثارة المشاكل ضد الإسلام أو السخرية منه أو
الاستهزاء به، فهو كافر بإجماع العلماء.
لقد أدلى صاحب كتاب (السنة النبوية مصدراً للمعرفة والحضارة)بدلوه
في (حديث الذباب)،وأثبت رأيه في الموضوع بقوله: (ولو نظرنا إلى حديث
(غمس الذباب) الذي دارت حوله معارك الجدل في هذا العصر، لوجدنا أن
الحديث يمثّل إرشاداً في أمر دنيوي، في بيئة معينة قليلة الموارد،
محدودة المصادر من المواد الغذائية، فلا ينبغي المسارعة بإلقاء كل طعام
وقعت فيه ذبابة، وخصوصاً في مجتمع يبني أبناءه على التقشف والخشونة
والأعداء لحياة الجهاد. أما ما يتضمنه الحديث من إخبار بأن (في أحد
جناحيه داء، وفي الآخر شفاء)، فهو شيء فوق خبرة البيئة، وتجربة العرب،
وينبغي ألا نقابله بالردِّ أو التكذيب لمجرد الاستبعاد.
الذباب في عالم الحشرات:
صدرت موسوعة (سلسلة كتب النحلة) للفتيان، لصاحبها د/كارم السيد غنيم عن
دار الفكر العربي (القاهرة)، وقد احتل الذباب جزءين في هذه الموسوعة،
ولما كان الأمر يستدعي تعريف القارئ بالذباب ليفهم (حديث الذباب) فهما
سليماً، نرى أن نقتبس بعض الفقرات من هذه الموسوعة فيما يلي.
يفوق عدد أنواع الذباب المعروفة في أنحاء العالم الآن (64000) نوع، ومن
المعروف أن النوع يعني الذباب له نفس الصفات والطبائع والسلوك ونظام
حياة واحد، فالنوع إذن يضم ملايين الملايين، أو مليارات المليارات من
الأفراد التابعة له.. على أن أهل الاختصاص يشترطون القابلية للتزاوج
بين أفراد النوع الواحد.
والذباب قد يكون مفيداً للإنسان، كالذباب الأزرق وغيره من الأنواع
الآكلة للرمم والجثث والمواد العفنة، فهو يخلص الإنسان منها، وينظف
البيئة من الملوثات،وكذلك ذبابة الخل التي يستعملها علماء الوراثة في
تجاربهم وبحوثهم واكتشافاتهم في علم الوراثة وتقدم البشرية فيه.
أما الوجه السئ للذباب فهو الأضرار التي تنجم عن حركته ونقله
للميكروبات إلى الإنسان، وهي الميكروبات التي تسبب له أمراضاً كثيرة،
مثل الكوليرا (وتنتشر في شكل وباء يقتل المئات أحياناً)، التيفود، مرض
النوم، الليشمانيا، حمى الباباتازي، الدوسنتاريا الأميبية، الدوسنتاريا
البكتيريةن الإسهال الصيفي، السل، الجزام، الجمرة الخبيثة، والخراريج..
هذا إلى جانب نقل بيض بعض الديدان والطفيليات.
ولقد وصل عدد الميكروبات الضارة التي أحصاها أحد العلماء في شعر ذبابة
واحدة إلى (660000)ستة ملايين وستمائة ألف ميكروب.. !!
وهناك من العلماء من عثر على (50.000.000) خمسين مليون ميكروب على جسم
ذبابة واحدة... !! هذا العدد هو عدد الميكروبات التي عثر عليها العالم
على وبين شعر الذبابة، يعني موجودة على الذبابة من الخارج، ولكن هناك
أعداد أخرى لميكروبات أخرى موجودة داخل جسم الذبابة، وخصوصاً في القناة
الهضمية (الجهاز الهضمي).
وسبق لنا أن أشرنا إلى تنوع الذباب واختلاف أنواعه عن بعضها في الشكل
والصفات والسلوك، ومن نافلة القول أن نذكر عدداً من أنواع الذباب
الشهيرة: الذبابة المنزلي العادي، ذبابة الإسطبل، ذبابة الخيل، ذبابة
الخل، ذبابة الفاكهة، الذبابة السارقة، الذباب الحوّام، الذباب صانع
الأكياس، نغف الجمال، برغش الغنم، ذبابة الوجه، ذبابة الدمع، ذبابة
النحل، ذبابة مايو، ذبابة الحجر، وذبابة الكاديس، ذبابة الكالسيد،
ذبابة اللحم، الذبابة الزرقاء، الذبابة الخضراء، الذباب المنشاري،
ذبابة الحور، الذباب المتوحش، الذباب الرقيق..الخ.
ومن هذه الأنواع ما يتبع رتبة الذباب الحقيقي، ومنها ما لا يتبعها،
وإنما ينتمي إلى رتب أخرى، لكنه أخذ تسمية " ذباب ".. والذباب الحقيقي(True
Flies)هو
حشرات تنتمي إلى رتبة تسمى " ذوات الجناحين (Order
:Diptear)،
أو تسمى أحياناً " ثنائية الأجنحة " .
الذبابة المنزلية الشائعة (House
Fly)
توجد في كل مكان تقريباً، غير نظيف، أو حتى نظيف، لكنه يحتوي طعاماً
شهياً للذباب، كالسوائل الحلوة أو المشروبات أو الأطعمة المكشوفة..
والذبابة التي عمرها يتراوح بين (9) ، (12) يوماً، هي التي تبيض، فأين
تبيض؟ إنها تبيض في الأماكن القذرة وشقوق الحظائر الملوثة بالروث،
وتبيض أيضاً في القمامة، وخصوصاً قمامة الفواكه والخضراوات المتعفنة،
وهذه أفضل أماكن لتربية يرقات الذباب (Maggots)
بعدما يفقس البيض.
ويتجمع الذباب عندما يبيض، والأنثى الواحدة منه تبيض بيضاً متجمعاً في
شكل كتل، كل كتلة فيها(100) بيضة، ويصل عدد الكتل التي تضعها الأنثى (Female)
في حياتها (20)كتلة، يعني أن متوسط عدد البيض الذي تبيضه أنثى الذبابة
المنزلية هو (2000)بيضة.
ويرقان الذباب المنزلي بيضاء تشبه الدودة ولكن ليس لها أرجل، لذلك
فإنها تتحرك مثل حركة الثعبان تقريباً، وهي لكي تكبر لابد أن تنسلخ
(تخلع جلدها وتستبدل به جلداً جديداً) ويحدث الانسلاخ (Moulting)
مرتين، ثم تنمو وتنمو حتى تصل إلى أقصى حجم لها، ثم تتحول إلى عذراء(Pupa)،
أو ما تسمى " خادرة" . وقد تستغرق حياة اليرقة كلها (5)أيام أو (7)
أيام أو (12) أيام أو (14) يوماً، وكلما انخفضت درجة حرارة الجو، كلما
طالت مرحلة اليرقة(Larval
Stage).
صورة تبين دورة حياة
ذبابة المنزل
ويتغلظ جلد اليرقة في آخر أيامها، ويتحول لونه إلى البني أو البني
الغامق، وتتحول اليرقة بداخله إلى عذراء، ويسمى هذا الغلاف " الغلاف
البرميلي.. (Puparium)
" وبعد 3_5 أيام، ينشق هذا الغلاف البرميلي، وتخرج منه ذبابة يافعة (adult)،
لها أجنحة، لكن لا تطير فور خروجها من هذا السجن(أقصد الغلاف البرميلي
الشكل)، وإنما تحتاج ساعة في الهواء الطلق لتمدد جناحيها، وبعدها تكون
قادرة على الطيران، فتقلع وتحلق في الهواء.. وهي أيضاً ذات قدرة على
الزواج، وعلى وضع البيض(Oviposition)،
وعلى إنتاج ذرية (Progeny)
أو جيل جديد(New
Offspring).
الذباب : مصدر الداء ومصدر الدواء:
·
توصّل (بريفيلد) ـ من جامعة هال بألمانيا ـ في عام 1871م إلى أن
الذبابة المنزلية (لMusca
domestica)
تصاب بطفيل من الفطور (Fungi)
اسمه العلمي (إمبوزا موسكي(Empusa
music)
وهو من فصيلة الفطور المسماة (إنتوموفنزالي)، التي تنتمي إلى الفطور
المسماة (فيكومايسيس). يقضى هذا الطفيل حياته في الطيقة الدهنية
الموجودة داخل بطن الذبابة، على شكل خلايا خميرة مستديرة. وبعد نضج هذه
الخلايا المستديرة، تستطيل وتخرج من بين الشدف البطنية (Abdominal
segments)أو
من المتنفّسات الفتحات التنفسي(Spiracle)
والفطر في هذه الحالة يكون في دورة التكاثر، وتتضاعف أعداد البذور داخل
الخلايا، فيزداد ضغطها، فتنفجر الخلايا، وتخرج منها بذور الفطر باندفاع
شديد مصحوبة بالسائل الخلوي على هيئة رشاش.
·
قدّم العالم دريلفي
12 ديسمبر 1923م ـ تقريباً عن أسباب تكرار ظهور وباء (جائحة) الكوليرا
في الهند، وطرق مكافحته، وقد كان موفداً لهذا الغرض من رئاسة الصحة ا
لبحرية والحجر الصحي المصري وبعد أن قام دريل وزملاؤه المتخصصين بدراسة
الموقف وتقويمه، قدم هذا التقرير المسهب، الذي أثبت فيه ان البكتريوفاج
(Bacteriophage)
أي قاتل (أو بالغ أو آكل أو مفترس) البكتريا، أو الخلية البكتيرية
البلعمية ـ هو العامل الوحيد في مكافحة وباء الكوليرا، ويوجد هذا
العامل في براز الناقهين من هذا المرض، وأن الذباب ينقله من البراز إلى
آبار ماء الشرب فيشربه الأهالي. وحين يظهر البكتريوفاج القوي في ذباب
البلاد ومائها تنطفئ جذوة الكوليرا.
وحصل دريل وزملاؤه على البكتريوفاج القوي من جسم الذباب، وتوصل إلى أن
الحصانة (المناعة) الحقيقية يحققها الأهالي بعد دخول البكتريوفاج في
أمعائهم بشرب ماء أو بتناول الأغذية المحتوية عليه والمنقولة إليها
بواسطة الذباب.
صورة مجهرية لفيروسات
البكتريوفاج وهي تهاجم أحد البكتريا
صورة توضيحية لآلية
عمل فيروس
البكتريوفاج في مهاجمة البكتريا
شكل افتراضي لفيروس
البكتريوفاج الذي يقضي على البكتريا الضارة
·
نشرت جريدة التجارب الطبية في عددها 1037/4الصادر في عام 1927م تحت
عنوان: (الباكتريوفاج من ذباب البيوت) : لقد أطعم الذباب الذي يألف
البيوت من مزرعة الجراثيم الممرضة، وبعد حين اختفى أثر الجراثيم التي
في الذباب وماتت كلها، وظهرت في الذباب مادة قاتلة للجراثيم تسمى
(باكتريوفاج) وهي مادة ذات أثر قوي ضد أربعة أنواع من الجراثيم
الممرضة.
كما ذكرت المقالة أن خلاصة من الذباب في محلول ملحي فسيولوجي وجد أنها
تحتوي هذا العامل " الباكتريوفاج " وكذلك مادة أخرى ليست من هذا النوع
ولكنها مفيدة في الدفاع العضوي ضد أربعة أنواع أخرى من الجراثيم
الممرضة.
·
أعلن أستاذ علم الفطور الكبير (لانجيرون) في عام 1945م أن فطر
(إنتوموفنزالي) الذي يعيش دوماً في بطن الذبابة على هيئة خلايا
مستديرة، تحتوي خميرة (إنزيم) خاصة قوية، تحلل وتذيب من أجزاء الحشرة
الحاملة للمرض.
·
ذكر (بريفيلد) أيضاً، أن الباحث (موفيتش) نجح عام 1947م في عزل مضادات
حيوية من مزرعة للفطور التي تعيش على جسم الذبابة ووجدها ذات مفعول قوي
على جراثيم سلبية لصبغة جرام (مثل جراثيم الزحار والتيفويد)، ووجد أن
جراماً واحداً منها يحفظ أكثر من ألف لتر من اللبن من التلوث بالجراثيم
المذكورة.
·
وفي سنة 1948م، عزل (بريان)، (كوتيس)، (هيمنج)، (جيفيريس)، (ماكجوان)،
من بريطانيا، مادة مضادة للحيوية تسمى (كلوتينيزين)، وذلك من أنواع
تابعة لفصيلة الفطور التي تعيش في الذبابة، ومن بينها جراثيم
الدوسنتاريا والتيفويد.
·
وفي سنة 1949م، عزل (كوماس)، (فارمر) ـ من إنجلترا، (جريان)، (روث)،
(اتلنجر)، (بلانتر) ـ من سويسرا ـ مادة مضادة للحيوية تسمى (انياتين)،
وذلك من فطور تعيش في الذبابة. وتؤثر هذه المادة بقوة في جراثيم سالبة
وجراثيم موجبة لصبغة جرام، وفي بعض الفطور الأخرى، مثل جراثيم
الدوسنتاريا والتيفويد والكوليرا. وتكفي كمية قليلة من هذه المادة
المعزولة من جسم الذبابة لقتل أو إيقاف نمو هذه الجراثيم المرضية.
·
كما تمكن العالمان الإنجليزيان (ارنشتاين)، (كوك) والعالم السويسري
(روليوس)، في عام 1950من عزل مادة أسموها (جافاسين) وذلك من فطر ينتمي
إلى نفس الفصيلة المذكورة سابقاً، وهو يعيش على الذباب، واتضح لهم أن
هذه المادة تقتل جراثيم مختلفة من بينها الجراثيم السالبة لصبغة جرام
والجراثيم الموجبة لصبغة جرام. مما يفيد في مكافحة الجراثيم التي تسبب
أمراض الحميات التي يلزمها فترة حضانة قصيرة.
·
نشر العالمان المصريان د/محمود كامل ، د/محمد عبد المنعم حسين، مقالة
في مجلة الأزهر (القاهرة) ـ عدد شهر رجب 1378هـ تحت عنوان :
" كلمة الطب في حديث الذبابة"،
ضمناها كثير من الأخبار والمعلومات. وذكرا أن الذباب ينقل أمراضاً
كثيرة، وذلك بواسطة أطراف أرجله، أو في برازه. وإذا وقعت الذبابة على
الأكل، فإنها تلمسه بأرجلها الحاملة للميكروبات الممرضة، وإذا تبرزت
على طعام الإنسان، فإنها ستلوثه أيضاً بأرجلها. أما الفطور (الفطريات)
التي تفرز المواد الحيوية المضادة، فإنها توجد على بطن الذبابة، ولا
تنطلق مع سوائل الخلايا المستطيلة لهذه الفطور (والتي تحتوي المواد
الحيوية المضادة) إلا بعد أن يلمسها السائل الذي يزيد الضغط الداخلي
لسائل الخلية، ويسبب انفجار الخلايا المستطيلة، واندفاع البذور والسائل
إلى خارج جسم الذبابة.
·
نشرت جريدة " الأهرام " بالقاهرة في عددها الصادر يوم 2يوليو 1952م،
مقالة للأستاذ/مجدي كيرلس جرجس(وهو مسيحي مصري)، ورد فيها : وهناك
حشرات ذات منافع طبية، ففي الحرب العالمية الأولى، لاحظ الأطباء أن
الجنود ذوي الجروح العميقة الذين تركوا بالميدان لمدة ما، حتى ينقلوا
إلى المستشفى، قد شفيت جروحهم والتأمت بسرعة عجيبة، وفي مدة أقل من تلك
التي استلزمتها جروح من نقلوا إلى المستشفى مباشرة.
وقد وجد الأطباء أن جروح الجنود الذين تركوا بالميدان تحتوي على "
يرقات " بعض أنواع " الذباب الأزرق" وقد وجد أن هذه " اليرقات " تأكل
النسيج المتقيح في الجروح، وتقتل " البكتريا" المتسببة في القيح
والصديد.
وقد استخرجت مادة (الانثوين) من " اليرقان" السالفة الذكر، واستخدمت
كمرهم رخيص، ملطف للخراريج والقروح والحروق والأورام. وأخيراً عُرف
التراكيب الكيميائي لمادة (الانثوين) وحضرت صناعياً، وهي الآن تباع
بمخازن الأدوية.
·
ذكر الدكتور /ظافر عطار في مقالة له منشورة بمجلة عالم الطب والصيدلة
(12)أن عبد الوارث كبير نشر مقالة في
مجلة العربي (بالكويت) اتهم فيها حديث الذبابة بالضعف، ثم رد عليه د/عز
الدين جوالة على صفحات عدد 1965م من نفس المجلة، وتوجّه في مقالة
باللوم إلى عبد الوارث كبير لإنكاره هذا الحديث، وظنّه أنه من وضع
الواضعين.
ويقول د/جوالة في مقاله هذا : إن الحديث النبوي لا ينكر أن الذبابة
يحمل الأقذار وجراثيم الأمراض، بل يؤكد ذلك ويكرره بقوله : (في أحد
جناحيه داء)، فهذا شيء أصبح الآن معروفاً لدى الجميع، وأما الجانب الذي
يجهله الكثير من الناس فهو وجود مضادات حيوية للجراثيم في الذباب.
ومما ذكره د/جوالة في بحثه الذي وردت أجزاء منه في كتاب المرحوم /سعيد
حوى (الرسول صلى الله عليه وسلم ):
1.
من المعروف منذ القديم أن بعض المؤذيات يكون في سمها نفع ودواء، فقد
يجمع الضدان في حيوان واحد، فالعقرب في إبرتها سم نافع، وقد يداوى سمها
بجزء منها. والنحلة يخرج من إبرتها سم نافع، ويخرج من فمها شراب نافع.
2.
يحضر لقاح من ذبيب الأفاعي والحشرات السامة، يحقن به لديغ العقرب، أو
لديغ الأفعى.
3.
يستخرج البنسلين من العفن ومواد قذرة من تراب المقابر.. الخ.
4.
للجرثومة ذيفان(Toxin)وهو
مادة منفصلة عن الجراثيم ـ وإذا دخل الذيفان في بدن الحيوان قام البدن
بتكوين أجسام مضادة له تبطل مفعوله، وتسمى هذه المادة : مبيد الجراثيم
(باكتريوفاج).
ثم يقول صاحب البحث : فهل يستبعد القول بأن الذباب يلتهم الجراثيم ضمن
ما يلتهمه، فيكون في جسم الذباب الأجسام الضدية المبيدة للجراثيم التي
لها القدرة على الفتك بالجراثيم الممرضة التي ينقلها الذباب إلى الطعام
أو الشراب. فإذا وقعت الذبابة في الطعام فما علينا إلا أن نغمسها فيه،
فتخرج تلك الأجسام الضدية فتهلك الجراثيم التي تنقلها الذبابة.
·
أمثلة لاستعمال الذباب في بعض التدابير العلاجية:
ورد في كتاب L
Orthopedieالمطبوع
سنة 1743م وصف لعمل لبخة من الذباب، لوضعها على الجفون، ورد فيها: ( أو
تؤخذ ثلاثون ذبابة عادية وتسحق ثم يضاف إليها صفار بيضة مذاباً في قليل
من زيت التربنتينة، وتصنع منها لبخة توضع على الجفن، هذه اللبخة ممتازة
تزيد من نمو الأهداب وغزارتها.
ورد في كتاب (Materia
Medica)
المطبوع سنة 1939م ـ وكان يدرس لطلاب كلية الطب في مصر قبل منتصف القرن
العشرين ـ أن الذبابة الإسباني الأخضر (كانثريدس) يستخرج منه دواء
لعلاج العنّة (العجز الجنسي في الرجل) .. وإن كان هذا القول لم تعززه
البحوث الطبية المعتمدة!!
هذا إضافة إلى ما تحفل به كتب، مثل : تذكرة داود، حياة الحيوان الكبرى
للدميري، وكتب ابن البيطار، وغيرهم، من وصفات طبية لعلاج بعض الأمراض
باستعمال مسحوق أو لبخات الذباب ـ أنظر الكتب الأصلية أو ما نقله منها
د/خليل خاطر في كتابه (الإصابة).
حصل الدكتور /أبو الفتوح مصطفى عيد، على درجة الدكتوراه من جامعة
الإسكندرية
تحت إشراف الدكتور /أمين رضا، وقد ورد فيها
قوله: (وقد كانت الحرب العالمية حقلاً خصيباً تطور خلالها علاج هذا
المرض(التهاب العظام المزمن)، ففيها استنتجت طريقة العلامة (أور) سنة
1927م، وطريقة العلاج بيرقات (Laravae)
الذباب للأستاذ (بيير) سنة 1931م.
كما ورد في مقالة لمجلة (جراحة العظام الأمريكية) ـ مجلد 16 عدد 3ـ سنة
1934م، شرح لعلاج الالتهابات العظمية المزمنة باستعمال الذباب، وشرح
لكيفية تربية الذباب(Rearing
of Flies)
لهذا الغرض. وسبق أن نشر على صفحات نفس المجلة عام 1931م، إعلان لشركة
(لديرل) عن بيعها يرقات الذباب لاستعمالها للعلاج.
كما ورد في نفس المجلة(عدد أبريل 1935م) مقالة للعالم (وليم روبنسون)
يشرح فيه تطور التفكير في اغتذاء الذباب على الأنسجة الميتة، وكذلك
إفرازات هذه اليرقات والتمثيل الغذائي فيها، بهدف فهم سر التئام الجروح
إذا تركت ملوثة بيرقات الذباب.
إن هذه البحوث والمقالات والأخبار والمعلومات، وما لم نثبته منها هنا
كثير، تؤكد إمكانية استعمال الذباب على المستوى التجاري وتربيته
وتسويقه بهدف علاج الجروح المتقيحة، وعلاج تقيحات العظام، ولكن هذا لم
يلق الاهتمام المطلوب.ويعلل الدكتور /أمين رضا هذا في رسالة بعث بها
إلى الدكتور /غريب جمعة:
وكلن ظهور مركبات السلفا في نفس الوقت، وظهور المضادات الحيوية الذي
بدأ في الحرب العالمية الثانية، حول أنظار العلماء إلى هذه الطرق التي
كانت جديدة في زمانها.
·
نشرت مجلة (التوحيد) بالقاهرة في عددها الخامس لسنة 1397هـ /1977م
مقالاً للأستاذ الدكتور أمين رضا (أستاذ جراحة العظام والتقويم بجامعة
الإسكندرية) إثر مقالة نشرته بعض الصحف لطبيب آخر تشكك في الحديث
النبوي المذكور.. قول/أمين رضا: رفض أحد الزملاء حديث الذباب على أساس
التحليل العلمي العقلي لمتنه، لا على أساس سنده. وأرى أن أعارض الزميل
بما يلي:
أولاً:ليس
من حقه أن يرفض هذا الحديث، أو أي حديث نبوي آخر، لمجرد عدم موافقته
للعلم الحالي. فالعلم يتطور ويتغير، بل ويتقلب كذلك. فمن النظريات
العلمية ما تصف شيئاً اليوم بأنه صحيح، ثم تصفه بعد زمن قريب أو بعيد
بأنه خطأ.
ثانياً:ليس
من حقه رفض هذا الحديث، أو أي حديث آخر، لأن " اصطدم بعقله اصطداماً "
على حدِّ تعبيره ـ فالعيب الذي سبب هذا الاصطدام ليس من الحديث بل من
العقل، فكل المهتمين بالعلوم الحديثة يحترمون عقولهم احتراماً عظيماً.
ومن احترام العقل أن نقارن العلم بالجهل. فالعلم يتكون من أكداس
المعرفة التي تراكمت لدى الإنسانية جمعاء. أما الجهل فهو كل ما نجهله،
أي ما لم يدخل بعد في نطاق العلم. وبالنظرة المتعمقة نجد أن العلم لم
يكتمل بعد، وإلا توقف تقدم الإنسانية، وأن الجهل أضخم.. إذا قلنا إن
العلم اليوم هو كل شيء، وإنه آخر ما يمكن الوصول إليه، أدى ذلك إلى
الغرور بأنفسنا، وإلى التوقف عن التقدم، وإلى البلبلة في التفكير. وكل
هذا يفسد حكمنا على الأشياء، ويعمينا عن الحق حتى ولو كان أمام أعينا،
ويجعلنا نرى الحق خطأ، والخطأ حقاً.
ثالثاً:ليس
صحيحاً أنه لم يرد في الطب شيء عن علاج الأمراض بالذباب. فعندي من
المراجع القديمة ما يصف وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب. أما
في العصر الحديث، فجميع الجراحين الذين عاشوا في السنوات التي سبقت
اكتشاف مركبات السلفا ـ أي في السنوات العشر الثالثة من القرن العشرين
ـ رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة بالذباب، وكان
الذباب يربى لذلك خصيصاً. وكان هذا العلاج مبنياً على اكتشاف
(باكتريوفاج) القاتل للجراثيم، على أساس أن الذباب يحمل في آن واحد
الجراثيم التي تسبب المرض، وكذلك الباكتريوفاج الذي يهاجم هذه.
رابعاً:في
هذا الحديث إعلان بالغيب عن وجود سم في الذباب، وهو شيء لم يكشفه العلم
الحديث بصفة قاطعة إلا في القرنين الأخيرين (التاسع عشر والعشرين)
الميلاديين، وقبل ذلك كان يمكن للعلماء أن يكذّبوا الحديث النبوي لعدم
ثبوت وجود شيء ضار على الذباب. ثم بعد اكتشاف الجراثيم يعودون فيصححون
الحديث.
خامساً:إن
كل ما نأخذه على الذباب هو الجراثيم التي يحملها، فيجب مراعاة ما نعلمه
عن ذلك:
أ-
ليس صحيحاً أن جميع الجراثيم التي يحملها الذباب جراثيم ضارة أو تسبب
أمراضاً.
ب-
ليس صحيحاً أن عدد الجراثيم التي تحملها الذبابة، أو الذبابتان، كاف
لإحداث مرض فيمن يتناول هذه الجراثيم.
ت-
ليس صحيحاً أن عزل جسم الإنسان عن الجراثيم الضارة، عزلاً تاماً، ممكن
وإن كان ممكناً فهذا أكبر ضرر له. لأن جسم الإنسان إذا تناول كميات
يسيرة متكررة من الجراثيم الضارة تكونت عنده (مناعة) ضد هذه الجراثيم
تدريجياً.
سادساً: في هذا الحديث إعلام بالغيب عن وجود شيء على الذباب يضاد
السموم التي تحملها. والعلم الحديث يخبرنا بأن الأحياء الدقيقة (من
بكتريا وفيروسات وفطريات) تشن الواحدة منها على الأخرى حرباً لا هوادة
فيها. فالواحدة منها تقتل الأخرى عن طريق مواد سامة تفرزها. ومن هذه
المواد السامة بعض الأنواع التي يمكن استعمالها في العلاج. وهي ما
نسميه " المضادات الحيوية "، مثل البنسلين والكلوروميستين وغيرهما.
سابعاً:إن
ما لا يعلمه وما لم يكشفه المتخصصون في علم الجراثيم حتى الآن لا يمكن
التكهن به، ولذلك يجب علينا أن نتريث قليلاً قبل أن نقطع بعدم صحة هذا
الحديث بغير سند من علم الحديث، ولا سند من العلم الحديث.
ثامناً:هذا
الحديث النبوي لم يدع أحداً إلى صيد الذباب ووضعه عنوة في الإناء ولم
يشجع على ترك الآنية مكشوفة.
تاسعاً:إن
من يقع الذباب في إنائه، ويشمئز من ذلك ولا يمكنه تناول ما فيه فإن
الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
عاشراً:
هذا الحديث النبوي لا يمنع أحداً من الأطباء والقائمين على صحة الشعب
من التصدي للذباب في موطنه ومحاربته وإعدامه وإبادته.
أنه يوجد في جسم الذباب نوع من البروتينات النشطة التي تملك قدرة على
إبادة الجراثيم المسببة للأمراض. ونقلت صحيفة (شينخوا) عن صحيفة
(شينمين) الصينية قولها: إن هذه الحشرة المقززة للنفس تمتلك بروتينات
قوية قادرة على إبادة الفيروسات والجراثيم بشكل قاطع إذا بلغت كثافتها
حداً معيناً. وأضافت الصحيفة: إنه يوجد في جسم الذباب أيضاً مادة
الدهن، وخاصة في اليرقات التي تحتوي نسبة كبيرة من المغنزيوم
والكالسيوم والفسفور. ويفكر العلماء في استخراج هذه المواد من جسم
الذباب ليكون مصدراً جديداً لمركبات قاتلة للجراثيم.
وبعد مناقشة لموضوع (حديث الذباب)، عرض صاحب كتاب (معجزات في الطب
للنبي صلى الله عليه وسلم
، خاصة،نذكر منها خلاصة الخاصة في النقاط
التالية:
أ-
يقع الذباب على الفضلات والمواد القذرة، فيحمل بأرجله وأشعاره كثيراً
من الجراثيم الممرضة.
ب-
يقع الذباب على الطعام أو الشراب، فيلمس بأرجله الملوثة بالجراثيم هذا
الطعام أو الشراب، فيلوث بهذه الجراثيم، وقد يتبرز فيه فتخرج مع البراز
تلك الجراثيم الممرضة في الطعام أو الشراب.
ت-
إذا أخذت الذبابة من الطعام أو الشراب، وألقيت خارجة دون غمس، بقيت هذه
الجراثيم في مكان سقوط الذبابة(أي : الطعام أو الشراب)، فإذا تناول
الإنسان هذا الطعام أو الشراب الملوث دخلت الجراثيم إليه.
ث-
أما إذا غمست الذبابة كلها، فإن هذه الحركة تحدث ضغطاً داخل الخلايا
الفطرية الموجودة مع جسم الذبابة، فتزيد توتر البروز والسوائل الموجودة
بداخلها زيادة تؤدي إلى انفجار الخلايا وخروج الإنزيمات (الخمائر)
المهلكة بجراثيم المرض، فتقع على الجراثيم التي تنقلها الذبابة
فتهلكها.. وهكذا يصبح الطعام أو الشراب طاهراً من الجراثيم الممرضة..
وهكذا توصل العلماء إلى بيان علمي للحديث النبوي الذي يؤكد ضرورة غمس
الذبابة كلها في الطعام أو الشراب، ليخرج من بطنها الدواء الذي يكافح
ما يحمله من داء.
ج-
بحوث معملية حديثة على هدى الحديث النبوي :
أثبت د/خليل خاطر في كتابه (الإصابة)أنه
علم بوجود مجموعة بحثية لتحقيق حديث الذبابة معملياً، وقد تحدث في هذا
الشأن مع د/محمد على البار، الشيخ /عبد المجيد الزنداني، د/محمد فضل
الخاني، ولكنه تأكد من إجراء تجارب في هذا الموضوع بكندا والسعودية
ومصر. وما أثبته في كتابه المذكور إنما هو موجز البحوث التي أجراها
د/نبيه عبد الرحمن باعشن(رئيس قسم الأحياء بكلية العلوم جامعة الملك
عبد العزيز ـ جدة) ومعه مشاركون هم : منصور سجيني، عبد الوهاب عبد
الحافظ، ومحمود زكي. أما التقرير الذي كان مع /الشيخ عبد المجيد
الزنداني ـ وللأسف فقد فُقدَ منه ـ فكان لعالمين من كندا، بدءا بحثهما
من حيث انتهت بحوث اللجنة المشكلة بهذا الغرض بجامعة الملك عبد العزيز،
وقد توصَّلا إلى التعرف على العامل الذي يساعد على القضاء على الجراثيم
في الذبابة المنزلية، وحدّدا اسمه، وقوته، وقدرته، ونتائج قضائه على
الجراثيم وطريقته في تحقيق هذا.
أما البحث الممتد، أو بالأدق سلسلة البحوث، التي اجراها باعشن وزملاؤه
فكانت تحت عنوان:( تأثير السقوط والغمس للذبابة المنزلية على مدى تلوث
الماء والأغذية بالميكروبات).
الجزء الأول: دراسة مبدئية، الجزء الثاني: تأثير درجة حموضة ماء الغمس،
الجزء الثالث: تأثير السقوط والغمس للذباب على تلوث ونمو الميكروبات
على الحليب. وكان مما ورد في موجز الجزء الثالث، المختص بعملية غمس
الذباب في الماء أو الحليب ما يلي:
وجود عامل مثّبط لنمو الجراثيم الموجودة على الذباب، والتي تسقط في
الماء أو الطعام، عند سقوط الذباب فيه، ومن ثم، الحدّ من نمو الجراثيم،
وتقليل عددها أيضاً.
إن عملية الغمس تقلل من تأثير الجراثيم التي يحملها الذباب وتسقط في
الماء أو الطعام عند سقوط الذباب فيه.
إن تأثير عملية الغمس هي على الجراثيم المرضية أكثر مما هي على
الجراثيم الكلية (النافعة) التي لا تحمل الأمراض، وهذا ما يؤكده الحديث
الشريف (داء ، شفاء).
إن فعالية الغمس أظهرت فعالية القضاء على الجراثيم عند درجات مشابهة
لدم الإنسان وجسمه، بخلاف ما لو أجريت في وسط متعادل.
وهذا ما يبين المعجزة في الحديث، وهي أن النتائج قد أثبتت بشكل واضح أن
الذباب إذا سقط ثم طار، فإن الجراثيم التي تسقط منه في الطعام أو
الشراب تزداد أعدادها، بينما إذا غمس ثم رفع، فإن الجراثيم التي تسقط
لا تبقى أعدادها كما هي، بل تبدأ بالتناقص، ويحدّ من نموها أيضاً. فلو
سقط من الذبابة (1000) جرثومة مثلاً، ثم طارت الذبابة، فإن الألف تزيد
لتصبح مثلا(1010ـ 1020ـ 1050هكذا) بينما لو سقط منها (2000) جرثومة ثم
غمست، فإن الألفين لا يزيدا بل ولا تبقى عند حدّها، بل تنقص شيئاً
فشيئاً لتصبح مثلاً( 1950ـ 1900ـ 1850.. ) حتى تصبح أقل بكثير مما سقطن
وهذا ما تؤكده هذه التجارب والله أعلم.
إن هذه التجارب أثبتت صحة الحديث النبوي، أيضاً، من الناحية العلمية
التجريبية، وإن كنا ننتظر ما هو أكثر من ذلك.
إن الأمر المتوقع والمنطقي أن غمس الذباب يزيد من عدد الجراثيم التي
تسقط منه في الماء أو الطعام، وذلك لأنها تعطي فرصة أكبر لسقوط
الجراثيم عن سطحه، بخلاف وقوفه على الطعام أو الشراب، لأن الذي يمس منه
هو أطرافه وخرطومه وأطراف أجنحته، بينما في الغمس يسقط كله. هذا لو كان
الأمر عادياً ومتوقعاً.
بينما أظهرت التجارب عكس ذلك تماماً، وهذا هو المذهل في الأمر، نتيجة
تجارب كثيرة جداً وتكررت في مدة تزيد عن سنتين في كل من جدة والقاهرة،
وفي معامل (مختبرات) الجامعات، ومن قبل أساتذة مختصين هدفهم هو الناحية
العلمية، وإن كانوا قد فرحوا بالنتائج التي توصوا إليها.
إن هذه التجارب أثبتت إعجازاً علمياً في السنة يضاف إلى المعجزات
العلمية الأخرى التي تدلل على معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة،
في الكتاب والسنة .
وختاماً
هل ذكر الأجنحة في الحديث النبوي يفيد التخصيص، أم انه أمر اعتباري؟ في
مناقشته لهذا الموضوع، أجاب د/محمد سعيد السيوطيعن
هذا السؤال بقوله : (وأما ما ورد في صدر الحديث الشريف (إذا وقع الذباب
في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه)، فالغمس هو لأجل أن يدخل
الباكتريوفاج الشراب (أو الطعام)، وقد ثبت أن أثراً زهيداً منه يكفي
لقتل جميع الجراثيم المماثلة، أي التي نشأ عنها الباكتريوفاج والجراثيم
القريبة منها. وحيث ورد في نص الحديث (فليغمسه)، أي : فليغمس الذبابة
كلها، فقد دخل في الغمس جسمها مع جناحيها، ولم يرد في الحديث غمس
الجناحين فقط، مما دل على أن الداء والشفاء في الجناحين أمر اعتباري لا
يفيد التخصيص، والأمر بغمسها يؤكد ذلك، وهو لأجل تطهير الشراب من
الجراثيم، وذلك بإدخال الباكتريوفاج(عامل الشفاء) والجراثيم، وتحقق
وظيفتهما على حمل ونقل الجراثيم والباكتريوفاج فقط.
·
كما ينتهي د/محمد أبو شهبةبعد
مناقشته لهذا الموضوع إلى قوله : وبذلك يحقق العلماء بأبحاثهم تفسير
الحديث النبوي الذي يؤكد ضرورة غمس الذبابة كلها في السائل أو الطعام
إذا وقعت عليه (فيه) لإفساد أثر الميكروبات المرضية التي تنقلها
بأرجلها أو يبرزها. وكذلك يؤكد الحقيقة التي أشار إليها الحديثن وهي أن
في أحد جناحيها داء(أي : في أحد أجزاء جسمها الأمراض المنقولة
بالميكروبات المرضية التي حملتها) وفي الآخر شفاء، وهو المواد الحيوية
المضادة التي تفرزها الفطور (
Fungi)
الموجودة على بطنها، والتي تخرج وتنطلق بوجود سائل حول خلايا الفطور
المستطيلة.
وبعد مناقشته للموضوع، ختم د/غريب جمعة إحدى مقالاتهبقوله
: إن هذا الحديث لم يدع أحداً إلى صيد الذباب ووضعه عنوة في الإناء،
ولم يشجع على ترك الآنية مكشوفة، ولا على الإهمال في نظافة البيوت
والشوارع، ولا يتعارض مع الحماية من أخطار انتشار الذباب بأية صورة،
ولم يجبر من وقع الذباب في إنائه واشمأز من ذلك على تناول ما فيه، وهذا
الحديث لا يمنع أحداً من القائمين على الصحة من التصدي للذباب في
مواطنه ومحاربته، ولا يدعو إلى إقامة مزارع أو مفارخ للذباب، ومن صنع
هذا أو اعتقده فقد وقع في خطأ كبير.
وفي اتصال شخصي مع الدكتور معتز المرزوقيأوضح
أن حديث الذباب ـ الذي نحن بصدده ـ يتضمن معجزتين علميتين لرسول الله
صلى الله عليه وسلم أحداهما وجود الميكروب في جانب من الذبابة ووجود
المضاد الحيوي (antibiotic)
في الجانب الآخر، على اعتبار أن الجناح في اللغة يدل على الميل أو
الجانب، ويؤيده قول الله تعالى : (واضمم يدك
إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء )[سورة طه]. وأما المعجزة
الثانية فهي في كلمة (فليغمسه)، لأن الغمس يتضمن ولوج المنطقة التي بها
فطريات (فطور) حاملة للمضادات الحيوية وللميكروبات ولأن عملية الغمس
تسمح للسائل أن ينتشر إلى الغشاء بالانتشار الغشائي حتى ينفجر هذا
الغشاء ويخرج السيتوبلازم الذي يحتوي مضادات الميكروبات التي يكفي (2)
مللي جرام منها لتطهير ألف لتر من اللبن الملوث بجميع الميكروبات.
وعموماً فإن هذا الحديث لا يتعلق ببيان أصل من أصول الدين، من الإلهيات
أو النبوات أو السمعيات، ولا ببيان فريضة من فرائضه الظاهرة أو
الباطنة، الشخصية أو الاجتماعية ولا ببيان أمر من أمور الحلال والحرام
في حياة الفرد أو الجماعة، ولا ببيان تشريع من تشريعات الإسلام المنظمة
لحياة الأسرة والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية، ولا ببيان خلق من
أخلاق الإسلام التي بعث الرسول ليتم مكارمها. ولو أن مسلماً عاش عمره
دون أن يقرأ هذا الحديث أو يسمع به، لم يكن ذلك خدشاً في دينه، ولا أثر
ذلك في عقيدته أو سلوكه العام.. فلا مجال لأولئك الذين يتخذون من
الشبهات المثارة حول الحديث سبيلاً للطعن في الدين كله.