قال الله جل جلاله:﴿
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
(النور:35)
أولاً-
هذه الآية الكريمة
تتحدث عن سلطان الله جل جلاله في هذا الوجود، وامتلاكه لناصية كل موجود
فيه. ففيها يخبر سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه نور السموات والأرض، ثم
يضرب لنوره مثلاً بنور مصباح، قد اجتمعت فيه أسباب الإضاءة كلها على
أحسن وجه وأكمله، فبدا نوره صافيًا قويًّا متلألأً، ينير كل ما حوله.
ثم أخبر سبحانه أنه يهدي لنوره من يشاء من عباده، وأن مشيئته سبحانه
تابعة لحكمته وعلمه بالأشياء كلها دقيقها وعظيمها، صغيرها وكبيرها، لا
يغيب من ذلك شيء عن علمه سبحانه.
وقد سبق ذلك قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾(النور:
34)
وهو تعقيب لما سبقه في هذه السورة الكريمة، التي سمَّاها الله تعالى:
سورة النور، ووصفها بقوله:﴿ سُورَةٌ
أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾(النور:
1)
فدل ذلك على أنها جملة من الحدود والأحكام والحكم والآداب، والأخلاق،
والمواعظ، قد فرضت فرضًا على سبيل القطع والإلزام، لما في ذلك من تطهير
للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، ومن
حفظ للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإِباحية والفساد، التي تُسبب ضياع
الأنساب، وذهاب الشرف والأعراض، وبناء مجتمع فاضل، يقوم على العدل
والحق والخير.
والإخبار عن هذه السورة بلفظ النكرة هكذا:﴿ سُورَةٌ ﴾،
ثم وصفها بما تلاه من صفات:﴿ أَنْزَلْنَاهَا
وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ ﴾، فيه
من الفخامة من حيث الذات، ومن حيث الصفات ما لا يخفى، فكان من المناسب
جدًّا أن يأتي الله سبحانه بعد ذلك بهذا التعقيب، الذي ضمَّنه هذا
الوصف الجليل للقرآن الكريم، الذي تضمن هذا التقسيم الثلاثي لما جاء
فيه، فبيَّن سبحانه وتعالى:
1-
أنه آيات مُبيِّنات:﴿ وَلَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ﴾.
أي: مُوضِّحات لأحكام الدين وحدوده، لا تدع مجالاً للشك، أو الغموض،
والتأويل, والانحراف عن منهج الله القويم. ويدخل في عموم هذه الآيات
المبيِّنات الآيات البيِّنات، التي أخبر الله تعالى عن إنزالها في هذه
السورة:
﴿ وَأَنْزَلْنَا
فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾
فهذه بيِّنات في أنفسها، وتلك مع كونها بيِّنات في أنفسها مُبيِّنات
لغيرها.
2-
أنه مثل من الذين خَلَوْا من
قبلنا:﴿
وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾،
وهو المراد بما ذكره الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الغابرة
وقصصهم، التي
يعتبر بها، ويقاس عليها أحوال الأمم المستقبلة؛ كما قال تعالى:
﴿ لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾(يوسف:
111)
ومن هذه القصص- التي فيها العبرة لمن أراد أن يعتبر- ما أخبر الله
تعالى عنه في هذه السورة المباركة من قصة مريم، التي رماها قومها
بالفاحشة، فبرَّأها الله تعالى. فهذه القصة فد جعلها الله تعالى
مَثَلاً لكل قصة تماثلها؛ كقصة عائشة- رضي الله عنها- التي رماها أهل
الإفك من قومها بما لا يليق بها، فأظهر الله تعالى براءتها في هذه
السورة المباركة.
3-
أنه ﴿ وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ ﴾،
الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله، فتخشى وتستقيم، وكذلك هو موعظة للكفرة
الضالين. وإنما خَصَّ المتقين بالذكر؛ ليبين أنهم هم الذين اتعظوا،
وانتفعوا بتلك المواعظ. ونظير ذلك قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا
تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ﴾(يس:
11)
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذرًا لكل الناس؛ ولكنه خصَّ الذين
اتبعوا الذكر، وخشوا الرحمن بالغيب؛ لأنهم هم الذين انتفعوا بالإنذار.
ثم تلا ذلك قول الله جل وعلا:
﴿ اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ ﴾ إلى قوله:
﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ ﴾(النور:
35)
فبين سبحانه وتعالى أن كل ما أنزله من آيات بيِّنات، ومُبيِّنات، وما
فرضه من أحكام، وما حَدَّه من حدود، وما ذكره من أحوال الأولين
والآخرين وقصصهم، وما ذكره من أوامرَ، ونواهٍ، ومواعظَ، في هذه السورة
المباركة خاصة، وفي القرآن الكريم عامة؛ إنما هو نور مستمد من نوره
سبحانه؛ ولهذا سمَّى هذه السورة:{ سورة النور }. وهكذا تتناسق الآيات
مع بعضها البعض في سلك رفيع من النظم بديع !
ثانيًا-
قوله تعالى:﴿ اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
يقتضي ظاهره أنه سبحانه وتعالى في نفسه نور. ولما كان النور- في لغة
العرب- يعني الضوء المدرَك بالبصر، حمل جمهور المفسرين إسناده إلى الله
عز وجل على المجاز. وإسناده- عندهم- على اعتبارين:
إما على اعتبار أنه بمعنى: اسم الفاعل. وعليه يكون التقدير:
﴿ اللَّهُ
مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
أو على اعتبار حذف مضاف، تقديره:
﴿ اللَّهُ
ذُو نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
أما كونه بمعنى اسم الفاعل فهو مروي عن الحسن وأبي العالية والضحاك.
وعليه جماعة من المفسرين، ويؤيده قراءة بعضهم:﴿ مُنَوِّرُ
﴾، وكذا قراءة علي-
رضي الله عنه- وأبي جعفر، وغيرهما:﴿ نَوَّرَ
الأرضَ ﴾ فعلاً
ماضيًا، ومفعولاً به.
وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّر نور السماوات بهادي أهل
السماوات والأرض. وبمدبِّر الأمر فيهما، وروي ذلك عن مجاهد أيضًا.
وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ، ووَجْهُ الشَّبَه كونُ كل من
التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح، ويؤيده
ما أخرجه الطبري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- من قوله:” إن
إلهي يقول: نوري هُدَايَ
“. فشبَّه
سبحانه وتعالى نوره بهداه.
وهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزية- إنما يرجع إلى فعله سبحانه، وإلا
فالنور، الذي هو وَصْفٌ من أوصافه جل وعلا قائمُ به، ومنه اشْتُقَّ له
اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى. فهذا اسمه، وذاك فعله، ولا
تَنافِيَ بين الاسم والفعل، وقد عُلِمَ أن كل ما هو نورٌ فهو مُنَوِّرٌ
لغيره، فهما متلازمان.
وكان بعض العارفين يرى أن النور هو اسم الله الأعظم. وفي( لسان العرب )
لابن منظور:”
في أسماء الله تعالى النُّورُ. قال ابن الأثير: هو الذي يبصِر بنوره ذو
العَمايَة، ويرشُد بهداه ذو الغِوايَة. وقيل: هو الظاهر، الذي به كلُّ
ظهور. والظاهرُ في نفسه، المُظْهِرُ لغيره يسمَّى: نورًا.. قال أبو
منصور: والنور من صفات الله عز وجل
“.
وقال ابن قيِّم الجوزية:”
إن النور جاء في أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول،
وأثبتوه في أسمائه الحسنى، ولم ينكره أحد من السلف، ولا أحد من أئمة
أهل السنة. ومحالٌ أن يسمِّي نفسه نورًا، وليس له نور، ولا صفة النور
ثابتة له؛ كما أن من المستحيل أن يكون عليمًا قديرًا سميعًا بصيرًا،
ولا علم له ولا قدرة؛ بل صحةُ هذه الأسماء عليه مستلزمةٌ لثبوت معانيها
له، وانتفاءُ حقائقها عنه مستلزمةٌ لنفيها عنه، والثاني باطل قطعًا
فتعين الأول
“.
فكونُ النور اسمًا من أسمائه تعالى، أو وَصْفًا من أوْصَافه، لا يمنع
أن يكون منوِّرًا لغيره، ومُدَبِّرًا لأمره، وهاديًا له؛ لأن من معاني
كونه- سبحانه- نورًا أن يكون مُنَوِّرَ السمواتِ والأرضِ، ومُدَبِّرَ
الأمر فيهما، وهاديَ أهلهما بنوره، الذي منه قِوامُهُمَا، ومنه
نِظامُهُمَا؛ فهو الذي يهَبُهُما جوهرَ وجودهما، ويودِعُهُما
ناموسَهُما، ويقيم كل موجود في هذا الوجود في مكانه الصحيح، ويوجِّهه
الوِجْهةَ، التي يأتلف فيها مع الوجود، ويتناغم مع الموجودات؛ فكأن كل
ذرة من ذرات هذا الوجود تعمل في نور، فلا تضلُّ طريقَها أبدًا.
وقد كان من عادة الصحابة- رضوان الله عليهم- أن يذكروا في تفسيرهم بعض
صفات المفسَّر من الأسماء، أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية
صفات المسمَّى. وإلى هذا أشار الشيخ ابن تيمية بقوله:”
ثم قول من قال من
السلف: هادي أهل السماوات والأرض، لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا؛ فإن
من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفَسَّر من الأسماء، أو
بعض أنواعه. ولا ينافي ذلك ثبوت بقية صفات المسمَّى؛ بل قد يكونان
متلازمين
“.
ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني عن سعيد بن جبير- رضي الله عنه- من
قوله:”
كان ابن عباس يقول: اللهم! إني أسألك بنور وجهك، الذي أشرقت له السموات
والأرض، أن تجعلني في حِرْزِك وحفظك وجوارك وتحت كنفك
“.
وأخرج الطبراني أيضًا عن عبد الله بن مسعود قوله في تفسير الآية:”
إن ربكم ليس عنده ليل، ولا نهار، نورُ السماوات والأرض من نور وجهه
“.
وقد أخبر الله جل جلاله أن الأرض تشرق بنور ربها يوم القيامة، إذا جاء
لفصل القضاء بين عباده، فقال سبحانه:
﴿ وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ ﴾(الزمر:
69)
وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عائد من الطائف
نافض كفيه من الناس:”
أعوذ بنور وجهك، الذي
أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن
ينزل بي سخطك، أو يحل
علي غضبك“
وأخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي في ( الأسماء
والصفات ) عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم، إذا تهجد في الليل يدعو:”
اللهم لك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور
السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض ومن
فيهن
“.
قال ابن قيِّم الجوزية:”
إن الحديث تضمن ثلاثة أمور، شاملة عامة للسموات والأرض؛ وهي:
ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما. فكونه سبحانه ربًا لهما، وقيومًا
لهما، ونورًا لهما أوصاف له، فآثار ربوبيته، وقيوميته، ونوره، قائمة
بهما.
وصفة الربوبية مقتضاها هو المخلوق المنفصل. وهذا كما أن صفة الرحمة
والقدرة والإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه، والرحمة الموجودة في
العالم، والإحسان، والخير، والنعمة، والعقوبة، آثار تلك الصفات، وهي
منفصلة عنه. وهكذا علمه القائم به هو صفته. وأما علوم عباده فمن آثار
علمه، وقدرتهم من آثار قدرته
“.
فإذا ثبت بهذه النصوص كلها أن الله سبحانه هو نور السموات والأرض ومن
فيهن، وأن كل شيء في هذا الوجود إنما يشرق بنور وجه ربه جل وعلا،
ولنوره، وأن كل نور إنما هو من نوره سبحانه، فكيف لا يكون هو سبحانه في
نفسه نورًا؛ كما كان سبحانه وتعالى ربًّا، وقيُّومًا، وهاديًا ؟!
وأما من قال: إن الله سبحانه، لو كان نورًا في نفسه، لما جازت إضافته
إليه في قوله:﴿ مَثَلُ
نُورِهِ ﴾،
وكذا في قوله:﴿ يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾؛
لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، بمعنى: أن المضاف لا يكون عَيْنَ المضاف
إليه، فلا يقال: نورُ النورِ، ولا حقُّ الحقِّ؛ وإنما يقال: نورُ
اللهِ، وحقُّ اليقين، فالجواب عنه: أن النور يضاف، أو يسند إلى الله
سبحانه على
ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن يسند إسناد الخبر إلى المبتدأ؛ كما في قولنا: اللهُ نورٌ. وبهذا
وصفه النبي عليه الصلاة والسلام. ففي الحديث الثابت عن أبي ذرٍّ- رضي
الله عنه- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال:”
نورٌ! أنَّى أراه ؟
“..
وفي الرواية الأخرى:”
هل رأيت ربك ؟ فقال: رأيت نورًا
“.
فأخبر صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه نورٌ، وهو لفظ يفيد التعظيم. ثم
نفى رؤيته لربه سبحانه بقوله:”
أنَّى أراه ؟
“
أي: كيف أراه، ومن أين لي أن
أراه، وهو نور؟ أما النور الذي رآه عليه الصلاة والسلام- كما جاء في
الرواية الثانية- فهو حجابه الذي احتجب به عن خلقه سبحانه وتعالى. ويدل
على ذلك ما جاء في حديث الإسراء، من أنه- عليه الصلاة والسلام- لما
قرُب من سدرة المنتهى، غَشِيَ السدرة من النور ما حجب بصره عن النظر
إليها، أو إليه سبحانه.
ففي صحيح مسلم (1/161) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال:”
إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط، ويرفع إليه عمل
الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور“.
وفي رواية أخرى:”
حجابه النار، أو النور، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه
بصره من خلقه
“.
وسُبُحاتُ وجهه سبحانه: هي جلاله وبهاؤه، ونوره، الذي حجبه عن خلقه
بحجاب من نور، أو نار. وقد نقل الإمام النووي اتفاق شُرَّاح الحديث على
أن معنى”
سُبُحاتُ وجهه: نوره وجلاله وبهاؤه.
وعقَّب الشيخ ابن تيمية على الحديث بقوله:”
فهذا الحديث فيه ذكر حجابه، فإن تردَّد الراوي في لفظ النار والنور، لا
يمنع ذلك؛ فإن مثل هذه النار الصافية، التي كلم بها موسى، يقال لها:
نارٌ، ونورٌ؛ كما سمَّى الله نارَ المصباح نورًا، بخلاف النار المظلمة؛
كنار جهنم، فتلك لا تسمَّى نورًا
“.
ودلالة الحديث- كما هو ظاهر- قاطعة في ثبوت صفة النور لله عز وجل لمن
تأمله، وسلم من مرض التعطيل والتأويل. وهي كغيرها من الصفات، التي تثبت
لله تعالى مع التنزيه، على حدِّ قوله سبحانه:
﴿ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:
11)
فليس النور الثابت له سبحانه كنور الشمس والقمر، أو غيرهما من الأنوار
المخلوقة؛ بل هو نور يليق به سبحانه، لا يماثل نور المخلوق، فلكل ذات
ما يناسبها من الصفات..
﴿ وَلِلّهِ
الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(النحل:60)
والوجه
الثاني: أن يسند النور
إليه سبحانه إسناد الصفة إلى موصوفها، أو إسناد الاسم إلى مسمَّاه،
ومنه ما أخبر الله تعالى عنه بقوله:
﴿ وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾
فهذا إشراق الأرض يوم القيامة بنور ربها سبحانه وتعالى، إذا جاء لفصل
القضاء بين عباده. والمعنى المراد: وأشرقت الأرض بنور ربها الموصوف
بهذه الصفة، على اعتبار أن النور وصف قائم به سبحانه. أو بنور ربها
المسمَّى بهذا الاسم، على اعتبار أن النور اسم من أسمائه الحسنى.
ومن المعلوم أن الصفة غير الموصوف، والاسم غير المسمَّى. وقد نصَّ
سيبويْه على أن الاسم غير المسمَّى، فقال:”
تقول: سمَّيت زيدًا بهذا الاسم؛ كما تقول: علَّمته بهذه العلامة
“.
وإلى هذا ذهب الشيخ السهيلي- رحمه الله- فقال بعد أن بسط القول في هذه
المسألة:”
فقد تبين لك- في أصل
الوضع- أن الاسم ليس هو المسمَّى؛ وذلك أنك تقول: سمَّيت زيدًا بهذا
الاسم؛ كما تقول: حلَّيته بهذه الحلية. والحلية- لا محالة- غير
المحلَّى؛ فكذلك الاسم غير المسمَّى
“.
وعقَّب ابن قيِّم الجوزيَّة- رحمه الله- على كلام الشيخ السهيلي بقوله:”
فهنا ثلاث حقائق: اسم ومسمَّى وتسمية؛ كحلية ومحلَّى وتحْلية؛ وعلامة
ومعلَّم وتعليم. ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد،
لتباين حقائقها. وإذا جعلت الاسم هو المسمَّى، بطل واحد من هذه الحقائق
الثلاث، لا بد
“.
فثبت بذلك أن النور المضاف إلى الله عز وجل في قوله:﴿ مَثَلُ
نُورِهِ ﴾
ليس هو عين المضاف إليه؛ لأن الأول هو الوَصْفُ، الذي اشتُق منه اسم
النور. والثاني- وهو ضمير الكناية- هو المسمَّى ذاته؛ وهو الله جل
جلاله. والأول غير الثاني. ومن تتبع هذا النوع من الإضافة في القرآن
الكريم، وجده كثيرًا.. وإذ علم ذلك، فلا داعي لتكلف تقدير: الله
ذو نور السموات والأرض.
والوجه
الثالث: أن يسند إسناد
المفعول إلى فاعله؛ ومنه قوله تعالى:
﴿ يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يسْعَى نُورُهُم بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾(الحديد:
12)
فهذا النور المضاف إلى المؤمنين؛ إنما هو في الحقيقة نور من نور الله
جل وعلا، وخلق من خلقه. وليس من نور في هذا الوجود إلا هو خلق من خلق
الله، ومن ذلك قولنا: نور المصباح، ونور الشمس، ونور القمر؛ ونحو ذلك
مما هو صفة لأعيان قائمة.
وهذا النور المسند إلى الله عز وجل إسناد المفعول إلى فاعله، والذي هو
صفة لأعيان قائمة هو ضد الظلمة؛ وكلاهما مجعول لله تعالى؛ كما أفاد ذلك
قوله تعالى:﴿ الْحَمْدُ
لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّورَ ﴾(الأنعام:
1)
وهو- كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته- ضربان: دنيوي، وأخروي: أما
الأخروي فهو ضرب واحد؛ ومنه قوله سبحانه:
﴿ يسْعَى
نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾(الحديد:
12)
وأما الدنيوي فهو ضربان: أحدهما: معقول بعين البصيرة؛ وهو ما انتشر من
الأمور الإلهية كنور العقل، ونور الإيمان، ونور القرآن، ومنه قوله
تعالى:
﴿ قَدْ
جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾(المائدة:
15)
والثاني: محسوس بعين البصر؛ وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالشمس
والقمر والنجوم، ومنه قوله جل وعلا:
﴿ هُوَ
الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ﴾(يونس:
5)
فثبت مما تقدم أن الأنوار
ثلاثة:
أولها:
النور الذي هو وصف من أوصاف الله جلا وعلا، ومنه اشتق له اسم النور،
الذي هو أحد أسمائه الحسنى.
وثانيها:
النور الذي هو حجابه جل جلاله، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى
إليه بصره من خلقه.. تأمل ذلك في قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا
تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً ﴾(الأعراف:
143)
وثالثها:
النور الذي هو خلق من خلق الله سبحانه، وهو نور الوجود كله، وهو المراد
بقوله جل وعلا:
﴿ اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
وإلى هذه الأنوار الثلاثة أشار الشيخ ابن تيمية بقوله:”
النصُّ في كتاب الله،
وسنةُ رسوله قد سمَّى الله نورَ السماوات والأرض، وقد أخبر النصُّ أن
الله نورٌ، وأخبر أيضًا أنه يحتجب بالنور.. فهذه ثلاثة أنوار في النص
“.
وقد علم مما تقدم أن كون الله سبحانه نور السموات والأرض يعني: أنه
سبحانه في نفسه نور؛ لأنه سبحانه، لو لم يكن في نفسه نورًا، فكيف يكون
منوِّرًا لغيره ؟ وليس غريبًا بعد هذا أن نجد كثيرًا من الناس يعترضون
على تسمية الله تعالى نفسه نورًا، وتسمية رسوله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الكرام له بالنور؛ وذلك لأنهم لم يميزوا بين نور ، ونور .
قال عبد الكريم الخطيب في كتابه تفسير القرآن للقرآن:”
ونحن إذا نظرنا اليوم بعين العلم، رأينا الوجود كله نورًا. فالأجسام
جميعُها مكونة من ذرَّاتٍ. والذرَّاتُ هي- كما عرف العلم- نورٌ من
نورٍ. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور في فلك النواة، التي للذرة. فهذه
الأجسام المعتمة، وغير المعتمة في هذا الكون الفسيح هي نورٌ مُجَسَّد
مُتكاثِفٌ، إذا انْحَلَّ إلى ذرَّاتٍ، كان كُتلاً من النور الوهَّاج.
فالعالم الماديُّ- كما يبدو في مرآة العلم الحديث- هو شُموسٌ، تستمد
نورها من نور الله، الذي أضاء الوجود كله. ومع ذلك فهو بالإضافة إلى
نور الله جل جلاله ظلام، لا تتجلَّى حقيقته إلا على ضوء نور الله
سبحانه؛ كما تتجلَّى حقائق الأشياء، التي تقع في محيط المشكاة، وما
يشعُّ المصباح الذي فيها من أضواء
“.
وأضاف قائلاً:”
ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيوميَّة الله سبحانه وتعالى
وسلطانه القائم في الوجود بالنور؛ إنما هو لما في النور من لطف، بحيث
لا يتجسَّد أبدًا؛ بل إنه في هذا على عكس الأشياء كلها. فالأشياء
اللطيفة- كالزجاج الرقيق مثلاً- كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت
كثافته، ثم لا تزال شفافيته تقل، كلما تكاثرت طبقاته، حتى يصبح جسمًا
معتمًا.. أما النور فإنه كلما، تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على
كشف المرئيات، التي يقع عليها، من دون أن يشكل حيِّزًا في المكان، الذي
ينيره، أو يحدث خلخلة في الهواء.
ومن جهة أخرى فإن النور- مع شفافيته ومع زيادة هذه الشفافية كلما كثر
وقوي- هو من أكثر ظواهر الطبيعة سرعة؛ بحيث لا يكاد يقيَّد بزمن،
فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمَحة بصر،
لا تتجاوز جزءًا من الثانية.
فالنور- كما ترى- لا يتحيَّز في مكان، ولا يكاد يتقيد بزمن، والله
سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ، ولا يحده زمان.. فإذا كان الله نور
السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه وهو القيوم على الوجود- ليس
حالاً في الموجودات، ولا متحيِّزًا فيها، ولا محجوزًا في مكان منها دون
مكان
“.
نخلص من ذلك كله إلى أن نور الله سبحانه هو الذي يمسك هذا الوجود على
نظامه، الذي أقامه الله تعالى عليه؛ إذ على هذا النور يدور كل موجود في
فلكه متناغمًا متجاوبًا مع دورة الموجودات كلها في فلك الوجود. وهذا ما
يشير إليه قوله تعالى:
﴿ وَمَن
لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾(النور:
40). وقوله تعالى:
﴿ قَدْ
جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾(المائدة:
15)
وفي المسند الجامع لأبي الفضل النوري عن عبد الله بن عمر أنه سمع النبي
صلى الله عليه وسلم يقول:” إن
الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور
اهتدى، ومن أخطأه ضل “.
وعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى:﴿ اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ كل
ما أودعه الله جل جلاله في الموجودات من سنن، وما ركَّبَه في المخلوقات
من قوى، وما بعث في الناس من رسل، وما أنزل إليهم من كتب ودلائل، ففي
كل هذا نور من نور الله جل وعلا!
ثالثًا-
وبعد أن جلا الله
سبحانه هذا الأفق المترامي لنوره، الذي يضيء الوجود كله، شرع في ضرب
مثل لهذا النور العظيم، يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك
والتصورات، ويخرجه من عالم ما وراء الحس إلى عالم المحسوس؛ وإلا فإن
نور الله تعالى في ذاته لا يمكن لبشر أن يتصوره حقيقة، أو خيالاً؛
لأنه- كما قدمنا- صفة من صفاته سبحانه. وكما لا تدرك ذات الله جل وعلا،
فكذلك لا تدرك صفاته. وأقرب مثل لهذا النور، الذي لا يعرف كنهه أحد،
ولا يدرك سره أحد في تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح في زجاجة
درِّيَّة، داخل مشكاة، هي أشبه بالوجود، الذي يستضيء بنور الله؛ وذلك
قوله تعالى:
﴿ مَثَلُ
نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ ﴾
وظاهر قوله:﴿ مَثَلُ
نُورِهِ ﴾ أن
يعود ضمير الكناية على الله سبحانه، وليس في الكلام ما يدل على أنه
يعود على المؤمن، أو على القرآن الكريم، أو على محمد صلى الله عليه
وسلم.
فالذي تدل عليه الآية صراحة أن المراد بـ﴿ نُورِهِ ﴾:
نورُ الله جل وعلا، المضافُ إليه إضافةُ الصفة إلى الموصوف. أو إضافةُ
الاسم إلى المسمَّى، وأن التمثيل هو تمثيل لهذا النور، الذي يضيء
الوجود كله، وليس تمثيلاً لنوره، الذي ألقاه سبحانه في قلب المؤمن، أو
في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو لنوره، الذي هو وحيُه المنزل في
كتابه الكريم.
روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قوله
في مناسبة نزول الآية:”
إن اليهود قالوا: يا محمد ! كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء ؟
فضرب الله تعالى ذلك مَثَلاً لنوره
“.
وأما على ما روي عن أُبَيّ أنه قرأ:﴿ مَثَلُ
نُورِ المُؤْمِنِ ﴾. أو:﴿ مَثَلُ
نُورِ مَنْ آمَنَ
بِهِ ﴾،
فيكون الضمير عائدًا على المؤمن، ويكون التمثيل تمثيلاً لنور المؤمن.
وهذا التأويل لا يجوز على القراءة المشهورة.
ومن أغرب ما قرأت في تفسير قوله تعالى:﴿ مَثَلُ
نُورِهِ ﴾ تفسيرًا
للمرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني في كتابه( أمثال القرآن
وصور من أدبه الرفيع )، قال فيه:”
مَثَلُ بعض نوره، الذي
تستهدون به من خلال تدبر آياته، وما تشعُّه في قلوب المؤمنين، الصادقين
في الطلب والبحث والتدبر. أو: نَموذجُ نورِه ممَّا يدرك الناس منه.
وهذا النموذجُ هو بعضُ نور الله العظيم
“.
الله تعالى يقول:﴿ مَثَلُ
نُورِهِ ﴾،
والشيخ- رحمه الله- يقول:”
مَثَل بعض نوره
“.
أو:”
نموذج نوره ممَّا يدرك الناس منه. وهذا النموذج هو بعض نور الله العظيم
“.
رحم الله هذا الشيخ الجليل، وجعل مثواه الجنة ! فلست أدري من أين أتى
بلفظ ( بعض )، وحشره بين لفظ ( مَثَلٍ )، ولفظ ( نُورِهِ ) ؟ وهل في
الكلام ما يدل على هذا البعض ؟
ثم من أين أتى بلفظ ( نموذج ) ؟ وكيف يكون تفسير قوله تعالى:﴿ مَثَلُ
نُورِهِ ﴾
بـ( نموذح نوره ) مقبولاً، أو مستساغًا عند من يتحدث عن صور من أدب
القرآن الرفيع ؟
وليت شعري ماذا يقولون في قول الله تعالى:
﴿ يُرِيدُونَ
أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ
أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾(التوبة:
32) ؟
أيقولون: يريدون أن يطفئوا بعض نور الله ؟ أو نموذج نور الله ؟ أو
يقولون: يريدون أن يطفئوا نور الله الذي ألقاه في صدر المؤمن أو قلبه ؟
أم ماذا يقولون، وإضافة النور إلى الله جل وعلا ظاهرة ظهور هذا النور ؟
ورحم الله النجاشي، الذي فهم ببصيرته النافذة ما لم نفهمه نحن
المسلمون. لقد فهم أن الإنجيل والقرآن الكريم يخرجان من مشكاة واحدة،
وهما نور من نور الله جل وعلا، فقال مشيرًا إلى ما سمع من كلام الله:”
إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة
واحدة “.
﴿ وَمَن
لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾.
واختلفوا في هذا التشبيه: أهو تشبيه جملة بجملة، لا يقصَد فيها إلى
تشبيه جزء بجزء، ومقابلة شيء بشيء، أو هو ممَّا قصِد به ذلك ؟ والأول
هو الأحسن، وعليه يكون المعنى: مَثَلُ نورِ الله تعالى كهذا الذي هو
منتهاكم أيها البشر.
فالمشبَّه هو مثل نور الله جل وعلا. والمشبّه به هو المصباح في زجاجة
داخل المشكاة. وبين المشبَّه، والمشبَّه به وجْهُ شَبَهٍ، دلَّت عليه
كاف التشبيه.
والقاعدة في التشبيه أن يشبه الأدنى بالأعلى في مقام المدح، وأن يشبه
الأعلى بالأدنى في مقام الذم. وكذا في مقام السلب؛ ومنه قوله تعالى:
﴿ أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾(ص:
28)
أي: في سوء الحال. أي: لا نجعلهم كذلك.
وقد اعترض على ذلك بقوله تعالى:﴿ مَثَلُ
نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ ﴾؛ فإنه
شُبِّهَ فيه الأعلى بالأدنى، لا في مقام السلب.
والله قد ضرب
الأقلَّ لنوره
**
مثلاً من المشكاة والمصباح
وأجيب عنه بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين؛ إذ لا أعلى من نوره
سبحانه وتعالى، فيشبه به. وقد قيل: يمكن أن يكون المشبه به- هنا- أقوى
من المشبه؛ وذلك لكونه في الذهن أوضح؛ إذ الإحاطة به أتم.. فتأمل ذلك !
وقد دل وجود لفظ
﴿ مَثَل ﴾
في طرف المشبه، دون وجوده في طرف المشبه به على أن المشبه ليس هو ذات
نور الله سبحانه؛ وإنما هو مَثَلُهُ المطابقُ له في تمام أوصافه،
المشارِ إليها بقوله تعالى:﴿ اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾،
وهو منتزع من مجموع هذه الصفات، وأن المشبه به هو نور المصباح داخل
المشكاة. والأول موجود معلوم في الذهن، والثاني موجود معلوم خارج
الذهن.
ولهذا لا حاجة بنا إلى تقدير لفظ
﴿ مَثَل ﴾
عقب كاف التشبيه؛ كما ذهب إليه المفسرون، فقالوا: التقدير:﴿ كَمَثَلِ
مِشْكَاةٍ ﴾.
وكذلك لا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف عقب الكاف؛ كأن يقال:﴿ كَنُوْرِ
مِشْكَاةٍ ﴾؛
لأن المشبه به ليس هو نور المشكاة وحدها؛ وإنما هو ما اجتمع من نور
المشكاة، ونور المصباح، ونور الزجاجة، ونور الزيت؛ ولهذا وصفه الله
تعالى بقوله:
﴿ نُوْرٌ
عَلَى نُوْرٍ ﴾.
ومن اللطائف البديعة أن النور، حيثما وقع في القرآن، وقع مفردًا،
خلافًا للظلمة فإنها، حيثما وقعت، وقعت مجموعة. ولعل السبب- على ما
قيل- هو أن النور واحد؛ كما أن الله تعالى واحد، وأن الظلمة متعددة؛
كما أن الآلهة الباطلة متعددة. تأمل ذلك في نحو قوله تعالى:
﴿ اللّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(البقرة:
257)
وقيل: المِشْكَاةُ هي الكُوَّةُ غير النافذة بلغة الحبشة، يوضع فيها
المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قويًا متألقًا، وهذا هو وجه تخصيصها
بالذكر دون غيرها. ومنهم من فرق بين الكُوَّةُ والمِشْكَاةِ؛ كقول
أحدهم يمدح آخر:
نورُ حَقٍّ
بنفسه قامَ، مَا احْتا
**
جَ إلى كُوَّةٍ، ولا مِشْكاةِ
فدلَّ ذلك على أن الكُوَّةَ أعمُّ من المِشْكَاةِ، وكلُّ مِشْكَاةٍ
كُوَّةٌ، وليس كلُّ كُوَّةٍ مِشْكَاةً. وأصلُ المِشْكَاة: الوِعَاءُ
يجعل فيه الشيء؛ ومنه قول الشاعر:
كأن عينيه
مشكاتان في جحر
وقيل: المشكاة: صندوق زجاجي، يوضع فيه المصباح.
وقال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه:”
ما وقع في القرآن من نحو المِشْكاة، والقِسْطاس، والإستبرق، والسجِّيل،
لا نُسَلِّم أنها غيرُ عربية؛ بل غايتُه أنَّ وَضْعَ العرب فيها وافق
لغةً أخرى كالصابون، والتنّور؛ فإن اللغات فيها متفقة
“.
وزعم بعض أهل المعاني: أن التشبيه في هذا التمثيل هو من التشبيه
المقلوب، وأن المعنى: مَثَلُ نوره كمصباح في مشكاة؛ لأن المشبه به هو
الذي يكون مَعْدِنًا للنور ومَنْبَعًا له؛ وذلك هو المصباحُ، لا
المِشْكَاةُ. وما تقدم من تفسير لمعنى المِشْكَاةِ يدل على أنها هي
الوِعَاءُ، الذي يجمع النور، ويجعله قويًا، وبدونها يبدو ضعيفًا عاجزًا
عن كشف المرئيات؛ ولهذا كانت أحقَّ بالتقديم من المصباح. وهذا هو أحد
أوجه الإعجاز البياني في هذه الآية الكريمة.
ويتضح لنا ذلك، إذا علمنا أن المرادَ بالمِشْكَاِة الذاتُ الإلهية
المقدَّسة مَعْدِنُ الأنوار كلِّها، ومَنْبَعُها، الذي لا ينفد. تأمَّل
ذلك في قول النجاشي، الذي تقدَّم ذكره:”
إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من
مشكاة
واحدة
“..
ثم تذكَّر أن ضارب المثل هو الله جل وعلا، وفي القرآن أمثلة كثيرة
ضربها الله تعالى لصفاته، التي لا تشبهها صفة، فضلاً عن أن تماثلها..
﴿ وَلَهُ
الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ﴾(الروم:
27) ،
﴿ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:
11)
أما المصباح فهو السراج، وأصله من الضوء، ومنه الصبح. وما
انعكس من شعاعه وسطوعه على الأجسام الصقيلة المعتمة هو نوره. وقد
شُبِّهَ به مَثَلُ نورِ الله جل وعلا، في الوضوح، والظهور، والإنارة،
والتنوير، والهداية.
وكلا النورين: مَثَلُ نور الله جل وعلا، ونورُ المصباح يوصف بأنه نار
ونور. حكى الراغب الأصفهاني في ( المفردات في غريب القرآن ) عن بعضهم
قوله:”
النار والنور من أصل واحد، وكثيرًا ما يتلازمان؛ لكن النار مَتاع
للمقوين في الدنيا، والنور مَتاع لهم في الآخرة. ولأجل ذلك استعمل في
النور الاقتباس؛ كقوله تعالى:
﴿ انظُرُونَا
نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾(الحديد:
13) “.
والمراد بالنار- هنا كما ذكرنا سابقًا- النار الصافية، التي كلَّم الله
تعالى بها موسى عليه السلام. فمِثْلُ هذه النار يقال لها: نارٌ ونورٌ،
بخلاف النار المظلمة؛ كنار جهنم. فتلك لا تسمى نورًا. وإلى ذلك الإشارة
بقوله تعالى:
﴿ إِذْ
قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا
جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا
وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
* يَا
مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(النمل:
7- 9)
جاء في التفسير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن المراد
بقول الله تعالى﴿ مَنْ
فِي النَّارِ ﴾:
الله جل جلاله. وأن المراد بالنار: نوره سبحانه. وأن
المراد بقوله تعالى:﴿ وَمَنْ
حَوْلَهَا ﴾:
الملائكة.
هذا قول ابن عباس، وليس قول زيد، أو عبيد حتى يعترض عليه المعترضون !
ويدل عليه تنزيه الله تعالى نفسه عقب ذلك بقوله:
﴿ وَسُبْحَانَ
اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
ثم إخباره جل وعلا عن نفسه بقوله:
﴿ يَا
مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
ويتضح لنا ذلك، إذا علمنا أن النور المضاف إلى الله سبحانه يقع على
ذاته المقدسة، ويقع على صفاته القدسية القديمة. ومثله في ذلك نور
المصباح.
وكما أن إضافة النور إلى الله سبحانه هي من إضافة الصفة إلى الموصوف؛
فكذلك إضافة النور إلى المصباح هي من إضافة الصفة إلى الموصوف. وبيان
ذلك: أن الأصل في قولنا: نور الله، ونور المصباح: اللهُ تعالى النورُ،
والمصباحُ النورُ. فالاسم الأول منهما موصوفٌ، والثاني صفةٌ ملازمةٌ
له، قد أُخْبِِرَ بها عنه. وقد أضيف الثاني منهما إلى الأول بعد أن
جرِّد من الألف واللام، لإرادة معنى التخصيص. أي: تخصيص الصفة
بموصوفها؛ ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿ إِنَّ
هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾(الواقعة:
95)
وأصل الكلام: إن هذا لهو الحقُّ اليقينُ. ثم قيل: حقَُ اليقين، بإضافة
الأول إلى الثاني.
والعرب إنما تفعل ذلك في الصفة المعرفة اللازمة لموصوفها لزوم اللقب
للأعلام؛ كقولهم:{ زيدُ
بطَّةٍ }. وأصل
الكلام:{ زيدٌ
بطَّةٌ }. أما الصفة،
التي لا تثبت ولا تلزم موصوفها، فلا تضاف إلى الموصوف، لعدم الفائدة
المخصِّصة، التي لأجلها كانت هذه الإضافة. وهذا يؤكِّد ما ذكرناه أولاً
من أن النور وَصْفٌ من أوصاف الله تعالى، قائمٌ به، وملازمٌ له، لا
يفارقه أبدًا كنور المصباح.. وبهذا يظهر لك سِرُّ تشبيه مثل نوره جل
وعلا بنور المصباح دون غيره من الأنوار.
ثم وصف سبحانه هذا المصباح، فقال:
﴿ الْمِصْبَاحُ
فِي زُجَاجَةٍ ﴾
والزجاجة هي القنديل من البِلَّوْر الشَّفَّاف الصافي، جعل فيها
المصباح؛ لأن الضوء في الزجاج أظهر وأبين منه في كل شيء. ووجه ذلك أن
الزجاج جسم شفَّاف يظهر فيه النور أكمل ظهور.
ثم وصف الزجاجة، فقال:
﴿ الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٍّ ﴾
هذه الزجاجة لصفاء جوهرها، وحسن منظرها، كأنها كوكب دريٌّ. أي: كوكب
مضيء متلألىء،
يشبَه الدرَّ في صفائه، ولونَ نوره.
وأهدأُ النور، وأجملُه هو ذو اللون الدرِّيِّ. وذهب الجمهور إلى أن
المراد بالكوكب الدري- هنا- كوكب من الكواكب المضيئة؛ كالزهرة
والمشتري، والثوابت، التي في العظم الأول. ودَرَارِيُّ الكواكب- على ما
قيل- عِظامُها.
وفي ذكر المصباح، والزجاجة منكَّرين، ثم إعادتهما معرَّفين، والإخبار
عنهما بما بعدهما، مع انتظام الكلام بأن يقال: كمشكاة فيها مصباح في
زجاجة كأنها كوكب دري، من تفخيم شأنهما، ورفع مكانتهما بالتفسير إثر
الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال، ما لا يخفى حُسْنُه وبَهاؤُه.
ويسمِّي بعض علماء البديع هذا اللون من الأسلوب: طباق التَّرْديد.
وعدَّه السيوطي من محاسن الفصاحة، وجعله أبلغَ من التأكيد بتكرير
اللفظ، خلافًا لبعض من غلط. وكان قد ذكر من فوائد التكرير: التقرير،
والتعظيم، والتهويل. ثم قال:”
ومنه ما كان لتعدد المتعلَّق بأن يكون المكرَّرُ ثانيًا متعلقًا بغير
ما تعلق به الأول. وهذا القسم يسمَّى بالترديد؛ كقوله:
﴿ اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾.
وقع فيه الترديد أربع مرات
“.
وفرَّق زكيُّ الدين بْنُ أبي الأصبع بين الترديد، والتكرير بأن اللفظة،
التي تكرَّر في الكلام، ولا تفيد معنى زائدًا، تكون تَكْريرًا للأولى.
أما اللفظة التي تُرَدَّدُ في الكلام، وتفيد معنى غير معنى الأولى تكون
تَرْديدًا لها.
وبعد أن شبَّه الله تعالى الزجاجة، وفيها المصباح، بالكوكب الدريِّ
المتلألىء، عاد سبحانه ثانية إلى المصباح، فأخبر أنه:
﴿ يُوقَدُ
مِنْ شَجَرَةٍ ﴾
أحسنُ ما يمكن أن يقال في وصفها أنها شجرة:
﴿ مُبَارَكَةٍ
زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ ﴾.
و﴿ زَيْتُونَةٍ
﴾ بدل من﴿
شَجَرَةٍ ﴾. والمعروف
أن شجر الزيتون من أفضل الأشجار؛ لأن كل ما فيه هو ممَّا ينفع الناس:
زيته، وخشبه، وورقه، وثمره. أما نور زيته فهو أصفى نور يعرفه المخاطبون
بهذا المثل؛ ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذه الشجرة من بين الشجر؛
وإنما لكونها شجرة
﴿ مُبَارَكَةٍ ﴾
ولهذا قدِّم لفظ
﴿ مُبَارَكَةٍ ﴾
على لفظ
﴿ زَيْتُونَةٍ ﴾.
وقيل: إنما وصفت بهذه الصفة؛ لأنها تنبت في الأرض، التي بارك الله
تعالى فيها للعالمين؛ وهي أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب. وإلى ذلك
الإشارة بقوله تعالى:
﴿ وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِّلْآكِلِينَ ﴾(المؤمنون:20)
وفي إبهام الشجرة، ووصفها بأنها مباركة، ثم الإبدال منها، تفخيم
لشأنها. وقد جاء في الحديث مدح الزيت؛ لأنه منها. ومن ذلك ما روي عن
عمر رضي الله تعالى عنه من أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:” ائتدموا
بالزيت، وادهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة “.
وهو في حدِّ ذاته ممدوح، ففي الحديث:” أنه
مصحة من الباسور“.
وقد ذكر له الأطباء منافع كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها.
وقد دل تنكير لفظ
﴿ شَجَرَةٍ ﴾-
أيضًا- على أنها ليست شجرة مخصوصة بعينها. وكذلك دل وصفها بأنها:﴿ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ﴾
على أنها ليست متحيزة إلى جهة، دون جهة؛ وإنما هي بين شرقية، وغربية.
هذا ما يدل عليه اللفظ، ونظير ذلك قوله تعالى في وصف البقرة:
﴿ إِنَّهَا
بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ ﴾(البقرة:68)
ثم قال:﴿ عَوَانٌ
بَيْنَ ذَلِكَ ﴾(البقرة:68)
وعن ابن زيد قال:”
ليست من شجر الشرق، ولا من شجر الغرب؛ لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان
أقلَّ زيتًا، وأضعفَ ضوْءًا؛ لكنها من شجر الشام، وهي ما بين المشرق
والمغرب، وزيتونُها أجودُ ما يكون
“.
أما زيتها فإنه ليس زيتًا من هذا الزيت المشهود المحدود؛ وإنما هو زيت
آخر عجيب، يكاد من شدة صفائه وإشراقه يضئ بغير احتراق..
﴿ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ ﴾
فهو في الصفاء والإشراق بحيث يضيء بنفسه، على الرَّغم من عدم مساس
النار له أصلاً.
و﴿ يَكَادُ
﴾ يدل على قرب وقوع
الخبر، وأنه لم يقع. والشائع في خبره أن يكون فعلاً مضارعًا، غير مقترن
بـ( أن ) المصدرية الاستقبالية.
أما كونه مضارعًا فلدلالته على الحال المناسب للقرب؛ حتى كأنه لشدة
قربه وقع. وأما كونه غير مقترن بـ( أن ) فلمنافاتها لما قصدوا من
دلالته على الحال. فلو قيل: يكاد زيتها أن يضيء، لدلَّ ذلك على بعد
وقوع الخبر؛ لأنه إن وقع، فسيكون وقوعه في المستقبل، وهذا خلاف المراد.
وأما﴿
لَوْ ﴾
فهي أداة شرطية، جعلت مع ما بعدها﴿ لَمْ
تَمْسَسْهُ نار ﴾
شرطًا للجملة قبلها، وقيدًا لها. ويطلق على مجموعهما مصطلح: عبارة
شرطية. وهذه العبارة الشرطية؛ إما أن تكون مجردة من الواو؛ كما في
قولنا: يعطَى السائلُ، لو كان فقيرًا. أو تكون مقرونة بالواو؛ كما في
قولنا: يعطَى السائل، ولو كان غنيًا.
فالإعطاء الأول في الجملة الأولى مشروط بكون السائل فقيرًا، وليس كذلك
الإعطاء الثاني في الجملة الثانية. والفرق بينهما: أن الأول يجري بوجود
الشرط؛ لأن كون السائل فقيرًا يناسب أن يعطَى. ولهذا يُسمَّى هذا النوع
من الشرط: إيجابيًّا. وأما الإعطاء الثاني فيجري رَغْمَ وجود الشرط؛
لأن كون السائل غنيًَّا لا يناسب أن يعطَى، بخلاف الأول؛ ولهذا يُسمَّى
هذا النوع من الشرط: سلبيًّا.
وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى:
﴿ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾
أي: يكاد يضيء رَغْمَ عدم مساس النار له.
وفي قوله تعالى:﴿ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ ﴾
إشارة إلى أن الضوء ما يكون للشيء لذاته؛ كما للشمس، والنار، والسراج،
والزيت، بخلاف النور، الذي لا يكون إلا من غيره؛ كما للقمر، ومصداق ذلك
قوله تعالى:
﴿ وَهُوَ
الَّذِيْ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوْرًا ﴾(يونس:
5)
والجمهور من علماء اللغة والتفسير لا يفرقون بين الضوء، والنور؛ بل
يعتبرونهما لفظين مترادفين على معنى واحد، فيعرِّفون الضوء بأنه النور،
الذي تدرك به حاسة البصر الأجسام المعتمة. والله سبحانه وتعالى قد فرق
بينهما تفريقًا دقيقًا، ففي الآية السابقة وصف أشعة الشمس بالضياء،
ووصف أشعة القمر بالنور، وأصل كل منهما الضوء المنبعث من السراج. وهذا
ما يشير إليه سبحانه وتعالى بقوله:
﴿ وَجَعَلَ
فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾(الفرقان:
61) ، وقوله تعالى:
﴿ وَجَعَلْنَا
سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾(النبأ:
13)
فشبه الشمس بالسراج، والسراج هو المصباح، الذي يضيء بالزيت، أو
بالكهرباء، أو بأي نوع آخر من أنواع الوقود، وشعاع ضوئه، وسطوعه على
الأجسام المعتمة هو الذي يسمَّى نورًا. ولهذا وصف سبحانه وتعالى القمر
بأنه منير، ولم يصفه في أيٍّ من الآيات بأنه مضيء. والسر في ذلك أن
القمر يستمد نوره من ضوء الشمس، ثم يعكسه، فيبدو لمن يراه مضيئًا.
هذا وقد اشتهر- في العرف- أن الضوء ينتشر من المضيء إلى مقابلاته،
فيجعلها مستضيئة. والمعروف عادة أن مصادر الضوء تقسم إلى نوعين: مصادر
مباشرة كالشمس والنجوم والمصباح والشمعة وغيرها. ومصادر غير مباشرة
كالقمر والكواكب. والأخيرة هي الأجسام، التي تستمد نورها من مصدر آخر،
مثل الشمس، ثم تعكسه علينا.
فإذا عرفنا بعد ذلك أن الشمس والمصباح يشتركان في خاصية واحدة، وهي
أنهما يعتبران مصدرًا مباشرًا للضوء، أدركنا سر تشبيه الله سبحانه
الشمس بالمصباح، دون القمر.
ومما تجدر الإشارة إليه- هنا- أن شركة أمريكية كانت قد أعدت فيلمًا
سينمائيًّا عن الجهود الأمريكية لغزو القمر، عنوان هذا الفيلم:( خطوة
عملاقة لاكتشاف جيولوجيا القمر ). والفلم من أوله إلى آخره يعرض كيف
تمكن العلماء الأمريكان بوسائلهم العلمية من أن يكتشفوا أن القمر كان
من قبل كتلة مشتعلة، ثم بردت، أو انطفأ ضوؤها. وهذا ما أشار إليه تعالى
بقوله:
﴿ وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن
رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ
شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾(الإسراء:
12)
وآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وقد محا الله تعالى الآية
الأولى، وأبقى الثانية مبصرة. ولولا ذلك المحو، لم يعرف ليل من نهار،
ولا نهار من ليل. وفيه دليل على أن القمر، الذي هو آية الليل، كان كتلة
مشتعلة ثم بردت، وكان مضيئًا ثم انطفأ ضوؤه. وكونه منيرًا بعد المحو
يعني أنه يستمد نوره من انتشار ضوء الشمس، وسطوعه عليه.
ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام، حين
سأله عن السواد، الذي في القمر:” كانا
شمسين، فقال الله:
﴿ وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْل ﴾(الإسراء:
12)
فالسواد الذي
رأيت من المحو “.
وبذلك فسره ابن عباس- رضي الله عنهما- بعد
أن قال:” كان
القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار
“.
وإذا كان الله سبحانه قد شبَّه الشمس بالسراج الوهَّاج، فإنه سبحانه قد
شبَّه نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير الهادىء الوديع،
الذي يجلو الظلمات، ويكشف الشبهات، وينير العقول، ويهدي القلوب؛ وذلك
في قوله جل وعلا:
﴿ يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً
وَنَذِيراً
*
وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾(الأحزاب:
45- 46)
أما نوره الذي ينير الوجود كله، ويقوم عليه نظام الكون كله فقد شبهه
سبحانه بنور سراج- أي: مصباح- في مشكاة، اجتمعت له أسباب الإضاءة كلها؛
ولهذا أخبر الله تعالى عنه بقوله:
﴿ نُورٌ
عَلَى نُورٍ ﴾
أي: نور متضاعف، تعاون عليه المشكاة
البلورية، والزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، والزيت، الذي يكاد من
شدة إشراقه يضيء، فلم يبقَ ممَّا يقوِّي النورَ، ويزيده إشراقًا شيءٌ؛
لأن المصباح، إذا كان في مشكاة، كان أجمع لنوره، وإذا كان في زجاجة
درية، كان أعون على زيادة نوره، وكذلك إذا كان وقوده الزيت النقي
الصافي.
وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهى
الحصول عليه عند نزول القرآن الكريم. أما ما جدَّ بعد ذلك من نور
الكهرباء فلا يَنقُضُ هذا النور، ويُنقِصُ من جلاله وروعته؛ لأنه نور
وديع هادىء لطيف، على حين نور الكهرباء زاعق صارخ. ولعل هذا هو السر،
أو بعض السر في ضَرْبِ المَثَل بهذا النور، دون نور الشمس، وهو أبهى
بهاء، وأقوى قوة من كل نور تعرفه البشرية. وهنا تم المثل.
وبعد أن بلغ هذا النور، الذي ضربه الله تعالى لنوره مثلاً، إلى هذا
الحد في الظهور والوضوح والكمال، الذي لا يمكن الزيادة عليه، قال
تعالى:
﴿ يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾
فأشار بذلك إلى أن النور، الذي يملأ الوجود؛ إنما هو نفحة من النور
العلوي، وأن هذه النفحة موجودة في كل موجود. ومع ذلك، فإن لله سبحانه
ألطافًا بعباده، فيصِلُ نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقًا إلى
عالم الحق والخير.
فالوجود كله، وإن كان نورًا من نور الله- بالإفاضة والخلق- فإن هناك
نور الهداية، الذي يضيء البصائر، ويشرح الصدور، ويجلي العقول. والله
سبحانه يهدي لهذا النور من يشاء من خلقه، ممن يفتحون قلوبهم لهذا
النور، الذي لا ينقطع، ولا يحتبس، ولا يخبو. فحيثما توجه إليه القلب
رآه، وحيثما تطلع إليه الحائر هداه، وحيثما اتصل به وجد الله عز وجل.
أما قوله تعالى:﴿ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
فهو إشارة إلى أن هذا النور، الذي صوَّره سبحانه بصورة المشكاة
والمصباح والزجاجة الدرية؛ إنما هو مَثَلٌ، يقرب للإدراك المحدود طبيعة
هذا النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري
الحسير. ويرسم له هذه الصورة المصغرة، التي يتأملها الحس، حين يقصر عن
تملي الأصل؛ وإلا فإن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن إدراكه، ولا يمكن
وصفه. وهو سبحانه العليم بطاقة البشر، وأن علمه محيط بالأشياء كلها
صغيرها، وكبيرها، لا يغيب عن علمه شيء من ذلك.
نسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا لنوره، ويسهل لنا السبيل للوصول إلى
مرضاته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه قريب سميع الدعاء مجيب،
والحمد لله رب العالمين.
الأستاذ محمد
إسماعيل عتوك
أستاذ لغة
عربية في مدارس حلب
m_ismael@aloola.sy