بحث للدكتور محمود ناظم النسيمي
جاء
الإسلام الحنيف ومعظم العرب يعتقدون أن الأمراض المعدية إنما تعدي
بطبعها وبخاصة ذاتية فيها مستقلة عن إرادة الله تعالى . واعتقادهم في
ذلك كان كاعتقادهم في كل العلاقات بين المسببات وأسبابها، بأن السبب هو
علة وجود المسبب دون دخل لإرادة الله تعالى ومشيئته .
ولم تكن المعارف في ذلك الزمان واضحة حول الأمراض التي تعدي والتي لا
تعدي. فقد يصدق حكمهم على مرض بالسراية إذا بنوه على كثرة المشاهدة
كحكمهم على الجرب بأنه مرض معدي. وقد يحسب بعضهم أن الأمراض كلها تسري.
وقد يتهم مرض غير سار بالسراية كما هو ظنهم بالبرص .
ولا عجب في اضطراب حكمهم وتفريقهم للأمراض السارية، لأن الطب في زمانهم
كان بدائياً، وكان القول في منشأ معظم الأمراض قائماً على الظنون
والأوهام.
بدأ اكتشاف الجراثيم في أوئل القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر
الهجري) . ثم في خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والرابع الأول
من القرن العشرين استكملت المعلومات حول الأمراض السارية وجراثيمها
الممرضة وطرق تشخيصها واستخدام التحاليل المخبرية لوضع التشخيص وتفريق
الأمراض الملتبسة بعضها مع بعض.
جاء الإسلام والمعارف الطبية في الجزيرة العربية ضئيلة بل وفي العالم
أجمع . جاء وليس من مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح دقائق
الطب والعلوم المختلفة، فتبين مثلاً أنواع الأمراض وطرق تشخيصها وآلية
حدوثها والأنواع المعدية منها. وإنما ذلك متروك لجهد البشر وتطور
العلوم الكونية . ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بتعليم
الله تعالى له، وبيّن حقائق العلوم كلها لما أدرك الناس ما يحدثهم به،
لأن مستوى العلوم الدنيوية لما يبلغ بعد درجات عليا، ولأن إفهام تلك
الحقائق يتطلب عشرات السنين، بل إن التخصص في فرع من فورع العلوم
الدينية أو الدنيوية يستهلك عمر الباحث، ولا يزال ينال فهما جديداً
وتطوراً واكتشافاً، ولو أن الله تبارك وتعالى جعل العلوم والصناعات
تثبت عند حدٍ لا تتعداه، لما ترك الإنسان لذة البحث العلمي لبلوغ أفكار
ومجالات ومبتكرات جديدة أفيد وأعلى .
ولذلك كله قضت الحكمة الربانية أن تكون العلوم الكونية متروكة لجهد
البشر تنمو وتتطور، كلما بلغ الإنسان فيها مرحلة جديدة أقر بأنه
" وفوق كل ذي علم عليم " وأخذ يتطلع
إلى مرحلة أعلى ولسان حاله يقول : " وقل ربي
زدني علماً " معترفاً بأن العلم المطلق والحقيقة المطلقة إنما
هما لله تبارك وتعالى وصدق الله العظيم : "
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " .
وبما أن تعاليم الإسلام جاءت لدين وللدولة ومن مهمات الدولة الأخذ
بوسائل الطب الوقائي، فليس من المستغرب أن نرى في تلك التعاليم أنظمة
صحية توافق كل زمان وكل قوم بدائيين كانوا أم حضاريين. فجاءت تعاليم
الرسول الكريم صلوات الله عليه تثبت وجود العدوى والسراية في بعض
الأمراض وتوجب الحجر في الأمراض الوبائية وسيأتي تفصيل ذلك .
ولكن بعض الأحاديث النبوية أتت بلفظ (لا عدوى ) فذهب العلماء الأولون
إلى التوفيق بين الشطرين السابقين من الأحاديث وكانت لهم ـ جزاهم الله
خيارً ـ آراء مختلفة ، وذهب معظمهم إلى أن نفي العدوى إنما هو نفي
لمعتقد العرب فيها لا لوجودها كما سيأتي تفصيل ذلك .
وكان السبب الرئيسي لاختلاف فهمهم وتأويلهم عدم وضوح الناحية الطبية في
ذلك في عصرهم فهم معذورون ولسعيهم مشكورون .وقد توسع في ذكر آرائهم
وأوج الجمع بين أحاديث هذا البحث الحافظ ابن حجر المتوفي سنة 852هـ
كتابه الواسع (فتح الباري بشرح البخاري)، وبما أن بعض تلك المفاهيم
والأوجه مفرقة في بطون الكتب، وأن علماء عصرنا قد ينقل أحدهم هذا القول
أو ذاك خلال حديثه أو خطبته أو جوابه لسؤال يعرض عليه، فقد رأيت من
واجبي أن أدرس مجموعة الأحاديث الواردة في موضوع العدوى وفي الأمراض
السارية وما قاله الشراح في ذلك وأن أقابل ذلك بالحقائق الطبية الثابتة
اليوم، ليكن فهمي للحديث الواحد منها منسجماً مع مجموعها ولأختار من
أقوال العلماء وشراح الأحاديث الأبرار ما ينسجم مع حقائق الطب الحديث.
ثم أقدم نتيجة بحثي إلى القراء الكرام مستعيناً بالله تعالى العليم
الخبير.
أ.
لمحة طبية :
سأورد من المعلومات الطبية ما يوضح معنى العدوى والسراية وما يساعد على
فهم الأحاديث الشريفة المتعلقة بمقالي هذا .
إن أسباب الأمراض مختلفة جداً كالسقوط والجروح أو التخمة أو الإنسمام
أو سوء التغذية أو القرحة الهضمية أو تشمع الكبد وغير ذلك . ومن هذه
الأسباب تلك العوامل الحية التي تسمى بالجراثيم وتسمى الأمراض التي
تحدث عنها بالإنتانات . إن العناصر الأساسية في حصول الإنتانات هي :
1.
الجراثيم المرضية .
2.
البدن المستعد
وكثيراً ما تكون هذه الإنتانات الجرثومية سارية أومعدية أي تنتقل من
مريض إلى سليم مباشرة أو بوسيلة ما وتسمى عندئذ بالأمراض المعدية أو
الأمراض السارية .
ثم إن الأمراض المعدية إما أن تظهر بشكل محدود منفرد وفي أحوال عارضة،
وهي الأمراض المعدية الأفرادية كالسل والتيفوئيد … الخ .. وإما أن تظهر
بشكل دائم مستمر في مجموعة صغيرة من البلاد المتاخمة وهي الأمراض
المستوطنة. مثال ذلك الطاعون والكوليرا وهما مرضان وبائيان ولكنهما قد
يصبحان من الأمراض المستوطنة كما هو الحال في الهند. وإما أن تعم
بلواها جمعاً غفيراً من الأنفس والبلاد في أوقات طارئة ومناسبات مختلفة
وتسمى عندئذ بالأمراض الجائحة أو الوبائية كالهيضة الأسيوية (الكوليرا)
والطاعون .
وإن كانت الجائحة واسعة الانتشار جداً سميت بالجائحة الطامة أو الوباء
العام.
فالعدوى أو السراية هي اتصال جرثوم مرضي بإنسان صحيح وحدوث أثره المرضي.
وبما أن في الأحاديث النبوية التي سأوردها في هذا المقال وفي كلام
الشراح ذكراً للأمراض التالية : الطاعون ـ الجذام ـ الجرب ـ البرص،
رأيت من المفيد أن أقدم أيضاً تعريفاً بكل مرض منها بالمقدار الذي
يساعد على فهم ما ورد فيه في كتب السنة المطهرة متجنباً الإسهاب الذي
هو من اختصاص المواضيع الصحية والطبية الصرف.
الطاعون :
مرض مشترك بين الإنسان والجرذ يتصف بالتهاب العقد اللنفاوية وباندفاعات
وبأعراض رئوية أحياناً، عاملة عصية يه رسن.
ينتشر الطاعون من القاضمان الوحشية إلى الفأر الأهلي (أو بالعكس) ومنه
إلى الإنسان وبين المريض والصحيح من البشر أيضاً، وأكثر الإصابات تنتقل
من الفأر والجرذان بواسطة البراغيث . وعند إصابة الجرذ بالطاعون تتركه
براغيثه السليمة، فإن لم تجد حيواناتها المعتادة أو صادفت إنساناً علقت
به ولقحته بدائها، فتبدأ الجائحة البشرية عندئذ وتستمر ما وجدت تلك
الحشرات الملوثة فرصة للوصول إلى الإنسان السليم.
وسأبين في مقال خاص (توافق الأحاديث النبوية والطب الحديث في مرض
الطاعون ) .
الجذام :
هو مرض إنتاني مزمن وسار (معدي ) عامله الجرثومي عصية هانستن.
يتصف سريرياً بآفات جلدية واضطرابات عصبية وقد يصيب العظام والأحشاء .
وقد عرف منذ العصور القديمة وجاء ذكره في التوراة . ويلاحظ أن انتشاره
كان كبيراً في العصور السابقة، بينما أصبحت إصاباته في العصر الحاضر
قليلة، يقع معظمها في البلاد الحارة والمعتدلة الحارة .
سراية الجذام ضعيفة، وعدواه أخف من عدوى السل، ولابد من التماس الصميم
والمديد لينتقل المرض. ولذلك تكون أكثر حوادث الجذام أسرية، أي تظهر
بين أفراد الأسرة التي تعيش معاً في مكان واحد. ثم إن مدة دور الحضانة
غير معلومة ولكنها على كل حال طويلة ويعتبر الحد الوسط فيها بين (6ـ
8)سنين .
إن الغشاء المخاطي لطرق التنفس هو المدخل الغالب لرذاذ القطران الأنفية
البلعومية الصادرة عن المريض والحالمة للعامل الممرض . وقد يكون
الانتقال من الأورام المتقرحة إلى الجلد المجروح ، تلوث الأورام الأرض
فيطأها قدم مجروحة فتمس مفرزات التقرح الجرح من الجراثيم. وتبدأ أعراض
الجذام خفية كما هو في السل.
وللجذام شكل ورمي وشكل نظير الدرني. ففي الشكل الورمي يصبح منظر الجبهة
والخدين والأنف والذقن كتلة مرتشحة عميقة الأخاديد عليها عقيدات تعطي
الوجه منظر وجه الأسد فيقال لذلك السحنة الأسدية.
كتب بعضهم في إحدى رسائله نقلاً عن إحدى المجلات : إن الطب اكتشف أن
جرثومة الجذام تشبه الأسد، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" وفرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد " .
ثم تواجهت معه سنة 1950 في دمشق أيام دراستي في كلية الطب وقلت له هلاّ
سألت الأطباء عن شكل جراثيم الجذام قبل أن تنقل في رسالتك ما هو خطأ..
فقال لي ليقل من بعدي أخطأ فلان
…
إن تشبيه الفرار من المجذوم بالفرار من الأسد، إنما هو بجامع الخوف من
كل، ولا يشترط في هذا التشبيه التماثل والتشابه بين جرثوم الجذام
والأسد ولا بين المجذوم والأسد، وإن كان الواقع يثبت أن سحنة بعض
المجذومين تشبه سحنة الأسد.
الجرب:
داء جلدي حاكّ ومعدٍ، يتظاهر بآفة جلدية خاصة وواسمة هي الثلم. وهو
يعرف في بلادنا باسم حكاك لسبب الحكة الشديدة التي ترافقه . سبب طفيلي
يسمى هامة الجرب.
أما الجرب الحيواني فهو يصيب القطط والكلاب والخيل والإبل وغيرها من
الحيوانات، وقد ينتقل إلى الإنسان مسبباً عنده حكة حطاطية شبيهة
بالأكال الحاد، إلا أنه لا يحدث إتلافاً مطلقاً. إن إصابة الإنسان
بالجرب الحيواني تشفى من نفسها وبسهولة بواسطة الصابون العادي.
البرص:
ويعرف في الطب بالبهق أيضاً، وهو ظهور بقع صريحة الحدود في قلب منطقة
مفرطة الصباغ، وإصابته مكتسبة تصيب الجنسين في مختلف الأعمار.
إن أسباب وآلية حدوثهلا تزال غامضة وإذا كان الواجب يقضي بالتحري عن
الإفرنجي في كل حادثة بهق، إلا إنه يجب عدم اعتبار كل حادثات البهق من
منشأ إفرنجي . أ هـ .
أقول : نقل شراح الحديث رأي الأطباء الأقدمين بأن البرص يعدي وأنه يورث
نقيض رأي الطب الحديث. ولا يزال البدو يتخوفون منه ولا يتزوجون من أسرة
فيها مصاب بالبرص. وقد أدهشني ما قاله والد شابة مصابة بالبرص في
عيادتي أمامها بأنهما يرغبان لها الموت، لأنه إذا شاعت إصابتها بالبرص
امتنع الناس من زواج أخواتها وبنات عمها أيضاً، فوضحت لهم خطأ الناس في
ذلك وأرشدتهم إلى اختصاصي بأمراض الجلد.
ب ـ مشروعية الوقاية من الأمراض السارية :
كما اعتنى الإسلام بتصحيح الإنسان بخالقه العظيم وتصحيح عبادته له إلى
شرعة يرضاها، وكما اعتنى بتحرير عقله وتفكيره من الأوهام والخرافات
والتقليد الأعمى والإمّعية الهوجاء، ومن أثر جهالة الشهوات وطغيان
العواطف على المحاكمة والحكم العقلاني . وكما أعنتى أيضاً بمكارم
الأخلاق وبوضع أسس التعامل بين الناس والرقي الحضاري القويم، طالما
اختلف علماؤهم وعباقرتهم في رسم الطريق السويّ وتحقيق التلاؤم وعدم
التضاد بين مبادئ وقوانين شعب الحياة المختلفة، كما أعتنى الإسلام بذلك
كله، لأنه شرعة الله تعالى، اعتنى أيضاً بصحة الإنسان، فوضع له كثيراً
من التعاليم والمناهج الصحية لحفظ جسمه وأجهزته ووقايتها من الأمراض
السارية وغير السارية .
فجاءت تعاليم محمد صلوات الله عليه أعلى من المستوى الصحي الذي كان
يحيا به العرب وغيرهم في صدر الإسلام، دافعة أتباعه إلى دراسة الطب
والعلوم النافعة المختلفة مما توصلت إليه الأمم السابقة، لأن الحكمة
ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها، وكانت تلك التعاليم حافزة للأتباع
على بذلك الجهد في البحث لتنظيم وتطوير فن الصحة وطرق الوقاية بما
يتلاءم مع تطور العلوم والمعارف.
وما يهمنا في موضوعنا هذا هي التعاليم الخاصة بالوقاية من الأمراض
السارية وهاكم نماذج منها:
1.
إن من حكمة التمسك بالتعاليم الإسلامية المتعلقة بالنظافة والطهارة هي
البعد عن مواطن الجراثيم والأخذ بأسباب الوقاية من الأمراض السارية .
كما أن من حكمتها الأخذ بوسائل صحة البدن ونظافة المظهر . وتلك
التعاليم معروفة لدى جميع المسلمين، فإن لفظ الطهارة هو العنوان الجامع
لأبوابها التي ملئت بها كتب الفقه .
ويكفي في بيان منزلتها قول الله تبارك وتعالى
: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين "
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان "
.
2.
وفي الشرع الإسلامي تعاليم كثيرة تثبت مشروعية الأخذ بأسباب الوقاية من
المخاطر والأضرار ووصول الحشرات ناقلات الأمراض، وهاكم مثال عنها: أرشد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إطفاء المصابيح الزيتية قبل النوم
(السراج ) وفي ذلك وقاية من فساد هواء التنفس على النائم، ووقاية أيضاً
من حدوث حريق أثناء الليل إن جرّت الفأرة فتيل المصباح الزيتي، وأرشد
صلى الله عليه وسلم إلى تغليق الأبواب قبيل النوم وقاية من سارق أو سبع
كاسر وحيوان ضار. وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ربط سقاء الماء وإلى
تغطية وعاء الطعام والشراب لئلا يصل إليه الغبار أو الهوام السامة أو
الحشرات الناقلات للجراثيم كالذباب، أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم في قوله : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم
وغلقوا الأبواب وأوكوا الأسقية وخمِّروا الطعام والشراب ولو بعود تعرضه
عليه "
فترى في هذا الحديث الشريف إرشاد الرسول الأعظم
إلى الأخذ بالأسباب الوقائية يتعلق بصحة البيئة .
3.
وردت أحاديث نبوية معناها المتبادر الأول إثبات وجود العدوى وشرعية
الوقاية من الأمراض المعدية .
1.
الحديث الأول : عن عبد الله بن عامر أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج إلى
الشام، فلما كان بسرغ، بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد
الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه،
وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه" .
2.
الحديث الثاني : عن إبراهيم بن سعد قال : سمعت أسامة بن زيد يحدث سعداً
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا
سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا
منها " فقال : أنت سمعته يحدث سعداً ولا ينكره ؟ قال نعم
يثبت هذان الحديثان وما يشبههما وجود العدوى، ويدلان على مشروعية
الوقاية من انتشار الأمراض السارية والوبائية، وبهذين الحديثين
وأمثالهما يتلاءم مع حقائق الطب وفن الصحة ومع المستوى العلمي الطبي
والإمكانيات العملية في زمانه صلى الله عليه وسلم . ثم بعد أن عرفت
جراثيم الأمراض السارية ومدة حضانة المرض ووسائل تشخيصه، وبعد أن عرفت
اللقاحات الواقية من بعض الأمراض ومدى تمنيعها ومدة فائدتها وبعد أن
عرفت طرق التأكد من أن الصحيح في الظاهر غير حامل لجراثيم الوباء حددت
مدة الحجر بالنسبة لكل مرض وبائي وبالنسبة للمصابين به أو المخالطين
لهم وبالنسبة للمدينة أو القرية الموبوءة وبالنسبة للقطر الموبوء.
3.
الحديث الثالث :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا
يوردنّ ممر ض على مُصحّ "
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك صاحب
الإبل أو الماشية المريضة بمرض سار كالجرب أن يأتي بها إلى جانب إبل
ماشية سليمة . ولولا أن العدوى تحدث بمشيئة الله كحدوث كل المسببات عند
أسبابها، لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لمجرد رفع الشك
والوسواس كما قال بذلك بعضهم. وقد أشار السلف رحمهم الله تعالى إلى هذا
الفهم من إثبات العدوى بهذا الحديث الشريف، فقد روى البخاري عن الزهري
قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : " لا عدوى "
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن سمعت أبا هريرة عن عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " لا توردوا الممرض على المصح "
.
فكان أبو سلمة التابعي يشير إلى أن نفي العدوى ليس عاماً، فإن أبا
هريرة رضي الله عنه الذي يروي ذلك، يروى ما يثبتها من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
4.
الحديث الرابع :
قال صلى الله عليه وسلم : " .. وفرَّ من
المجذوم كما تفرُّ من الأسد " فالابتعاد عن المجذوم سبب لاتقاء
رذاذ القطرات الأنفية البلعومية الصادرة عن المريض أثناء الكلام
والسعال والعطاس، والحاملة غالباً لجراثيم الجذام . وسيأتي تمام
الحديث.
5.
الحديث الخامس : " كان في وفد ثقيف رجل
مجذوم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا قد بايعناك فارجع
".
وبمشروعية الوقاية من الأمراض السارية وتجنب مكان الأوبئة، وإن ذلك لا
يتنافى مع الإيمان بالقدر بلغنا فهم عمدة الصحابة رضوان الله عليهم .
فهم ذلك سيدنا عمر بن الخطاب ومشيخة قريش من مهاجرة الفتح، وعلى رأسهم
عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
وبذلك ايضاً كان فهم سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين قال
: " إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن
يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنين : أن يقول قائل خرج خارج فسلم، وجلس
جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أصبت كما
أصيب فلان.
انتبه لقوله رضي الله عنه فمن أراد أن يتنزه عنه حيث المعنى فمن أراد
أن يتوفى منه.
شروط العدوى :
بما أن إيضاح معنى " لا عدوى "
سيتطرق إلى عقيدة هامة من عقائد المسلم، وهي أن مشيئة الله تعالى ركن
أصيل وشرط أساسي وعلة العلل في نجاح أي سبب وأي شرط في بلوغ النتيجة
المسببة، وذلك ما يعبر عنه الاختصاصيون في علم التوحيد بأن المسببات
تأتي عند الأسباب لا بها، فرأيت أن أقدم بحثاً موجزاً عن شروط العدوى
في الطب، ثم أوضح صلة تلك العقيدة مع هذه الشروط قبل الشروع بإيضاح
معنى " لا عدوى " .
بينت سابقاً أن العدوى هي اتصال العامل المرضي ( من جراثيم أو طفيليات
) بإنسان صحيح وإحداثه أثره المرضي.
يثير التعرف السابق للعدوى الأسئلة التالية : ما هي تلك العوامل
الممرضة وأين كانت؟ ثم كيف خرجت من مكمنها؟ وبأي واسطة وصلت إلى
الإنسان الصحيح؟ ومن أي منفذ دخلت جسمه؟ وهل كلما وصلت إليه أو دخلت
جسمه أحدثت فيه المرض الساري؟ تلك أسئلة تجيب عليها شروط العدوى وهي:
1.
العوامل الممرضة :
وهي أنواع مختلفة، منها الجراثيم بالخاصة كعصيات الطاعون وضمات
الكوليرا وعصيات الجذام، ومنها طفيليات حيوانية كهامة الجرب، أو نباتية
كطفيليات الفطور الجلدية، ومنها عوامل غير مرئية أو حمات راشحة كحمة
الأنفلونزا.
2.
أما مكمن العوامل الممرضة،
الذي يحفظها ويساعد على نموها وتكاثرها، والذي يعتبر مصدر العدوى في
الأمراض السارية في البشر، فهو الإنسان نفسه غالباً كما في الجذام، أو
بعض الحيوانات التي تحيط به كالجرذ والقاضمات الوحشية فإنها مكن
الطاعون .
3.
تخرج تلك العوامل من مكامنها بواسطة المفرزات أو المفرغات.
وتختلف طرق خروجها باختلاف أنواع الأمراض السارية واختلاف توضعاتها.
وتلك السبل هي الطريق الرئوي كما في السل، والطريق المعوي كما في
الكوليرا والتيفوئيد، والطريق البولي كما في البلهارزيا، وأحياناً تكون
الآفات ظاهرة على سطح البدن فيسهل انتشار العدوى كما في الآفات الفطرية
الجلدية والجرب.
4.
أما وسائل انتقال العامل الممرض من مكمنه إلى مثواه الجديد فتقسم إلى
ثلاثة أقسام :
1.
مباشرة من إنسان مريض أو حامل للجرثوم، وإن لم يكن مريضاً، إلى آخر
مستعد للعدوى كما في الأنفلونزا.
2.
وغير مباشرة وذلك بواسطة الماء أو الغذاء أو الحوائج الملوثة كما في
الكوليرا.
3.
بواسطة الحشرات وهذه الواسطة يمكن حشرها في عداد الوسائل غير المباشرة
. فالبراغيث تنقل جرثوم الطاعون، والقمل تنقل جرثوم التيفوس.
4.
أما مداخل العوامل الممرضة إلى بدن السليم فهي كل طرف منه كالجلد
والأغشية المخاطية وطرق التنفس والهضم والطرق التناسلية والدم والمشيمة
.
5.
الشرط السادس لحدوث العدوى هو استعداد الإنسان لقبول ذلك العامل
الممرض، أما إذا كان الإنسان ذا مناعة فإنه لا يتأثر من فعل الجرثوم
المرضي، العامل بنفسه أو بذيفانه، ولو تحققت الشروط الخمسة السابقة .
وإذا تمت حلقات العدوى ولم تكن مناعة الجسم كافية لإيقاف الجرثوم وشل
عمله أو إهلاكه، وتمكن الجرثوم من النمو والتكاثر، فإن المرض الساري
يحدث ويأخذ الجسم بوسائله الدفاعية بمقاومة ذلك الجرثوم فتحصل بينهما
معركة تقصر مدتها نسبياً في الأمراض الإنتانية الحادة وتطول في المزمنة
. كما يختلف أمدها بحسب سرعة تغلب إحدى الجهتين، فإذا كانت النتيجة
النهائية للبدن الحي كان الشفاء، وإن كانت للجراثيم كان الموت.
فالمرض المعدي إذاً هو حادثة كفاح بين عاملين مختلفين : العامل المرضي
من جهة ومقاومة جسم الحي من جهة أخرى . وكل منهما يتكاثر بالشروط أو
الأحوال التي يقع هذا الكفاح فيها.
الوقاية من العدوى :
إذا تمكنا من توجيه وسائل المكافحة الفعالة، التي توصي بها كتب الصحة
والطب، ضد حلقات العدوى، وخاصة إذا وجهت لأضعفها، فإن الظفر والوقاية
أكيدة بعون الله تعالى .
أما الوسائل المكافحة فهي كثيرة ومتنوعة ويمكن حصرها في أقسام ثلاثة:
1.
توقي السراية بالسعي في إبادة الجراثيم، وتنزيه المصاب عنها بالمعالجة
المناسبة وصيانة الآخرين بالفصل بينهم وبين المرضى، ومكافحة وسائل
الانتقال في كل ذلك.
2.
العمل على زيادة المقاومة في الإنسان المعرض للعدوى بدعمه بشيء من
أنواع المناعة كاللقاحات والمصول وما إلى ذلك .
3.
إضعاف الآثار المرضية التي لم يمكن توقيها والعمل على تلطيف شدة
الإصابة.
إن تفصيل سبل الوقاية من الأمراض السارية هو اختصاص مباحث الصحة
الوقائية، ارجع إذا شئت إلى الجزء الثالث من كتاب فن الصحة والطب
الوقائي للأستاذ الدكتور أحمد حمدي الخياط .
مشيئة الله تعالى شرط في حدوث العدوى:
تعتبر الشروط الستة لحدوث العدوى أسباب تتكامل مع بعضها لإحداث المرض
الساري. وبما أن بعض تلك الشروط تابعة لبدن الإنسان المعدىّ من جديد،
وبعضها تابع للمكمن، فإن الأسباب الظاهرة لحدوث المرض المعدي هي :
1.
العامل الممرض .
2.
مكمنه الإنساني أو الحيواني .
3.
واسطة انتقال العامل الممرض إلى السليم إن وجدت.
4.
استعداد البدن للإصابة
وبعد فهل هناك شرط رئيسي غير الشروط الستة لحدوث العدوى، يحكم عليها
ولا تفعل بدونه، وهل هناك سبب للأسباب الظاهرة الأربعة لحدوث المرض
المعدي. وبتعبير صريح هل يشترط أن تكون المشيئة الربانية مسيطرة على كل
شرط من تلك الشروط والأسباب، فلا يستطيع أن يأخذ مكانه السببيّ إلا
برضاها.
من أجل إيضاح ذلك عقدت عنوان هذه الفقرات :
إن العلوم الطبية، كإحدى مجموعات العلوم الكونية، تبحث في الشروط
المادية لحدوث العدوى، ومع ذلك فإنها لا تنكر الظروف المعنوية الحسنة
التي تزيد في مقاومة الجسم وتمنع حدوث بعض العراقيل، كما أنها تقر بأن
درجة استعداد المريض للعدوى مجهولة في الغالب، لا يمكن التنبؤ عنه
بالوسائل العلمية في كثير من الأمراض السارية، فيما عدا حوادث التمنيع
باللقاح أو المصول.
أما بحث الإذن الإلهي أو المشيئة الربانية، فإن بحث في أمر غيبي لا
نعلمه ولا ندركه، إنه بحث فيما وراء الطبيعة، ليس من اختصاص العلوم
الكونية، لأن هذه تبحث فيما هو خاضع للحواس والتجارب وتطبيق الوسائل
العلمية المكتشفة. وإننا نجهل مشيئة الله تعالى في أمر ما، فلا نعلمها
إلا بعد حصوله.
ولكن النصوص الشرعية، ويؤيدها العقل، تدل على أن المشيئة الربانية هي
ركن أصيل في نجاح أي سبب للوصول إلى مسببه، وفي حديث العدوى لدى وجود
أسبابها. وقد جرت سنّة الله تعالى في خلقه أن تؤدي الأسباب إلى
مسبباتها عادة بإذن الله تعالى، عند اكتمال شروط حدوث المسبب.
إن مشيئة الله تعالى في اعتقاد المسلمين وكذلك حكمته وقدرته وعدله وكل
صفاته حاكمة معاًفي
حدوث العدوى أو عدم حدوثها كحكمها على كل العلاقات بين الأسباب
ومسبباتها، فقد تزيد مشيئة الله تعالى مناعة إنسان ومقاومة جسمه بكلمة
كن فلا يصاب بالمرض على الرغم من تحقق الشروط الخمسة الأولى للعدوى.
وقد تحدّ مشيئة الله تعالى مناعة إنسان وتثبط مقاومته وتزيد من فوّعتها
الجراثيم فيصاب، بل قد يصاب بكلمة كن. ولا يعني هذا أن تهمل وسائل
الوقاية والمكافحة، لأن كما ذكرت جرت سنة الله تعالى في خلقه أن تؤدي
الأسباب إلى مسبباتها عادة بإذن الله تعالى عند اكتمال شروط حدوث
المسبب، وأن يكون الشذوذ عن ذلك نادراً لحكمة يريدها جل وعلا.
وذلك لتنبيه العقل لئلا يقف مع حواسه واختباراته المادية الصرفة غافلاً
عن وجود خالق عظيم، ولئلا يقف عند حد علمي دون تطلع إلى الأعلى .
وفي حدوث خوارق العادات حكم أخرى من تأييد رسول بالمعجزات أو تكريم
وليّ له تعالى أو إعانة مؤمن أو زيادة تمكينه بالإيمان أو إهانة معاند
أو استدراج فاسق أو كافر.
ومثال سلب السبب خاصيته سلب النار خاصية الإحراق وقد أعدت لسيدنا
إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى : "
يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " فلم تؤد النار في تلك
الحادثة إلى مرض الحروق بل كانت برداً وسلاماً.
إن المسلم الحق يسلّم بوجود العدوى في الأمراض السارية، وبأن عواملها
تحدث في السليم مرضاً إذا كانت فوّعتها مناسبة لإحداث المرض، وكانت
المناعة في السليم مفقودة والمقاومة ضعيفة، إنه كما يسلم بذلك أخذاً
بحقائق العلم، ويسلّم بمشروعية الوقاية ولزومها طاعة لأمر الشرع
ولمقتضيات العقل السليم، فإنه يؤمن بأن ما يجري في الكون لا يجري
استقلالاً عن تدبير خالقه وقدرته، لأن ذلك الخالق العظيم الذي نؤمن به
يملك ويحكم الحكم الكامل المطلق، له الخلق وله الأمر، وهو على كل شيء
قدير " لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون " .
إن من عقيدة المسلم بالله تعالى أنه مبدع الكائنات وأن استمرار وجودها
وقيامها إنما هو بالله سبحانه، وأنّ خواص الأشياء وارتباط المسببات
بالأسباب إنما يرجع إليه، فهو القيّوم الصمد الذي لا يزال يمد
المخلوقات بتدبيره وربوبيته . وصدق الله العظيم :
" إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا"
" ولا يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم".
أما الذي يدعي أنه يؤمن بإله خالق قدير عليم خبير، ثم ينفي عنه
تعالى التصرف في مخلوقاته، ويدعي أنها تفعل بذاتها وخواصها دون أية
علاقة، بإذن تعالى ومشيئته وحكمتة وتقديره، فإنه يرتكب بتلك الدعوى
جهالة كبرى حيث يصف ذلك الخالق العظيم بأنه يملك ولكن لا يحكم كبعض
ملوك الأرض. تعالى الله الواحد القدُّوس الصمد على ذلك علواً كبيراً .
إن تلك الغباوة في الحكم الطائش البعيدة عن المنطق العقلي هي أخت
الغباوة المكتفية بالإيمان بإله خالق دون الإيمان برسله أي دون الإيمان
بشرع الله الذي يبين فيه الصواب والحق فيما اختلفت الناس وعلماؤهم فيه،
والذي يبن الأوجه الصحيحة لعبادة الخالق وواجبات البشر تجاه خالقهم
وتجاه بعضهم .
فهذا الاعتقاد باطل أيضاً، لأنه يعني الإيمان بإله يملك ولا يحكم، وهو
يدل على غباوة وسفاهة في تفكير صاحبه. وإذا لم يكن ذلك الاعتقاد غباوة
فهو طريق من طرق النفاق، حيث يريد القائل به ستر كفره بالله تعالى وما
هو بمستطيع تجاه المؤمنين أصحاب البصائر.
وليست دعوى الاعتقاد هذه بجديدة العهد فقد أشار إليها القرآن الكريم
حيث قال تعالى : " إن الذين يكفرون بالله ورسوله، ويريدون أن يفرّقوا
بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين
ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ".
إن اعتقاد المسلمين المؤمنين بأن تأثير السبب إنما يجري بإذن الله
تعالى ومشيئة، ولا يدل على جحود للخواص الكيماوية والفيزيائية، في
أنواع المادة، ولا يدل على أن حوادث الكائنات فوضى لا رباط بينها ولا
نظام. فالمؤمن الواعي يعتقد بوجود تلك الخواص وبالقوانين الكونية،
ولكنه يستدل بغايات تلك الخواص على وجود خالق مريد لتلك الغايات،
ويستدل بإرتباط المسببات بأسباب وبشروط حدوثها على أن ذلك الخالق عليم
خبير، ويستدل بانسجام قوانين العالم وارتباط هذا الكون كوحدة(مثلاً
قانون الجاذبية العالمية لنيوتن ) على وحدانية خالقه. وصدق الله العظيم
: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع
البصر هل ترى من فطور" .
إن المسلم الحق يتأدب مع الحكمة الإلهية التي وزعت خصائص الأشياء وربطت
بين المسببات وأسبابها، ويأخذ بتعاليم الوقاية والتداوي وقد قامت
الأدلة على مشروعيتها، وهو في كل حال يعتمد على القدرة الربانية
معتقداً أن المشيئة الإلهية حاكمة على كل معلولية، وأن المسببات تأتي
عند الأسباب بإذن الله تعالى، وبذلك جرت سنته في خلقه ولن تجد لسنة
الله تعالى تبديلاً . وإن خوارق العادات ممكنة نادرة، يأذن بها الله
تعالى لحكمة يريدها.
معنى " لا عدوى " :
بينت في البحث الأول الأحاديث التي تثبت وجود العدوى ومشروعية الوقاية
من الأمراض السارية، ونبّهت في مقدمة ذلك المقال أن هناك أحاديث يفيد
ظاهرها نفي العدوى، وأحاديث تفيد النفي والإثبات معاً دالة على أن
النفي ليس على عمومه، بل له معنى فهمه خواص الصحابة ممن سمع ذلك الحديث
الشريف، أو حضر مناسبة وروده. وأشرت إلى أن أئمة العلماء السابقين
رحمهم الله تعالى وضعوا جهدهم في فهم الشريعة الإسلامية وأحاديث سيد
الأنام.
كما أشرت إلى أن الفهم الكامل للأحاديث المتعلقة بالطب يتوقف على معرفة
الحقائق الطبية الثابتة، وإلى أن الطب في زمانهم كان قاصراً، وخاصة
فيما يتعلق بالأمراض الإنتانية المعدية، حيث لم تكن عواملها الجرثومية
مكتشفة بعد وبالتالي لم تكن الأمراض مفرّقة بالتشخيص بعضها عن بعض،
وكثيراً ما كانت تحشر أمراض عديدة تحت اسم مظهر مرضيّ واحد، ذلك المظهر
الذي يعرف في الطب الحديث باسم تناذر مرضيّ، فاقتضى ذلك مني أن أختار
من أقوال علماء المسلمين المتقدمين ما يأتلف مع كل زمان وما يوافق
الحقائق الطبية الثابتة في زماننا، وذلك في سبيل الجمع والتوفيق بين
الأحاديث التي تثبت العدوى والأحاديث التي جاء فيها نفي العدوى. أقول
أوجه الجمع والفهم لمجموعها ولا أقول بترجيح بعضها على البعض الآخر،
لأنه يمكن الجمع والتوفيق كما سأبين . ومن المقرر الثابت في علم مصطلح
الحديث أن (طريق الترجيح لا يصار إليه إلاّ مع تعذر الجمع )
أ.
أما الأحاديث التي ينفي ظاهرها العدوى ففي ما يلي نماذج منها:
1.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا
عدوى ولا هامة ولا صفر "
2.
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا
هامة ولا صفر ولا نوء "
3.
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا
صفر وغول "
4.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه " أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة ثم
قال : كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه"
5.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: " لا عدوى ولا صفر ولا هامة فقال أعرابي :
يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها
الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها ؟ فقال : فمن أعدى
الأول؟ "
ب . وأما الأحاديث التي في نصها نفي العدوى وفيها ما يدل على إثباتها
فمنها الحديثان التاليان:
1.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا
عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفرّ ن المجذوم كما تفرُّ من الأسد"
2.
وقال صلى الله عليه وسلم : "لا عدوى وإذا
رأيت المجذوم ففرَّ منه كما تفرّ من الأسد ".
جـ . وأما أوجه الجمع والتوفيق بين الأحاديث السالفة فقد ذكرها الحافظ
ابن حجر في كتابه فتح الباري عند شرحه لحديث لا عدوى في باب الجذام.
واخترت منها ثلاثة مسالك لقوة الحجة فيها ولتلاؤمها مع ما توصل إليه
العلم الحديث من معلومات طبية قطعية، ولإمكان العمل بالأوجه الثلاثة
معاً. وسأضيف وجهاً أو مسلكاً رابعاً في الجمع ذهب إليه بعض العلماء
وهو ينسجم مع شطر من أحاديث الباب وله فائدة عملية في التطبيق أيضاً.
1.
المسلك الأول : (وهو الخامس في تفح الباري ) : إن المراد بنفي العدوى
أن شيئاً لا يعدي بطبعه، نفياً لما كانت الجاهلية تعتقده بأن الأمراض
تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله تعالى . فأبطل النبي صلى الله عليه
وسلم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم
ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي ونهاهم عن
الدنو منه ليبين أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تقضي
إلى مسبباتها . ففي نهيه صلى الله عليه وسلم إثبات الأسباب، وفي فعله
إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا يؤثر
شيئاً، وإن شاء أبقاها فأثرت ويحتمل أيضاً أن يكون أكله صلى الله عليه
وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة، إذ ليس
الجذمى كلهم سواء ولا تحصل العدوى من جميعهم.
ومن الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية. قال البيهقي بعد أن أورد قول
الشافعية ما نصه: الجذام والبرص بزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه
يعدي الزوج كثيراً
وقال : أما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" لا عدوى " فهو على الوجه الذي
كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد
يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سبباً لحدوث
ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " فرَّ
من المجذوم فرارك من الأسد"، وقال :
" لا يوردنَّ ممرض على مصح "، وقال في الطاعون
:" من سمع به بأرض فلا يقدم عليه "،
وكل ذلك بتقدير الله تعالى . وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين
الحديثين من بعده وطائفة ممن قبله أ هـ .
ذلكم ما قدمه الحافظ ابن حجر. وهاكم ما قاله ابن الصلاح في مقدمته في
بحث (معرفة مختلف الحديث) : اعلم أن ما يذكر في هذا الباب ينقسم إلى
قسمين : أحدهما أن يمكن الجمع بين الحديثين، ولا يتعذر إبداء وجه ينفي
تنافيها فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك والقول بهما معاً ومثاله حديث
" لا عدوى ولا طيره " مع حديث
:" لا يورد ممرض على مصح " وحديث
" فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد" .
وجه الجمع بينهما أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن الله تبارك
وتعالى جعل مخالطة المرض بها للصحيح سبباً لأعدائه مرضه، ثم قد يتخلف
ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب، ففي الحديث الأول نفي صلى الله عليه
وسلم ما كان يعتقد ه الجاهلي من أن ذلك يعدي بطبعه، ولهذا قال :
" فمن أعدى الأولى ؟ "وفي الثاني
أعلم بان الله سبحانه جعل ذلك سبباً لذلك وحذر من الضرر الذي يغلب
وجوده عند وجوده بفعل الله سبحانه وتعالى أ هـ.
إن هذا المسلك في الجمع هو المعتمد لدى المحققين ومعظم العلماء
المتقدمين، وهو الذي يصلح للجمع والتوفيق بين كافة الأحاديث الواردة في
العدوى والأمراض السارية على مستوى العلوم الكونية الطبية في زمانهم
وزماننا، ولذا أوردته كمسلك أول في الترتيب. كما أنه يتعين في فهم
الحديث الذي أجاب فيه النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي بقوله
:" فمن أعدى الأول ؟ " .
وإذا كان هذا المسلك الأول يتلكم على المرض المعدي بأنه لا يسري إلى
آخر إلاّ بمشيئة الله تعالى ولو اجتمعت شروط العدوى، مع التسليم بأن
سنة الله في خلقه جرت أن تقع العدوى عادة لدى تكامل شروطها، فإن المسلك
الثاني يبين أن الأمراض ليست كلها معدية فهناك أمراض معدية وأمراض غير
معدية، كما تقرر كتب الطب والصحة.
2.
المسلك الثاني : (وهو الثالث في فتح الباري ) :
قال القاضي أبو بكر الباقلاني : إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من
عموم نفي العدوى.
قال : فيكون معنى قوله : " لا عدوى"
أي إلاّ من الجذام والبرص والجرب مثلاً.. وقد حكى ذلك ابن بطال أيضاً .
فنفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :
" لا عدوى " عام، وأما قوله : "
وفرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد " وكذلك باقي الأحاديث التي
تثبت وجود العدوى في أمراض معينة، كالأوبئة عامة والطاعون منها بشكل
خاص والجرب، فإنها تخصص ذلك العام.
هذا والمعتمد عند الأصوليين أن " العام قطعي ولكنه يصير بالتخصيص حجة
ظنية إذا كان قد خصص بقول وبذلك يكون عرضة لأن ينسخ بخبر الواحد
وبالقياس . وحجتهم في ذلك أن دليل التخصيص قابل للتعليل، والتعليل من
شأنه توسيع محل الحكم فصار العام بذلك محلاً لاحتمال أن يكون المراد به
أقل مما يبقى بعد ما دل المخصص على عدم إرادته ".
فبتعليل تخصيص الجذام من لا عدوى بأنه مرض سار فيمكننا والله أعلم
تخصيص كل الأمراض السارية التي يحددها الطب من قوله صلى الله عليه وسلم
" لا عدوى " العام الذي يشمل كل الأمراض، وذلك قياساً على الجذام
والجرب والطاعون والأوبئة الوارد فيها ما يثبت أنها أمراض معدية سارية.
ولو أن الجراثيم والأمراض السارية معروفة قديماً، لقال القاضي أبو بكر
الباقلاني رحمه الله تعالى : فيكون معنى قوله :
" لا عدوى " أي إلاّ من الأمراض
السارية، ولما قال : إلاّ من الجذام والبرص والجرب مثلاً. لاحظ قوله
مثلاً، فإنه في غاية الدقة العلمية حيث يشير إلى أن الأمراض المعدية لم
يرد حصر لها في السنة المطهرة .
إن هذا المسلك وإن اختلف مع الأول من حيث معنى النفي إلاّ أنه يمكن
العمل بهما معاً، لأن المسلك الثاني يدفع التوهم عن الناس ويبين خطأ
الاعتقاد بعدوى كل الأمراض، الذي يؤول إلى الوسوسة وتجنب كافة المرضى،
ولذلك نفى العدوى عن غير الأمراض السارية. أما الأمراض السارية فالعدوى
بها سبب من الأسباب له شروطه لينتج المسبب عادة . ولكن الشرط الأول
الخفيّ عنا والذي لا ندركه إلا بعد حدوث المسبب هو إذن الله تعالى
ومشيئته، لأن الخالق العظيم كما يملك فإنه يحكم.
فإذا أيقنا بكل ما سبق فهل معنى وجود العدوى في الأمراض السارية أن
يتجنب الناس كلهم المرضى بمرض سار تجنباً مطلقاً يؤدي إلى إهمالهم
وتناسي الواجبات الإنسانية تجاههم؟ لا فإن صحيح البنية وصحيح التفكير
الخالي من الوسوسة، وكذلك أصحاب اليقين بالله تعالى، هؤلاء يأخذون
بأسباب الوقاية الصحية العامة والخاصة بمرض من يحتاج إلى تطبيب وتمريض
ورعاية، ويقدمون الخدمات الإنسانية كل في حدود اختصاصه. وهذا ما يشير
إليه المسلك الثالث التالي.
3.
المسلك الثالث (وهو الثاني في فتح الباري ) :
هو حمل الخطاب، بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء لا عدوى
كان المخاطب بذلك من قوى يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه
اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن
قوى اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعةالعلة
فتبطلها. وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما
ورد من جنسه.
وحديث جابر " فرَّ من المجذوم" كان
المخاطب بذلك من ضعف يقينه ولم يتمكن من تمام التوكل، فلا يكون له قوة
على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا
يباشر ما يكون سبباً لإثباتها.
وقريب من هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكيّ مع إذن فيه، وقد فعل هو
صلى الله عليه وسلم مع إذنه فيه، وقد فعل هو صلى الله عليه وسلم كلاً
من الأمرين ليأسّى به كل من الطائفتين أ هـ .
أقول والله أعلم : إن هذا المسلك الذي ذكره الحافظ بن حجر يجب ألا
يستقل تماماً عن المسلك الأول السابق، بل يؤخذ المسلك الأول كإيضاح
لعقيدة المسلم في العدوى كسبب، ويؤخذ المسلك الثالث كخطة للعمل تجاه
المصابين بالأمراض السارية، على أن توضح تلك الخطة بالحقائق الطبية
الثابتة.
فحريّ بالطبيب والممرض أن يقوى يقينهما بالله تعالى واعتمادها عليه
لتبتعد عنهما الوساوس والأوهام حينما يخالطان المرضى ويزاولان المهنة
مع أخذهما بالوسائل الوقائية التي خلقها الله تعالى وجعلها بحكمته
وسائل، وبذلك يتأدبان مع الحكمة الإلهية ويعتمدون على القدرة الربانية.
إن الكثير من المرضى بمرض سار أناس بان عجزهم ووضح ضعفهم، يحتاجون في
معظم الحالات إلى الخدمة والرعاية فضلاً عن التطبيب والتمريض.
فقوة اليقين بالله وصحة التوكل عليه مطمئنة للنفس رافعة للروح المعنوية
مشجعة عل القيام بالمعونة والواجب، ولو كان في أدائهما مصاعب ومخاطر .
أما ضعيف البنية والمقاومة أو ضعيف الاتكال على الله تعالى أو ضعيف
النفس صاحب الأوهام سريع الوسواس، فليس بملزم على الاحتكاك بالمرضى، بل
عليه في هذه الأحوال أن يبتعد عن أسباب العدوى حفاظاً على سلامة توحيده
وعقيدته بالله تعالى، وحفاظاً على صحته الجسمية والنفسية.
وإذا كان المسلك الثالث يبحث في خطة العمل عند التسليم تجاه المريض
بمرض سار، فإن المسلك الرابع يبحث في واجب هذا المريض ليحدّ من انتشار
مرضه المعدي إلى الآخرين .
4.
المسلك الرابع :
سمعته من فضيلة أحد العلماء الأعلام وهو أن النفي في قوله صلى الله
عليه وسلم : " لا عدوى " هو نفي
بمعنى النهي على غرار قوله " لا ضرر ولا ضرار "
فإن الضرر بين الناس أمر واقع، فليس المقصود نفي
وجوده وإنما المراد النهي عن إيقاعه أ هـ .
إن إيراد النهي بصيغة النفي يدل على المبالغة في النهي، فقولك : لا ضرر
أبلغ في النهي من قولك : لا تضرّ وقولك : لا مزاح والأمر جد أبلغ في
النهي من قولك : لا تمزح والأمر جد. وكذلك قول المعلم للتلميذ: لا لهو
في الصف أبلغ من قوله لا تله.
فمعنى لا عدوى في هذا المسلك نهي عن مباشرة الأسباب التي تؤدي إلى
سراية المرض إلى الآخرين . فعلى المصاب بالجرب مثلاً ألا يلمس الآخرين
وألاّ ينام في فراش غيره، كما عليه أن يكافح مرضه. ومن كانت إبله مصابة
بالجرب فعليه ألاّ يضعها إلى جانب إبل سليمة. ومن كان مصاباً بآفة
سليّة مفتوحة على القصبات فعلية ألاّ يخالط الناس وأن يضع أمام فمه ما
يصدّ به رذاذ سعاله عنهم إلخ.
إن النهي في مثل تلك الحالات مصرح به في أحاديث أخر، فقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " لا يورد ممرض على
مصح" . وقال في الوباء : " وإذا وقع
بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" إن النهي عن الخروج واضح
الحكمة بالنسبة لمرضى الوباء، لئلا ينشروا عدواهم إلى أماكن خالية من
الوباء .أما حكمة النهي بالنسبة للأصحاء ظاهراً فلأن منهم من يكون
حاملات للجرثوم، وهو غير مصاب لمناعته، أو يكون حاملاً للحشرات
المحملات بجراثيم الوباء في ثيابه وحوائجه . وكثيراً ما يضطرب في الطب
الحديث إلى حجر وعزل فئة أو حيّ أو بلدة أو قطر، وإلى حظر الناس من
مغادرة المكان المحجور والدخول إليه، منعاً لانتشار الوباء إلى الأصحاء
أو إلى أماكن سليمة. بل قد تضطر الدولة إلى إغلاق حدودها خوفاً من
انتشار الوباء إليها كما فعلت بلغارية تجاه جائحة الكوليرا عام 1970،
ولا يستثني من ذلك الحجر إلاّ من تسمح له الشروط الصحية التي تختلف
بحسب نوع الوباء. وقد يكتفي بحجر السليم حجراً موقتاً بمدة حضانة
الوباء ثم يسمح له بالانتقال إذا ثبتت سلامته مع تعقيم ثيابه وحوائجه
حسبما يقتضي ذلك الوباء.
إن هذا المسلك الرابع في فهم " لا عدوى " يمكن تطبيقه في قوله صلى الله
عليه وسلم " ولا طيره " المعطوف على " لا عدوى " فإن نفي الطيرة وهي
التشاؤم لا يمكن أن يكون نفياً لوجودها بالجملة والكلية فإن كثيراً من
الناس يتشاءموا .
وإبقاء معنى النفي في " ولا طيرة "
يحتاج إلى تأويل هو : لا ارتباط بين وقوع ما تتوقعون من شر بما
تتشاءمون منه. وما لا يحتاج إلي تأويل مقدم على ما يحتاج.
لقد ورد لبعض العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم
: " لا عدوى " القول بأنه نهي عن
الاعتداء ز قال في فتح الباري في آخر إيراده حديث باب لا هامة (الثاني
): وقيل معنى قوله (لا عدوى ) النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب
عليه إبلاً جرباء أراد تضمينه فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما
أصابها ما قدر عليها وما لم تكن تنجو منه أ هـ .
أحببت أن أشير إلى هذا القول لتأكيد أن النفي في لغة العرب قد يراد منه
النهي .
الخلاصة :
مما سبق يتبين أن الإسلام توسع في أسس الطب الوقائي بأحكامه التي تتعلق
بالنظافة والطهارة في البدن والملبس والمأكل والمشرب والمكان، وبتحريمه
ما يؤول إلى ضرر الإنسان كفرد أو عضو في المجتمع .
كما أن الإسلام أكد وجوب الابتعاد عن المصابين بالأمراض السارية
(المعدية) . ووضع أسس العزل والحجر الصحي، وبيّن أن العدوى ليست في كل
الأمراض، لأن منها ما هو سار ومنها ما ليس كذلك، وأن الأمراض السارية
لا تعدي بطبعها مستقلة عن الإرادة الربانية . فإن الخالق الذي يؤمن به
المسلم هو إله له الخلق وله الأمر، له الملك وله الحكم، لا كملوك الأرض
التي قد تملك ولا تحكم . ولكنه تعالى شاء، وهو المتصف بأنه حكيم عليم
خبير، ان تكون لكل مادة خواص وأن تكون علائق المخلوقات محكمة بقوانين
ومقادير، وأن يجري كل ذلك بمشيئته تعالى، وأن تكون خوارق العادات نادرة
تجري بإذنه تعالى لحكمة يريدها.
هذا وقد بيّن الإسلام أن المصاب هو أو بهائمه بمرض سار عليه أن يتجنب
ما يسبب العدوى لغيره باتباع الطرق المعروفة في زمانه في حصر المرض
ومنع انتشاره.
أما من يعرف سبل الوقاية من الأمراض، فلا بأس عليهم في الاقتراب من
المرضى بالأمراض السارية وذلك لغاية صحية كتقديم العون والتمريض
والمعاينة والمداواة، بل رفع الإسلام معنوية المؤمنين لأداء واجبهم في
هذا المضمار على أكمل وجه، وبيّن أن فعل ذلك يجب أن يكون مقروناً بقوة
التوكل على الله وسلامة النفس من الوساوس والأوهام، وإلاّ فليدع
الإنسان المتوهم الموسوس تلك المهمات لمن هو أقوى يقيناً وأكثر
اطمئناناً .
وختاماً : أرجو من المؤمنين المثقفين أن يثبتوا الوعي الصحي بين صفوف
الأمة، وأن يبيّنوا لهم سبل الوقاية من الأمراض السارية عملاً
بالإيجابية الإسلامية التي عبر عنها أسوة المسلمين رسول الإنسانية محمد
صلوات الله عليه وسلامه بقوله :
" لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى
أخاك بوجه طلق".
وإني قصدت في بحثي المطول جلاء المعاني في أحاديث العدوى والأمراض
السارية، وإثبات مشروعية الوقاية، ليكون المؤمن المثقف على بينة من
دينه وعلى حجة ساطعة حينما يتعرض لنقاش من غافل أو جاهل بالدين أو ملحد
مغالط .
إيضاح:
لقد جاء في الأحاديث النبوية التي تنفي العدوى نفي لستة أمور يراد منه
تصحيح العقيدة في الله تعالى وتخليصها من شوائب المعتقدات الجاهلية،
كما يراد منه تصحيح الفكر وتحرير العقل وإبطال الخرافات التي كانت تسود
المجتمع الجاهلي . إن هذه الأمور الستة المنفية هي : العدوى والطيرة
والهامة والصفر والنوء والغول. وقد فصلت المراد من نفي العدوى، وأوضحت
معنى نفي الطيرة، وهاكم معاني نفي الأمور الأربعة الباقية لخصلتها من
فتح الباري إتماماً للفائدة :
هامة: هو نفي لحقيقة خرافة اعتقدها عرب الجاهلية، ونهي عن ذلك الاعتقاد
في أن القتيل إذا لم يؤخذ بثأره تدور حول قبره هامة، زعم بعضهم أنها
دودة تخرج من رأسه وزعم آخرون أن عظام الميت أو روحه تصير هامة، فتطير
فذلك ما يسمونه بالطائر الصدى . ونقل القزاز زعماً آخر لبعض العرب فقال
: الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني البومة، لأنهم تيشاءمون منها،
فإذا سقطت على دار أحدهم رآها ناعية له نفسه أو بعض أهله، وهذا تفسير
أنس بن مالك .
لا صفر : اختلف في معنى الصفر أيضاً، لاختلاف معتقدات القبائل العربية
في جاهليتهم، فقيل المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر
وتستحل المحرَّم وهو النسيء، وبهذا قال مالك وأبو عبيدة، وقيل هو حيَّة
تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب.
وقيل دود يكون في الجوف . وقيل كانوا يعتقدون أن في البطن دابة(دودة)
تهيج عند الجوع وربما عضت الضلع أو الكبد فقتلت صاحبها، ورجح الإمام
البخاري أن الصفر داء في البطن حيث عنون الحديث الخامس الذي ذكرته في
نفي العدوى بقوله : باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن. أقول والله أعلم :
إن المراد بنفي الصفر( على اختلاف معتقدات العرب في الجاهلية ) هو نفي
لخرافات ولتوهمات في تشخيص مرض، ونهي عن اعتقاد ذلك وعن تبديل مكان
الأشهر الحُرم، وعن اعتقاد استقلال تأثير الأسباب بطبائعها عن مشيئة
الله تعالى .
لا نوء هو تكذيب لمعتقد عرب الجاهلية حيث كانوا يقولون : (مُطرنا بنوء
كذا ) فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك، لأن المطر إنما يقع بإذن الله
تعالى،لا بفعل الكواكب، وإن كانت العادة جرت بوقوع المطر في مناسبات
زمانية وشروط جدية معينة، لكن بإرادة الله تعالى وتقديره، لا صنع
للكواكب في ذلك .
لا غول : هي نفي لزعم عرب الجاهلية أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من
الشياطين تتراءى للناس وتتغول لهم تغولاً، أي تتلون تلوناً، فتضلهم عن
الطريق لتهلكهم وقد كثر في كلامهم غالته الغول أي أهلكته أو أضلته
فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا قول الجمهور .
والحمد لله رب العالمين .