بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مرحبا بكم مع الشيخ خالدالمغربي - المسجد الأقصى

041

فصلت

آية رقم 010

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ

صدق الله العظيم

 

أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة
 

الأستاذ : السيد علي أحمد الصوري(1) (2)

مقدمة :

الحمد لله وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد، ففي القرن الماضي صرخ قس إنجليزي يدعى ( مالتوس) بصيحة تحذير من الزيادة السكانية المستمرة والمواد الغذائية المتناقصة، فقال: ( السكان يتزايدون بمعدلات حسابية ... إنه إذاً الاختلال فالمجاعة .. )، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يكذب ظن مالتوس .. وأن يحل التقدم العلمي والتقني ( الذي حدث في ميدان الزراعة) المشكلة ويتضاعف الإنتاج .. !!

وفي عام 1968 كتب العالم البيولوجي المعروف ( بول أيرلخ) في كتابه الشهير ( القنبلة السكانية) ما نصه : ( لقد انتهت معركة توفير الغذاء للجميع بالفشل التام، وسيعاني العالم في السبعينات من هذا القرن ( العشرين) من المجاعات وموت ملايين من البشر جوعاً، وذلك على الرغم من أن أي برنامج قد نبدؤه اليوم لتفادي ذلك) .. وقد استمر هذا العالم يطلق صيحاته التحذيرية هذه .. حتى أنه في عام 1970 حر من أن هناك احتمال موت /65/ مليون من البشر [أمريكيين بالتحديد] من الجوع، وأربعة بلايين من بقية سكان العالم، بين سنتي 1980/1989، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث !! ومع أن سكان العالم قد تضاعفوا منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، إلا إنتاج الغذاء قد تضاعف [ ثلاث مرات ] في الفترة نفسها.

ثم بدأت صيحات التحذير تنطلق مرة ثانية هذه الأيام، لكنها في هذه المرة مدعومة بالإحصاءات والدراسات، لكنها في الحقيقة أقل تشاؤماً من الدراسات السابقة عليها.

فتقارير منظمة الفاو ( منظمة الأغذية والزراعية) تؤكد أن نحو /25/ ألف مليون طن من التربة الخصبة تتعرض للزوال سنوياً، بفعل عوامل التعرية .. وأن تصيب الفرد من الأرض الصالحة للزراعة سينكمش بحلول عام 2010، من 0.85 إلى نحو 0.4 هكتار، ويقول ( كيث كولينز) – وهو كبير اقتصادي وزارة الزراعية الأمريكية – : ( ينبغي معالجة الوضع عن كثب)، وفي السياق نفسه يذكر تقرير المعهد الدولي لأبحاث السياسية الغذائية ( أنه ستصبح العلاقة بين إنتاج المواد الغذائية على مستوى العالم والأسعار علاقة مضطربة، الأمر الذي سيترجم على مخاطر أكبر بالنسبة للأمن الغذائي في دول العالم النامي) ..

أرقام .. ونتائج تدعو [بالفعل ] إلى القلق، وتبدوا وكأنها صيحات لطيفة، بالقياس إلى صرخات مالتوس وبول إيرلخ .. ولكن الذي يربط بينها جميعاً هو الخوف من المستقبل .. والسؤال الآن هو : أين تكمن المشكلة الحقيقية .. أهي في الإنتاج أم في التوزيع .. ؟ وهل بدأت الأرض – فعلاً – تعجز عن إطعام ساكنيها .. ؟؟ هل يمكن وصف هذه الحالة باختلال في الموارد أم أنه فقر في التقنية .. ؟؟

الإسلام .. الإسلام ..

إن الأمر الذي يؤسف له أننا كمسلمين كثيراً ما ننغمس في مناظرات وتدلى بآراء دون أن نطلع على حقائق إسلامنا ونصوص شريعتنا ..

فها هو كتاب الله تبارك وتعالى يخبرنا في سورة فصلت : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت : 10].فأقوات العباد مقدرة، وهي مبثوثة في كل الأرض، وقد اختص الخالق عز وجل كل جزء منها ثروة تكفي ساكنيها وتسد احتياجاتهم، ولكن الذي يحدث هو أن بعض البشر يجور على البعض، ويبادئه بالعدوان، وإن الطغيان ومجاوزة الحد تشيع بين الناس فيظهر بذلك .. ( المتخمون) .. و(الجائعون).. !!

لقد شكل نقص الغذاء على مر العصور تحدياً للإنسان يدفعه إلى العمل والكدح وابتكار وسائل جديدة من أجل الإفادة من هذه الأقوات المقدرة التي بثها الخالق جل وعلا، وكانت النتيجة من نصيب الإنسان وهذا هو الحال اليوم أيضاً .. فسكان الأرض قد بدؤوا بمواجهة تحد جديد، والمقدر أن ينجح الإنسان المعاصر في هذا الامتحان كما نجح فيه سابقه، ولنستمع إلى شهادة عالم كبير هو ( نورمان بورلو) الذي نال جائزة نوبل لجهوده في دراسة مسألة نقص الغذاء العالمي ... لقد أعلن هذا العالم : ( إن العالم ينتج ما يكفي لإطعام شعوبه بشكل جيد، لكن المشكلة تكمن في التوزيع العادل للإنتاج الغذائي .. ).

فالأمر ( إذن) يتعلق التوزيع .. ولعل مشهد المزارعين الأمريكيين والأوربيين وهم يقذفون بأطنان الزبد إلى البحر – للمحافظة على أسعارها – كما يفعلون في أكثر من موسم وفي أكثر منتج غذائي وزراعي، مقارنة بمشهد الطفل المنتفخ البطن من أمراض الجوع في إفريقيا، ما يلخص القضية كلها..

ونتأمل – من أجل المزيد من التأكيد بأن هناك اختلالاً مريعاً في التوزيع وفي التقنية – إلى رقم (الخمسين مليار دولار) الذي تنفقه الولايات المتحدة الأمريكية وحدها على أدوية إنقاص الوزن وتقنيات إذابة الشحوم وغيرها .. فهذه الخمسون ملياراً كافية لتوفير الجرارات والمخصبات لكل قارة إفريقيا الجائعة التي لا تنقصها الأرض .. ولذلك فمقولة الأرض التي تعجز عن إطعام سكانها خرافة ووهم كبير، فالأرض لم تبخل، ولن تبخل، على سكانها بالغذاء الوفير.

عرض البحث مفصلاً:

وهذا البحث إطلالة على ( أصول الأمن الغذائي في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة)، لنتعرف على الهدى الإسلامي في أصول الأمن الغذائي، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي تعرض لاقتصاديات الأمن الغذائي من خلال لفت الأنظار إلى أهمية إعمار الأرض وفلاحتها والاستفادة منها، مع ملاحظة أن هذه الثروات الطبيعية يشترك فيها جميع البشر، وفقاً لتعاليم السنة النبوية المشرفة، وعملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ) .. قال أبو سعيد الخدري – راوي الحديث – أن النبي عدد أصنافاً وأشياءً حتى رأينا أنه ليس لأحد الحق في أي فضل .... (رواه البخاري).

وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الناس شركاء في ثلاثة الماء والعشب والنار).

ولقد أولى الإسلام عناية خاصة بالزراعة وأهميتها، فهي أساس الأمن الغذائي، وهذا الاهتمام المستمر هو أول الأمور في تحقيق الأمن الغذائي للعالم الإسلامي، لو استاد العالم الإسلامي من المنهج الإسلامي الصحيح.

ولقد قسمت البحث على قسمين أساسيين مع مقدمة وخاتمة ..

أما الفصل الأول : فقد تحدثت فيه عن بعض المفاهيم والمصطلحات والأفكار – حول الأمن الغذائي، وخاصة فيما يتعلق بالعالم الإسلامي والعالم العربي، مع بعض الإحصاءات لتقريب الصورة.

وأما الفصل الثاني فقد خصصته للحديث حول أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة، وكيف أن القرآن الكريم هو الذي يوجه الأنظار إلى أهمية تحقيق الأمن الغذائي، مع المحافظة على هذا الأمن، مع ملاحظة أن دول العالم الإسلامي الآن في ذيل القامة بالنسبة لإنتاج وتصدير واستيراد الغذاء، وكيف يتحقق للعالم الإسلامي الوصول بالفعل إلى تحقيق هذا الأمن الغذائي.

فقد أدى سوء توزيع الموارد الطبيعية والطاقات البشرية في العالم الإسلامي إلى تفاوت الدخول وإلى حدوث اختلالات كبيرة في مستويات المعيشة بين أبناء الوطن الواحد، إضافة إلى عدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من التناسب والتوازن، وفي توزيع السكان، والموارد والاعتماد على سلعة واحدة، وندرة رأس المال، وانخفاض مستوى المعرفة والتقنية، وعدم الاستفادة من الأساليب المتقدمة في الإنتاج، وارتفاع نسبة الأمية، وعدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك ... إضافة إلى عدم التنسيق بين الدول الإسلامية في غيبة استراتيجية واضحة المعالم ترسم الطريق وتحدد الأولويات ... كل هذه الأمور والمعوقات تنذر بوقوع خطر محدق يجب أن ننتبه إليه قبل أن تتفاقم الكارثة، ويصعب الأمر، ويصعب السيطرة عليه، ويصاحبه انهيار في البنية الأساسية لهذه المجتمعات ... وذلك في إطار برنامج عمل يحقق التكامل والتوازن، ويتجاوز الخلافات والتناقضات السياسية والأيديولوجية في عالم يقوم نظامه على التكتلات الاقتصادية الكبيرة ..

فهل يأتي اليوم الذي تنتصر فيه العاطفة الدينية الإسلامية على السياسة وما فيها، ونرى العالم الإسلامي وقد أصبح تكتلاً اقتصادياً وكياناً واحداً، أن ذلك ليس على الله ببعيد ..

وبعد .. فأرجو أن أكون قد وفقت في عرض ما أردت .. وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع به .. والله ولي التوفيق ..

الفصل الأول

مفاهيم ... وأفكار

تمهيد

إذا كانت الاحتياجات الأساسية للإنسان على وجه الأرض تمثل في الغذاء والكساء والمأوى والدواء .. فإن الغذاء يمثل أولويات تلك الاحتياجات، وبه يحيا الإنسان وينمو، وبدونه يفنى .. لهذا كان إنتاج وحفظ الغذاء من أول ما عرفه الإنسان من صناعات، وكان توفير الغذاء بحدوده الدنيا أو العليا، وعلى مدار العام لتلبية احتياجات معينة ومحددة لمجموعة بشرية محددة ومعينة، من أولى واجبات القائمين على تلك المجموعة، اقتصادياً وحياتياً ..

فلقد عرف الإنسان ما للطبيعة وعطائها الزراعي ( شقيه النباتي والحيواني) من مواسم وفيرة وأخرى شحيحة.كما تعامل مع نتائج الكوارث الزراعة التي لحقت بالمجتمعات.

ومنذ فجر التاريخ الإنساني كله، ما كان منها فعل الطبيعة أو فعل الإنسان، وسعى للتحسب لها وإعداد العدة لمواجهتها، ومع التطور الحضاري الإنساني أصبحت قضية توفير الغذاء للمواطنين، وعلى مدار العام، وبأسعار معقولة، وكميات مناسبة، من الأمور التي تحظى بعناية ورعاية وإشراف الحكومات، بغض النظر عن نهجها الاقتصادي والسياسي .. إذ أصبحت مؤشر العلاقة بين الحكومات ومواطنيها .. [ وهكذا ستكون مستقبلاً].

وعالمنا اليوم.الذي شهد بداية عصر اللامتناهيات الثلاثة .. عصر العلم والتقنية .. عالم الستة مليارات نسمة .. ويزيد ..

إن سبب الفقر في العالم هو سوء توزيع الثروة في المجتمع

- عالم دول الشمال، الذي يضم ربع البشرية حيث معدل دخل الفرد فيه يعادل خمسة وثلاثين ضعفاً منه لدخل الفرد في دول الجنوب .. وعالم دول الجنوب، حيث المعاناة بكل أبعادها، وبخاصة في توفير الغذاء للمواطنين الكم والنوع المطلوب(3).

إن عالمنا له خصائص مميزة، من النواحي الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والحضارية، لها من الإيجابيات قدر ما لها من السلبيات، ففي حين وفر العلم والتكنولوجيا للإنسانية وسائل وأدوات ومعارف أدت إلى زيادة الإنتاج وتحسين الإنتاجية للمنتجات الزراعية الغذائية (بشقيها الحيواني والنباتي)، فإن دخول العالم إلى عصر العلم والتكنولوجيا ونتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، قلبتمعايير كثيرة .. فلم تعد مناطق العالم النامية مناطق تعتمد عليها الدول الكبيرة في توفير ما تحتاجه لتعيش وتزدهر، وبخاصة من النواحي الغذائية، فالحرب – مثلاً – معناها قطع خطوط الاتصالات البحرية والبرية وحتى الجوية أحياناً، معناها – أيضاً – أن على الدول الكبيرة أن توفر لنفسها الإنتاج من مواردها الطبيعية كأساس لا غنى عنه .. ثم إيجاد حلفاء اقتصاديين تتكامل معهم في سد النقص الذي تعانيه .. ثم إيجاد خزين غذائي لها يقيها شر الويلات الطبيعية أو الويلات الإنسانية.

وهكذا .. أصبح إنتاج الغذاء عالمياً يتسم بسمات عصرنا الراهن، التوسع في استخدام مرافق ومنجزات العلم والتكنولوجيا، والتوسع في الإنتاج الكبير، وتحسين الإنتاجية والمشاريع العملاقة والشركات عابرة القارات .. ثم الاحتكار واستخدام الغذاء كأحد الأسلحة التي تملكها قوى الاحتكار العالمية.

وحين قسمت دول العام إلى دول الشمال – ذات الوفرة الإنتاجية .. ودول الجنوب – ذات الشح والحاجة .. أصبحت سلع غذائية – كالحبوب الخشنة واللحوم والبيض والألبان والزيوت النباتية – سلع دول الشمال غزيرة الإنتاج الفائض عن الاحتياجات في مجتمعاتها ذات القدرات الخارقة على دعم الأسعار وتحديدها وتصدير ما يزيد منها .. وأصبحت دول الجنوب دول الحاجة على الواردات المتزايدة.

وكان سعي دول الجنوب إلى تغيير المعادلة [ وهو ما يعرف بالنظام الاقتصادي الراهن ] أو إيجاد معادلة تضمن حقها وحقوق الآخرين، فعبأت قدراتها الممكنة، وعملت على زيادة إنتاجها الغذائي، كما عملت على إيجاد خزين من ذلك الغذاء ليقيها شر التقلبات دائمة التوقع ..

والأقطار العربية – بكاملها – والكثير من دول العالم الإسلامي – إنما تمثل جزءاً من دول الجنوب، وهي تعتبر من أكثر مناطق الدنيا احتياجاً لاستيراد العديدمن احتياجاتها الغذائية لمواطنيها من الخارج. 

هذه الأقطار تعيش حالة غذائية خطيرة، فلقد تخطت ( مرحلة العجز الغذائي) لتصل إلى ( مرحلة الانكشاف) وهذا الانكشاف الغذائي له أسباب عديدة، وهو لا يشمل سلعة معينة، بل يشمل سلعاً عديدة أولها الحبوب – وخاصة القمح – مروراً باللحوم والألبان والزيوت النباتية والسكر وغيرها، ولكل من هذه السلع سماتها الاقتصادية والفنية العالمية، وكلها تعتبر من السلع الاستراتيجية، لكن أهمها بالنسبة للوطن العربي هي : الحبوب، وخاصة القمح (4).

ونحن نتناول موضوع الأمن الغذائي ومستقبله في الوطن العربي والعالم الإسلامي الكبير بالدراسة والتحليل، فإننا نؤكد أن عدم العناية بهذا الموضوع سيؤدي إلى كوارث اقتصادية كثيرة !!

مفهوم الأمن الغذائي

على الرغم من أن مشكلة الغذاء مشكلة اقتصادية في المقام الأول، لأنها تعبر عن شكل من أشكال العلاقة بين العرض والطلب، أو بن الإنتاج والاستهلاك، إلا أن لها أبعاداً متعددة، يهمنا منها هنا ( البعد الأمني) .. ونظراً لما لهذا البعد الأمني من أهمية كبيرة فقد شاع مصطلح ( الأمن الغذائي) بسبب الارتباط الوثيق بين كل من الغذاء والأمن، فالغذاء – كما سبقت الإشارة – هو أحد حاجات الإنسان الضرورية التي تتمثل في المأكل والملبس والمسكن، إلا أن الغذاء يعتبر أهمها .. فالإنسان لا يستطيع الاستغناء عنه أو الصبر على الجوع، لقد عاش الإنسان الأول عارياً دون ملبس ودون مأوى، ولا تزال أقوام كثيرة تعيش اليوم في مجاهل إفريقيا تسير عارية أو شبه عارية، لكنها رغم ذلك لا تستطيع الحياة بلا طعام.

الطعام إذن هو أول مقومات الحياة، فإذا لم توفر بشكل يستطيع الناس الحصول عليه هاج الشعب وثار .. مما يؤدي إلى قيام الاضطرابات والفوضى واختلال أمور الأمن في البلاد، ولذلك فإن توفير الطعام للسواد الأعظم من الشعب، بأسعار تناسب دخولهم – يساعد على استتباب الأمن في المجتمع.

ومن ناحية أخرى، فإن الدولة التي لا تستطيع تأمين الطعام لشعبها من مصادر محلية تصبح عاجزة أمام الضغوط والتحديات التي تواجهها، مما يعرض أمنها للخطر وحريتها للاستباحة واستغلالها للانتقاص.

ولقد عرف الإنسان منذ فجر التاريخ مفهوم الأمن الغذائي بصورته الأولية، كما تعلم الإنسان من الممارسة أن للزراعة ( بشقيها النباتيوالحيواني) مواسم وفرة عطائية ومواسم شح. وكان لزاماً عليه – بالتالي – أن يحفظ بعض الأغذية من مواسم الوفرة ليستعين بها في غذائه في مواسم الندرة .. وهكذا تعامل الإنسان مع خزن الحبوب، وتجفيف اللحوم، وغيره، ومع نشوء الدول سعت كل منها إلى تأمين حاجة مواطنيها من السلع الغذائية، وعلى مدار العام، بنفس الخصائص والمواصفات .. فالأمن الغذائي لبلد ما أو منطقة جغرافية معينة هو الحال الذي يكون فيه وضع المواطنين الغذائي – في ذلك البلد أو تلك المنطقة – غير معرض لحدوث أزمات غذائية تحت أي ظرف كان أو في أي زمن.

وإذا كان توفير الغذاء يمثل الجانب الأمني، بل الجانب الرئيسي للأمن الغذائي، فإن الجانبالآخر هو توفير إمكانية الاتصال وإيصال ذلك الغذائي، إلى حيث تكون الحاجة إليه، وعلى ذلك، فإن المقاييس التي تحدد الأمن الغذائي لبلد ما أو لمنطقة جغرافية معينة .. هي :

-       نسبة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الاستراتيجية ( ذات النمط الغذائي الاستهلاكي السائد).

-       نسب قيمة الإنتاج الزراعي المصدر إلى الإنتاج الزراعي المستورد.

-       نسب قيمة المستوردات الزراعية الإجمالية لإجمالي الاستيراد.

-       نسب قيمة الإنفاق على الغذاء من إجمالي الدخل القومي.

-       التقلبات السنوية في الإنتاج الزراعي إلى إجمالي الناتج المحلي.

-       متوسط حصة الفرد من قيمة الإنتاج الزراعي.

-       نسبة صافي الواردات الزراعية إلى إجمالي الناتج المحلي.

-       نسبة المخزونات الغذائية – وبخاصة القمح – إلى مقدر الاستهلاك السنوي(5) . 

فالأمن الغذائي إذن، هو تحفيز قدرات وفعل منسق وعمل هادف لحل معضلات محددة، فرضها واقع زراعي ( صناعي – اجتماعي – اقتصادي) في بلد ما، أو في منطقة جغرافية معينة، وبالإمكان تحديد مفهوم الأمن الغذائي ليشمل ضمان توفير بعض السلع الغذائية في الأسواق المحلية على مدار العام، وبأسعار مناسبة، وذات قيمة غذائية تكفل للإنسان بقاءه حياً وتمكنه من أداء مهامه الاقتصادية بصورة صحيحة مناسبة.

مما سبق يمكن تعريف (الأمن الغذائي) .. بأنه قدرة مجتمع ما على توفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء للمواطنين .. وضمان حد أدنى من تلك الاحتياجات بانتظام، عبر إنتاج السلع الغذائية محلياً، وتوفير حصيلة كافية من عائدات الصادرات لاستخدامها في استيراد ما يلزم لسد النقص في الإنتاج الغذائي الذاتي، بدون أي تعقيدات أو ضغوطات من أي مصدر كان.

والأمن الغذائي اصطلاح طرحته المنظمات والهيئات الدولية وتبنتهالحكومات ليأتي مترافقاً مع مصطلحات أخرى، كالأمن الوطني، والأمن الاستراتيجي، والأمن الاجتماعي، وغيرها من المصطلحات التي أريد طرحها التنبيه إلى ضرورة مواجهة أخطار تهدد المجتمع من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من آثارها وإزالة جميع الأضرار الناجمة عنها، كما أن المقصود بالأمن الغذائي قد يكون توفير الغذاء اللازم للمجتمع من مصادره المحلية والخارجية، وضمان توزيع الغذاء وجعله في متناول أعضاء المجتمع(6).

وقد تفاوتت النظرة إلى المجال الحيوي الذي يجب فيه توفير الأمن الغذائي، ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن الأمن الغذائي يجب توفيره على المستوى العالمي .. أي أن يكون الغذاء المنتج في العالم يكفي لسد احتياجات سكان العالم، نجد أن البعض الآخر يعتقد أن الأمن الغذائي يجب توفيره على المستوى العالمي ..نجد أن البعض الآخر يعتقد أن تحقيق الأمن الغذائي يجب أن يكون على المستوى الإقليمي .. أي أن يستطيع الإقليم إنتاج ما يكفي لحاجة سكانه من الغذاء، كما نجد أن البعض يغالي حتى الاعتقاد بأن تحقيق الأمن الغذائي يجب أن كون على مستوى كل دولة على حدة، وبحيث تستطيع كل دولة أن تضع خططها وبرامجها لإنتاج حاجتها من السلع الغذائية الاستراتيجية، منعاً من التأثير عليها أو التحكم في أي مصدر من مصادر الغذاء (7).

المخزون الاستراتيجي

يرتبط مفهوم المخزون الاستراتيجي بمفهوم الأمن الغذائي وهو أمر متعارف عليه دولياً .. وهو عبارة عن سلع غذائية وهو عبارة عن سلع غذائية غير محددة تعتبر ذات ضرورة ماسة في حياة المواطنين – وذات نمط غذائي سائد – يتم الاحتفاظ بكميات منها تحت إشراف مباشر من قبل الحكومات، وتكون الزيادة عن احتياجات الأسواق الآنية الطبيعية. وتستخدم في حالات معينة مثل : ( الكوارث الطبيعية – الحروب – الارتفاع المفاجئ غير الطبيعي في الأسعار – تغير الطلب والعرض العالمي على تلك السلع في حالة عدم إنتاجها محلياً).

ويتم تداول هذا المخزون دورياً بحيث تؤخذ منه كميات تعوض عنها بكميات مماثلة، هدف أن لا تفقد المادة الغذائية صفاتها الغذائية .. ويتحدد كم ونوعية هذا المخزون بظروف كل دولة وقدراتها الاقتصادية والفنية(8).

الفجوة الغذائية :

الفجوة الغذائية هي مقدار الفرق بين ما تنتجه الدولة ذاتياً وما تحتاجه إلى الاستهلاك من الغذاء – كما يعبر عنها أيضاً بالعجز في الإنتاج المحلي عن تغطية حاجات الاستهلاك عن السلع الغذائية، والذي يتم تأمينه بالاستيراد من الخارج(9).

والفجوة الغذائية – بهذا التعريف – تشمل الوضع الغذائي الراهن، وفق عادات الاستهلاك في الدولة، وبالمعدلات التي يتناولها الفرد من مختلف أنواع الأغذية، وهي بذلك لا تتطرق إلى تحديد الكميات الواجب تناولها من الغذاء، ولا إلى تحسين نوعية الغذاء المستخدم، سواء من حيث السعرات التي يحصل عليها الفرد أو مكوناته من البروتين النباتي والحيواني، وإنما يؤخذ بعين الاعتبار تطور الطلب الطبيعي على الغذاء ( نتيجة لعوامل الداخلية في الدولة) والتغير الذي يمكن يحصل على عادات الاستهلاك ( نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تسود الدولة).

وتتمثل خطورة الفجوة الغذائية التي تواجه البلدان العربية والإسلامية في ثلاثة عوامل رئيسية :

-   العامل الأول : هو استحالة تأمين البلدان العربية لما تحتاجه من مواد غذائية من مواردها المحلية، في ظل الظروف والمعطيات الحالية.

-   العامل الثاني : يكمن في توافر ما تحتاجه الأقطار العربية من غذاء تحت سيطرة بلدان قليلة في العالم، والتي قد تلجأ إلى استخدام الغذاء كسلاح اقتصادي أو سياسي.

الشكل يبين الهرم الغذائي

-   العامل الثالث : هو ما تشهده أسعار المواد الغذائية من تقلبات كبيرة في الأسواق العالمية، وخاصة ما حدث بعد بداية القرن الحادي والعشرين بقليل، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً جنونياً مما أثر على المخزون الاستراتيجي لكثير من بلدان العالم الإسلامي والعربي، وما زالت الأسعار حتى الآن لم تصل إلى حد الاستقرار فهي في تغير مستمر، بل في ارتفاع مستمر، وهو ما يمثل التحدي الأكبر لبلدان العالم الثالث، فهي مطالبة بإيجاد التمويل اللازم لشراء المواد الغذائية وتأمينها مع تأمين المخزون الاستراتيجي داخل الدولة في نفس الوقت.

وإذا أخذنا العامل الأول – نجد أن البلاد العربية – مثلاً – لو أرادت أن تنتج المواد الغذائية الأساسية من مواردها المتاحة، ووفق المعطيات الحالية من انخفاض مستويات الإنتاجية وضعف استعمال تقنيات التكنولوجيا الحديث في الإنتاج الزراعي وضعف الحوافز والسياسات الزراعية التي تشجع الإنتاج، فإن إنتاج ما تستهلكه الأقطار العربية من الحبوب فقط يحتاج إلى 44.8 مليون هكتار.وهذه مساحة تزيد بنسبة 15 % عن مجمل المساحة المزروعة سنوياً في جميع البلدان العربية، حيث بلغ مجمل مساحات الأراضي المزروعة بجميع المحاصيل رياً ومطرياً في جميع الأقطار العربية ما مساحته 38 مليون هكتار سنوياً(10).

وإذا انتقلنا إلى العامل الثاني ... نجد أنه نظراً للعجز الكبير الذي يعانيه الوطن العرب من الحبوب الغذائية، فإن المعونات الخارجية لكثير من الأقطار العربية من البلدان المتقدمة ( بخاصة أمريكا، ذات الفائض الغذائي الزراعي) تأتي على كل مساعدات غذائية تعتبر الحبوب في مقدمتها، وقد أخذت هذه الزيادة في الاستمرار، ففي عام 1974 بلغ وزن هذه المعونات نحو 1.1 مليون طن متري، وصلت في عام 1987 إلى 3.4 مليون طن متري وفي ذلك العام 1987 حصلت مصر وحدها على نحو 13 % من مجموعات تلك المعونات، وقد كان من نتيجة ذلك زيادة واردات الوطن العربي الغذائية من الأقطار الخارجية، مما أدى إلى انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي للبلدان العربية من الغذاء حتى وصلت في مجملها عام 1987 إلى نحو 60 % فقط، وهذا الوضع يحمل الكثير من المخاطر للأقطار العربية، فزيادة اعتماد البلاد العربية على المعونات الأجنبية، أو على تحقيق الاكتفاء من العالم الخارجي يؤدي إلى وقوع الوطن العربي تحت النفوذ والضغوط الأجنبية .. فعن طريق رغيف الخبز تستطيع هذه الدول ممارسة الضغط أكثر من استعمالها لـ أي وسيلة أخرى.

أما بالنسبة للعامل الثالث : فإننا نجد أن التاريخ الحديث لأسعار الغذاء العالمية قد شهد تذبذباً كبيراً، ففي منتصف السبعينيات من القرن العشرين وصل ثمن الطن من القمح إلى حوالي 250 دولاراً، بعد أن كان 70 دولاراً في نهاية الستينات من نفس القرن، ثم واصل الارتفاع في عقد الثمانيات، ثم استقر نوعاً ما في التسعينيات، ثم ارتفع كثيراً في الألفية الثالثة ( القرن الحادي والعشرين الحالي) حتى وصل سعر الطن من القمح في الأسواق العالمية إلى 300 دولار في عام 2003.مع الارتفاع المستمر في سعر الدولار نفسه – مما يدل على أن أسعار المنتجات الغذائية في الأسواق العالمية لا توحي بالأمن والاطمئنان.

ومن ثم، فقد اضطرت معظم الدول إلى استيراد المواد الغذائية التي تنقصها من الخارج بالأسعار الجارية، وفي نفس الوقت طرح هذه المواد في السوق الداخلي المحلي بأسعار تتناسب وذوي الدخل المحدود من السكان، وفي معظم الأحيان كانت تلك الأسعار منافسة للمنتج المحلي، مما اضطر معظم المنتجين إلى الابتعاد عن إنتاج السلع التي تستوردها الدولة وتطرحها بأسعار لا يستطيع معها المنتج المحلي منافسة تلك الواردات، وكان على رأس هذه السلع المستوردة : معظم المنتجات الغذائية الأساسية وإعادة تقديمها للمستهلك بأسعار تتناسب ودخله(11).

جوانب الأزمة الغذائية :

للتعرف على العوامل التي أدت بالأقطار العربية إلى حدوث الأزمة الغذائية التي تعاني منها الآن نستطيع التمييز بين جانبين رئيسيين لهذه الأزمة، ومن ثم التمييز بين مجموعتين رئيسيتين من العوامل : الجانب الأول هو جانب الاستهلاك والجاني الثاني هو جانب الإنتاج.

1.الجانب الأول : الاستهلاك العربي من الغذاء :

لدراسة مدى العجز، أو الإسراف، في الاستهلاك العربي من الغذاء فإن حجم هذا الاستهلاك يعتبر محصلة لكل من عدد السكان ومتوسط استهلاك الفرد.. وهنا نجد أن العالم العربي يتصف بارتفاع معدل نمو سكانه .. حيث يصل هذا المعدل في المتوسط للأقطار العربية إلى حوالي 2.9% سنوياً، ومن المؤكد أن هذه الزيادات السكانية الكبيرة تؤدي بالتالي إلى زيادة حجم الاستهلاك الكلي للأقطار العربية من الغذاء، مما يساهم بالتالي في الأزمة الغذائية، ولكننا لا يمكننا المطالبة بالحد من الزيادة السكانية بصفة عامة بين أقطار الوطن العربي، فهناك أقطار عربية تعاني من [ قلةالسكان ].

وإذا كان المستوى الغذائي يقاس بمقدار ما يخص الفرد من سعرات حرارية في اليوم، فمن المعلوم أن كمية السعرات الحرارية التي يحتاجها جسم الإنسان تتفاوت بحسب المناطق التي يعيش فيها وبحسب الفصول المختلفة وسن الإنسان ونوعه ونوع العمل الذي يزاوله .. إلى غير ذلك من الأمور.وبناء عليه، لا يمكن تحديد عدد السعرات التي يوصى بها لكل فرد بشكل مطلق، إلا أنه يمكن وضع مستويات التغذية عالمياً.

وباستعراض نصيب الفرد من السعرات في الأقطار العربية، نجد أنه يمكننا تقسيم الأقطار العربية – بحسب السعرات الحرارية التي يحصل عليها من كل السكان في المتوسط – إلى ثلاثة مستويات.

·   الأول : وهو الذي يفوق المعدل العالمي، ويشمل الأقطار : الإمارات – الكويت – السعودية – سوريا – مصر – ليبيا

    ·    الثاني : وهو يسير حسب المستوى العالمي ويشمل أقطار : المغرب – الجزائر – تونس – العراق – الأردن.

·    الثالث : المستوى المنخفض عن المستوى العالمي، ويشمل الأقطار : السودان – الصومال – موريتانيا – اليمن (12).

وقد تم تقسيم الأقطار العربية على النحو السابق باعتبار أن المعدل العالمي للمستوى الغذائي هو 2665 سعراً حرارياً .. مع ملاحظة أن هذا هو المتوسط العالمي، في حين أن نصيب الفرد من السعرات الحرارية في أمريكا الشمالية يبلغ نحو 3652، وفي أوربا الغربية 3424 ( وفي الاتحاد السوفييتي سابقاً كان 3426).

2. الجانب الثاني : الإنتاج العربي من الغذاء :

يعود انخفاض مستوى الإنتاج من الغذاء في الأقطار العربية إلى عاملين رئيسيين :

الأول : ضيق الرقعة الزراعة المنزرعة.

الثاني : انخفاض مستوى الإنتاجية للموارد الزراعية.

وعلى حين تقدر المساحة الزراعية في الوطن العربي بحوالي 60.3 مليون هكتار، فإن المساحة المستغلة بالفعل لا تتعدى 38 مليون هكتار سنوياً .. كما تبلغ المساحة التي تحتلها المحاصيل الدائمة نحو 8.2% فقط من جملة الأراضي الزراعية.

مما يعني أن حوالي 91.8% من الأراضي الزراعة العربية لا تستغل بشكل منتظم، وإنما تترك في كثير من فصول السنة بوراً، بدون زراعة ..

كما أن الدارس لمستويات الإنتاجية للموارد الزراعية في البلدان العربية يخرج باستنتاجين رئيسيين.

أولهما : وجود تفاوت كبير بين مستويات الإنتاجية لمحصول ما، إما داخل البلد الواحد بين المناطق المختلفة، وإما بين الأقطار العربية وبعضها البعض.

وثانيهما : أن مستوى إنتاجية الموارد الزراعية العربية – بصورة عامة – يبدو دون مستوى الحدود الممكنة.

وتعتبر المستويات الإنتاجية حصيلة الموجودات المحلية والقومية من سياسات زراعية وجهود علمية وإدارات الموارد ومدى توافر الحوافز – إلى آخر قائمة كل الأعمال التي تتعلق بالإنتاج .. إن جانب الإنتاج يعد المسؤول الأول عن الأزمة الغذائية التي تعاني منها الأقطار العربية، فالإنتاج العربي من الغذاء منخفض للغاية، ولا يتناسب مع حجم الموارد الطبيعية والبشرية المتاحة للأقطار العربية، كما لا يتناسب مع الزيادات الكبيرة والمستمرة للسكان.

عود على بدء :

إن أية قراءة عاجلة للصورة السياسية العالمية في الظروف الراهنة، وخاصة بعد التدخل الأمريكي الفعلي في أفغانستان والعراق والتهديد المستمر لدول عربية وإسلامية عديدة .. تظهر أهمية وجود ما يسمى بالأمن الغذائي .. إن الدول المتقدمة التي تتحكم في إنتاج الغذاء وتصديره، وتتحكم بالتالي في أسعاره، تتعمد في أغلب الأحيان تحطيم اقتصاديات الدول النامية وأنماط إنتاجها الزراعي وأنواعه وفئاته، وتتلاعب بالعلوم وبرامج المساعدة والتنمية والإصلاح وغير ذلك، لكي تفرض سلعتها هي ومواردها الغذائية والزراعية هي .. وتدمير ما عداها .. لكي يسهل عليها تنفيذ أغراضها السياسية.

وتبرز القراءة السريعة للصراعات السياسية في عالمنا المعاصر دور السلاح الغذائي والحروب التجارية في هذه الصراعات، بدءاً من التحكم في تقديم المساعدات وأحجامها وأنواعها، وانتهاء بالحصار الاقتصادي أو حرب التجويع، مروراً بالأسعار والأنظمة الدولية لتجارة وإيفاد الخبراء والبعثات والنصائح وتقديم الخطط وبيع التكنولوجيا والمنح الدراسية، وغير ذلك كثير.

إن كل شيء في هذه المأساة يشير إلى مسؤولية النظام العالمي الجديد في استمرارها وتفاقمها، سواء كانت هذه المسؤولية أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية .. من هنا ولدت فكرة الأمن الغذائي .. وشاع استخدامها في العالم خلال العقود الأخيرة وتحولت إلى عنصر رئيسي في برامج واستراتيجيات الدول والأحزاب والثورات والمفكرين ... وللأسف، فإن صورة الأمن الغذائي في الوطن العربي مخيفة وقائمة، فالوطن العربي بل – والعالم الإسلامي – هو أكبر مستورد للحبوب في العالم مما يجعله – بلا أدنى شك – تحت رحمة الدول المصدرة لهذه الحبوب.

وفي حين تمتع الوطن العربي بمساحة غير محدودة من الأراضي الزراعية والمياه والتنوع البيئي والمناخي والتكامل البشري والثروات الطبيعية الكبيرة، فإن النظم العربية تستمر في إغفالها لبعد القومي في التنمية والأمن الغذائي .. في الوقت الذي يزداد فيه خضوع العرب – عموماً – لضغوط الدول المصدرة للغذاء، لفرض إرادتها على قضايا العالم العربي ... وحتى سلاح النفط نفسه لم يستفد منه العرب، بل إن عائدات النفط المستمرة لم تقدم لعالم العربي شيئاً يذكر في مجال الأمن الغذائي (13).

ومن الطبيعي أن كل دولة تسعى لتحقيق اكتفاء ذاتي غذائي، أي : الوصول إلى وضعية معينة تقوم على إنتاج كل ما يحتاجه مواطنيها من طعام وغذاء، وإذا لم يكن ذلك ممكناً نظراً لصعوبة إنتاج كل دولة لجميع العناصر والموارد والسلع الغذائية .. ونظراً إلى أن العالم قائم على التبادل فيكفي أن تصل الدولة إلى وضعية تقوم على التعادل بن قيمة ما تصدره وقيمة ما تستورده من سلع غذائية بحيث لا تشكل قيمة ما تستورده عبئاً على قطاعات الاقتصاد الأخرى.

وعندما تعجز الدولة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي فهي لا بد أن تقع في أزمة توفير الغذاء من الخارج وتوفير الأموال اللازمة له .. فالأزمة الغذائية تعني عدم قدرة دولة ما على توفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء للمواطنين، وضمان الحد المطلوب منها بانتظام وتوزيعها على المواطنين .. ومن المفترض لكي يتحقق الاكتفاء الغذائي ( أو الأمن الغذائي) أن يتناسب الإنتاج مع عدد السكان وتزايدهم من ناحية، ومع الطلب على الغذاء من ناحية أخرى ..

هل توقفتالأرض عن العطاء .. ؟

إن إمكانات كوكب الأرض غير محدودة – ولا تضن الأرض على ساكنيها .. ولكن لقد أجرى علماء مخلصون للجنس البشر والحياة أبحاثاً كثيرة وهامة حول قدرة الأرضعلى تلبية حاجات الناس الغذائية، في ضوء المعدلات المستمرة للتزايد السكاني، وكانت النتائج مبهرة .. شيء لا يتصوره عقل .. وفيما يلي بعض نتائجها ..

   -   تبلغ مساحة الأراضي اليابسة في العالم 13.2 بليون هكتار، نصفها غير قابل لزراعية وأكثر من ربعها (25.7%) مراع .. وأقل من ربعها الباقي (24.3 %) أراضي قابلة للزراعة، غير أن مساحة الأراضي المزروعة فعلاً أقل من نصف الأراضي القابلة لزراعة (43.5%)، وما زال القسم الأكبر ينتظر المبادرة الإنسانية لاستزراعه واستغلاله .. وعلى سبيل المثال، فإفريقيا التي تعاني من المجاعات المستمرة لم تستغل من أراضيها سوى 16%، وما تزال 84% من الأراضي تمثل احتياطياً هائلاً لإفريقيا والعالم (14).

-   يحتاج سكان العالم إلى نحو 200 مليون طن من البروتين سنوياً – حسب تقديرات العلماء – وفي حين يبلغ العجز العالمي 22 مليون طن سنوياً، فإن العلماء يؤكدون أن في العالم ما يفوق احتياجاته السنوية بكثير، وهو متوفر في الطبيعة على هيئة مراع أو مصادر إنتاج أخرى، ويشيرون إلى وجود كميات ضخمة من البروتين الصالح لغذاء الإنسان، ولكن الدول التي تملكه تستخدمه في تغذية الماشية والحيوانات الأليفة وترفض طرحه في الأسواق من أجل البشر(15).

-   يرى العلماء أن كوكب الأرض يستطيع إطعام 47 بليون نسمة، بالمستويات الممتازة الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، و157 بليون نسمة، بمستويات التغذية في اليابان، ويرى علماء آخرون أن الأراضي الزراعية لو أحسن استغلالها لأطعمت عشرة أضعاف عدد السكان العالم حالياً (6 بليون نسمة)، وبمستوى استهلاكي مرتفع.

-   ذهب علماء آخرون إلى مدى أبعد من كل ما سبق، حين قدروا أن كوكب الأرض يستوعب ويطعم ما يكفي لعدد 132.000 بليون نسمة، وهو رقم كبير جداً أشبه بالخيال، ذلك أن الإنسان لم يكتشف ولم يستثمر من طاقة الكون والطبيعة اللذين يعيش في كنفهما سوى 1% حتى الآن، رغم ثورات العلوم وقفزاتها الكبرى في القرن العشرين(16).

إنها إذن مسألة عجز الإنسان ومسؤوليته، لا فقر الطبيعة وشحها، فالعلم يبرهن يومياً أن الكون لا محدود، وموارده لا نهائية، وأن الفكر والعقل والعلوم والجهد والخيال التي يحوزها الإنسان تمكنه من فتح آفاق وراء آفاق أمامه، لا لسد حاجياته وحسب، بل للارتقاء بها وتوسيعها وتطويرها.

وإنها أيضاً مسألة تتعلق بعدالة التوزيع على كوكب الأرض كله، ما بين دول الشمال ودول الجنوب، فليس هناك سبب لأن تظل دول الجنوب تعاني المرض والفقر والجهل والإهمال المتعمد، بل والإهدار المتعمد للموارد المتاحة ... بينما تظل دول الشمال تعاني من التخمة والامتلاء، وتسرف في الإنفاق على الأجهزة والأدوية الخاصة بإنقاص الوزن والتخسيس وخلافه .. إنه في النهاية اختلال المعادلات على كوكب الأرض ...

ومما سبق يتضح ما يلي :

إن العالم الإسلامي – (والوطن العربي أهم أجزائه) يمتد في مناطق واسعة، وفي مساحة 13.5 مليون كيلو متر مربع، وبذلك يتفوق الوطن العربي من حيث المساحة على قارة أوربا بكاملها، بل ومساحة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

وبفضل هذا الامتداد الواسع للوطن العربي تتنوع المظاهر التضاريسية وتتباين الأنماط المناخية وتتعدد الموارد الطبيعية، مما يشجع على قيام أنشطة بشرية متنوعة ومتكاملة .. ولكن على الرغم من هذه الإمكانات – التي يتمتع بها الوطن العربي – إلا أن التخلف لا يزال السمة البارزة المميزة له، فالإنسان العربي لم يستثمر الموارد الطبيعية بشكل يحقق الرفاهة لمجتمعه حتى الآن .. بل إن الخلافات العربية المستمرة تسهم في تعطيل كل محاولات التعاون والتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية .. ؟!

ونتيجة للأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية لأقطار الوطن العربي، فقد برزت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مشاكل كثيرة أصبحت تهدد الأمة العربية في حياتها وبقائها .. وبعيداً عن السياسة ومشاكلها، فإن الأمن الغذائي يعتبر أخطر مشكلة يعاني منها الوطن العربي ..

ومن الناحية الاقتصادية يمكن القول بأن المشكلة تكمن في زيادة الفجوة بين العرض والطلب .. فزيادة استهلاك الأقطار العربية للطعام يفوق نسبة زيادة الإنتاج داخل حدود الوطن العربي، وتقدر نسبة الزيادة في إنتاج الغذاء نحو 2%، بينما يزداد الطلب عليه بنحو 5% سنوياً مما يجعل الفجوة في حدود 3%، ونتيجة لنمو الفجوة الغذائية، فإن نصف حاجة الوطن العربي من الطعام أصبح يستورد من الخارج، مما جعل المنطقة العربية أكبر منطقة في العالم مستوردة للغذاء .. ؟

وكما سبقت الإشارة، فإن الحبوب الغذائية تتصدر قائمة المستوردات الغذائية للبلاد العربية، ويعتبر القمح أهم الحبوب الغذائية المستوردة، حيث تبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي منه في الوطن العربي، وفي عام 1984 نحو 34% فقط ل إن هذه النسبة في زيادة مستمرة بسبب الزيادة السكانية .. وعلى أية حال فقد أصبحت البلاد العربية اليوم مستوردة لكل أنواع السلع الغذائية ... !!

وعلى الرغم من أن مشكلة الغذاء اقتصادية في المقام الأول، إلا أن لها أبعاداً أخرى كثيرة، وبخاصة البعد الأمني والسياسي. ولذلك، فالمسألة ليست بهذه البساطة ولا يعبر عنها – كما يظن البعض – بالعجز الناجم عن تفوق الواردات على الصادرات، صحيح أن بعض الدول العربية تشكلعبء هذا العجز في إنتاج الغذاء مشكلة اقتصادية له، إلا أن البعض يستطيع دفع ثمن مستورداته من الغذاء دون مشقة .. لكن .. ليست هذه هي المشكلة، إنما المشكلة في المقام الأول هي مشكلة إنتاج غذاء من مصادر محلية، أكثر من كونها أزمة غذاء .. وجوهر هذه المشكلة يتلخص في أن الغذاء سلعة غير مرنة، لا يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها ولو إلى حين، ولهذا السبب، فإن نقص الغذاء وارتفاع أسعاره كفيل بتوليد الكثير من المشاكل الأمنية، كالفوضى والاضطرابات واختلال الأمن داخل البلاد ... !!

كما أن الاعتماد المتزايد على الخارج لتلبية حاجات الدولة من الغذاء يعد مسألة خطرة .. فكما رأينا في الصفحات السابقة – أن الغذاء كثيراً ما يستخدم كسلاح تضغط به دول الفائض الغذائي على الدول المستوردة، لتذعن لرغباتها وتنفذ مخططاتها ... ومما يؤكد هذا القول أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كلفت خبرائها بوضع تقرير بناءً على طلب من وزير الخارجية الأسبق ( هنري كيسنجر) عشية انعقاد المؤتمر العالمي حول التغذية في مدينة روما عام 1974م.

وقد جاء في التقرير ما يلي :

 ( إن نقص الحبوب في العالم من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة سلطة لم تكن تملكها من قبل، إنها سلطة تمكنها من ممارسة السيطرة الاقتصادية والسياسية تفوق تلك التي مارستها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية .. ).

وهل تغيرت النظرة الأمريكية ؟ .. بالتأكيد لا، بل قامت بتدعيم هذه النظرية عن طريق المعونات التي تقدمها للدول، لضمان تأييدها.

ومن أجل مواجهة هذا التحدي الخطير الذي يفرض الأمن الغذائي العربي.ينبغي وجود تعاون وتضافر الشعوب العربية والإسلامية فيما بينها، لوضع استراتيجية غذائية موحدة تضع في اعتبارها النقاط التالية :

1-     إنتاج الغذاء مسؤولية قومية.

2-     تنمية الموارد المائية وصيانتها واستغلالها مسؤولية عربية إسلامية.

3-     التعاون العربي في صناعة المستلزمات الزراعية.

4-     التعاون العربي في بناء البنية التحتية.

5-     الإصلاح الزراعي على المستوى العربي.

6-     استثمار جزء من الإيرادات النفطية في تنمية القطاع الزراعي ونجاحه فيما يتعلق بإنتاج الغذاء (17).

إذا كانت المشكلة بهذا الحجم من الأهمية .. فإن السؤال هو : لماذا لا يقوم تكتل عربي إسلامي للاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية والخبرات الموجودة في العالم العربي والإسلامي، حتى يمكن لهذا العالم أن يتخطى هذه العقبة الكنود (18).

والسؤال الأهم هو :

لماذا فرط المسلمون – والعرب – في تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المشرقة حتى وصل بهم الحال إلى هذه الدرجة من التأخر والتخلف في كافة المجالات حتى يظل العالم الإسلامي بالذات يصنف في الدول النامية والمتخلفة .. ؟!!!

الفصل الثاني

أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة النبوية

/1/ الزراعة وأهميتها :

في واد غير ذي زرع في الجزيرة العربية بدأ الإسلام على يد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه القرآن الكريم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وألهمه التشريع والحديث، وعلمه ما لم يكن يعلم .. وشرح الله صدور قوم مؤمنين، وانطلق المجتمع الإسلامي يعمر ويوفر الخير لكل الناس في كل المجالات، مسترشداً بنور كتاب الله تبارك وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومستظلاً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، فالقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة هما الأساس الفكري لكثير من العلوم الأساسية ثم لكثير من العلوم التطبيقية التي ترتبت عليها وتطورت منها نتيجة للدراسات المستفيضة، واكتشاف الكثير عن الحقائق العملية التي تذاع وتنشر.

 والأمر الذي يجب تأكيده هنا هو أن القضايا التي كثر الحديث فيها كفضل العلم والعلماء في الإسلام، وعدم تعارض الدين مع العلم، أصبحت معلومات وقضايا محسومة، والعلم بها أصبح ضرورة من الضرورات لكل من يعنيه هذا الشأن، ويكفي أن القرآن الكريم قد قرر أن أكثر الناس خشية لله هم العلماء، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر : 28].

ولا أدل على بطلان دعوى تعارض العلم مع الدين من أن الله سبحانه وتعالى هو المشرع والخالق، فهو الخالق لكل الكائنات، ومرسي الجبال، ومجري الأنهار والبحار والمحيطات، ورافع السماوات، وباسط الأرض.

وعلى العموم، فإن العقلانية في الإسلام أمر معترف به، اعترف به كل منصف، ومن المعلوم أيضاً أن الكنيسة ورجالها وآباءها السابقين الذين اخترعوا الدين من عند أنفسهم، هم الذين وقفوا في وجه العلم والعلماء، حتى كان الفصام المستمر بين العلم والكنيسة.

ومن المتفق عليه أن القرآن الكريم – كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – ملئ بالآيات التي تدعو إلى التفكير في ملكوت السماوات والأرض، وفيهكثير من العبر التي تتصل بالنبات والحيوان، يقول الحق تبارك وتعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } [النحل : 13]، ويقول عز من قائل : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية : 4]، ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } [الذاريات : 20-23] ... ليس هذا فقط، بل إن كتاب الله المعجز مليء بالآيات الكونية التي تلفت أنظار المؤمنين إلى ما في هذا الكون من آيات تنطق بالوحدانية وتدعو المتأمل إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.

الزراعة ونشأة الحضارة .. !

وفي حديثنا عن أصول الأمن الغذائي نجد أن الزراعة تعتبر أول اصل من هذه الأصول، فهي بحق تعتبر البداية الحقيقية لقيام الحضارات واستمراريتها ... والإنتاج الزراعي موسمي، فهذه الزراعة صيفية، تلك شتوية وهذه نيلية، وهكذا فمع أن الإنتاج موسمي، فإن الاستهلاك مستمر على مدار العام كله، لا فرق بين صيف وشتاء، وربيع وخريف، وهو ما يؤكد حتمية وجود ما يسمى بـ ( المخزون الاستراتيجي)، أو على الأقل المخزون الذي يكفي حتى يحين موعد موسم الحصاد التالي، ومن هنا كانت حتمية الاحتفاظ بالمنتجات سليمة لكي تفي بمتطلبات الاستهلاك ... ونتيجة حتمية أيضاً تنشأ وسائل التخزين وأنماطه وطرقه ودراساته، وغير ذلك كثير.

كذلك، فإن التخصص، والتمنطق، صفة من صفات الإنتاج الزراعي، فهذه الأرض الصفراء أو الطينية أو الخفيفة يجود فيها إنتاج الحبوب، وتلك يجود فيها إنتاج الفاكهة، وتلك يجود فيها إنتاج الألياف والسكريات ومحاصيل الزيوت .. وهذا الاختلاف يؤدي حتماً إلى ضرورة تكامل بين هذه المناطق، فهذه تصدر إلى تلك، وتلك تصدر إلى هذه، حتى تستمر الحياة، ومن هنا كان ( التبادل التجاري) حتمية اقتضتها خصائص الإنتاج الزراعي.

ولقد كانت التجارة بالمنتجات الزراعية عاملاً مهماً من عوامل انتشار الإسلام في منطقة آسيا، وبخاصة جنوب شرق آسيا، مثل : ماليزيا وإندونيسيا وغيرها.

وإذا كانت الزراعة أساس المنتجات، فإنها بل شك أساس التصنيع، وخاصة في الصناعات القائمة على المواد الخام الزراعية، غذائية كانت أم كسائية، بل لقد نشأت علوم التسويق والتعبئة والتغليف وغير ذلك، نتيجة لهذا التخصص والتمنطق (19).

أولا : الزراعة وفضلها وحث الإسلام عليها :

/1/ القرآن الكريم كثيراً ما يتحدث عن ضرورة الزراعة وأهميتها :

يقول الإمام القرطبي عند قول الله تبارك وتعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 261]، إن الآية دليل على أن اتخاذ الحرث من أعلى الحِرَف للمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولهذا ضرب الله بها المثل (20).

كما أن كثيراً من الآيات القرآنية تتحدث عن المحاصيل الزراعة وتنويعها، بما يعط إشارة قوية إلى ضرورة الاقتداء والمحاكاة، حتى لا يكون الإنتاج الزراعي أو التصديري معتمداً على محصول واحد بما يكتنفها من المخاطر الاقتصادية المعلومة، يقول الحق تبارك وتعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99]، ويقول الحق تبارك وتعالى : { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد : 4].

كما أن آيات القرآن الكريم فيها ما يربط الزراعة بغيرها، فهناك ما يربط الإنتاج الزراعي بالإنتاج الحيواني ويبين التلازم بينهما ..... يقول الحق تبارك وتعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } [السجدة : 27].

كما أن بعض آيات القرآن الكريم يربط مراحل الإنتاج الزراعي، من حرث الأرض واستصلاحها وسقيها بالماء ثم بعد ذلك الحصاد والتخزين ... وهذا كله واضح في قوله الحق تبارك وتعالى : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً } [عبس : 24- 28].وقول الحق تبارك وتعالى : { ...... فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ } [يوسف : 47].

/2/ أما السنة النبوية فيها من الحض على الزراعة والإعلاء من شأنها:

يقول عليه الصلاة والسلام : ( ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )(21).

فقد تميزت الزراعة دون سائر أوجه النشاط الإنساني، بل دون سائر أوجه النشاطات الاقتصادية الأخرى ( كالتجارة والصناعة)، بأنها أساس الاستقرار والحضارة والتنمية، وقد تمارس ابتغاء المثوبة من الله سبحانه وتعالى، وهذا ظاهر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يوضح أهمية هذا العمل ويتضح هذا بصورة رائعة حين نعلم أن مثوبة الزارع والفارس ممتدة إلى ما بعد الموت وصدقة جارية إلى يوم القيامة .. ففي رواية : ( فلا يغرس المسلم غرساً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة )(22).

ولقد اهتم الإسلام في تشريعاته كثيراً بأمر الزراعة، وخاصة في المناطق الخالية – كما سنوضحه فيما بعد ..

/3/ إن أفعال الصحابة كلها تدل على الاهتمام بالزراعة وتنميتها والمحافظة عليها

وليس أدل على ذلك مما جاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – في كتابه لواليه على مصر، قال له : ( وتفقد أمر الخراج ما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في جباية الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب الأرض) (23).

تقلص البقعة الزراعية وهدى الإسلام في زيادتها والمحافظة عليها ...

من المتفق عليه بأن مصر – مثلاً – تبلغ مساحتها مليون كيلو متر مربع، وأن المساحة التي يستفاد بها هي المنطقة في وادي النيل ودلتاه، وهي تبلغ 4.5% فقط من إجمالي المساحة، ولذلك – ومع الزيادة السكانية المستمرة، فإن مساحة الرقعة الزراعية تتقلص وتنكمش يوماً بعد يوم، ولهذا قامت خطط التنمية الشاملة على أساس زيادة مساحة الأراضي الزراعية من ناحية، ووقف الانفجار السكاني من ناحية أخرى ... وعلى الرغم من خطط التنمية المستمرة، فإن البلاد لم تصل إلى هذه النتيجة بعد، بل ما زالت التحذيرات المستمرة يومياً من الانفجار السكان وإهدار الموارد، وخاصة مياه النيل .. الخ، كانت الخطة الخمسية الأخيرة تهدف إلى زيادة الرقعة المستخدمة لتصل إلى 25 % من مساحة مصر الإجمالية، لكننا لم نصل إلى هذا الرقم بعد...

يأتي الإسلام – بما سن من تشريعات – ليعطي العالم كله البداية الحقيقية لحسن الاستفادة من الأرض، والعمل على الانتفاع الحقيقي من الموارد البشرية والطبيعية المتاحة، وذلك بإفساح الطريق أمام القادرين على العمل ليأخذوا مكانهم الصحيح وسط دولاب العمل، ليس عن طريق التوظيف ولكن عن طريق التمليك وشتان بين الاثنين.

(أ) إحياء الموات :

ويقصد به إحياء الأرض الموات ... وهو أن يعمد شخص إلى أرض لم يتقدم عليها ملك لأحد فيحييها بالسقي أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه ..

وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إحياء الأرض الموات إنما هو عودة للمبدأ القديم الذي بدأت به ملكية الأرض في الدنيا .. ففي بداية تعمير الأرض عند بدء الخليفة كان المبدأ الذي يجري به العمل أن كل أرض عمرها أحد الناس وأصلح شأنها وجعلها قابلة للانتفاع فهو أحق بها، وهذا المبدأ من عطايا الفطرة البشرية .. وقد عبر الفقهاء عن استغلال قشة الأرض عن طريق تعميرها بالزرع والغرس بالإحياء اقتباساً من قول الحق تبارك وتعالى : { وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [يس : 33].

ثم جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لتحفز الأفراد إلى التعمير والتنمية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( من أعمر أرضاً ميتة ليست لأحد فهو أحق بها) (24).. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )(25) .. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحاط حاطاً على أرض فهي له )(26) .. وقال عليه الصلاة والسلام : ( من سبق إلى ما لم سبقه إليه مسلم فهو له )(27).

فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الإحياء وتحقيق التنمية وعمارة الأرض إنما هو هدف في حد ذاته قبل أن كون وسيلة للملكية، وأن الإسلام يستغل فطرة الإنسان التي فطره الله عليها – من حب التملك – في تحقيق الهدف المقصود، وهو إعمار الأرض والاستفادة بها ومنها ..

ولعل أهم ما يمكن تحقيقه من وراء تشريع إحياء الموات ما يلي :

(1)     حفز الأفراد على العمل والقضاء على البطالة، باستغلال الطاقات المعطلة في عملية إحياء الأرض، فلو تم توجيه طاقات الشباب المتعطلين والذين يشكون من البطالة إلى هذه الوجهة لرأينا العجب العجاب، بشرط توفير البيئة المناسبة لهم وعدم قتلهم وقتل آمالهم البيروقراطية والروتين الحكومي الذي قتل كثيراً ممن قبلهم.

(2)     زيادة رقعة الأرض المنتجة، وزيادة القدرة المادية والمالية للدولة(28)، وهي الهدف الذي تنشده الدول قاطبة – صغيرها وكبيرها غنيها وفقيرها – وهو ما نسعى إليه لتحسين الأوضاع الاقتصادية للعالم الإسلامي .... ففي عملية الإحياء استفادة كبيرة من الموارد الطبيعية المعطلة، واستفادة أكبر من الطاقات البشرية المعطلة وتوجيهها الوجهة السليمة.

(3)     ويمكن القول : إنه بالنظر إلى المساحات  الشاسعة القابلة للزراعة – والتي يتمتع بها العالم الإسلامي – فإنه يمكن للأقطار الإسلامية، أو المؤسسات المالية الإسلامية التي تملك القدرة على الإحياء والاستصلاح الزراعي، أن تقوم بهذا العمل في ظل تنسيق وتكامل اقتصادي إسلامي، متخذة من أحكام الإسلام في إحياء الموات – والتي يرجع إليها في كتب الفقه – دليلاً لها، خاصة مع وجود المساحات الشاسعة القابلة للزراعة بالرغم من ضآلة المزروع فيها.

وإذا كانت بلدان العالم الإسلامي تعاني من النقص الحاد في الحبوب الغذائية – وأهمها القمح – فإنه يمكن لها مع التخطيط الاقتصادي السليم – بعد عملية إحياء الأرض الميتة – أن يستفاد بهذه المساحات الشاسعة في تأمين الغذاء لكل مناطق وأفراد العالم الإسلامي .. ويكفي أن نعلم – على سبيل المثال – أن بالسودان وحده ما يزيد على (200) مليون فدان صالحة للزراعة، لكن تنقصها الأيدي العاملة وحسن الاستفادة والتمويل اللازم .. وهذا مثال واحد فقط، فما بالنا ببقية بلدان العالم الإسلامي ؟!!!

(ب) التحجير :

التحجير هو أن يسبق شخص إلى أرض من أراضي الموات المعطلة التي ليست لأحد فيقيم حولها سوراً، أو أحجاراً، أو حفراً، أو أية علامة، تدل على قصد إحيائها (29). فهذا الشخص المحتجر تثبت له الأحقية في الأرض التي قام بتحجيرها، ولكن يسقط حقه فيها إذا لم يقم بإحياءها خلال ثلاث سنين .. وهذا ما أكدته الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعن طاووس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عادى الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لمحتج حق بعد ثلاث سنين ) (30).وروى عن سلم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال – وهو على المنبر - : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين، وذلك أن رجالاً كانوا ينجرون من الأرض ما يعلمون) (31).

والناظر في أحكام التحجير في الفقه الإسلامي يجد أن الإسلام يعمل على التنمية الزراعية، ويحث الأفراد على سرعة المبادرة إليها، وإلا ستكون حيازتهم لتلك الأرض مهددة بالسقوط إذا مرت عليها المدة الشرعية، وهي ثلاث سنوات، فتوفيت التحجير بمدة أمر له فوائد عديدة جمعتها عبارة صاحب التكملة الثانية للمجموع بأنها ( تدفع المسلمين إلى التسابق في استخراج خيرات الأرض واستنباط معادنها وإصلاح تربتها وتأهيل مهجورها وتعمير خرابها .. وذلك قوة للمسلمين وقوة لهم على عددهم، ومصادر أعمال لعاطليهم، وتوسيع رقعة مساكنهم، وما نشطت شركات الكفار وتسابقت تستعمر بلاد المسلمين إلا لتعطيلهم هذه الأحكام الشريفة، وتخلفوا عن غيرهم في مجالات التعمير والبناء لهجرهم تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم .. وصدق الله العظيم : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه : 124].

(ج) الإقطاع الشرعي :

هو جعل بعض الأراضي الموات مختصة ببعض الأشخاص، فيصير البعض أولى بها من غيره، على ألا كون لأحد اختصاص بها، وبمعنى آخر : هو أن يمكّن الإمام فرداً أو جماعة من الانتفاع بأرض – ليست عامرة ولا يد لأحد عليها – ليحييها ويعمرها.

ومما يدل على مشروعية الإقطاع الشرعي ما يلي :

1-  ما رواه أبو داود عن علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً في حضر موت ( باليمن).

2-  أقطع النبي عليه الصلاة والسلام الزبير، حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام ثم رمى بصوته، فقال :  ( أعطوه من حيث بلغ صوته ).

3-     عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع. 

4-  عن ابن سيرين قال : أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار ( يقال له سلط) وكان يذكر من فضله أرضاً، قال : فكان يخرج  إلى أرضه تلك فيقيم بها الأيام ثم يرجع، فيقال له : لقد نزل بعدك القرآن كذا وكذا، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قال فانطلق الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : إن هذه الأرض التي أقطعتنيها قد شغلتني عنك فاقبلها مني فلا حاجة لي في شيء يشغلني عنك، فقبلها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الزبير : يا رسول الله أقطعنيها إياه.

هذا ويلاحظ أن الإقطاع الشرعي السابق ليس من قبيل عطايا الملوك وجوائزهم، وإنما يخضع لقيود وقواعد شرعة منها :

1-  إن من أقطع أرضاً وتركها ثلاث سنين ولم يعمرها بطلت قطيعته، والدليل على ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ عبد الله بن عمر بن العاص] أن رسول الله أقطع لأناس من مزينة، أو جهينة، أرضاً فلم يعمروها، فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهنيون، أو المزينون، إلى عمر بن الخطاب فقال : ( لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : من كانت له أرضاً ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها).

2-  إن الإقطاع يكون على حسب قدرة الشخص المقطوع له . وهذا ما قال به الفقهاء، ويؤيد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلاد بن الحارث المزني العقيق أجمع، فلما كان عهد عمر قال له : إن رسول الله لم يقطعك لتحجره على الناس، إنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي.

ونعتقد أن أحكام الإقطاع الشرعي السابقة لو تمت بين البلاد الإسلامية وبعضها، وبينها وبين المؤسسات المالية الإسلامية، لأسفر ذلك عن تقدم كبير خاصة في مجال الزراعة وتحقيق الأمن الغذائي لبلدان العالم الإسلامي الكبير(32).

وفي ضوء ما تقدم يمكن القول، بأنه لو تم تطبيق هدي الإسلام لرأينا زيادة كبيرة للرقعة الزراعية في بلدان العالم الإسلامي، خاصة تلك التي حباها الله تبارك وتعالى بموارد بشرية وطبيعية متميزة، ولتحولت الزيادة السكانية من شر يهدد الاقتصاد إلى خير يزيد الأمن الغذائي داخل تلك البلدان، وعندي أنه لو تم توجيه جزء من المصروفات التي تنفق على الحملات الإعلامية لتنظيم الأسرة وتحديد النسل، أقول : لو تحولت هذه المصروفات إلى إعانات للعاطلين ورفع مستواهم المهني وشراء مستلزمات الزراعة وإعطائهم الفرصة لإثبات أنفسهم عن طريق تيسير عمليات الاستصلاح الزراعي ومنحهم المكافآت وعقود التمليك، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن .. فلقد أصبح العالم الإسلامي عبئاً على العالم كله، عالم متخلف متسول غذاؤه من أهل الشمال أو أهل اليمين .. والحكمة تقول : ( من لا يملك قوته لا يملك حريته).

فهل نظل ننظر إلى المستقبل بعين واحدة، فقط إننا بحاجة إلى تصورات أفضل وأكثر تفهماً لقدراتنا الذاتية حتى يمكننا الخروج من عنق الزجاجة .. فالأرض ليست شحيحة وليست عقيماً، وإنما العقم في الأفكار والتوجهات، ثم الإصرار على الخطأ الذي نسير فيه دون محاولة لإصلاح ذلك الخطأ ..

ثانياً : الزكاة .. :

الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا تقوم إلا بها وعليها، وإذا كان لكل ركن خاصية يتميز ها، فإن خاصية ( الزكاة) تتجلى في بُعدها الاقتصادي والاجتماعي، فهي تندرج في إطار العلاقة الأفقية التي تجمع بين العباد في مختلف شؤونهم الحياتية والمادية، ولا تنحصر فقط – كباقي العبادات الأخرى – ضمن العلاقة القوية التي تعنى بشؤون العباد تجاه خالقهم.

وللزكاة دورها المهم في النواحي الاقتصادية داخل الدولة ... ونتوقف هنا مع دورها في حفظ الأمن الغذائي داخل الدولة، وهو دور لو أحسن استغلاله لما رأينا في الدولة الإسلامية جائعاً ولا محروماً.

وواجب الدولة – كما يقول علماء الدين وعلماء الإسلام – هو : ( حراسة الدين وسياسة الدنيا) وإن إقامة الزكاة داخل المجتمع يدخل ضمن حراسة الدين من ناحية، وسياسة الدنيا من ناحية أخرى.

ولما كان الله سبحانه وتعالى غني عن الخلق، فإنه أمرهم أن يعطوا حقه في المال إلى عباده المحتاجين .. يقول الحق تبارك وتعالى : { وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ } [النور : 33].وعليه فقد جاء قول علماء الإسلام : ( عن حق الله في التصور الإسلامي هو حق المجتمع).

يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة : 103].وهذا خطاب عام لكل حاكم، وليس خاصاً لنبي صلى الله عليه وسلم – كما يدعي البعض –.

يقول الإمام القرطبي في تفسيره : ( أما قولهم : إن هذا خطاب للنبي، فلا يلحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مآخذ الشريعة متلاعب بالدين)(33).

إن الزكاة تمثل أهم الأدوات المالية لمعالجة ( مشكلة الفقر) والاحتياج، وهذا يظهر في أن 25% من الزكاة مخصص مباشرة للفقراء والمساكين، وإذا أضفنا إليهم مصارف ( المؤلفة قلوبهم) و(في الرقاب والغارمين وابن السبيل) نجد أن النسبة تصل إلى 75 % من مصارف الزكاة، وكلها موجهة لمعالجة الفقر.

ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الزكاة مورداً إلزامياً ثابتاً ومستمراً لا يتأثر بما يمكن لدولة توفيره من الدعم، وإذا كان مستوى الفقر يتزايد عالمياً ليصل إلى 50% من عدد السكان، فإنه هنا في مصر – كمثال للدول الإسلامية – وصل إلى 25%، وعلى الرغم من أن الدولة تخصص /12/ مليار جنيه سنوياً لمواجهة الفقر، إلا أنه يظل مبلغاً لا يكفي .. والحل هو : الزكاة .. الزكاة.

وعلى الرغم من إخراج بعض المسلمين لزكواتهم طواعية، فإنه يوجد عدد آخر لا يزكون أموالهم، مما يخل بالتوازن في مشاركة المواطنين في الأعباء المالية العامة، وهو الأمر الذي يسلتزم وجود هيئة شرعية تقوم على أمر الزكاة – من حيث جمعها وإنفاقها في المصارف الشرعة.

وقد قدرت إجمالي المبالغ التي يمكن جمعها من الزكاة، كحصيلة فعلية، بحوالي (17)مليار جنيه مصري، وهو مبلغ لا بأس به (34).فلو أمكن توجيه هذا المبلغ لخدمة الفقراء والمساكين عن طريق تدبير عمل لهم يحقق مورداً ثابتاً على الأقل لأمكن خفض نسبة الفقر بصورة كبيرة في سنوات قلائل ..

أو كما ورد في مثل صيني : ( إذا أعطيت فقيراً سمكة فأنت أطعمته ليوم واحد .. وإذا علمته الصيد فأنت تطعمه طوال الحياة).

إن ما يمكن قوله بهذا الصدد، هو ضرورة قيام مؤسسة غير حكومية بالإشراف على شؤون الزكاة، مع وضع جدول زمني للاستفادة المثلى من أموال الزكاة .. والتي سوف تزداد سنوياً ولن تقل – حتى يمكن التخلص من الفجوة الغذائية المستمرة، توصل دول العالم الإسلامي إلى مرحلة تأمين متطلباتها الغذائية المتزايدة، وهنا فقط يمكن الحديث عن زيادة سكانية فاعلة ومؤثرة، وزيادة سكانية تحقق الخير وترفع مستوى دول العالم الإسلامي ... أما أن نظل نراوح في أماكننا بحثاً عن حلول تقليدية عفا عليه الزمن، فهذا لا يجوز، بل المطلوب هو تأمين الاحتياجات الغذائية لجميع السكان، ثم يبدأ الحديث بعدها عن المشروعات العملاقة أو غيرها مما تسمعه صباح مساء دون تحقيق أي عائد ملموس !!

إن موارد الزكاة عند توزيعها تشكل للمستحقين لها طاقة شرائية تعبر عن نفسها في شكل طلب على المواد الاستهلاكية، وأهم هذه المواد هي المواد الغذائية اللازمة والأساسية لاستمرار الحياة، ولو أننا حققنا فائضاً من خلال هذا التوزيع لاستثماره في مشروعات إنتاجية صغيرة تعمل على رفع مستوى المستحقين لها اقتصادياً .. ولو خطونا خطوة أكبر ووجهنا عائدات الاستثمار في مجال أموال الزكاة إلى النواحي الزراعية واستصلاح واستزراع بعض الأراضي الزراعية، لأمكن بالفعل – وليس بالكلام – تحقيق قدر مهم من الأمن الغذائي، على الأقل لهؤلاء المستحقين لأموال الزكاة.

وعلى هذا الأساس، فإن الزكاة لا ينبغي أن تعطي أو تصرف لمستحقيها في شكل سيولة نقدية لأجل الاستهلاك المباشر فقط – وهو ما يحدث غالباً ويكرس الفقر أكثر فأكثر – بل يجب أيضاً تخصيص جزء من موارد الزكاة للاستثمار.

الزكاة بهذا لا تقدم إعانات استهلاكية فقط، بل تخلق أيضاً وحدات إنتاجية مستمرة .. وهذا ما يتوافق مع مذهب الداعين إلى إغناء الفقير العمر كله، وهي أيضاً – وفي نفس الوقت – تخفف الأعباء عن الدولة، وترفع عنها التضخم الذي تعانيه بما يمكنها من الاستثمار الأمثل لمواردها ويحقق لها في نهاية الأمر أمنها الغذائي، وهو أغنى الآمال في الوقت الحاضر(35).

ثالثاً : التنظيم الإسلامي للأسواق ومنع الاحتكار :

(أ) مبدأ الإخوة الإسلامية وآثاره :

هل يسهم منع الاحتكار في تحقيق الأمن الغذائي ... ؟ الجواب هو : نعم.

وبادئ ذي بدء، فإنه لا يمكن الحديث عن أصول الأمن الغذائي دون الاسترشاد بما قامت به الدول الكبرى في ذلك الشأن، وليس القصد من الدول الكبرى هنا – الدول الأوروبية أو أمريكا أو غيرها، ولكن القصد هنا بما قامت به الدول الإسلامية كأكبر دولة مساحة وحضارة – على مستوى التاريخ القريب.

لقد بدأت نواة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة، تلك المدينة الصغيرة التي لم يتخيل أحد وقتها أن تكبر وتتحول إلى عاصمة لدولة الخلافة الراشدة، ثم كبرت الدولة واتسعت فتوحاتها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، حتى قال أحد الخلفاء – وهو هارون الرشيد – وهو ينظر إلى غيمة تسير في السماء .. (أمطري حيث شئتي فسوف يأتيني خراجك).

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : كيف وصلت الدولة الإسلامية إلى هذا المستوى من الغنى والاستقلال .. ؟

والإجابة بسيطة جداً – وتكمن في تنفيذ الأخلاقيات التي دعا إليها الإسلام في كافة شؤون الحياة من أولها إلى آخرها.ومن أهمها أخلاقيات التعامل اليومي بين الأفراد من ناحية وبين الدولة وجيرانها من ناحية أخرى، ثم إتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من أوامر ونواهٍ ..

لقد جاءت تعاليم الإسلام في النواحي الاقتصادية واضحة قاطعة لا تحتمل أي لبس، ولكن بسبب ما حدث للأمة من تراجع عن أوامر القرآن والسنة النبوية جاءت النتائج واضحة، وهي تراجع الأمة كلها وتخلفها وتأخرها !!

وإذا كنا في الصفحات السابقة قد رأينا تنظيم الإسلام لعملية الحرث والغرس والزراعة عموماً، فإن ناتج هذه المهنة يعرض في الأسواق وتتحكم فيه ظروف العرض والطلب وظروف جلب المنتجات الغذائية إلى الأسواق الداخلية ... وقد ظهرت نظريات اقتصادية تنادي بالحرية الاقتصادية، وأن التاجر حر في أن يمنع السلعة، بل هو المتحكم في ثمن السلعة – وهذه المذاهب مذاهب مادية محضة .. أما تعاليم الإسلام فإنها تخاطب في المسلم ضميره وإيمانه ..

ولهذا .. حرم الإسلام الاحتكار .. كما سنعرض له فيما يلي :

بداية .. لا يجوز لمسلم أن يستأثر نفسه على غيره عند الحاجة، بل يقتضي إيمانه بالله تعالى أن لا يترك غيره جائعاً وهو شبعان، كما جاء ذلك في التوجيهات النبوية الشريفة ..

يقول الني صلى الله عليه وسلم : ( ليس بالمؤمن الذي يبيت وجاره إلى جنبه جائع )(36)ويقول صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه) (37).

وقد أتى الإسلام النتائج العظيمة، بتوجيهاته الاقتصادية، حتى ترى في تاريخ الإسلام المشرق أن الناس تخلوا عن الأخلاق الرذيلة والمذمومة ( مثل : الشح والبخل) وأصبحوا إخواناً متحابين مترابطين آمنين يبذلون أموالهم بكل سخاء ورخاء، وقد روى الإمام البخاري عن نموذج حي للتسوية الاقتصادية في حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، كما جاء عن الأشعريين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة، جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم ) (38).

وهذا أعلى مقامات الأخوة الإسلامية، وهو ما يقلل كثيراً من حدة الأزمة الغذائية، بل لو استطعنا أن نصل إلى هذا المستوى الأخلاقي الإيماني لما وصلنا إلى الحال التي نحن فيها الآن .. !!

(ب) منع الاحتكار :

إذا كنا قد علمنا بأهمية الإخوة الإسلامية، فإن الوجه الآخر والسيء هو الاحتكار، ولهذا، فقد حرمه الإسلام نهائياً، بل جاءت التوجيهات النبوية التي تدل صراحة على حرمته، والتي تدل بصراحة على أن المسلم لا يجوز له أن يكون من المحتكرين المستغلين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن : ( المحتكر ملعون )(39) وفي حديث آخر : ( من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجزام والإفلاس )(40)، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من احتكر فهو خاطئ ).

إن هذه الأحاديث لتدل على تحريم الاحتكار للسلع والخدمات، وذلك للمصلحة الفردية والأنانية المفرطة، ولأن الاحتكار من شأنه التضييق على الناس في حاجاتهم الضرورية ( مثل : الطعام والكساء وغير ذلك من الأشياء المستهلكة) .. وذلك غير جائز.

تعريف الاحتكار :

قال الإمام الشوكاني : الحكرة، هي حبس السلع عن البيع .. ويقول ابن عابدين : اشتراء الطعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء .. وعرفه الإمام الغزالي في الإحياء بقوله : فبائع الطعام يدخر الطعام ونحوه ينتظر به غلاء الأسعار.

وجمهور العلماء اتفقوا على أن الاحتكار حرام وممنوع، لما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك، ففي صحيح الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من احتكر حكرة، يريد أن يغني بها على المسلمين، فهو خاطئ).والخاطئ : العاصي الآثم.وعند ابن ماجد ( كتاب التجارة، باب الحكرة والجلب)، قوله صلى الله عليه وسلم : ( الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ).

وقد ذكر الإمام الغزالي عن بعض السلف أنه كان بواسط فجهز سفينة حنطة ( قمح) إلى البصر وكتب إلى وكيله : بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر، فقال له البحار : لو أخرت جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة، فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا، إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت، وما نجد أن الربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار، كفافاً لا عليّ ولا لي(41).

ولهذا، فإن تحريم الاحتكار يؤدي إلى سيولة داخلة الأسواق في الدولة سيولة في الموارد، مما يؤدي بالتالي إلى كثرة العرض وقلة الطلب، فتنخفض أسعار المواد الغذائية، وانخفاض الأسعار يؤدي – بالتالي – إلى قدرة جميع فئات الشعب على الشراء، وهو يعني قلة الأزمات الاقتصادية داخل الدولة ... وهو ما يؤدي في النهاية إلى توافر السلع الغذائية، ويسهم في تحقيق الأمن الغذائي، وهو الهدف النهائي المنشود.

إن هذا التنظيم الإسلامي إنما يربط المسلمين بعضهم ببعض ويحقق الإخوة الإسلاميةالكاملة، وهو ما يرفع الحواجز المصطنعة بين دول العالم الإسلامي جمعيها، ويؤدي إلى التكامل وإنهاء حالة التقاطع الموجودة حالياً، ولو أننا استطعنا أن نعمم هذه الأفكار الإسلامية الصحيحة، وتخلينا عن الأفكار الاقتصادية البراجماتية، لما وصلت بنا الحال إلى ما وصلت إليه الآن.

رابعاً : إعلاء قيمة العمل :

يأمرنا الله سبحانه وتعالى بالمشي في مناكب الأرض والانتشار فهيا وابتغاء فضل الله .. يقول الحق تبارك وتعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك : 15]، وقال سبحانه : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة : 10].

وإذا تأملنا القرآن الكريم وجدناه ينبه عقولنا ويلفت أنظارنا إلى استغلال الثروات والموارد الطبيعية – من الماء والهواء والبحار والأنهار والنبات والجماد والشمس والقمر – لأن كل ذلك مسخر لمنفعة الإنسان، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم : 32-34].

ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل : 5].يقول عز من قائل : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد : 25].

وفرض الله سبحانه وتعالى على العباد الاكتساب لطلب المعاش ليستعينوا به على طاعته تبارك وتعالى .. فالعمل واجب على كل قادر، فلا يحل لمسلم أن يقعد عن العمل والكسب، مع القوة والقدرة عليه وفي ذلك – يقول صلى الله عليه وسلم : ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى )(42)، أي ذي قوة وقدرة ..

ولقد تكفل الحق تبارك وتعالى بالرزق لكل كائن حي يدب على الأرض وجه الأرض، فقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6] ... ولكن اقتضت حكمة الله وإرادته أن يكون رزق الإنسان منوطاً بالسعي والعمل، فأمره الله بذلك : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك : 15].

وقال سبحانه وتعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الأحقاف : 19].فمن تقاعد وتقاعس عن العمل كان جديراً بأن يحرم، لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة !!

* النشاط الاقتصادي – عبادة :

هكذا حث الإسلام المسلمين على ممارسة النشاط الاقتصادي بكل صورة ومختلف طرقه – من زراعة وصناعة وتجارة – واحتراف بشتى أنواع الحرف، وكل عمل أو وظيفة، في إطار الحدود الشرعية، يؤدي إلى إنتاج سلعة أو خدمة للناس، يعتبر عبادة، ويبارك الإسلام هذا العمل الدنيوي من حيث إنه ينفع الناس ويجمل حياتهم ويعمر بلادهم، وذلك إذا صحت نية العامل من حيث أنه لم يشغله عن ذكر الله تبارك وتعالى ولقاءه وحسابه، لأن هذا النشاط يمكن المجتمع من حماية نفسه وأداء رسالته وإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذه الفضائل لا سبيل إليها إلا بالمال، والمال يأتي من السعي والعمل، فلا بد أن يكون العمل حلالاً حتى يرفع المجتمع إلى الرقي المادي والسمو الروحي في آن واحد .. فالعمل والنشاط الاقتصادي هذا المعنى عبادة، ولا عجب أن قدمه الله تعالى على الجهاد في سبيل في كتابه العزيز فقال الله تبارك وتعالى : { وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [المزمل : 20].

وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : ( عن الله تعالى يحب المؤمن المحترف ) (43).قال المنادى في شرح الحديث : ( إن الإنسان إذا تعطل عن عمل بشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغاً ولم يبق قلبه فارغاً، بل يعيش الشيطان فيه ويبيض ويفرخ، فيتوالد فيه نسله توالداً أسرع من توالد كل حيوان(44).

فالعمل واجب لإغناء النفس حفظ ماء الوجه من أن يراق بالسؤال .. ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيمة ما يأكله الإنسان من عمل يده، ما رواه المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده )(45).

وليس في توجيهات الإسلام وهدى النبي صلى الله عليه وسلم تصنيف للأعمال، يجعل بعضها محترماً والآخر وضيعاً ... على ما اعتاد الناس أن يصنفوا الأعمال، وليس هنا من هدى الإسلام في شيء .. فالأعمال كلها سواء، ما دامت تجمع الشروط السابق ذكرها ( من النفع والاحتساب وعدم المخالفة الشرعية) .. فمثلاً ذلك الذي يميط الأذى عن الطريق – بتنظيفه وجمع القمامة منه – يؤدي عملاً عظيماً، وهو على شعبة من شعب الإيمان .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وستون – أو سبعون – شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول : لا إله إلا الله ).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عرضت عليّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن )(46).ويطلب أبو برزة من النبي صلى الله عليه وسلم نصحاً فيقول : يا نبي الله : إني لا أدري نفسي تمضي أو أبقى بعدك فزودني شيئاً ينفعني الله به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( افعل كذا .. افعل كذا .. إماطة الأذى عن الطريق) (47).

هكذا رفع الإسلام من شأن العمل، حتى لا يبقى أحد في داخل هذا الباب، والإسلام رافعاً لشأن السعي على المعاش وإعطاف النفس، يجعل من سعي الإنسان على نفسه أو أهله طلباً للتعفف، فهو في سبيل الله.فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنده ونشاطه، فقالوا : يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله .. وإن كان خرج يسعى رياء ومتاجرة، فهو في سبيل الشيطان)(48) ... فالعمل أياً كان هذا لعمل – ليس عيباً، ولا يعاب الشخص به .. هكذا يقرر الإسلام، وذلك حتى لا يبقى في المجتمع أي متعطل أو فقير.

وهكذا يرسم الإسلام أصول تحقيق الأمن الغذائي، أو على الأقل الوصول إلى هذا الأمن .. فأمننا الغذائي بالفعل في خطر والأمة الإسلامية بالتالي كلها داخلة في هذا الخطر، وتشير البيانات والإحصاءات أن ما بين 30 و100 مليون شخص يعانون الآن من عملية الموت البطيء بسبب الجوع والعوز، ويكفي أن نعرف أن معدلات وفيات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات يزيد على الخمسين في المائة.كما تشير هذه المعدلات إلى أنه من بين كل خمسة أطفال قبل سن الخامسة والنصف يموت يومياً طفل مسلم، بسبب نقص التغذية، وفي بعض المناطق يموت أربع من كل سبعة أطفال قبل بلوغ سن الرابعة ...

وتشير الإحصاءات أيضاً إلى أن 50% من مجموع السكان في الدول الإسلامية لا يحصلون على القدر الكافي من الطعام، ويتعرضون دائماً للمجاعات، وقد زاد الأمر سوءاً قيام الدول الصناعة الغنة بتصدير علف الحيوان كغذاء لإنسان – كما أشار بذلك أحد التقارير الصادرة عن البنك الدولي، وقد ترتب على هذا الوضع المتردي في تلك البلدان ارتفاع الإصابة بأمراض فتاكة ( مثل : الكساح والبرص وغيرها) مما اضطر هذه الدول على الاستدانة للحصول على الواردات الغذائية حتى بلغت الديون المتراكمة عليها مبلغاً ضخماً يصعب سداده في ظل الإمكانات المتاحة، مما يهدد حاضرها ومستقبلها، وذلك بسبب سيطرة الدول الدائنة على صانع القرار في الدول المدينة، حتى أصبحت معظم الدول الإسلامية – بلا مبالغة – أسيرة لمن يقدم لها الطعام .. ( فمن لا يملك طعامه لا يملك قراره) (49).

وسوء التغذية في بلدان العالم الإسلامي أمر معترف به ولا جدال فيه، وقد أدى سوء التغذية هذا إلى الحد من وجود قوى عاملة منتجة ومبدعة، إضافة إلى نقص في متوسطات الأعمار حتى بلغت بين 32-42 سنة مقابل 74 سنة، في دول غرب أوربا.

في ضوء هذا الوضع الخطير الذي تعيشه هذه الدول الإسلامية (والعالم العربي)، فإنه لا بد من وقفة عاجلة وحاسمة، لأن هذه الدول ليست فقيرة في مواردها الطبيعية أو طاقاتها البشرية أو المساحة الزراعية القابلة للاستصلاح بها.ولكنها – للأسف – فقيرة في أسلوب الإدارة، وفي السياسة العامة التي تحكم الأوضاع بها .. وإذا كانت الدول العربية والإسلامية تحتفظ في باطن الأرض بالكنوز الهائلة والموارد الطبيعية ووفرة المياه والمساحات الشاسعة من الأراضي، فإن الأمر هنا يحتاج إلى وقفة أمينة وصادقة مع النفس ومع الآخرين لمعرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الاختلال المريع ..

الخاتمة ..

أمننا الغذائي .. في خطر ..

إذا كان العالم الإسلامي يعاني اليوم من مشكلات عديدة في جميع مجالات الحياة، فإن قضية الأمن الغذائي تأتي في مقدمة هذه القضايا، وذلك نظراً لانعكاساتها السلبية وأخطارها التي تهدد هوية الأمة ووجودها ودورها الإيجابي الفاعل .. وإن قضية الأمن الغذائي لأي أمة من الأمم قضية في غاية الخطورة، بل هي سلاح فتاك تستخدمه الدول ضد بعضها للحصول على تنازلات في مجالات السياسة الداخلية والخارجية أو لأهداف معينة أخرى ..

ومن هنا كان الواجب على الأمة الإسلامية، بل فرض عين عليها أن تتنبه لهذا الموضوع وأن تبادر لبناء جسور التعاون والتواصل والتنسيق فيما بينها لاستثمار طاقات العالم الإسلامي وثرواته وتحقيق الأمن الغذائي في إطار تنموي مستقل ومتكامل مبني على أساس إسلامي بالأخذ بالأساليب العلمية والتقنية الحديثة في العمل والإنتاج، كالتزام إسلامي لضمان نجاح التنمية الاقتصادية، ومن ثم رفع المعاناة عن شعوب العالم الإسلامي ودفع الأخطار عنه.

ويمكن القول .. بأن أي تنمية لا تتماشى مع قيم ومبادئ المجتمعات الإسلامية لن يكتب لها النجاح، وكما بيّنا، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة قد أوضحت أصول الأمن الغذائي، ولو التزم العالم الإسلامي بها – بل المسلمون كأفراد – لما وصلت بنا الحال إلى ما وصلت إليه الآن من تخلف وتشرذم وتراجع حضاري ..

والله ولي التوفيق ..

المراجع

1-     القرآن الكريم.

2-     كتب السنة الصحيحة مثل :

1.    صحيح البخاري.

2.    صحيح مسلم.

3.    سنن أبو داود.

4.    سنن الترمذي.

5.    سنن ابن ماجه.

6.    مسند الإمام أحمد.

3-     د/ حسن الشاذلي : الاقتصاد الإسلامي، مصادره وأسسه، دار الاتحاد العربي لطباعة – القاهرة، ط 1979م.

4-     د/شوقي عبد الساهي : المال وطرق استثمارات في الإسلام، دار المطبوعات الدولية ( القاهرة) – ط 1، 1981م.

5-  د/ محمد رأفت سعيد : المال ملكيته واستثماره وإنفاقه، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ( المنصورة – مصر)، الطبعة الأولى، 1423هـ.

6-  د/منظور أحمد الأزهري : ترشيد الاستهلاك الفردي في الاقتصاد الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة – ط الولي 1422هـ.

7-  محمد محمد سيد أحمد : الأحكام الفقهية لقيام السوق الإسلامية المشتركة، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر (القاهرة).

8-     د/ يعقوب سليمان : مفهوم الفجوة الغذائية واقعها الراهن في البلدان العربية، عمان – الأردن – ط 1986م.

9-  محمد علي الفرا : مشكلة الغذاء في الوطن العربي والأزمة الاقتصادية العالمية، المعهد العربي للتخطيط – كاظمة للنشر والتوزيع والترجمة – الكويت 1985م.

10-    د/ عباس فاضل السعدي : التقييم الجغرافي لمشكلة الغذاء، نشر وزارة الثقافة – العراق، بدون تاريخ.

11-    منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) : كتاب الإنتاج السنوي 1987 – روما.1988م.

12-    مجلة عالم الفكر : المجلد الثامن عشر – العدد الثاني – يوليو- أغسطس – سبتمبر 1987م.

13-    مجلة الوحدة : السنة السابعة – العدد 84 سبتمبر 1991م.

14-    مجلة شؤون عربية : عدد يناير 1982م.

15-    مجلة منبر الإسلام : العدد الأول للسنة 61 محرم 1423هـ.

16-    مجلة الوعي الإسلامي : الأعداد :

1.    العدد 347 رجب 1415هـ.

2.    العدد 440 ربيع الآخر 1423هـ.

3.    العدد 442 جمادى الآخرة 1423 هـ.

4.    العدد 456 شعبان 1424هـ.

السيد علي أحمد الصوري

===========

(1) البحث الفائز بالجائزة الأولى في المسابقة العلمية التي أجرتها الجمعية في عام 1426هـ / 2005م.

(2) صحفي وإعلامي وباحث إسلامي غزير الإنتاج، إضافة إلى عمله المهني مدير للشؤون التجارية بإدارة كهرباء الحسينية محافظة الشرقية.

(3) فلاح سعيد جبر : الأمن الغذائي والصناعات في الوطن العربي، مجلة عالم الفكر – المجلد الثامن عشر – العدد الثاني – يوليو- أغسطس – سبتمبر 1987 ص 115.

(4) فلاح سعيد جبر : الأمن الغذائي، سابق ص 116.

(5) فلاح سعيد جبر : (الأمن الغذائي)، سابق، ص 118 وما بعدها ( مع بعض التصرف اليسير).

(6) حسان الشوبكي : حول الأمن الغذائي العربي، مجلة الوحدة، السنة السابعة – العدد 84، سبتمبر 1991، ص 56 وما بعدها.

(7) المرجع السابق، ص 59 – وأيضاً د/ محمد علي الفرا، واقع الأمن الغذائي العربي، مجلة عالم الفكر – العدد الثاني – من المجلد الثامن عشر – ساق، ص 15 وما بعدها.

(8) فلاح سعيد جبر ( الأمن الغذائي) سابق، ص 119.

(9) حسان الشويكي : حول الأمن الغذائي العربي، سابق، ص 59.

(10) د/سامي فتحي السيد : الوطن العربي والمشكلة الغذائية، بحث بمجلة الوحدة – العدد 84 – سابق، ص 7 – وأيضاً : منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) : كتاب الإنتاج السنوي 1987 – روما 1988.

(11) د/ يعقوب سليمان : مفهوم الفجوة الغذائية واقعها الراهن في البلدان العربية، عمان – الأردن – ط 1986، ص 22.

(12) د/ محمد علي الفرا : مشكلة الغذاء في الوطن العربي والأزمة الاقتصادية العالمية، المعهد العربي للتخطيط – كاظمة للنشر والتوزيع والترجمة – الكويت 1985، ص 17 وما بعدها.

(13) محمد خليفة : الأزمة الغذائية : عجز الطبيعة أم مسؤولية الإنسان، بحث بمجلة الوحدة – مرجع سابق، ص 20، 21 ( مع بعض التصرف).

(14) د/ عباس فاضل السعدي : التقييم الجغرافي لمشكلة الغذاء .. وزارة الثقافة العراقية – ص 16.

(15) محمد خليفة : الأزمة الغذائية، مرجع سابق ص 23.

(16) مجموعة من العلماء السوفييت : مستقبل الإنسان، دار التقدم – موسكو – في محمد خليفة – المرجع السابق، ص 24.

(17) د/ محمد علي الفرا : نحو استراتيجية موحدة لمواجهة مشكلة الإنتاج العربي من الغذاء، مجلة شئون عربية – الأمانة العامة لجامعة الدول العربية – يناير 1982، ص 71-77.

(18) جاسم محمد مطر شهاب : أمننا الغذائي في خطر، مجلة الوعي الإسلامي – العدد 456، شعبان 1424 هـ، ص 3.

(19) د/ إبراهيم سليمان عيسى : المنتجات الحيوية وعلوم الزراعة في القرآن والسنة النبوية، مقال بمجلة منبر الإسلام – العدد الأول للسنة 61 المحرم 1423- أبريل 2002، ص 63.

(20) تفسير القرطبي – ج 2، ص 1113.

(21) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، ج 1، ص 215.

(22) د/ إبراهيم سليمان عيسى : المنتجات الحيوية، مرجع سابق، ص 63.

(23) الشريف الرضي، نهج البلاغة، المكتبة التجارية مصر – ج 3، ص 106-107.

(24) أخرجه البيهقي في سننه، ج 2، ص 325.

(25) أخرجه أبو داود، ج 3ص 175.

(26) أخرجه أبو داود، ج 3، ص 175.

(27) أخرجه أبو داود في سننه، ج 3، ص 174.

(28) د/ حسن الشاذل : الاقتصاد الإسلامي : مصادره وأسسه، دار الاتحاد العربي للطباعة، القاهرة : 1979، ط 1981، ص 140-142.

(29) د/شوقي عبد الساهي : المال وطرق استثمارات في الإسلام، دار المطبوعات الدولية ( القاهرة) – ط 1، 1981، ص 125.

(30) أبو يوسف القاضي : الخراج، ص 70.

(31) نفسه، ص 71.

(32) محمد محمد سيد أحمد : الأحكام الفقهية لقيام السوق الإسلامية المشتركة، رسالة ماجستير بكلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر – غير منشورة، ص 245.

(33) سماح أحمد – مقابلة د/محمد عمر حول قانون الزكاة منشور بمجلة الوعي الإسلامي – العدد 44- ربيع الآخر 1423هـ ص 27.

(34) سماح أحمد : قانون التركات، مرجع سابق، ص 28.

(35) الحسين عصمة : الزكاة ودورها في التنمية الاقتصادية، مجلة الوعي الإسلامي – العدد 347 رجب 1415هـ ديسمبر 1994، ص 55 – 56.

(36) أخرجه الحاكم في مستدركه، ج 2، ص 12.

(37) أخرجه البخاري في صحيحه، ج 2، ص863.

(38) أخرجه البخاري في صحيحه ج3، ص 181 ط، دار الفكر.

(39) د/منظور أحمد الأزهري : ترشيد الاستهلاك الفردي في الاقتصاد الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة – ط الولي 1422هـ، ص 129.

(40) نفسه.

(41) د/ منظور أحمد الزهري : ترشيد الاستهلاك – مرجع سابق، ص 131.

(42) رواه الإمام أحمد في مسنده.

(43) رواه الترمذي والبيهقي والطبراني ( وفيه ضعف).

(44) د/ منظور الأزهري : ترشيد الاستهلاك، سابق، ص 34.

(45) أخرجه البخاري في صحيحه.

(46) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

(47)أخرجه مسلم وابن ماجه.

(48) أخرجه مسلم وابن ماجه.

(49) د/ محي الدين عبد الحليم : العرب والمسلمون بين أزمة الغذاء والتحدي الحضاري، مقال بمجلة الوعي الإسلامي العدد 42، جمادى الآخرة 1423هـ، ص 28-29.

 

 

الفطريات البازيدية في خدمة البشرية
 

 تحدثنا معكم سابقاً عن الأعفان في خدمة الانسان , وعلمنا أن الأعفان مجموعة من الفطريات مثل : الأسبرجيللاس ( Aspergills) والبنسيليوم (Penicillium) ,  وعفن الخبز (Rhizopus) , والفيوزاريوم (Fusarium) , والميوكر (Mucur) , والألترناريا (Alternaria) وغيرها .

        وعلمنا أن مملكة الفطريات تحوي الفطريات التزاوجية (Zygomycota) , والفطريات الزقية (Ascomycota) , والفطريات البازيدية (Basidiomycota) , والفطريات البيضية (Oomycota) ,

        وحديثنا اليوم عن أهم جنس في الفطريات البازيدية (Basidiomycota)  وهو فطر عيش الغراب ( المشروم – Mashroom) الذي يحول القش , ومصاصة القصب , ومخلفات الحقل  إلى البروتين .

        تحتوي الفطريات البازيدية على أكثر من ( 550 ) جنس (  Genera) ينضوي تحتها أكثر من (15) ألف نوع (Species) بعضها رمي (Saprophytes) يعيش على بقايا الكائنات الحية المتحلله , وبعضها الآخر متطفل (Parasitic) يعيش متطفلاً على بعض الكائنات الحية الأخرى .

        تتميز الفطريات البازيدية بتركيب صولجاني الشكل يسمى البازيديوم (Basidium) الذي يحمل الجراثيم البازيدية (( Basidiosporesوأشهر أجناس الفطريات البازيدية هو فطر عيش الغراب (Agaricus) المشهور بالمشروم (Mushroom) ومن أجناسه المأكولة (  Agaricuscampestris) وهو يعيش على بقايا الأشجار في الأماكن الرطبة والظليله .

        يتكون جسم عيش الغراب من غزل ( خيط ) فطري خضري يعيش مطموراً في الطبقة الدبالية أو الوسط الغذائي الذي ينمو عليه الفطر , وينتج هذا الخيط من الجراثيم البازيدية أحادية المجموعة الصبغية الناتجة من التكاثر الجنسي والانقسام الاختزالي للجراثيم .

        وينتج الغزل الفطري الإنزيمات الخاصة بتحليل المادة الغذائية السليلوزية التي تحول السليلوز المعقد إلى سكريات بسيطة غير معقدة يتغذى عليها الغزل الفطري , كما يمتص الغزل الفطري المعادن والأملاح والمواد النيتروجينية من الوسط الغذائي الذي يعيش فيه .

        ويعيش الغزل الفطري لعيش الغراب موسماً واحداً ثم يذبل بعد تكوين البازيديومات , والأجسام الثمرية , والجراثيم البازيدية , وفي بعض الأحيان يعمر الغزل الفطري إلى أعوام .

        تتجمع البازيديومات في حامل جرثومي يظهر على سطح الأرض جلى هيئة مظله , وهي الأجزاء التي نقطفها ونستعملها في الغذاء .

        تبدأ دورة حياة عيش الغراب بالجراثيم البازيدية (Basidiospores) أحادية المجموعة الصبغية (n) , وهي الجراثيم التي نزرعها فتعطي الغزل الفطري أحادي المجموعة الصبغية , وهذه الخيوط الفطرية تتكون من نوعين من الخيوط تبعاً لنوع الجرثومة , أحدهما الخيط الموجب (+) والثاني الخيط السالب (-) .                                                                                             

        وبعد مدة من النمو والانتشار الميسيليومي يندمج أحد الخيوط الموجبة مع أحد الخيوط السالبة ليعطي الخيط الفطري مزدوج المجموعة الصبغية (2n) وبعد ذلك تظهر نتوءات متجمعة من هذا الخيط على هيئة قبو مغطى بغلافة رقيقة والذي ينمو ليعطي التركيب المظلي الشكل , المتكون من : العنق (Stalk) المنتهي من أعلى بالقلنسوة (Pileus) التي ينتظم على سطحها السفلي صفائح خيشومية (Gills) هذه الصفائح تحمل زوائد تسمى البازيديوم (Basidium) الذي يحمل الجراثيم البازيدية (Basidiospores) أحادية المجموعة الصبغية والناتجة من انقسامين متتاليين أولهما انقسام اختزالي . وينمو عيش الغراب في الغابات , والحدائق الرطبة الظليلة ويمكن زراعته في المزارع والمنازل والمدارس .

تحويل القش إلى بروتين !!

المواد والأدوات اللازمة لذلك :

        يلزم لزراعة فطر عيش الغراب في المنزل أو المدرسة أو المزرعة أو في المشاريع الخاصة إلى :

- جراثيم الفطر البازيدية اُحادية المجموعة الصبغية , ويتم شراؤها من مراكز البحوث الخاصة بالفطر ومنافذ بيعها المعتمدة الموثوق بها.

- مخلفات حقلية مثل قش الأرز ( الذي تسبب الكميات الهائلة  منه مشكلة, في بعض البلدان ).

- نشارة الخشب الناتجة من ورش النجارة.

- مصاصة القصب التي تنتج بكميات هائلة في مصانع صناعة السكر .

- أوراق نبات الموز.

- بعض المخلفات الحقلية , ومخلفات الحظائر وغيرها من المواد السليلوزية.

- سبلة الخيل من اسطبلات الخيول .

- اليوريا وهي من الأسمدة الزراعية المنتشرة رخيصة الثمن.

- الأواني الخاصة بالزراعة مثل سلال الخضروات والفاكهة البلاستيكية .

- أكياس بلاستيكية مثل أكياس القمامة الجديدة النظيفة.

- أواني للغلي والتعقيم والبسترة .

- مصدر للماء , ومواد للتطهير.

تجهيز المكان :

-   يتم اختيار المكان المناسب في الزراعة في البيت أو المدرسة أو المزرعة أو أي حجرة منعزلة مغلقة ذات أرضية ملساء جيدة التهوية بحيث  يوضع شباك على النوافذ لمنع دخول القوارض والحشرات والزواحف.

-         يتم اختيار السلال المناسبة للزراعة وتغسل جيداً بأحد المطهرات , ثم تغسل جيداً لإزالة آثار المطهر وتجفف.

-   يطهر المكان بوضع كميات من الفورمالين في أواني موزعة على أركان الحجرة ثم تغلق لمدة 24ساعة ثم يرفع المطهر ويتم تهوية المكان بعد ذلك لإزالة آثار الفورمالين.

-   يتم وضع القش أو مصاصة القصب في غلايات ويتم غليها لمدة ساعتين ثم يطفأ اللهب , ويترك الوسط لمدة 24ساعة , ثم نعاود غليانه في اليوم التالي.

-   يرفع الوسط المغلي بعد تبريده لدرجة حرارة الغرفة ثم يوضع في الصناديق المطهرة , ويترك حتى يصفى منه الماء ثم يوضع عليه سائل اليوريا وكربونات الكالسيوم لضبط حموضة الوسط  ( يمكن وضع اليوريا وكربونات الكالسيوم في المراحل الأخيرة من الغليان ).

-   بعد تصفية الماء الزائد من الوسط الغذائي بحيث يكون الوسط مندى جيداً ورطباً ولا يتساقط الماء منه , يتم حقنه بمحقون الجراثيم بحيث نضع في الصندوق كمية من الوسط الغذائي فوقها طبقة رقيقة من الجراثيم المنثورة ثم تغطى بحوالي 15سم ثم تغطى الصناديق بالبلاستيك في الغرفة في درجة حرارة من 25 – 30 ْس مع توفر رطوبة تصل إلى 70%  بالبلاستيك .

-         بعد حوالي أسبوعين من الزراعة يتم رفع أغطية البلاستيك .

-         يلاحظ انتشار الميسليوم ( الخيط الفطري ) الأبيض على سطح الوسط الغذائي.

-         بعد ذلك تظهر أقبية النموات الثمرية التي تترك لتنمو إلى الحجم المناسب ثم تقطف.

    -    وبذلك يقوم الفطر بتحويل القش إلى الجسم الثمري المحتوي على البروتين والعديد من المواد الغذائية المفيدة والضرورية للجسم.

  يحتوي عيش الغراب 45% من وزنه الجاف بروتين , وهذا البروتين يحتوي من 10 – 15 % أحماض دهنية أساسية , والأحماض الدهنية الأساسية هي مجموعة الأحماض الأمينية التي لا يستطيع الجسم تخليقها بداخله , ويمرض إن لم توجد في الغذاء وكلما احتوى البروتين عليها كان عالي القيمة الغذائية .

كما يحتوي عيش الغراب على 1% دهن , وانخفاض نسبة الدهن في عيش الغراب تجعله من المواد الغذائية الصحية .

و يحتوي عيش الغراب على 30% ألياف, ونسبة عالية من المعادن والفيتامينات مثل :  الريبوفلافين , وفيتامين Bوالنياسين والثيامين , وحمض الأسكوربيك ويحتاج إعداد عيش الغراب للأكل إلى طريقة طبخ خاصة  بحيث لانفقد هذه الفيتامينات بالحرارة العالية .

يؤدي عيش الغراب إلى خفض الضغط كما يحتوي الكالسيوم والحديد والفوسفور والنحاس ومواد تخفض الكليسترول في الدم وهو منخفض السعرات الحرارية, ويصلح في خفض البدانه والمحافظة على الصحة العامة .

من هنا كان هذا الفطر في خدمة البشرية لأنه يحول القش إلى بروتين وفيتامينات والأحماض الأمينية الأساسية , وبذلك يمكن للفقراء زراعة هذا الفطر لتعويض النقص البروتيني ,  وقد كان هذا الفطر لقرون عدة طعام الملوك , والآن بعد انتشاره وزراعته أصبح بروتين الفقراء وصدق الله العظيم عندما قال : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين 0 وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين ) فصلت (9-10).

وهذا ما فصلناه في كتابنا آيات معجزات من القرآن الكريم وعالم النبات والمنشور على شبكة الانترنت .

وانظر التفاصيل أيضاً في كتابنا دليلك الميسر لتعرف وزراعة وانتاج فطر عيش الغراب (1).

بقلم الدكتور نظمي خليل أبو العطا موسى

أستاذ علوم النبات في جامعة عين شمس

ومدير مركز ابن النفيس للخدمات الفنية في البحرين

http://www.nazme.net


(1)- انظر كتابنا الفطريات البازيدية في خدمة البشرية .

- وكتب عيش الغراب للدكتور فوزي مدبولي والدكتور محمد الحسيني من   منشورات مكتبة ابن سينا في القاهرة فهي متميزه في هذا المجال.

 

 

وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام
 
 نعيش في السطور القليلة مع الإعجاز النباتي في القرآن الكريم ، فنوضح أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ، وأن الأرزاق في الأرض مقدرة وكافية لجميع الكائنات الحية على ظهرها ، وما على الإنسان إلا أن يسعى على الرزق وأن يسخر قوانين الله الكونية للحصول على غذائه وغذاء حيواناته ، وأن الجوع وعدم كفاية الغذاء على الأرض ما هو إلا نتيجة لإفساد الإنسان فيها، وعدم تسخيره لقوانين الله في الأرض وغفلته عن نعمه التي لا تحصى .

وفي البداية نقول :

الثابت إسلامياً وعلمياً وجود ثلاثة عوامل وشروط ضرورية لبقاء أي أمة وحفظها من الهلاك والدمار والزوال.

أولاً : قيم أخلاقية أصيلة تحكم علاقات هذه الأمة مع نفسها ومع غيرها وتضبط سلوكيات الأفراد داخلها .

ثانياً : مصادر غذائية ذاتية تكفيها وتصون عليها حياتها وكرامتها ولا توقعها فريسة لاستغلال أعداءها وحصارهم الاقتصادي عليها .

ثالثاً : قوة حربية عصرية تحمي بها الأمة بيضتها وعقيدتها وتصون بها كرامتها وتبث الأمن والأمان والطمأنينة في نفوس أبنائها والقوة البشرية العاملة فيها .

وقد أوجز الله سبحانه وتعالى هذه العوامل الحيوية ، والدعائم الأصلية في قوله تعالى :( لإيلاف قريش @ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف @  فليعبدوا رب هذا البيت @الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )1]

ولقد خلق الله المخلوقات وقدر لها في الأرض أعمارها وأقواتها ، وأخبرنا العليم الخبير أنه سبحانه وتعالى خلق الأرض في يومين وبارك فيها سبحانه وتعالى وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام قال تعالى : (ُقلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ)[2].

 

قال المفسرون في معان الكلمات :

أقواتها : أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم .

في أربعة أيام : في تتمة أربعة أيام.

سواء : استوت الأربعة استواء.

في الآيات الكريمات السابقات يخبرنا الله سبحانه وتعالى بحقيقة في غاية الأهمية ويعلمنا بالحقائق الكونية ، التي غالباً ما نغفل عنها كثيراً، حيث يقول سبحانه وتعالى لعباده أنه خلق الأرض في يومين (من أيام الله ) وأنه سبحانه وتعالى قدر فيها أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم في تتمة أربعة أيام سواء للسائلين وهذا معناه أن المصادر الغذائية لعباد الله على الأرض مقدرة ولن تنفد ، ويجب على الإنسان أن يتحقق من ذلك ويسعى في الأرض يسخر قوانين الله الكونية للحصول على هذا الرزق ، ونحن المسلمين نتيقن أن الله سبحانه وتعالى قدر ذلك، وأنه عندما خلق القلم قال : يا قلم أكتب . قال القلم : ماذا أكتب ؟.

 قال سبحانه : أكتب أرزاق الناس وأعمالهم .

إذاً الرزق موجود ومقدر، وما على البشر إلا السعي والتفكير في كيفية استثمار تلك الأرزاق المقدرة ، والبحث عنها بالطرق والأساليب العلمية ، وأن دعاة التخويف من نفاذ أرزاق الأرض، وأبواق التحذير من الهلاك البشري جوعاً ، لو صرفوا جهدهم في الحث على البحث عن الرزق كان ذلك أجدى لهم ، وللبشرية أنفع ، ولكن كثيراً ما تكن هذه الدعايات مغرضة وموجهة بالدرجة الأولى إلى المسلمين ليقضوا على نسلهم ويسلبونهم عناصر قوتهم ، ويبعدونهم عن حقائق قرآنية وفطرة ربهم ، فتضيع منهم ركائز القيم الأخلاقية الأصلية ، وبدلاً من البحث عن الرزق ، يبحثون في القضاء على عناصر قوتهم ، ويترتب على ذلك إبعادهم عن البحث عن مصادر الأمن الغذائي في ديارهم وأعداء الله لن يسمحوا لنا بأن ندعم قوتنا لنحمي عقيدتنا وتقاليدنا وعاداتنا الإسلامية الأصلية .

وسوف نبرهن لكم بالأدلة العلمية على أن الله سبحانه وتعالى قدر في الأرض أقواتها وأنه إذا حدثت مجاعة فإنما يكون سببها بشري بحت ، بسبب اقتراف المعاصي والذنوب والتي منها التقصير في البحث عن الرزق وأتباع غير سبيل المؤمنين لأن التقصير في البحث عن الرزق من الكبائر التي يقع فيها المسلمون الآن .

وسوف نبرهن للمسلمين أن قرآنهم معجز ، وأن حلول مشاكلنا بأيدينا ولكننا لجهلنا غفلنا حقائق ديننا وتعاليم ربنا سبحانه وتعالى .

أولاً: الطحالب وحل مشكلة الغذاء على الأرض :

ما الطحالب ؟

الطحالب قسم من المملكة النباتية ومملكة الأوليات ومملكة الطلائعيات يحتوي على الأعشاب البحرية المحتوية على صبغ اليخضور (الخضر ـ الكلوروفيل ) وهو أعظم مثبت للطاقة الشمسية على الأرض وتحويلها إلى طاقة كيميائية على هيئة روابط كيميائية في المواد الغذائية (الكربوهيدرات ) ويتم ذلك بتثبيت ثاني أكسيد الكربون وطاقة الضوء في وجود الماء والطحالب تحول هذه الخامات الأولية إلى مواد غذائية نأكلها ، وإلى طاقة ومنتجات نستفيد منها.

أين توجد الطحالب :

توجد الطحالب في كل مكان على سطح الكرة الأرضية ، من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي ، حيث توجد في العيون الحارة (90_100س) وتوجد على الثلوج حتى ـ 5س وتوجد في الهواء محمولة على هباءات التراب ، وتوجد في التربة الزراعية وعلى الصخور (الأشنات ) وفي المياه العذبة والمياه المالحة ، ومياه الصرف الصحي وغيرها .

وحيث أن الماء يغطي ما يزيد عن 71% من سطح كرتنا الأرضية ، وهذه المياه تزخر بالطحالب ويمكن أن نعيش فيها الطحالب فإننا يمكننا أستغلال 71% من سطح الأرض لتنمية الطحالب وحل مشكلة الغذاء.

والأمثلة كثيرة في قسم الطحالب ومنها :

طحلب الكوريللا Chlorella :    طحلب دقيق وحيد الخلية لا ترى الخلية الواحدة منه إلا بالمجهر الضوئي المركب ،يتميز هذا الطحلب بعدة مميزات منها : أنه يتكاثر بسرعة تحت الظروف الصناعية ليعطي محصولاً يصل إلى (20 ـ 30) مرة قدر المحاصيل التقليدية (الحبوب والأعلاف) فالفدان الواحد (4دونم تقريباً) من طحالب الكوريللا يعطي محصولاً من المادة الجافة قدرها 75طن بينما تعطي نفس المساحة حوالي 5طن من البرسيم المجفف (الدريس) أو 3طن فقط من القمح أو الشعير .

نصف المادة الجافة الناتجة من طحلب الكوريللا (50%) أي 35.5طن من مواد بروتينية 20% منها مواد نشوية (كربوهيدراتية ) 20% مواد دهنية ويحتوي المنتج الكلوريللي على فيتامينات أ، س، ب، ب 12

النتائج السابقة تقول : أن الفلاح إذا زرع فدان واحد من البرسيم أو الجت (البرسيم الحجازي) فإنه ينتج 5طن علف جاف ، ونفس المساحة إذا زرعت بطحلب الكوريللا يحصل على 75 طن علف جاف.

وفي فرنسا والمكسيك وتشاد يزرع طحلب سبيرولينا علىماء البحر المالح حيث يعطي الهيكتار 45 طن من النمو الطحلبي منهم 25 طن بروتين ، في حين أن البقر لا تعطي سوى 40 كجم /هيكتار/ سنة من البروتين على أكثر تقدير ويتم الآن في فرنسا جمع وتجفيف وطحن هذا الطحلب .

المنتجات الطحلبية السابقة تصلح للغذاء الآدمي ، وقد ثبت علمياً أن الذي يتغذى على الطحلب يكون في مأمن من العديد من الأمراض المصاحبة للشيخوخة وخاصة الأمراض المؤرقة والمعقدة والمفندة .

البروتين الناتج من الطحالب يحتوي على الأحماض الأمينية الأساسية والتي يمرض الإنسان إذا لم يتناولها مع الغذاء .

تستخدم المنتجات السابقة في تغذية الماشية والدواجن وبذلك نوفر الأعلاف المطلوبة للإنتاج الحيواني ، ونوفر الأرض التي كنا سنزرعها بالعلف ، لزراعتها واستغلالها في إنتاج الحبوب والخضر والفاكهة وغير ذلك من المحاصيل الزراعية .

تستخدم الطحالب كمخصبات للتربة الزراعية ومثبتات للنيتروجين الجوي وإنتاج الأدوية وكثيراً من المواد الكيميائية النافعة ، وتركيز اليود في بعض أجناس الطحالب النبية يصل إلى 30 ألف صعف تركيزه في ماء البحر فيكون في هذه الحالة 1% من وزن الطحلب البحري ، المنتشرة حول شواطئها .

كما تستغل الطحالب الصناعية  مادة الأجار ـ أجار المستخدمة في تصلب المنابت الغذائية للكائنات الحية الدقيقة ، وبعض الحلوى والمأكولات .

الطحالب تخلصنا من ثاني أكسيد الكربون الزائد عن النسبة العادية (3%) في الجو فتمنع تلوث البيئة وتحافظ على درجة حرارتها .

الطحالب تنتج الأوكسجين فتحافظ على نسبته في الجو ثابتة.

الطحالب هي المثبت الأصلي للطاقة في البحر ، وبذلك تعطي المحيطات نحو 5×10 أس عشرة ، طنا من المادة الجافة في العام ، وهذا رقم صخم للغاية لا يمكن تصوره .

اليابانيون والصينيون وبعض الدول الأخرى ، تتغذى على الطحالب منذ القدم وقد وضع الله في هذا الغذاء ما يجعلهم في منعة من كثير من أمراض سوء التغذية .

عند صعود رواد الفضاء في الأقمار الصناعية يضعون معهم طحلب الكوريللا ليخلص جو السفينة الداخلي من ثاني أكسيد الكربون الناتج من تنفس رواد الفضاء ويمدهم بالأوكسجين اللازم لحياتهم ويكون معهم مصدراً دائماً للمواد الغذائية لسنوات طويلة إذا نفد منهم الغذاء وتعذر عودتهم إلى الأرض لأسباب فنية .

فهل فطنا نحن المسلمين إلى ذلك، واستيقنا أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض في يويمين وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين وما علينا إلا السعي والبحث عن الرزق امتثالاً لقول ربنا سبحانه وتعالى : (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ).

 

ثانياً : أمثلة من مجال علم الفطريات :

ما الفطريات :

الفطريات عالم من عوالم الكائنات الحية التي خلقها الله سبحانه وتعالى خالية من اليخضور (الخضر أو الكلوروفيل ) الموجود في الطحالب التي سبق الحديث عنها ولذلك لا تستطيع تكوين غذائها بنفسها من المواد الأولية بالبيئة . ولكن الله سبحانه وتعالى : ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (1) أمد الفطريات بأعظم وأقوى جهاز أنزيمي تحليلي في العالم ، بحيث تستطيع تفتيت الصخور والفولاذ والماس والزجاج والشعر والأظافر والعظام حتى البلاستيك تهاجمه الفطريات وتحلله (لا يوجد شيء على سطح الكره الأرضية لا تهاجمه الفطريات ) هذا العالم من الكائنات الحية الدقيقة (الفطريات ) يستخدم الآن على نطاق واسع في إنتاج البروتينات والدهون والكربوهيدرات والأحماض العضوية والفيتامينات ، والهرمونات ومضادات الحيوية ويدخل في صناعة الألبان والأجبان والحلوى ويستخدم كمخصبات للتربة الزراعية وفي إصلاح التربة الصحراوية والعديد من الفطريات يؤكل كما هو الحال في فطر عيش الغراب (المشروم ) والكمأة (الفقع )، والبنسليوم روكفورياي مع الجبن .

أين توجد الفطريات؟

توجد الفطريات في كل مكان على سطح الكرة الأرضية تقريباً فهي توجد في المياه بأنواعها المختلفة وفي التربة جميعها وفي الهواء محمولة على هباءات التراب وتوجد على أجساد الكائنات الحية جميعها .

الفطريات وحل مشكلة الغذاء :

تستخدم الآن الفطريات على نطاق واسع كما قلنا في إنتاج البروتين من البترول والنفايات البشرية . وقد قدم المؤلف العديد من البحوث العلمية في استغلال الفطريات في إنتاج المواد الغذائية باستخدام نفايات المصانع وماء البحر، حيث تم استغلال المولاس وهي مادة متبقية من صناعة السكر والكيلوجرام منها يباع بـ 100 قرش تقريباً ومادة منقوع الذرة، وهي مادة منتجة أثناء صناعة النشا من الذرة والكيلوجرام منها يباع بـ 200 قرش تقريباً وماء البحر كمصدر للمعادة وجاءت النتائج كما يلي :

70 % من الوزن الجاف للفطر النامي دهن (ليبيدات )

20% من الوزن للفطر النامي بروتين .

10% من الوزن الجاف للفطر النامي مواد أخرى.

وتربية الفطريات وزراعتها لا تحتاج إلى أرض زراعية ولا ترابية صالحة للزراعة ويمكن التحكم في الظروف المزرعية وكمية الإنتاج والمدة المنتج فيها الإنتاج النهائي .

وحالياً يتم زراعة عيش الغراب، والفقع (الكمأة) على نطاق تجاري باستغلال نفايات الحقول الحظائر ووجد أن غرفة مساحتها 6م2 تعطي أكثر من (500) طن من فطر عيش الغراب في العام ، وبتحليل عينة عيش الغراب وجدبها:

2.4 %من الوزن الجاف بروتين

0.3% من الوزن الجاف دهن

0.4%  من الوزن الجاف كربوهيدرات

1.1% من الوزن الجاف رماد

0.9 % من الوزن الجاف ألياف، وبه كاليسوم، وفوسفور ، وحديد وفيتامين A,B,C وريبوفلافين ونياسين .

ولقد وجد أن مختبراً واحداً من فطر الأسبرجيللاس يعطي حمض ليمون يعادل إنتاج أشجار العالم من الليمون .

وفي مصر يتم الآن إنتاج بروتين أحادي الخلية (من الكائنات الحية الدقيقة وخاصة الفطريات) على المستوى الصناعي من المولاس، وعلى المستوى التجريبي من مخلفات المنازل والمزارع في معامل بحوث جامعة عين شمس والمركز القومي للبحوث ومركز البحوث الزراعية ، وقد استغل المؤلف نوى البلح في إنتاج البروتين بواسطة الفطريات .

وتستغل الفطريات حالياً (والبكتيريا) في إنتاج الجاز الحيوي (بيوجاز) حيث تستغل الفطريات في توليد الطاقة من الكتلة الحية المستخرجة من فضلات الحيوانات المتجمعة في حظائر المواشي ومن بقايا الحيوانات (هشيم المحتضر) وبقايا المنتجات الزراعية وتستخدم الطاقة الناتجة في الإنارة والطبخ والتدفئة وغيرها من الأمور الحياتية .

ثالثاً : استخدام الهندسة الوراثية وزراعة الأنسجة والزراعة بدون تربة والزراعة المحمية :

تستخدم الأمور السابقة في حل مشكلة الغذاء حيث يمكن بالهندسة الوراثية في مجال علم النبات إنتاج ثمار تزن أضعاف الأوزان الحالية للثمار ، وقد أنتجت السعودية درنة بطاطس تزن ما يزيد عن (30) ثلاثين كيلوجرام ، كما يمكن إستخدام زراعة الأنسجة في إنتاج آلاف الشتلات من النخيل والتفاح والبرتقال في غرفة لا يزيد مساحتها عن متر في متر كحاضنة باستخدام جهاز تعقيم وبعض الأدوات والمواد الكيميائية وهذه عملية إستنتساخ لخلايا النبات .

ويمكن استغلال الزراعة بدون تربة للتغلب على مشاكل التربة غير الصالحة للزراعة واستغلال الزراعة المحمية للتغلب على مشكلات المناخ والأمراض الوبائية في الزراعة المائية توفر 90% من مياه الري وتنتج المساحة ثمانية أضعاف الكمية التي تنتجها نفس المساحة بالزراعة العادية .

العالم المتحضر والمسخر لقوانين الله ونواميسه في الكون يستخدم المعطيات العلمية والعطاءات الإلهية السابقة في زيادة وتحسين الإنتاج ، ويوجد في العالم من يزرع العلف في الصباح ويحصد صباح اليوم التالي وبزراعة بعض النباتات الملحية مثل نبات المليح salicornia  وريه بمياه البحر مباشرة، واستخدام النبات في إنتاج الأعلاف والزيوت والبروتين .

رابعاً : استخدام واستغلال الطاقة الشمسية :

تستخدم الآن الطاقة الشمسية في تحلية مياه البحر سواء بنظام التبخير والتكثيف أو بالتجميد غير المباشر ، كما تستخدم في إدارة الآلات والوقود والإنارة وهذا لا يخفى على كثير من الناس في هذه الأيام.

 

كيف نحل مشكلة الغذاء في العالم الإسلامي :

ثبت علمياً بأن في الجزيرة العربية مخزوناً من المياه الجوفية والطاقة الشمسية والبترولية إذا استغلت في تحلية مياه البحر وزراعة الصحراء الشاسعة ذات الأرض الخصبة إذا ما لامستها المياه تكفي لتحويل أرض العرب إلى مروج وأنهار.

السعودية الآن تزرع القمح وإنتاجها زاد عن استهلاكها بكميات هائلة حتى أنها وزعت إنتاجها على بعض الدول الإسلامية ومنها دول زراعية منذ آلاف السنين .

السودان به أرض زراعية من أخصب الأرض في العالم ومساحتها تكفي أن تكون مزرعة العالم الإسلامي فقط ما تحتاجه السودان هو الأمن والأمان ورأس المال.

من الثابت علمياً بأن الصحراء الغربية بين مصر وليبيا أرض خصبة ومشروع النهر العظيم الليبي يدعم إمكانيات زراعة هذه الأرض كما أن تحويل مياه النيل إلى سيناء والصحراء الغربية يصلحها وهذا ما تقوم به مصر الآن .

اليمن السعيد بإعادة بناء سد مأرب والبعد بالشعب اليمنى عن زراعة القات والتركيز على الزراعات النافعة والمباحة شرعاً يتحول إلى أرض زراعية خصبة .

العالم الإسلامي به أكبر مصدر للطاقة الشمسية والطاقة البترولية في العالم .

العالم الإسلامي فيه القوى البشرية والمبالغ المالية ما يجعلها في بحبوحة من العيش بحيث نطعم أنفسنا ونطعم العالم معنا .

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الأرض في يومين وبارك فيها أقواتها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ..

قال تعالى : (ُقلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ)

فهل لنا نحن المسلمين عقولاً نفقه بها ، ونتدبر بها قرآن ربنا ونخرج من تخلفنا وضياعنا ونستخدم نواميس ربنا ، ونصبح خلفاء في الأرض أم نسير في طريق الهوان الذي نحن فيه ونصطدم مع نواميس الله في الكون ونغفل عن تعاليم ديننا الإيمانية ونعيش في ذل وهوان بعدما أعزنا الله سبحانه

 وأطعمنا من جوع وآمنا من خوف ؟

المصدر : كتاب آيات معجزات من القرآن وعالم النبات (حمل الكتاب من قسم كتب للتحميل)

تأليف الدكتور نظمي خليل أبو العطا دكتور الفلسفة في العلوم ( نبات) جامعة عين شمس .


[1] سورة قريش

[2]  سورة فصلت

 

 

وقـــــدّر فيــــها أقواتـــــها
 

 فــي أربعـــة أيــــام

الدكتور منصور العبادي

جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

إن الحياة على هذه الأرض لم يكن لها لتظهر لو لم يتم خلق جميع أجزاء هذا الكون  بتقدير بالغ  في جميع مراحل خلقه حيث أن خللاً بسيطاً في خلق مرحلة ما من هذه المراحل قد يحول دون أن تكون الأرض بالشكل والمواصفات التي هي عليها الآن. وإن كان هناك من  يعتقد أن هذا الكون قد خلقته الصدفة فقد تبين لنا اليوم بعد أن عرفنا القوانين التي تحكم الصدفة أنه  يستحيل أن تتفق ملايين الصدف خلال هذه الرحلة الطويلة التي مر بها خلق  الكون لكي توفر بالنهاية شروط ظهور الحياة على الأرض. وإذا كان الإنسان العاقل لا يمكنه أن يصدق أن الصدفة يمكنها أن تصنع مسمارا من الحديد على سطح أرض يملأ قشرتها الحديد فلا يجدر به أن يصدق أن الصدفة قد وقفت وراء خلق هذا الكون وما يحويه من مخلوقات بالغة التعقيد يقف البشر عاجزين عن فهم كثير من أسرار تركيبها. وممّا يدل على أن هذا القرآن قد أنزل من لدن عليم خبير هو كثرة الأيات التي تدعو البشر للتفكير في أوجه هذا التقدير البالغ في عمليات خلق الأشياء من حولهم. فلا يمكن لمثل هذه الدعوة أن تصدر عن رجل أمي عاش في وسط أمة أمية بل إنها صدرت عن من أحاط علمه  بكامل تفصيلات هذه المخلوقات ويعلم أن كل ما في هذا الكون من مخلوقات قد تم خلقها  وفق تقدير بالغ مصداقا لقوله تعالى "وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا" الفرقان 2،وقوله تعالى "إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر" القمر 49 وقوله تعالى "وكلّ شيء عنده بمقدار" الرعد 8، وقوله تعالى"الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين" السجدة 7،وقوله تعالى "صنع الله الذي أتقن كلّ شيء" النمل 88،وقوله سبحانه "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ شيء موزون" الحجر 10.

لقد شرحنا في مقالة سابقة أن أيام الخلق الستة التي ذكرتها الكتب المقدسة تمثل المدة الزمنية التي تطلبها خلق الكون منذ الانفجار الكوني العظيم الذي ملأ الفضاء بالدخان إلى أن يفنى الله هذا الكون ويعيده من حيث بدأ مصداقا لقوله تعالى "ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" وقوله تعالى "يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنّا كنّا فاعلين" الأنبياء 104. وقد تفرد القرآن الكريم على بقية الكتب المقدسة بأنه قسم فترة الستة أيام التي خلق الله بها السماوات والأرض إلى فترتين وهما فترة خلق الأرض الأولية وكذلك السماوات والتي استغرقت يومين من هذه الأيام الستة وفترة تقدير الأقوات في هذه الأرض والتي استغرقت الأيام الأربعة المتبقية مصداقا لقوله تعالى "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين  فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" فصلت 9-12.

وذكرنا أن فترة خلق الأرض الأولية تمثل المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل. أما فترة تقدير الأقوات فهي الأيام الأربعة المتبقية من أيام الخلق وقد حدد الله علامة بارزة  لبداية هذه الأيام الأربعة التي أكمل الله فيها تجهيز الأرض وهذه العلامة هي تكون الجبال فوق سطح الأرض. ومن الطبيعي أن تكون الجبال أول ما ظهر على سطح الأرض وبالتالي أول أحداث تهيئة الأرض فالأرض كانت قبل ذلك كما ذكرنا سابقا كرة ملساء وسطحها حار جدا وشبه سائل وكانت تغلي وتفور بسبب الحرارة الشديدة التي في باطنها كما سيكون مصيرها عند قيام الساعة لقوله تعالى "ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا" طه 105- 107.

وسنبين في هذه المقالة ما هو المقصود بتقدير أقوات الأرض من خلال شرح الأحداث التي مرت على الأرض بعد أن استقرت في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل. وتعني كلمة الأقوات في هذه الآية كل ما يلزم من  شروط ظهور الحياة على سطح الأرض فالقوت للكائن الحي هو ما يلزمه من طعام يبقيه على قيد الحياة. وفي هذه الأيام الأربعة التي قدّر الله فيها أقوات الأرض تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات الحية. وبعد أن وفر الله  كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات ومن ثم خلق الله الإنسان في آخر ساعة من ساعات اليوم السادس من أيام الخلق كما جاء ذلك في الأحاديث النبوية. وقد تمكن العلماء في مختلف التخصصات من رسم صورة واضحة وتفصيلية لجميع الأحداث التي مرت على الأرض منذ أن كانت كرة ملتهبة إلى أن أصبحت على هذا الشكل البديع التي هي عليه الآن.

 يقول علماء تطور الكون أن الأرض وكذلك بقية كواكب المجموعة الشمسية قد تكونت نتيجة  لتجمع الحطام المتناثر من انفجار بعض النجوم بعد أن وقع في أسر جاذبية الشمس وقد تم إذابة هذا الحطام من خلال التصادمات العنيفة بينها وبين النيازك التي تقع عليها من الفضاء الخارجي. ولقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل سائل أو شبه سائل وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء الكوني هو الشكل الكروي. وعند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية جسم ما كالشمس فإن تبعجا سيحدث في  شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب ويمكن إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير هذه الكرة بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة وهذا بالضبط ما حصل مع الأرض عند بداية تكونها مصداقا لقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها" النازعات 30. ولقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة في حالة الانصهار كما نشاهد ذلك عند خروج هذه المادة من شقوق هذه القشرة عند حدوث البراكين. ومن عجائب التقدير أن البشر يعيشون آمنين مطمئنين على ظهر كرة ملتهبة من المواد المنصهرة تبلغ درجة حرارتها عند مركز الأرض خمسة آلاف درجة ويزيد نصف قطرها عن ستة آلاف كيلومتر ولا يعزلهم عن حرارتها إلا قشرة رقيقة من الصخور لا يتجاوز سمكها الخمسين كيلومتر.

 ولكن هذه القشرة الرقيقة هي التي ساعدت على بقاء مواد الأرض في حالتها المنصهرة حيث عملت كطبقة عازلة حالت دون إشعاع حرارة الأرض الداخلية إلى الفضاء الخارجي الذي تصل درجة حرارته قريبا من الصفر المطلق. وفي الإبقاء على مواد الأرض الداخلية في حالة الانصهار حكمة بالغة حيث أن هذه المواد المنصهرة التي تخرج على شكل براكين من حين لآخر هي التي تزود سطح الأرض بالمواد اللازمة للكائنات الحية التي تعيش على سطح الأرض كالماء وثاني أكسيد الكربون وغيرها من العناصر الطبيعية وصدق الله العظيم القائل "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم" النازعات 30-33.

وعندما أصبح سمك القشرة الأرضية بالقدر الكافي بدأت المواد المنصهرة التي تقذف بها البراكين من جوف الأرض بالتراكم فوق هذا السطح الصلب لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال التي هي أول أحداث الأيام الأريعة لقوله تعالى "وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين". ولا زال مشهد تكون الجبال من البراكين قائما إلى يومنا هذا ولكنه يحدث بمعدل لا يكاد يذكر مع الحال الذي كان عند بداية تكون الأرض. ويمكن للقارئ أن يتخيل ما الذي يكون عليه حال الأرض لو أن القشرة الأرضية قد تكونت وكانت بسمك لا يسمح بخروج المواد المنصهرة منها على شكل براكين فسيبقى سطح الأرض كما وصفه الله قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا أيّ كرة ملساء جامدة وقاحلة كما هو الحال مع أسطح كثير من كواكب المجموعة الشمسية. وبعد أن بدأت الجبال بالتكون فوق سطح الأرض في بداية الأيام الأربعة الأخيرة من أيام الخلق جاءت مرحلة تأهيل الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها أو  مرحلة تقدير الأقوات التي استمرت على مدى هذه الأيام الأربعة وذلك لقوله تعالى "وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين". وسنشرح في ما يلي بعض الشروط الرئيسية التي تلزم لظهور الحياة على سطح الأرض وسنبين أن غياب أحد هذه الشروط كفيل بمنع الحياة من الظهور على الأرض كما حدث مع كواكب المجموعة الشمسية التي تخلو تماما من أيّ أثر للحياة عليها كما أثبت ذلك العلماء من خلال الرحلات الفضائية إلى تلك الكواكب.             

إن الشرط الأول في تصميم الأرض لتكون مهيأة لظهور الحياة عليها هو ضرورة وجودها بالقرب من مصدر لإنتاج الطاقة الذي يمدها بالطاقة اللازمة لحفظ درجة حرارة سطحها ضمن حدود دنيا وعليا تضمن ظهور الحياة عليها. وقد تم اختيار الشمس كمصدر يمد الأرض بالطاقة اللازمة لها من خلال إشعاع الأمواج الكهرومغناطيسية التي تسقط على سطح الأرض فيمتص طاقتها وترفع درجة حرارته. والشمس نجم متوسط الحجم يبلغ نصف قطرها سبعمائة ألف كيلومتر أيّ أن حجمها يزيد عن حجم الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة وتبلغ قدرتها الإشعاعية أربعمائة بليون بليون ميجاواط  أيّ أنها تنتج  في الثانية الواحدة كمية من الطاقة  تعادل ما تنتجه جميع المحطات الكهر

 

القدرة الإشعاعية للشمس هي أربعمائة بليون بليون ميجاواط  أيّ أنها تنتج  في الثانية الواحدة كمية من الطاقة  تعادل ما تنتجه جميع المحطات الكهربائية في العالم في ثمانية ملايين سنة

بائية في العالم في ثمانية ملايين سنة. وتولد الشمس هذه الطاقة الهائلة من خلال صهر ما يقرب من أربعة ملايين طن من الهيدروجين في الثانية الواحدة وذلك على شكل تفاعل نووي حراري يتم فيه تحويل ذرتي هيدروجين إلى ذرة هيليوم واحدة وتحويل فرق الكتلة إلى طاقة. ومن عجائب التقدير أن درجة حرارة سطح الشمس يبلغ ستة آلاف درجة مئوية وقد تبين أن درجة الحرارة هذه تعطي طيف إشعاع يتمركز حول الجزء المرئي من الطيف الكهرومغناطيسي والذي يتوافق تماماً مع متطلبات الكائنات الحية من الإشعاع الشمسي الذي يستخدم في عملية التمثيل الضوئي وكذلك في نظام الإبصار المستخدم في كثير من أنواع الكائنات الحية. ولضمان بقاء الأرض على بعد ثابت من الشمس لكي تمدها بمقدار ثابت من الطاقة  فقد قدّر الله أن تدور الأرض حول الشمس في مدار شبه دائري يبلغ متوسط نصف قطره مائة وخمسين مليون كيلومتر. ومن الجدير بالذكر أن دوران الأجرام حول بعضها البعض في هذا الكون هي الوسيلة الوحيدة لمنع هذه الأجرام من أن تنهار على بعضها بسبب قوة الجاذبية بينها فالقمر يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس والشمس تدور حول مركز المجرة وصدق الله العظيم القائل "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون" يس 38-40. وعلى الرغم من بعد الأرض الكبير عن الشمس إلا أن كمية الطاقة التي تسقط على المتر المربع الواحد من سطح الأرض عند خط الاستواء يبلغ ما يقرب من ألف جول في الثانية،أيّ أن مجموع ما تستلمه الأرض من طاقة الشمس في الثانية الواحدة يبلغ مائة بليون ميجاواط. إن هذه الكمية من الطاقة التي تستلمها الأرض من الشمس كافية لحفظ درجة حرارة سطحها عند خمسة عشر درجة مئوية في المتوسط وهذه درجة حرارة مناسبة للكائنات الحية المختلفة. ولقد تم اختيار بعد الأرض عن الشمس بتقدير بالغ  فلو كان بعدها أقرب أو أبعد ممّا هو عليه الآن لكانت درجة حرارة الأرض أكبر أو أقل من تلك اللازمة لظهور الحياة وممّا يدلل على ذلك هو غياب الحياة في بقية كواكب المجموعة الشمسية سواء تلك التي هي أقرب للشمس  مثل عطارد والزهرة أو تلك الأبعد عن الشمس مثل المريخ والمشتري وبقية الكواكب.

أما الشرط الثاني فهو ضرورة دوران الأرض حول محور متعامد تقريباً مع الخط الواصل بين الشمس والأرض وذلك لكي يتم تعريض جميع سطحها لضوء الشمس من خلال تعاقب الليل والنهار عليها. فلو توقفت الأرض عن الدوران أو كان محور دورانها موازياً لهذا الخط كما هو في بعض الكواكب لكان أحد نصفي الأرض معرض للشمس باستمرار بينما لن يصل ضوء الشمس للنصف الآخر وبذلك يكون أحد نصفيها نهارادائماشديد الحرارة والنصف الآخر ليلادائماشديد البرودة وصدق الله العظيم القائل "قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" القصص 71-73. إن شرط دوران الأرض حول محورها قد لا تكفي لظهور الحياة عليها إن لم يتم اختيار سرعة دورانها بشكل دقيق فلو كانت هذه السرعة أبطأ ممّا هي عليه لزاد طول كل من الليل والنهار ولارتفعت درجة حرارتها بشكل كبير أثناء النهار بسبب طول فترة تعرضها للشمس ولانخفضت درجة حرارتها أثناء الليل بسبب طول فترة إشعاع الحرارة منها. ولو كان دورانها أسرع ممّا هو عليه لقصر طول كل من الليل والنهار ولما تمكنت الأرض من أخذ كمية كافية من طاقة الشمس أثناء النهار وبذلك ينخفض معدل درجة حرارتها عما هو عليه الآن. ومن فضل الله على الناس أنه على الرغم من حركة الأرض حول الشمس وبسرعة هائلة تزيد عن مائة ألف كيلومتر في الساعة وحركتها حول محورها وبسرعة سطحية تزيد عن ألف وخمسمائة كيلومتر في الساعة عند خط الاستواء إلا أن البشر لا يحسون بهذه الحركات على الإطلاق بل تبدو لهم الأرض في تمام السكون والاستقرار. ولم يتمكن البشر من اكتشاف أن الأرض تتحرك بهذه السرعات الهائلة إلا في القرن السابع عشر للميلاد.

أما الشرط الثالث فهو ضرورة إمالة اتجاه محور دوران الأرض عن الاتجاه العمودي بزاوية كافية وبشكل متواصل أثناء دورانها حول الشمس وذلك لأسباب تلزم لاستمرار الحياة على الأرض. وقد وجد العلماء أن هذا المحور

 

لقد وجد العلماء أن محور الأرض يميل بزاوية مقدارها ثلاث وعشرون درجة ونصف الدرجة عن المستوى الرأسي للدوران

 بزاوية مقدارها ثلاث وعشرون درجة ونصف الدرجة عن المستوى الرأسي وهو يتحرك حركة مخروطية بطيئة تؤدي إلى تغير بطيء لاتجاه المحور بحيث يميل النصف الشمالي للأرض نحو الشمس في فصل الصيف ويبتعد عنها في فصل الشتاء. إن هذه الإمالة ضرورية  لتعريض قطبي الأرض الشمالي والجنوبي لضوء الشمس الذي لا يمكنه الوصول إليهما فيما لو بقي محور الدوران ثابتا على الاتجاه العمودي. إن وصول ضوء الشمس للقطبين ضروري جدا لإذابة بعض الجليد الموجود عليهما وإلا فإن المطر الذي يسقط عليهما سيتجمد ولن يعود مرة ثانية إلى المحيطات وبذلك ستنضب المحيطات من مياها في نهاية المطاف. ويلزم تأرجح محور دوران الأرض كذلك لتغيير درجات حرارة سطحها بشكل دوري من خلال تغيير اتجاه حركة الرياح والتي توزع الأمطار على معظم أجزاء سطح اليابسة. ويعمل هذه التأرجح كذلك على نشوء ظاهرة الفصول الأربعة الضرورية لضبط دورة حياة كثير من النباتات وكذلك يعمل على توفير أنواع متعددة من الظروف المناخية تساعد على  ظهور طيف واسع من أشكال الكائنات الحية على الأرض. وقد يكون في قول الله تعالى "ألم تر إلى ربّك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثمّ جعلنا الشمس عليه دليلا ثمّ قبضناه إلينا قبضا يسيرا" الفرقان 45-46  إشارة إلى ظاهرة التأرجح هذه فطول ظل الأشياء في كل يوم من أيام السنة يختلف عن طوله في بقية الأيام  بسبب هذا التأرجح وقد يكون القبض اليسير التي تشير له هذه الآية في طول الظل إشارة إلى هذه الظاهرة والله أعلم.

أما الشرط الرابع فهو ضرورة حماية الحياة على الأرض من الإشعاعات الضارة التي تنطلق من الشمس ومن بقية النجوم في هذا الكون حيث أن هذه النجوم تنتج طاقتها من خلال عملية الاندماج النووي الذي ينتج جميع أنواع الإشعاعات النافعة منها والضارة. وقد كان من لطف الله أن اختار موقع المجموعة الشمسية في مجرة درب التبانة في مكان في غاية التقدير فلا هو في قلب هذه المجرة اللولبية ولا هو في داخل الذراعين الممتدين منها حيث تكون كثافة النجوم والشهب والغبار الكوني عالية جداً. بل جاء مكانها فيما بين هذين الذراعين حيث تكون كثافة النجوم أقل ما يمكن وبذلك لا يصل من إشعاعات نجوم المجرة إلى الأرض إلا القدر اليسير. ويبقى بعد ذلك حماية سطح الأرض من إشعاعات الشمس الضارة وقد تم هذا بطريقة بالغة الذكاء حيث وجد العلماء أن الأرض تتفرد بوجود مجال مغناطيسي تفوق شدته مائة مرة شدة أقوى المجالات المغناطيسية في بقية الكواكب رغم أن الأرض ليست بأكبرها حجماً. وقد تبين للعلماء أن هذا المجال المغناطيسي العالي قد نتج عن وجود قلب كبير من الحديد والنيكل في باطن الأرض والذي لا يوجد ما يشبه في بقية الكواكب ولذلك كانت الأرض أكثرها كثافة. وقد تبين للعلماء أن هذا المجال المغناطيسي الشديد نسبياً لم يخلق عبثاً بل هو الدرع الذي يحمي سطح الأرض من وصول إشعاعات الشمس الضارة إليها حيث يقوم هذا المجال الذي يحيط بها بصد هذه الإشعاعات وتغيير مسارها نحو قطبي الأرض الشمالي والجنوبي حيث يندر وجود كائنات حية عندها. وبما أن المجال المغناطيسي للأرض لا يتفاعل إلا مع الإشعاعات التي تحمل شحنات كهربائية فهو غير قادر على صد الجسيمات المتعادلة كهربائية والقادمة من الشمس ولذلك لا بد من وجود وسيلة أخرى لمنع وصولها لسطح الأرض فكان من لطف الله أن أحاط الأرض بدرع ثان لحمايتها من هذه الإشعاعات وهو طبقة الأوزون الموجود في أعالي الغلاف الجوي حيث يقوم الأوزون بامتصاص طاقة هذه الإشعاعات ويمنع وصولها إلى سطح الأرض.

أما الشرط الخامس فهو حماية الأرض من النيازك التي تقذف بها النجوم المنفجرة في داخل مجرتنا أو المجرات المجاورة حيث يصل إلى المجموعة الشمسية آلاف الشهب والنيازك في الساعة الواحدة. وهذه النيازك قد تسبب دماراً هائلاً على سطح الأرض على الرغم من صغر حجمها وذلك بسبب سرعتها الهائلة التي قد تصل إلى مئات الآلاف من الكيلومترات في الساعة. وقد يتسبب نيزك بكتلة لا تتجاوز عدة مئات من الكيلوجرامات دماراً لا يقل عن الدمار الذي يسببه تفجير قنبلة نووية.وفي الحفر الواسعة التي تتركها النيازك بعد ارتطامها بالأرض مثال على هذا الدمار. وإن أخوف ما يخافه العلماء على سكان هذه الأرض هو ارتطام نيزك كبير الحجم بها بحيث يؤدي إلى فناء الحياة عليها وصدق الله العظيم القائل "أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف تذير" الملك 17. ومن لطف الله بالبشر أنه حمى الأرض من هذه النيازك بعدة آليات أهمها وجود عدد كاف من الكواكب الخارجية التي تقوم بجذب النيازك لها قبل أن تصل إلى الأرض كما يفعل ذلك كوكب المشتري الذي يفوق حجمه حجم الأرض بألف وثلاثمائة مرة. والمشتري موجود في مدار أبعد من مدار الأرض عن الشمس وهو على عكس المألوف في توزيع الكواكب حول نجومها حيث تكون الكواكب الأكثر وزناً أقرب للنجم الذي تدور حوله من الكواكب الأقل وزنا ولذلك فقد أطلق العلماء اسم صياد الشهب

 

أطلق العلماء اسم صياد الشهب على كوكب المشتري

على كوكب المشتري. أما ما تبقى من النيازك الصغيرة التي تفلت من جاذبية الشمس والكواكب الخارجية والداخلية وتصل إلى الأرض فإن الغلاف الجوي يتكفل بحرق معظم كتلتها قبل وصولها إلى سطح الأرض بسبب الاحتكاك الشديد بينها وبين الهواء وما نشاهده في السماء أثناء الليل من شهب إنّما هو احتراق هذه النيازك في جو الأرض.

وأما الشرط السادس فهو ضرورة أن تكون قشرة الأرض رقيقة نسبياً حيث يبلغ متوسط سمك القشرة تحت القارات خمس وثلاثون كيلومتر وتحت المحيطات سبعة كيلومترات ومع مقارنة سمك هذه القشرة مع نصف قطر الكرة الأرضية البالغ ستة آلاف وأربعمائة كيلومتر تقريباً يتبين لنا مدى رقة هذه القشرة. إن هذه القشرة من الرقة بمكان بحيث من المحتمل أن تتشقق فتخرج منها البراكين أو تنخسف بسبب تآكل باطنها بسبب الحرارة العالية لباطن الأرض وصدق الله العظيم القائل "ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور" الملك 16.

وقد تبين للعلماء أن لرقة هذه القشرة أهمية بالغة لظهور الحياة على الأرض فبسبب هذه القشرة الرقيقة نسبياً لم تتمكن من امتصاص بعض الغازات المكونة للغلاف الجوي والتي لا يمكن للحياة أن تظهر على الأرض بدونها. هذا بالإضافة إلى أن رقة هذه القشرة قد سهلت حركة هذه القشرة لتكوين القارات والمحيطات وسمحت كذلك بحدوث البراكين التي شكلت هذه التضاريس الأرضية البديعة من جبال وتلال وسهول وهضاب وصحارى وأودية وأغوار وقيعان.

 إنهذه التضاريس العجيبة لم تخلق فقط للنواحي الجمالية فقط بل لتلعب دوراًَ مهما في ظهور الحياة على الأرض فالجبال الشامخة تحتفظ بمياه الامطار على شكل ثلوج تمد الأنهار بالماء أثناء ذوبانها في الصيف والقيعان تحتفظ بمياه الأمطار على شكل بحيرات  والتعرجات في الطبقات الصخرية للاحتفاظ بالمياه الجوفية.

 وقد أدى تفاوت ارتفاع هذه التضاريس إلى تفاوت في درجات حرارة سطح الأرض ممّا أدى إلى توفير بيئات مختلفة لمختلف أنواع الكائنات وصدق الله العظيم القائل "أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون" النمل 61.  وبسبب رقة هذه القشرة كان لا بد من تثبيتها بشكل كبير لكي لا تنزلق فوق الوشاح شبه السائل الذي يقع تحتها أثناء دوران الأرض حول محورها وقد تم هذا التثبيت باستخدام جذور الجبال التي تغوص في داخل هذا الوشاح وتعمل كالأوتاد التي تمنع انزلاق القشرة بسبب الاحتكاك الكبير بين جذور الجبال الصلبة وطبقة الوشاح السائلة وصدق الله العظيم القائل "خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبثّ فيها من كلّ دآبّة وأنزلنا من السماء مآء فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم" لقمان 10، والقائل سبحانه

 "ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا" النبأ 6-7.

أما الشرط السابع فهو ضرورة توفر عدد كبير من العناصر اللازمة لبناء الكائنات الحية وممّا يثير دهشة العلماء أن الأرض تحتوي على اثنين وتسعين عنصر طبيعي من بين ما يزيد عن مائة عنصر يمكن أن تكون موجودة في هذا الكون. ولا يزال العلماء في حيرة من أمرهم حول كيفية وصول هذا العدد الكبير من العناصر إلى الأرض وبكميات تتناسب والحاجة إليها فشمسنا التي تحرق نووياً أربعة ملايين طن من الهيدروجين في الثانية الواحدة لا يمكنها أن تصنع إلا عنصر واحد وهو الهيليوم.

 ولذلك فقد استدل العلماء على وجود نجوم في هذا الكون لها أحجام تفوق حجم الشمس بملايين المرات لكي تتمكن من تصنيع هذا العدد الكبير من العناصر الثقيلة.

وقد قدّر الله  أن تنفجر هذه النجوم لتتطاير منها هذه العناصر المختلفة في أرجاء الفضاء المحيط بها ليقع قسما من هذه الكتل المتطايرة في أسر جاذبية الأرض عند أول نشأتها. وتشكل ثمانية من هذه العناصر ثمانية وتسعين بالمائة من وزن القشرة الأرضية وهي الأوكسجين (47%) والسيليكون (28%) والألمنيوم (8%) والحديد (5%) والكالسيوم (3،6%) والصوديوم (2،8%) والبوتاسيوم (2،6%) والمغنيسيوم (2،1%). وتحتاج الكائنات الحية لبناء أجسامها ما يزيد عن عشرين عنصراً من العناصر الطبيعية التي يحويها تراب هذه الأرض والبالغ عددها اثنين وتسعين عنصرا وتشكل أربعة من هذه العناصر وهي الكربون والأوكسجين والهيدروجين والنيتروجين ما يزيد عن خمس وتسعين بالمائة من وزن الكائن الحي بينما تشكل بقية العناصر التي أهمها الفوسفور والكبريت والصوديوم والكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم والكلور والحديد الخمسة بالمائة المتبقية. ومن عجائب التقدير أن العناصر التي تحتاجها النباتات لإنتاج المواد العضوية قد تم توزيعها في جميع هواء وماء وتراب الأرض وقلما تجد تربة على سطح الأرض تخلو من العناصر الضرورية للحياة. وعلى الرغم من أن ما يلزم لبناء أجسام الكائنات الحية من العناصر الطبيعية لا يزيد عن عشرين عنصراً إلا أن توفر بقية العناصر على الأرض  لم تعرف أهميته إلا في هذا العصر حيث قام الإنسان باستخدامها في عدد كبير من التطبيقات.  فلولا عنصر الحديد ذوالمتانة العالية وذوالقابلية العالية للتشكيل لما ظهرت كثير من الصناعات الحديثة كصناعة السيارات والمحركات والآلات والمعدات الزراعية والحربية. ولولا عنصرا الألمنيوم والتيتانيوم خفيفاالوزن لما كانت صناعة الطائرات والصواريخ والمركبات الفضائية ولولا عنصراالسيليكون والجرمانيوم لما ظهرت صناعة الإلكترونيات ولما ظهرت بالتالي أجهزة الاتصالات والمعلومات. ولولا عنصراالنحاس والألمنيوم ذات الموصلية العالية للكهرباء لما أمكن توليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها على المنازل والمصانع بهذه الكفاءة العالية. ولولا عنصر اليورانيوم لما أمكن استغلال الطاقة الذرية وهكذا هو الحال مع بقية العناصر التي لكل منها  من الخصائص المميزة ما يناسب مختلف أنواع الصناعات وصدق الله العظيم القائل "وآتاكم من كلّ ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفار" إبراهيم 34 والقائل سبحانه"وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس" الحديد 25.

أما الشرط الثامن فهو ضرورة توفر الماء بكميات كافية على سطح الأرض مع وجود آليات محددة  لتوزيعه على سطح اليابسة. وقد تفرد كوكب الأرض من بين جميع كواكب المجموعة الشمسية بوجود هذه الكميات الضخمة من الماء الذي يغطي ما يقرب من سبعين بالمائة من سطح الأرض. وقد اكتشف العلماء أن معظم الماء الموجود على سطح الأرض قد خرج من باطنها من خلال تفجر البراكين مصداقا لقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها مائها ومرعاها" النازعات 30-31. وقد قدّر العلماء كمية الماء الموجودة على سطح الأرض بألف وأربعمائة مليون كيلومتر مكعب وهذه الكمية كافية لتغطية جميع سطح الأرض بارتفاع  ثلاثة كيلومترات فيما لو كانت الأرض على شكل كرة ملساء. ولكن بتقدير من الله وبسبب ضغط الماء الكبير على قشرة الأرض التي كانت طرية ورقيقة في بداية نشأة الأرض فقد بدأ جزء من سطح الأرض بالانخفاض تحت وطأة هذا الضغط ممّا جلب مزيدا من الماء لهذا الجزء الذي واجه مزيدا من الانخفاض وقد توالت هذه العملية حتى تجمع الماء في جهة واحدة من سطح الأرض وانحسر عن الجزء المتبقي من السطح الذي ارتفع مستواه بسبب الضغط المعاكس على القشرة من داخل الأرض مكونا اليابسة. ولقد تبين للعلماء من خلال أبحاثهم في هذا المجال أن المحيطات التي نراها اليوم كانت محيطاً واحداً وكذلك القارات فقد كانت قارة واحدة ولكن وبسبب حركة الصفائح التي تتكون منها القشرة الأرضية بدأت القارة الأولية بالانقسام إلى عدة قارات بشكل بطيء جداً بما يسمى ظاهرة انجراف القارات. وتشكل المحيطات سبعين بالمائة من سطح الأرض بينما تشكل اليابسة ثلاثين بالمائة ويبلغ متوسط ارتفاع اليابسة عن سطح البحر ما يقرب من كيلومتر واحد بينما يبلغ متوسط انخفاض المحيطات عن سطح البحر أربعة كيلومترات تقريبا. أما عملية نقل الماء من المحيطات وتوزيعها على كل جزء من أجزاء سطح اليابسة فقد تمت بآليات بالغة الإتقان حيث يتم استخدام الطاقة الشمسية لتبخير الماء من البحار والمحيطات بدون أن يتم رفع درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان ومن ثم تعمل الرياح على حمل بخار الماء من فوق السطوح المائية فترتفع به إلى طبقات الجو العليا حيث يتكثف إذا ما صادف مناطق باردة ويسقط على شكل أمطار وثلوج فوق اليابسة وصدق الله العظيم القائل "وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون" الأعراف 57. ومن عجائب التقدير أن نسبة سطح المحيطات إلى  سطح اليابسة قد تم اختياره بشكل بالغ الدقة بحيث تكون كمية الأمطار التي تسقط على اليابسة بقدر لا هو بالمرتفع فيجرف كل ما هو عليها ولا هو بالمتدني فيصيبها الجفاف وصدق الله العظيم القائل  "وأنزلنا من السماء مآء بقدر فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين" المؤمنون 18-20.

أما الشرط التاسع فهو توفر الغلاف الجوي الذي  يحيط بهذه الأرض والذي قد تم تقدير محتوياته بشكل بالغ الدقة بحيث لو اختلت نسب هذه المحتويات ولو بمقدار بسيط لما ظهرت الحياة على الأرض. ويتكون الغلاف الجوي من خليط من أربع غازات وهي النيتروجين الذي تبلغ نسبته ثمانية وسبعين بالمائة والأوكسجين الذي تبلغ نسبته واحد وعشرين بالمائة والآرغون الذي تبلغ نسبته ما يقرب من واحد بالمائة وثاني أكسيد الكربون الذي تبلغ نسبته ثلاثة من مائة  بالمائة. ولقد تم تصميم الغلاف الجوي بشكل دقيق بحيث يقوم بمهام متعددة تساعد على ظهور وبقاء الحياة على الأرض. فأول هذه المهام هو عزل سطح الأرض عن الفضاء الخارجي الذي يحيط بها والذي تقترب درجة حرارته من الصفر المطلق حيث يسمح الغلاف الجوي بمرور الطاقة الشمسية إلى سطح الأرض أثناء النهار بينما يمنع بشكل جزئي مرور الإشعاع  الحراري الذي ينبعث من سطح الأرض الساخن إلى الفضاء الخارجي. ولكي تبقى الأرض في حالة اتزان حراري فإنه يلزم أن تكون كمية الطاقة المستلمة من الشمس تساوي كمية الطاقة المنبعثة من الأرض إلى الفضاء الخارجي وقد وجد العلماء أن هذا الاتزان الحراري يتم عند درجة حرارة متوسطة لسطح الأرض تبلغ خمسة عشر درجة مئوية. ويعمل الغلاف الجوي على أن تبقى درجة حرارة سطح الأرض في الليل والنهار ضمن الحدود المسموح بها لبقاء الحياة على الأرض حيث لا يتجاوز الفرق بين أعلى وأقل درجة في أقسى الظروف الأرضية الخمسين درجة مئوية وعند مقارنة ذلك  بدرجة حرارة سطح القمر الذي يفتقر لغلاف جوي نجد أن درجة حرارة سطحه تبلغ مائة وثلاثون درجة مئوية في النهار ومائة وسبعون درجة مئوية تحت الصفر في الليل أيّ بفارق ثلاثمائة درجة مئوية. وقد تبين للعلماء أن غاز ثاني أكسيد الكربون على قلة نسبته في الغلاف الجوي يلعب دورا كبيرا في تحديد درجة حرارة الاتزان هذه وهنالك تخوف كبير من أن تؤدي الزيادة في نسبة ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن حرق هذه الكميات الكبيرة من أنواع الوقود المختلفة إلى زيادة درجة حرارة سطح الأرض بما يسمى بظاهرة الانحباس الحراري والتي قد تؤدي إلى اختلال كبير في مناخ الأرض ونظامها البيئي. أما المهمة الثانية للغلاف الجوي فهي حماية الكائنات الحية من الإشعاعات الضارة التي تصل إلى الأرض من الشمس ومن الشهب والنيازك القادمة من الفضاء الخارجي حيث تعمل طبقة الأوزون الموجودة في أعالي الغلاف الجوي على امتصاص هذه الإشعاعات الضارة بينما يتم حرق كتل الشهب والنيازك أثناء مرورها عبر الغلاف الجوي. أما المهمة الثالثة للغلاف الجوي فهي توفير الغذاء اللازم لجميع الكائنات الحية حيث يحتوي على ثلاثة عناصر من أهم أربعة عناصر تحتاجها الكائنات الحية وهي الكربون والأوكسجين والنيتروجين أما العنصر الرابع وهو الهيدروجين فتأخذه النباتات من الماء الذي تمتصه من خلال جذورها. وحسب تقديرات العلماء فإن كمية ثاني أكسيد الكربون التي تأخذه النباتات من الهواء سنويا  يبلغ خمسمائة  بليون طن  وكمية الماء الذي تمتصه يبلغ 410 بليون طن وكمية الطاقة التي تستمدها من ضوء الشمس يبلغ جزء من ألفي جزء من الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض  وتنتج في المقابل 341 بليون طن من سكر الجلوكوز و205 بليون طن من الماء و364 بليون طن من الأوكسجين وصدق الله العظيم القائل "وهو الذي أنزل من السماء مآء فأخرجنا به نبات كلّّ شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبّا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزيتون والرمّان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون" الأنعام 99 والقائل سبحانه "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون" يس 80.

أما الشرط العاشر فهو وجود قمر بحجم كبير يدور حول الأرض حيث يبلغ قطر القمر ما يقرب من سبع وعشرين بالمائة من قطر الأرض ويدور في مدار شبه دائري وعلى بعد ثلاثمائة وأربع وثمانون ألف كيلومتر في المتوسط. ويقول العلماء أن استقرار سرعة دوران الأرض حول محورها وحول الشمس وكذلك ثبات بعد مدارها عن الشمس  يعود إلى وجود قمر بهذا الحجم حولها. ويعمل القمر كذلك على إحداث ظاهرة المد والجزر في البحار والمحيطات والتي يعتقد العلماء أنها تلعب أدوارا مهمة في تأرجح الأرض

 

يقول العلماء أن استقرار سرعة دوران الأرض حول محورها وحول الشمس وكذلك ثبات بعد مدارها عن الشمس  يعود إلى وجود قمر بهذا الحجم حولها

 حول محورها وتحديد طبيعة المناخ وتشكيل السواحل البحرية واستمرار الحياة البحرية. ومن عجائب التقدير أن ظاهرة المد والجزر تعمل على نقل جزء من الطاقة الحركية الناتجة عن دوران الأرض حول نفسها إلى القمر فتزيد من سرعة دورانه حول الأرض وبالتالي يزداد بعده عن الأرض بمعدل ثلاث سنتيمترات في السنة بينما تتباطأ سرعة دوران الأرض بمقدار ضئيل جدا. ولولا هذا التقدير البالغ لكان من الممكن أن يسقط القمر على الأرض مع مرور بلايين السنين نتيجة لتباطؤسرعته بسبب النيازك التي ترتطم بسطحه أو أن يقترب كثيرا من الأرض ممّا يزيد من شدة ظاهرة المد والجزر. ويعتقد العلماء كذلك أن جاذبية القمر تعمل على تحريك المادة شبه السائلة الموجودة في وشاح الأرض ممّا يؤدي إلى حدوث بعض العمليات الجيولوجية في قشرة الأرض كالزلازل والبراكين والتي ساعدت في الماضي على تشكيل تضاريس الأرض وإخراج كثير من العناصر الطبيعية اللازمة للحياة من باطن الأرض إلى قشرتها. ولا ننسى كذلك دور القمر في توفير الإضاءة لسطح الأرض في الليل الدامس وكذلك المنظر الجمالي الذي يوفره للإنسان وكذلك دوره في تحديد الشهور والسنوات وصدق الله العظيم القائل في محكم تنزيله "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ يفصل الأيات لقوم يعلمون" يونس 5. والقائل سبحانه"تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكّر أو أراد شكورا" الفرقان 61-62.


 

روابط ذات صلة :

الكاتب:

الأستاذ الدكتور منصور ابراهيم  أبوشريعة العبادي

قسم الهندسة الكهربائية-جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، اربد – الأردن

تلفون ثابت: عمان 5412220 -6-962

تلفون خلوي: عمان 0795574238

mabbadi@just.edu.jo 

المراجع

1-   بداية الخلق في القرآن الكريم، د. منصور العبادي، دار الفلاح للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 2006م.

مصدر الصور موقع الموسوعة الحرة http://en.wikipedia.org/wiki/Main_Page

 

 

مواضيع ذات علاقة

اسم الموضوع

هجري

تاريخ الموضوع

الإعجاز في علوم الأرض في القرآن الكريم

30 شعبان 1429

2008/08/31

الإعجاز في النباتات

25 شعبان 1429

2008/08/26

الإعجاز الطبي والدوائي في القرآن الكريم

12 شعبان 1429

2008/08/13