الدكتور فاضل السامرائي
قال الله تعالى : (إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ {54} فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ
مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)
[القمر].
سأل سائل: لم وحد تعالى: (النهر) في هذه الآية ولم يجمعه مع أن الجنات
قبله جمع بخلاف المواضع الأخرى من القرآن الكريم، فإنه إذا جمع الجنة،
جمع النهر أيضاً فيقول: (جنات تجري من تحتها
الأنهار)
والجواب: أنه جمع في لفظ (النهر) عدة معان وأعطى أكثر من فائدة لا
يفيدها فيما لو قال: (أنهار) ذلك أنه علاوة على أن فواصل الآيات، تقتضي
(النهر) لا (الأنهار) لأن آيات السورة على هذا الوزن فقد جاء قبلها:
(وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر) وجاء بعدها:
(في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فإن
المعنى أيضاً ذلك من جهات أخرى منها:
أنة النهر اسم جنس بمعنى الأنهار، وهو بمعنى الجمع
والكثرة، ومنه قوله
r:
"أهلك الناس الدينار والدرهم"
والمراد بالدينار والدرهم الجنس لا الواحد.
وجاء في (معاني القرآن): "ونهر معناه أنهار وهو في مذهبه كقوله: (سيهزم
الجمع ويولون الدبر)
وزعم الكسائي أنه سمع العرب يقولون: أتينا
فلاناً فكنا في لحمة ونبيذة فوحد ومعناه الكثير"
.
ومنها: أن معاني (النهر) أيضاً السعة
والسعة ههنا عامة تشمل سعة المنازل وسعة الرزق والمعيشة، وكل ما
يقتضي تمام السعادة السعة فيه. جاء في (البحر المحيط): "ونهر: وسعة في
الأرزاق والمنازل"
. وجاء في (روح المعاني): "وعن ابن عباس تفسيره بالسعة والمراد
بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل:
ما يعمهما".
ومنها: أن من معاني (النهر) أيضاً الضياء
.
جاء في (لسان العرب): "وأما قوله ـ عز وجل ـ(إن
المتقين في جنات ونهر) فقد يجوز أن يعني به السعة والضياء
، وأن يعني به النهر الذي هو مجرى الماء، على وضع الواحد موضع
الجميع... وقيل في قوله: (جنات ونهر) أي: في ضياء وسعة، لأن الجنة ليس
فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ"
.
وجاء في (معاني القرآن) لفراء: "ويقال: (إن
المتقين في جنات ونهر) في ضياء وسعة"
.
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فإن المتقين في جنات وأنهار كثيرة
جارية، وفي سعة من العيش والرزق والسكن وعموم ما يقتضي السعة، وفي ضياء
ونور يتلألأ ليس عندهم ليل ولا ظلمة.
فانظر كيف جمعت هذه الكلمة هذه المعاني كلها، إضافة إلى ما تقتضيه
موسيقى فواصل الآيات بخلاف ما لو قال (أنهار)، فإنها لا تعني إلا شيئاً
واحداً.
ثم انظر كيف أـنهه لما كان المذكورون هم من خواص المؤمنين، وهم المتقون
وليسوا عموم المؤمنين أعلى أجرهم ودرجتهم، فقال: (ونهر) ولم يقل:
(وأنهار) ولما أعلى أجرهم ودرجتهم وبالغ في إنعامهم وإكرامهم جاء
بالصفة والموصوف بما يدل على المبالغة فقال: (عند ملك مقتدر) ولم يقل:
(ملك قادر) فإن (مليك) أبلغ من (ملك) و(مقتدر) أبلغ من (قادر) فإن كلمة
(مليك) على صيغة (فعيل) وهي أبلغ واثبت من صيغة (فعل)
.
جاء في (روح المعاني): "عند مليك، أي: ملك عظيم الملك، وهو صيغة
مبالغة، وليست الياء من الإشباع"
.
ولما جاء بالصيغة الدالة على الثبوت، قال:
(في مقعد صدق) "ذلك لأن هذا المقعد ثابت لا يزول، فهو وحده مقعد
الصدق، وكل المقاعد الأخرى كاذبة، لأنها تزول إما بزوال الملك صاحبه،
وإما بزوال القعيد، وإما بطرده، وهذا المقعد وحده الذي لا يزول، وقد
يفيد أيضاً أنه المقعد الذي صدقوا في الخبر به".
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن معنى الصدق ههنا يفيد معنى الخير
أيضاً والجودة والصلاح
فجمعت كلمة (الصدق) ههنا معنيي الخير والصدق معاً، كما جمع
(النهر) أكثر من معنى ثم انظر كيف أنهم لما صدقوا في إيمانهم وعملهم،
كان لهم مقعد الصدق.
و(المقتدر) أبلغ أيضاً من (القادر) ذلك أن (المقتدر) اسم فاعل من
(اقتدر) وهذا أبلغ من (قدر) فإن صيغة (افتعل) قد تفيد المبالغة والتصرف
والاجتهاد والطلب في تحصيل الفعل بخلاف فعل
ومنه اكتسب واصطبر واجتهد قال تعالى: (لها
ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة].
جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: لم خص الخير بالكسب والشر
بالاكتساب؟
قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة
إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما
لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال".
وجاء في (البحر المحيط): "والذي يظهر لي أن الحسنات، هي مما تكتسب دون
تكلف والسيئات ببناء المبالغة"
.
وقال سيبويه: "كسب: أصاب، واكتسب: تتصرف واجتهد"
.
فجاء ههنا، أي: في قوله: (مقتدر) بالصيغة الدالة على القدرة البالغة مع
الملك الواسع الثابت.
فانظر كيف بالغ وأعظم في الأجر، وبالغ وأعظم في الملك، وبالغ وأعظم في
القدرة لمن بالغ وجد في عمله وصدق فيه وهم المتقون.
ونريد أن نشير إلى أمر، وهو إطلاق وصف (المبالغة) على صفات الله نحو
علام، وعليم، وغفور، وما إلى ذلك فقد توهم بعضهم أنه ينبغي أن لا يطلق
على صفات الله وصف المبالغة، لأنها صفات الله وصف المبالغة، لأنها صفات
حقيقية وليست مبالغاً فيها. وقد اعترض علي معترض ذات مرة بنحو هذا. مع
أنهه من الواضح أن ليس المقصود كما ظن الظان أو توهم فالمقصود أن هذا
البناء يفيد كثرة وقوع الفعل، وليس المقصود أن الأمر مبالغ فيه. فـ
(عليم) أبلغ من (عالم) و(صبور) أبلغ من (صابر) ذلك أن الموصوف بعليم
معناه أنه موصوف بكثرة العلم، وليس المقصود أن صاحبه وصف بهذا الوصف
وهو لا يستحق أن يوصف به فكان الوصف به مبالغة.
ولا نريد أنم نطيل في كشف هذه الشبهة، فإنها فيما أحسب لا تستحق أكثر
من هذا.
[1]
الكشاف 3/186، والبحر المحيط 8/184، روح المعاني 27/958 [2] سورة
القمر 45[3] معاني القرآن 3/111
[4] لسان
العرب (نهر 7/96، القاموس المحيط (نهر 2/150، تاج العروس 3/591، الكشاف
3/186[5] البحر المحيط 8/184 [6] روح المعاني 27/95 [7] لسان العرب
(نهر 7/96، تاج العروس (نهر 3/591، الكشاف 3/186
[8] لسان
العرب 7/96[9] معاني القرآن 3/111 وانظر الكشاف 3/186 [10] انظر كتاب
(معاني الأبنية بابي صيغ المبالغة والصفة المشبهة. [11] روح المعاني
27/96 [12] البحر المحيط 8/184 [13] البحر المحيط 8/184
[14] انظر
كتاب سيبويه 2/241 شرح الشافيه للرضي 1/110، البحر المحيط 2/366 [15]
الكشاف 1/308
[16]
البحر المحيط 2/366 [17] كتاب سيبويه 2/241، وانظر لسان العرب(كسب
2/211