الدكتور
فاضل السامرائي
سأل سائل عن قوله تعالى:
(وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله
خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) [الجمعة]
لم قدمت التجارة على اللهو أولاً فقال:
(وإذا رأوا تجارة أو لهواً) وأخرها عنه بعد فقال: (خير من اللهو
ومن التجارة)
والجواب والله أعلم أن سبب تقديم التجارة على اللهو في قوله:
(وإذا رأوا تجارة أو لهواً) أنها كانت سبب الانفضاض ذلك أنه
قدمت عير المدينة وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يخطب يوم الجمعة، وكان من عرقهم أن يدخل بالطبل والدفوف والمعازف عمد
قدومها فانفض الناس إليها ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً فأنزل
الله قوله: (وإذا رأوا تجارة...)
.
فقدمها لأنها كانت سبب الانفضاض وليس اللهو، وإنما كان اللهو والضرب
بالدفوف بسببها فقدمها لذلك. ولهذا أفرد الضمير في (إليها) ولم يقل
(إليهما) لأنهم في الحقيقة إنما انفضوا إلى التجارة وكان قد مسهم شيء
من غلاء الأسعار.
وأما تقديم اللهو عليها فيما بعد في قوله:
(قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) فذلك لأن اللهو أعم
من التجارة، فليس كل الناس يشتغلون في التجارة ولكن أكثرهم يلهون.
فالفقراء والأغنياء يلهون، فكان اللهو أعم فقدمه لذلك إذ كان حكماً
عاماً فقدم التجارة في الحكم الخاص لأنها في حادثة معينة وقدم اللهو في
الحكم العام لأنه أعم. ولأنها مناسبة لقوله:
(والله خير الرازقين)فالتجارة
من أسباب الرزق وليس اللهو فوضعها بجنبه ولأن العادة أنك إذا فاضلت بين
أمور فإنك تبدأ بالأدنى، ثم تترقى فتقول:
(فلان خير من فلان ومن فلان أيضاً)، وذلك كأن تقول: (البحتري
أفضل من أبي فراس، ومن أبي تمام ومن المتنبي أيضاً)، فإنك إذا بدأت
بالأفضل انتفت الحاجة إلى ذكر من هو أدنى، فبدأ باللهو لأنه ظاهر
المذمة ثم ترقى إلى التجارة التي فيها كسب ومنفعة.
وكرر (من) مع اللهو ومع التجارة فقال: (خير
من اللهو ومن التجارة) ليؤذن باستقلال الأفضلية لكل واحد منهما
لئلا يتصور أن الذم إنما هو لاجتماع التجارة واللهو، فإن انفراد اللهو
أو التجارة خرج من الذم، فأراد أآن يبين ذم كل منهما على جهة الاستقلال
لئلا يتهاون في تقديم ما يرضي الله و تفضيله. ونحو ذلك، أن تقول:
(الأناة خير من التهور والعجلة) فإن
ذلك قد يفهم أنها خير من اجتماعهما، ذلك لأن اجتماعهما أسوأ من
انفرادهما فإن الذي يجمع التهور والعجلة أسوأ من اتصف بإحدى الخلتين.
فإن قلت: (الأناة خير من التهور ومن العجلة)
أفاد استقلال كل صفة عن الأخرى، وأنها خير من أية صفة منهما،
فإن اجتمعتا كان ذلك أسوأ. فجاء بـ (من) ليؤذن باستقلال كل من اللهو
والتجارة وأنه ليس المقصود ذم الجميع بين الأمرين بل ذم وتنقيص كل واحد
منهما، بالنسبة إلى ما عند الله.
جاء في (روح المعاني): "واختبر ضمير التجارة دون اللهو، لأنها الأهم
المقصود، فإن المراد ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه. أو لأن
الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً، فما
ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه.
(خير من اللهو ومن التجارة)وتقديم
اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم، بل لأنه أقوى مذمة
فناسب تقديمه في مقام الذم. وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في
الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل، لتقع النفس أولاً على الأبين.
وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخراً وكرر الجار، لإرادة الإطلاق في كل واحد
واستقلاله فيما قصد منه، ليخالف السابق في اتحاد المعنى، لأن ذلك في
قصة مخصوصة
.