الصبر في اللغة معناه: حبس النفس وتثبيتها، وضدُّه: الجزع. قال تعالى:﴿
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾(الكهف:28).
أي: احبسها وثبتها.
وهو نوعان: صبر على المكروه، وصبر عن المحبوب. والأول يعدَّى إلى المفعول بـ{
على }،
والثاني بـ{عن
}.
تقول: صبرت على ما أكره. وصبرت عمَّا أحب. والأول هو الأكثر استعمالاً، ومنه قوله
تعالى:﴿
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً
جَمِيلاً﴾(المزّمِّل:10).
وقال تعالى في مدح الصابرين:﴿
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة:177). وقال
تعالى:﴿ إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾(الزمر:10).
وقول لقمان يوصي ابنه:﴿ يَا
بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17)
هو أمر بالصبر
على ما يصيبه من المحن جميعها دون تخصيص. وقوله:﴿
إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
إشارة إلى ما تقدم، ممَّا نهاه عنه، وأمره به، ويدخل فيه الأمر بالصبر على المحن
كلها.
وأما قوله تعالى:﴿
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ﴾(الشورى:43)
فهو حثٌّ على الصبر على المكروه، والمغفرة لمن تسبب فيه، وأكَّد ذلك بقوله:﴿
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
أي: إن الصبر على أذى الغير، والمغفرة لمن عزم الأمور؛ كقوله تعالى:﴿ وَأَن
تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾(البقرة:237).
وقوله تعالى:﴿ وَجَزَاء
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾(الشورى:40).
وهذا
إذا كان الجاني نادمًا مقلعًا. أما إذا كان الجاني مصرًّا على البغي، فالأفضل
الانتصار منه، بدليل الآية قبلها، وهي
قوله تعالى:﴿ وَلَمَنِ
انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾(الشورى:41)؛
فإن هذا يقتضي إباحة الانتصار من الجاني.
وقيل: سَبَّ رجلٌ آخرَ في مجلس الحسن، فكان المسبوبُ يكظم ويعرق، ويمسح العرق، ثم
قام فتلا الآية:﴿
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ﴾،
فقال الحسن: عَقِلَها، والله، وفهمها! لِمَ هذه ضيَّعها الجاهلون ؟!
وأما
{ اللام }
في قوله تعالى:﴿
وَلَمَنِ انتَصَرَ ﴾(الشورى:41)،
وقوله تعالى:﴿
وَلَمَن صَبَرَ ﴾(الشورى:43) فهي
مثل { اللام }، التي
في قوله تعالى:﴿لَمَغْفِرَةٌ
مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾(آل
عمران:157). وقوله
تعالى:﴿ وَلَوْ
أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ
كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾(البقرة:103).
ويجوز في هذه
{ اللام }
أن تكون الموطِّئة لقسم محذوف، و{
مَنْ }
شرطية، وجواب القسم في الأول قوله تعالى:﴿
فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾(الشورى:41)،
وفي الثاني قوله تعالى:﴿
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب القسم عليه.
ويجوز أن تكون
{ اللام }
لام الابتداء، و{
مَنْ }
موصولة في موضع المبتدأ، والخبر في الأول قوله تعالى:﴿
فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ
﴾، وفي الثاني
قوله تعالى:﴿
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
والإشارة بـ{
ذلك }
إلى ما يفهم من مصدر{
صبر وغفر }،
والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف. أي: إن ذلك منه
{ لمن عزم الأمور }،
لدلالة المعنى عليه.
وخبر الموصول يجوز اقترانه بـ{
الفاء }،
لشبهه بالشرط في دلالته على الإبهام. ويجوز عدم اقترانه بها. والفرق بين الموضعين:
أنك إذا قلت:{ مَنْ
يأتيني فله درهم }،
استحق الدرهم بمجرد إتيانه. وذلك بخلاف قولك:{ مَنْ
يأتيني إن له درهمًا }.
فإذا تأملت ذلك، تبيَّن لك أنه لا وجه للمقارنة بين قوله تعالى:﴿ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17)،
وقوله تعالى:﴿
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ ﴾(الشورى:43)؛
لأن الأول أمرٌ بالصبر على المصائب، والثاني حثٌّ على الصبر عليها، وكلاهما من عزم
الأمور.. قال تعالى:﴿ فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾(الأحقاف:35).
فالصبر في الآيتين صبر واحد.. وإذا كانت الآية الثانية قد أكِّدت بـ{
إن }،
وبـ{اللام
}، دون
الآية الأولى، فلأنها جمعت بين الصبر، والمغفرة؛ ولأنها جاءت مؤكَّدة بـ{
اللام }
في أولها:{
لَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ }.
ونحو ذلك قوله تعالى:﴿إِذَا
جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ ﴾(المنافقون:1).
ومن المعلوم في علم البلاغة أن للمخاطب ثلاث حالات عندما يُلقَى إليه خبرٌ مَّا:
أولها:
أن يكون خالي الذهن من الحكم. وفي هذه الحالة يلقَى إليه الخبر خاليًا من التوكيد.
ويسمى هذا الضرب من الخبر
ابتدائيًا.
وثانيها:
أن يكون مترددًا في الحكم، طالبًا أن يصل إلى اليقين في معرفته. وفي هذه الحالة
يحسن توكيده له، ليتمكن من نفسه. ويسمى هذا الضرب
طلبيًّا.
وثالثها:
أن يكون منكرًا له. وفي هذه الحالة يجب أن يؤكد الخبر بمؤكِّد، أو أكثرَ، على حسب
إنكاره قوةً وضعفًا. ويسمى هذا الضرب إنكاريًا.
ومثال الحالة الأولى قولك للمؤمن: محمد رسول الله .. ومثال الحالة الثانية قولك
للمتردد في إيمانه:
إن
محمدًا رسول الله.. ومثال الحالة الثالثة قولك للمنكر الخالي من الإيمان:
إن
محمدًا
لرسول
الله..
والله إن
محمدًا
لرسول
الله.
وعلى الحالة الثانية يقاس قوله تعالى:﴿
إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17)..
وعلى الحالة الثالثة يقاس قوله تعالى:﴿ إِنَّ
ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(الشورى:43).
هذا ما أردت توضيحه وبيانه والله الهادي سواء السبيل !