بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مرحبا بكم مع الشيخ خالدالمغربي - المسجد الأقصى

075

القيامة

آية رقم 001

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ

صدق الله العظيم

 

لمسات بيانية من سورة القيامة

 

 بقلم الدكتور فاضل السامرائي

بسم الله الرحمن الرحيم

 (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2} أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ {4} بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ {5} يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {6} فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ {7} وَخَسَفَ الْقَمَرُ {8} وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ {9} يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ {10} كَلَّا لَا وَزَرَ {11} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ {12} يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ {13} بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ {15} لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {19} كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ {20} وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ {21} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ {24} تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ {25} كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ {26} وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ {27} وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ {28} وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ {29} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ {30} فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى{31 وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى {32} ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى {33} أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {34} ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {35} أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى {36} أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى {37} ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى {38} فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى {39} أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى {40}‏

سألني ولدي ذات يوم: ما مناسبة قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) لما قبله وهو قوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)

فقلت له: دعني أنظر في أول السورة، لعلي أجد مفتاح الجواب فقرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة).

فقلت له: المناسبة ظاهرة، وهي أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة، ومن أبرز سمات النفس اللوامة أن تعجل في الأمر، ثم يندم عليه، فتبدأ بلوم نفسها على ما فعلت وهو في الآيات التي ذكرتها ذكر النفس، فقال (بل الإنسان على نفسه بصيرة) وذكر العجلة فقال: (لتعجل به) فالمناسبة ظاهرة.

ثم بدأن اقرأ السورة متأملاً فيها فوجدت من دقائق الفن والتناسب والتناسق ما يدعو إلى العجب فآثرت أن أدون شيئاً من هذه اللمسات الفنية.

لقد ذكر المفسرون مناسبة هذه السورة لما قبلها أعني سورة (المدثر) وارتباطها بها. فقد قالوا: إنه سبحانه قال في آخر سورة المدثر: (كلا بل يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة) وفيها كثير من أحوال القيامة "فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها"[1] فكان بينهما مناسبة ظاهرة.

إن هذه السورة قطعة فنية مترابطة متناسقة محكمة النسج، وليس صواباً ما جاء في (الإتقان) أن "من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جداً"[2]

إن ترابط آيات هذه السورة ترابط محكم وتناسبها فيما بينها لا يخفى على المتأمل.

لقد أقسم الله سبحانه بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة على رأي الأكثرين، أو أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة على رأي آخرين وسر هذا الاختلاف، أن ثمة قراءة بإثبات القسم بيوم القيامة أي (لأقسم) إلا أنهم اتفقوا على إثبات حرف النفي مع النفس اللوامة فكلهم قرأ(ولا أقسم بالنفس اللوامة)[3]

ولا نريد أن نطيل الكلام على اقتران فعل القسم بـ (لا) ودواعيه فقد تكلم فيه المفسرون والنجاة بما فيه الكفاية والذي نريد أن نقوله ههنا: إن كل أفعال القسم المسندة إلى الله في القرآن الكريم مسبوقة بـ (لا) إذ ليس في القرآن الكريم (أقسم) بل كلها (لا أقسم)، وذلك نحو قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم) [الواقعة] وقوله: (فلا أقسم بالشفق) [الإنشقاق]، وقوله: (لا أقسم بهذا البلد) [البلد] وما إلى ذلك فليس القسم ههنا بدعاً من التعبير. وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو "لون من ألوان الأساليب في العربية تخبر صاحبك عن أمكر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا، أو لا أريد أن أحلف لم أن ألأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدراجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن ألأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله لأن الحلف بالله عظيم، إن الأمر على غير ما تظن فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر"[4]

أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد "والتأكيد عن طريق النفي، ليس بغريب عن مألوف استعمالنا، فأنت تقول لصاحبك: لا أوصيك بفلان تأكيداً للوصية ومبالغة في الاهتمام بها، كما تقول: لن ألح عليك في زيارتنا فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالطلب المباشر الصريح"[5].

ومهما كان الرأي في دخول (لا) على فعل القسم، فإن هذا لا يغير شيئاً من أصل المسألة، وهي أنه ابتدأ السورة بالقسم بيوم القيامة والنفس اللوامة نفياً أو إثباتاً. وقد حاول المفسرون أن يجدوا المناسبة لاجتماعهما في القسم فقالوا: "المقصود من إقامة القيامة، إظهار أحوال النفوس اللوامة، أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة"[6] .

وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "وجمع سبحانه في القسم بين محل الجزاء وهو يوم القيامة ومحل الكسب وهو النفس اللوامة ولما كان معادها هو محل ظهور هذا اللوم وترتب أثره عليه، قرن بينهما في الذكر[7]

إن السورة مبنية على ما ابتدأت به من القسم، فهي مبنية على أحوال يوم القيامة، وعلى النفس، ولا تكاد تخرج عن ذلك.

هذا أمر والأمر الآخر أنه تعالى لم يقسم بالنفس على صفة الإطلاق، بل أقسم بنفس مخصوصة، وهي النفس اللوامة، وهذا له طابعه الواضح في السورة كما سنبين.

إن الإنسان يلوم نفسه لأحد سببين:

إما أن يتعجل فيفعل ما لا ينبغي له فعله، فيندم على ذلك فيبدأ يلوم نفسه، لم فعلت ذاك؟ لم لم أترو؟

وإما أن يتراخى عن فعل كان الأولى له أن يفعله، وأن يغتنم الفرصة التي سنحت له، ولكنه قعد عن ذلك مسوفاً، ففاته نفع كبير، وقد لا تسنح له فرصة، كالتي فاتت، فيبدأ يلوم نفسه. لم تباطأت، لم لم أفعل؟ لم لم أغتنم الفرصة؟ ونحو ذلك.

والسورة مطبوعة أيضاً بهذين الطابعين من صفات النفس اللوامة، طابع العجلة التي تدعو إلى الندم واللوم، وطابع التباطؤ وتفويت الفرص الذي يؤدي إلى الندم واللوم أيضاً.

فالسورة مبنية إذن على ما ابتدأت به.

يوم القيامة، والنفس اللوامة في حيالها: العجلة والتباطؤ.

أما يوم القيامة، فقد تكررت أحواله في السورة في تناسق لطيف، إلى أي ختمت بقوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) فتناسب بدء السورة مع خاتمتها.

ثم قال بعد القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة:

(أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) فعاد إلى القيامة.

والملاحظ في هذا التعبير أنه جمع بين نفس الإنسان ويوم القيامة أيضاً كما ابتدأت السورة فقال: (أيحسب الإنسان) أي: أيظن ذلك في نفسه؟ لحسبان أمر نفسي داخلي، ولم يقل مثلاً: (لنجمعنك إلى يوم القيامة) أو لتبعثن) ونحو ذلك فجمع بينهما في تناسق لطيف مع بداية السورة، وهو احتيار فني رفيع.

ومن الملاحظ أننا لا نجد جواباً للقسم الذي ابتدأت به السورة، وإنما نجد ما يدل عليه وهو هذه الآية. فجواب القسم محذوف ويقدره النحاة (لتبعثن)[8].

وهذا الحذف يتناسب هو والعجلة التي دلت عليه النفس اللوامة وجوها ـ أعني جو العجلة ـ الذي طبعت به السورة.    

ومن الملاحظات الأخرى في هذه الآية، أنها مرتبطة بما ورد في آخر السورة وهو قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أجمل ارتباط حتى كأنهما آيتان متتابعتان تأخذ إحداهما بحجز الأخرى.

ثم قال بعدها:

(بلى قادرين على أن نسوى بنانه).

إن هذه الآية تتناسب هي ما ورد في آخر السورة من قوله تعالى: (فخلق فسوى) إلا أن هذه تسوية مخصوصة بالبنان وتلك تسوية عامة. وكل آية موضوعة في مكانها المناسب فآية (نسوى بنانه) مرتبطة بقوله: (نجمع عظامه) فإن البنان عظام، فناسب ذلك بأن يكون بجنب (نجمع عظامه) أما الآية الأخر وهي (فخلق فسوى) فهي مرتبطة بالخلق العام للإنسان، فناسب ذلك الإطلاق والعموم فناسب كل آية موضعها.

وملاحظة أخرى في  هذا التعبير، وهي أنه حذف منه عامل الحال، فقال: (بلى قادرين) ولم يذكر عامله، ولم يذكر عامله، ويقدره النحاة بقولهم: (بلى نجمعها قادرين[9] وهذا الحذف يتناسب أيضاً والعجلة التي دلت عليها النفس اللوامة.

ثم قال بعد ذلك: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه).

ومعنى الآية أن الإنسان يريد المداومة على شهواته ومعاصيه، ويقدم الذنب ويؤخر التوبة.

جاء في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: (ليفجر أمامه) "ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله"[10].

وجاء في (البحر المحيط): " إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه، ويمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته"([11]).

وارتباط الآية بالنفس اللوامة واضح، فإن الإنسان ههنا يسوف التوبة، يتباطاً عنها ويغره الأمل حتى يموت، فيدركه الندم ويقع تحت مطرقة اللوم.

وانظر بعد ذلك كيف جاء باللام الزائدة المؤكدة في مفعول الإرادة، فقال: (بل يريد الإنسان ليفجر) والأصل أن يقال: (بل يريد الإنسان أن يفجر) لأن فعل الإرادة متعد بنفسه لا باللام كما قال: (يريد الله أن يخفف عنكم) [النساء] غير أنه جاء باللام للدلالة على قوة إرادة الفجور والشهوات عند الإنسان وشدة الرغبة فيها. وهذه مدعاة إلى الندم البالغ، وكثرة لوم الإنسان لنفسه، فارتبط ذلك أحسن ارتباط بالنفس اللوامة.

ثم انظر كيف أنه لما بالغ في إرادة للفجور والرغبة فيه، بالغ في اللوم فجاء بصيغة المبالغة، فقال: (اللوامة) ولم يقل (اللائمة) للدلالة على كثرة اللوم، فانظر المناسبة بين المبالغة في الفجور والمبالغة في اللوم، وكيف أنه لما بالغ في أحدهما بالغ في الآخر.

ثم قال بعد ذلك:

(يسأل أيان يوم القيامة)

وهذا "سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة"[12] وقد  جاء بأداة الاستفهام (أيان) التي تدل على شدة الاستبعاد وهذا المتعنت المستبعد لقيام الساعة هو الذي يقدم الفجور والمعصية ويؤخر التوبة، وهو المذكور في الآية السابقة.

وقال بعد ذلك:

(فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر) .

وهذه الآيات كأنها جواب السائل عن موعد القيامة المستبعد لوقوعها. وقد بدأ التعبير بـ (إذا) الدالة على الزمان لأن السائل إنما سأل عن زمنها وموعدها،  فكان الجواب بالزمان كما كان السؤال عن الزمان.

ومعنى: (برق البصر) دهش فلم يبصر، وقيل: تحير فلم يطرف، وبرق بصره، أي: ضعف[13].

وذكر البصر مع ذكر الشمس والقمر له سببه ومناسبته، فإن البصر يعمل مع وجود الشمس والقمر، أي: مع النور، فإذا لم يكن ثمة نور فلا يعمل شيئاً كما قال تعالى: (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) [البقرة].

وفي هذا اليوم قد تعطل البصر كما تعطل الشمس والقمر، فالبصر برق، والقمر خسف، وجمع الشمس والقمر.

ثم انظر كيف قال: (برق البصر) ولم يقل (عمي) أو نحو ذلك، فإن المراد تعطيله مع وجوده، كما فعل بالشمس والقمر، فإنه لم يزلهما ويذهبهما، وإنما عطلهما فهو تناسب لطيف.

ثم انظر كيف قال: (وجمع الشمس والقمر) إشارة إلى تعطيل الحياة الرتيبة إن استمرار الشمس والقمر على حالهما دليل على استمرار الحياة والدنيا إنما هي أيام وليال، وآية النهار الشمس وآية الليل القمر، فجمعهما معاً دليل على تعطيل الحياة التي كان يردوها مسوفو التوبة، والمغترون بالأمل والذين يقدمون الفجور ممن تقدم ذكرهم بقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) ثم انظر بعد علاقة ذلك بالنفس اللوامة التي كانت تقدم الفجور، وتغتر بالدنيا ففاجأها ما يستدعي  كثرة اللوم.

ثم انظر مناسبة ذلك للقسم بـ (يوم القيامة)، و(اليوم) يستعمل في أحد مدلوليه لمجموع الليل والنهار فناسب ذلك ذكر الشمس والقمر، إذ هما دليلاً اليوم وآيتاه في الدنيا، أما يوم القيامة هذا فهو يوم لا يتعاقب فيه الشمس بالقمر، بل يجمعان فيه فلا يكون بعد ليل ونهار بل هو يوم متصل طويل.

وفي هذا اليوم يطلب الإنسان الفرار، ولكن إلى أين؟

ويبقى السؤال بلا جواب ثم يجيب رب العزة بقوله: (كلا لا وزر) والوزر الملجأ، فلا ملجأ يفر إليه الإنسان ويحتمي به وإنما (إلى ربك يومئذ المستقر) والفار يطلب ملجأ يأوي إليه ويعتصم به ويطلب الاستقرار ولكن لا استقرار إلا إلى الله، فإليه وحده المستقر.

وتقديم الجار والمجرور يفيد القصر والاختصاص، فليس ثمة مستقر إلى سواه. وهذا التقديم يقتضيه الكلام من جهتين:

من جهة المعنى وهو الاختصاص والقصر، وتقتضيه فاصلة الآية أيضاً.

وتقديم (يومئذ) كذلك يقتضيه الكلام من هاتين الجهتين أيضاً. فالمستقر في ذلك اليوم خاصة إلى الله سبحانه، أما في الدنيا فالإنسان قد يجد مستقراً يأوي إليه ويستقر فيه، أما في ذلك اليوم، فلا مستقر لا إلى الله.

وتقديم (إلى ربك) على (يومئذ) له سببه أيضاً ذلك أن الإنسان في تلك الحالة، يبحث عن مكان يفر إليه ويستقر منه، فقدم له ما يبحث عنه، وقال له:  (إلى ربك يومئذ المستقر) لأنه هو الأهم، وهو المقصود.

واختيار كلمة (رب) ههنا اختيار مقصود، فالرب هو المالك والسيد والمدبر والمربي والقيم والمنعم. ورب كل شيء مالكه ومستحقه[14].

والفار إلى من يلتجئ؟ هل يلتجئ إلا إلى سيده ومالكه وصاحب نعمته ومدبر أمره والقيم عليه؟

فهو وزره وإليه مستقره، فهل ترى أنسب من كلمة (رب) ههنا؟

ثم إن اختيار كلمة (مستقر) اختيار دقيق محكم أيضاً، ذلك أن هذه الكلمة تدل على المصدر بمعنى الاستقرار، وتدل على اسم المكان بمعنى مكان الاستقرار، وتدل على اسم الزمان، بمعنى زمان الاستقرار.

وهي هنا تفيد هذه المعاني كلها، فهي تفيد (الاستقرار)، أي: إلى فك الاستقرار، وتفيد موضع الاستقرار وهو الجنة والنار أي إلى ذلك إلى هيئته تعالى.

جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: (إلى ريك يومئذ المستقر): "إلى ربك خاصة (يومئذ) مستقر العباد، أي: استقرارهم، يعني أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه. أو على حكمة ترجع أمور العباد لا يحكم عليه غير كقوله: (لمن الملك اليوم) أو إلى ربك مستقرهم، أي: موضع فرارهم من جنة أو نار"[15].

وجاء في(البحر المحيط): "المستقر، أي: الاستقرار أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى، يدخل من شاء الجنة، ويدخل من شاء النار بما قدم وأخر"[16].

وتفيد زمان الاستقرار أيضاً، أي أن وقت الفصل بين الخلائق، وسوقهم على مستقرهم عائد إلى مشيئته تعالى. فهم يمكثون في ذلك اليوم ما يشاء الله أن يمكثوا، ثم هو يحكم بوقت ذهابهم إلى مواطن استقرارهم، فكلمة (مستقر) أفادت ثلاث معان مجتمعة علاوة على ما تقتضيه الفاصلة في نهاية الآيات. ولا تغنى كلمة أخرى عنها، فلو أبدلت بها (الاستقرار) ما أدت تلك المعاني، فهي أنسب كلمة في هذا الموضع.

ثم قال بعد ذلك:

(ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر).

والمعنى أن الإنسان ينبأ بما قدم من عمل خير أو شر، وبما أخر من عمل كان عليه أن يعمله، فلم يعمله.

وهذه الآية متناسبة مع ذكر النفس اللوامة، في أول السورة في حالتيها اللتين تدعوان إلى اللوم.

أن تفعل فعلاً ما كان ينبغي لها أن تفعله، فتلوم نفسها عليه، وهذا يدخل فيما قدم.

أو تقعد عن عمل كان ينبغي لها أن تعمله، فلم تعمله وهو يدخل فيما أخر.

ثم قال بعدها:

(بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره).

بعد أن أخبر عن أحوال يوم القيامة فيما تقدم، عاد إلى النفس مرة أخرى. وهو اقتران يذكرنا بالاقتران بين يوم القيامة والنفس اللوامة في مفتتح السورة.

والمعنى: أن الإنسان يعرف حقيقة نفسه، ولو جاء بالحجج والأعذار.

وقال بعدها:

(لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقراءنه فإذا قرأنه فاتبع قراءنه ثم إن علينا بيانه).

وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها، أن الحجج والمعاذير إنما تلقى باللسان فارتبطت بقوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به).

والضمير في (به) يعود على القرآن، ولم يجر له ذكر، وهو مفهوم من المعنى "وكان رسول الله eإذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعةً إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت إليه ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضي إليه وحيه… (لتعجل به) لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك"[17].

وأما قوله: (لتعجل به) فهو تعليل لتحريك اللسان، فالعجلة علة له هذا e.

إن العجلة المذكورة هنا تتناسب مع جو العجلة في السورة، ثم إن ذكر سير القرآن من دون أن يجري له ذكر اختصار وإيجاز في الكلام مناسب لجو مجلة هذه، فقد تعاون كل من التعبير والتعليل لبيان هذا الغرض.

وقال بعدها: (إن علينا جمعه وقرآنه)

الملاحظ في هذا التعبير أنه قدم الجار والمجرور على الاسم، وذلك لاختصاص والقصر والمعنى أننا نحن المتكلفون بجمعه في صدرك تلاوته للناس صحيحاً كاملاً وهذا مواطن من مواطن القصر، لأنه لا يمكن لأحد غير الله أن يفعل ذلك، فإن تثبيت النصوص في النفس وحفظها لمجرد سماعها وعدم نسيانها، وإلقاءها كما هي على مر الزمن، إنما هو من فعل الله وحده فهو الذي يثبت في النفوس أو يمحو منها ما يشاء.

إذن فإن ذلك عليه وحده

وهذا التقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته الفاصلة.

ولو أخر الجار والمجرور لأخل بالمعنى، ذلك أنه يقتضي عدم القصر ومعنى ذلك أنه يخبر بأنه متكفل بجمع القرآن في صدره، وليس المتكفل الوحيد وذلك كما تقول: (يشرح خالد لك هذا الأمر) فإنك ذكرت أن خالداً يشرح له الأمر ولم تفد أن خالداً يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد غيره ولو قال: (لك يشرح خالد هذا الأمر) لأفاد أنه يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد آخر. فتقديم الجار والمجرور على عامله يفيد القصر غالباً.

وهذا موطن قصر، إذ لا يمكن أن يفعل ذلك غير الله تعالى، أعني التكفل بتثبيت القرآن في النفس بمجرد سماعه.

وإدخال (إن) يقتضيه المعنى أيضاً في أكثر من جهة:

من ذلك أنها تفيد التعليل كما في قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) [التوبة] فهنا أفادت التعليل وبينت سبب النهي عن تحريك اللسان فقد قال: لا تحرك به لسانك، لأن جمعه في صدرك نحن نتكفل به. ولو لم يدخل (إن) لم يرتبط الكلام ولا نتفى معنى التعليل إذ لو قال: (لا تحرك به لسامك لتعجل به علينا جمعه وقرآنه) لم تجد له هذا الحسن الذي تجد، ولا نفصل الكلام بعضه عن بعض فـ (إن) ربطت الكلام بعضه ببعض وأفادت التعليل.

ومن ذلك أنها تفيد التوكيد، وهذا الموطن يقتضي التوكيد إذ إن حفظ الإنسان لكل ما يلقى إليه بمجرد سماعه أمر غريب والتكفل به يحتاج إلى توكيد ولذا جاء بـ (إن) المؤكدة.

وقال بعد ذلك:

(فإذا قرأنه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه)

ومعنى: (فاتبع قرآنه) أي: اتبعه بذهنك وفكرك، أي: فاستمع له[18].

والإسناد إلى ضمير الجمع هنا له دلالة إضافة إلى التعظيم الذي يفيده من الجمع ذلك أن القارئ هو جبريل، وليس الله.

جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: (فإذا قرآنه فاتبع قرآنه) "جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته… ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [19]. وجاء في (البحر المحيط): فإذا قرأناه، أي: الملك المبلغ عنا"[20].

وكذلك المبين في قوله تعالى: (ثم إن علينا بيانه) فالذي يبين للرسول يوضح هو الملك، فهو يقرأ بأمر الله ويبين بأمر الله فالأمر مشترك. الله هو الملك يبلغ، ولذا عبر بأسلوب الجمع، والله أعلم، وأظن أن الفرق موضح بين قوله: (فإذا قرآنه فاتبع قرآنه) والقول: (فإذا قرأته فاتبع قرآنه).

والقول في التقديم في (ثم إن علينا) هو في الآية قبلها. فإن تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أيضاً ذلك أن تبين ما أشكل منه مختص تعالى.

وقال بعد ذلك: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة)

والعاجلة يؤثرها بنو آدم على وجه العموم، ويقدمونها على الآخرة وارتباطها بما قبلها وهو قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) ظاهر فكلتاهما في العجلة وإيثارها، فالرسول eكان ينازع جبريل القراءة ولا يصبر حتى يتمها ليأخذه على عجل، والناس على وجه العموم يؤثرون العاجلة على الآخرة، فهو طبع عام في البشر خلقوا عليه كما قال تعالى: (خلق الإنسان من عجل) [الأنبياء] فالموضوع إذن موضوع واحد هو العجلة.

وكلاهما يتعجل ما هو أثير لديه ومفضل عنده.

جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة)، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة: (وتذرون الآخرة)… فإن قلت: كيف اتصل قوله: (لا تحرك به لسانك) إلى آخره بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة التخلص منه إلى هذا التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة[21].

وجاء في (روح المعاني) في هذه الآية: "كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) تعميم الخطاب للكل كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا  تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك، لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة… ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) فإن ملوح إلى معنى: بل تحبون الخ"[22].

إن هذه الآية كما هو واضح مناسبة لجو العجلة التي بنيت عليها السورة، وهي متصلة ـ كما مر بنا ـ بقوله تعالى: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) فإن الإنسان يسوف بتوبته ويغره أمله ويؤثر ما بين يديه ويغمس نفسه في شهواته، ويستحب عاجل حياته ولا ينظر فيما وراء ذلك من أمور الآخرة، فهي متصلة بما قبلها وبقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) أتم اتصال.

كما أنها متصلة بالنفس اللوامة التي بنيت عليها السورة اتصالاً ظاهراً بالنفس اللوامة كما ذكرنا تلوم نفسها لأحد سببين:

إما أن تعجل فتعمل عملاً تندم عليه، فتلوم نفسها علة ذلك، وهذا ما أكده قوله: (كلا بل تحبون العاجلة) وإما أن تؤخر عملاً كان ينبغي لها عمله وقرتها خيره، فتندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك وهذا ما يفيده قوله: (كلا بل تذرون الآخرة) فهو هنا عجل أمراً وترك آخر فندم من الجهتين ولام نفسه الحالتين، لام نفسه في العجلة ولام نفسه في الترك.

وما أحرى أن تسمى هذه النفس بالنفس اللوامة، لأن دواعي اللوم لكاثرة عليها.

ثم انظر كيف اختار الفعل: (وتذرون) على (تتركون) ذلك أم في تذورن) حذفاً واصله (توذرون) من (وذر) ليدل ذلك على طابع العجلة الذي يريد أن ينتهي من الشيء في أقرب وقت. فاختيار هذا الفعل المحذوف الواو، مناسب لجو العجلة.

و قد تقول: ولم لم يقل: (تدعون) وهو فيه حذف كما في (وتذرون)

والجواب ـ والله أعلم ـ أن اختيار (تذرون) على (تدعون) له سببه ذلك أن الفعل (وذر) في عموم معانيه يفيد الذم، ومنه قولهم: امرأة وذرة أي: رائحتها رائحة الوذر، وهو اللحم، وقولهم (يا ابن شامة الوذر) وهو سب يكنى به عن القذف. وفي الحديث : (شر النساء الوذرة المذرة) [23] بخلاف (ودع) فإن من معانيه الراحة والدعة وخفض العيش. وقد يفيد المدح ومنه قولهم، رجل وديع، أي: هادئ ساكن[24]. في حين أن الموقف ذم فإنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فاختار الفعل الذي يقال في عموم للذم ولم يختر الفعل الذي يقال في كثير من معانيه و أكثر معانيه للمدح. وهو اختيار فني رفيع.

ثم قال بعد ذلك: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)

هذا الصنفان هما ما يؤول إلى أحدهما الناس يوم القيامة. الذي يؤثر الآخرة ويعمل لها، والذي يحب العاجلة ويذر الآخرة. وهذه الآيات مرتبطة بأول السورة وهو القسم بيوم القيامة أتم ارتباط. فإنه في يوم القيامة ينقسم الناس إلى هذين الصنفين.

ثم إن لاختيار كلمة (رب) وتقديم الجار والمجرور سببه أيضاً.

أما اختيار كلمة (رب) فهو أنسب شيء ههنا، فإن وجوه أهل السعادة تنظر إلى ولي نعمتها في الدنيا والآخرة ومربيها وسيدها الذي غذاها بالنعم وهداها إلى طريق السعادة، وأوصلها إليه ولم تكن قد رأته من قبل. ولم يرد في السورة من أسماء الله تعالى غير لفظ (الرب).

وأما تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) فللاختصاص، فإن هذه الوجوه لا تنظر إلا إليه، فإن النظر إليه يذهلها عن كل ما عداه وينسي أهلها ما عداه من النعيم، فإن أهل الجنة ما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه كما في الحديث الصحيح. فهذا من أوجب مواطن الاختصاص فالتقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته موسيقى الفاصلة وهذا الجمع بين النضرة وسعادة النظر إلى وجهه الكريم، يشبه الجمع بين النضرة والسرور في قوله تعالى: (ولاقهم نضرة وسروراً) [الإنسان].

ثم قال بعدها في الصنف الشقي:

(ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)

وهذه بمقابل الوجوه الناضرة، وهي وجوه من آثر العاجلة، وترك الآخرة، وجوه من يريد ليفجر أمامه، الوجوه التي ينبغي لأصحابها أن كثروا اللوم لأنفسهم ويبالغوا في اللوم.

وتقديم (يومئذ) في الآيتين يفيد الاختصاص وهو ما يقتضيه المعنى الفاصلة، فإن نضرة أصحاب النعيم خاصة بذلك اليوم، أما في الدنيا ربما لم تعرف وجوههم النضرة. وكذلك أصحاب الوجوه الباسرة، فإن البسور مختص بذلك اليوم، وربما كانت وجوههم من أنضر الوجوه في الدنيا.

(تظن أن يفعل بها فاقرة)

والفاقرة: الداهية العظيمة التي تقصم فقار الظهر وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة تكسر فقار الظهر[25].

واختيار فعل الظن مناسب أحسن مناسبة لجو السورة والسياق مع أن الموطن موطن علم ويقين، وقد فسره أكثر المفسرين بالعلم واليقين، وذلك أن الإتيان بفعل الظن متناسب مع تأخير التوبة وإيثار العاجلة وتقديم الفجور، فإنه في الحياة الدنيا بنى حياته على الظن، فهو يظن أن سيمتد به العمر ويطول به الأجل، فيسوف بتوبته ويقم شهوته. وهذا الظن يرافقه إلى اليوم الآخر، فهو إلى الآن يظن وقوع الداهية ظناً، وهو إلى الآن  في حال ظن وأمل لا في حال علم وبصيرة، فهو لا يرى إلا اللحظة التي هو فيها، وما بعدها فهو عنده ظن لا يقين كما كان شأنه في الدنيا يقدم شهوته ويؤثر عاجلته ويقول: أيان يوم القيامة؟

فانظر هذا الاختيار الرفيع لفعل الظن في هذا الموقف، وانظر تناسب ذلك مع النفس اللوامة التي لا ترى إلا ما هي عليه حتى تفوتها الفرصة، ويفوتها معها الخير، ويدركها سوء العاقبة، فتلوم نفسها على ما فرطت في جنب الله.

وذكر لاختيار فعل الظن سبب آخر هو أن الظان لا يعلم نوع العقوبة، ولا مقدارها فيبقى رجلاً أشد الوجل، خائفاً أعظم الخوف من هذا الأمر الذي لا يعلم ما هو ولا مداه ولا كيف يتقيه ألا ترى أن الذي يعلم ما سيحل به يكون موطناً نفسه على ذلك الأمر بخلاف الذي لا يعلم ماذا يتقي، وما مداه وما نوع تلك الفاقرة.

جاء في (روح المعاني): "وجيء بفعل الظن ههنا، دلالة على أن ما هم فيه، وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبداً… وإذا كان ظاناً كان أشد عليه مما إذا كان عالماً موطناً نفسه على الأمر"[26].

ولاختيار الفاقرة دون غيرها سبب سنذكره في مكانه.

واختيار تعبير (أن يفعل بها) بالبناء للمجهول دون أن يقول مثلاً: (أن تصيبها فاقرة) أو (تحل بها) أو نحو ذلك له سبب لطيف. ذلك أن قوله: (أن يفعل بها) معناه أن هناك فاعلاً مريداً يفعل بفقار الظهر ما يريد من تحطيم وقصم. أما القول: (أن تصيبها) أو (تحل بها) فكأن ذلك متروك للمصادفات والظروف، فقد تكون الفاقرة عظيمة أو هينة والفواقر بعضها أدهى من بعض. فقوله: (أن يفعل بها) أنسب اختيار في هذا السياق إذ لا تترك ذلك للمصادفات والموافقات، بل كان ذلك بقدر.

ثم إنه لم يقل: (أن نفعل بها) بإسناد الفعل إلى ذاته العلية، لأنه لم يرد أن ينسب إيقاع هذه الكارثة والشر المستطير إلى نفسه كما هو شأن كثير من التعبيرات التي لا ينسب الله فيها السوء إلى ذاته العلية نحو قوله: (وأنا لا ندري أشر اريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) [الجن] وقوله (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا) [الإسراء] فلم ينسب الشر إلى ذاته.

ثم قال بعدها:

(كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق)

"والضمير في (بلغت) للنفس وإن لم يجر لها ذكر"[27]. وعدم ذكر الفاعل ولا ما يدل عليه مناسب لجو العجلة الذي بنيت عليه السورة. ونحوه ما مر في حذف جواب القسم في أول السورة، وحذف عامل الحال (قادرين) وعدم ذكر ما جرى عليه الضمير في قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) وغيره مما سنشير إليه.

(وقيل من راق) وحذف الفاعل وإبهامه في (قيل) مناسب لإضماره وعدم ذكره في (بلغت التراقي) كلاهما لم يجر له ذكر، وكذلك الإبهام في (راق) مناسب لسياق الإبهام هذا، فإن كلمة (راق) مشتركة في كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقي) وهو الذي يقرأ الرقية على المريض ليشفى، وفي كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقى) بمعنى (صعد) ومنه قوله تعالى: (أو ترقى في السماء) [الإسراء].

واختلف في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين:

من يرقيه فيشفيه وينجيه من الموت؟

أو من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟[28].

فالقائل مجهول، أهم أهله ومن يتمنى له الشفاء أم هم الملائكة الذين حضروه أثناء الموت؟

فانظر جو الحذف والإبهام وكيف ناسب ما قبله.

وقال بعدها:

(وظن أنه الفراق)

واختيار فعل الظن اختيار مناسب غاية المناسبة لما قبلها ولجو السورة كما ذكرنا، فهو إلى اللحظة الأخيرة في حال ظن وأمل ولا يزال فراق الحياة عنده ظناً من الظنون لا يقيناً، ومناسب لقوله: (تظن أن يفعل بها فاقرة) فهو في المواطنين، يفترض أن يكون في موقف علم ويقين ولكن مع ذلك لا يزال في موقف ظن.

جاء في (روح المعاني): "والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين. قال الإمام: ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة"[29].

قوله: (والتفت الساق بالساق)

قيل: معناه لفهما في الكفن، وقيل: انتهاء أمرهما بالموت، وكل ما دل في تفسير الآية يراد به حالة من حالات الموت الذي حصل يقينالً لا ظناً.

(إلى ربك يومئذ المساق)

إن تركيب هذه الآية نظير آية (إلى ربك يومئذ المستقر) فإن تقديم (إلى ربك) يفيد القصر والاختصاص، فإن الناس يساقون إلى ربهم وليس إلى مكان أو ذات أخرى، فسوقهم مختص بأنه إلى الله وحده لا إلى غيره.

وكذلك تقديم (يومئذ) فالمساق إليه سبحانه يكون في ذلك اليوم مخصوصاً، وهو يوم مفارقة الدنيا.

وقدم (إلى ربك) على (يومئذ) لأنه هو المهم لأنها جهة المساق ومنتهاه ومستقره. وقد قال في آية سابقة: (إلى ربك يومئذ المستقر) وقال هنا: (إلى ربك يومئذ المساق) فاختير لفظ (المساق) ههنا لأن الآية في مفارقة لروح الجسد  عند الموت، فيذهب الميت بعد ذلم ويساق إلى ربه، ثم يوضع في القبر، والقبر ليس مستقراً ولا موطن إقامة، وإنما هو موطن زيارة كما قال تعالى: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) [التكاثر] فسماها زيارة ولم يسمها مكثاً أو إقامة.

أما الآية الأولى فهي في يوم القيامة، يوم قيام الناس من قبورهم والذهاب بهم إلى مستقرهم في الجنة أو النار، وقد سمى الله الجنة مستقراً وكذلك النار قال تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً) [الفرقان] فالمساق ينتهي إلى المستقر كما قال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) [الزمر] فهذه غاية المساق ومنتهاه، وكل ذلك إلى الله رب العباد.

ثم قال بعدها:

(فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى)

هذه الآيات فيها حشد من الفن عظيم عسى أن أوفق إلى بيان شيء من مظاهره. فمن ذلك:

1ـ إن هذه الآيات وقعت بعد قوله: (والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق) وهذا النفي والإخبار فيها، إنما هو في الآخرة وهي من أحوال الآخرة وأخبارها، فارتبطت بقوله: (لا أقسم بيوم القيامة).

2ـ كما ارتبطت بالنفس اللوامة من جهتيها الداعيتين إلى اللوم، فقد ذكرنا أن النفس اللوامة إنما تلوم نفسها لسببين:

إما أن تقوم بعمل لا ينبغي أن تقوم به فتندم فتلوم نفسها على ذلك، أو تترك عملاً ما كان ينبغي لها أن تتركه، فيفوتها خيره فتندم فتلوم نفسها على ذلك. والنفس هنا قدمت التكذيب والتولي: (ولكن كذب وتولى) وأخرت التصديق والصلاة (فلا صدق ولا صلى) فندمت في الحالتين فاقتضى ذلك أن تلوم نفسها من الجهتين، وأن تكثر ذلك وتبالغ في الملامة.

3ـ كما ارتبطت بقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) ذلك أنه كذب وتولى، فقدم شهواته ومعاصيه.

4ـ وارتبط قوله: (فلا صدق ولا صلى) بقوله: (يسأل أيان يوم القيامة) فهو مستبعد له مكذب به فهو لم يصدق ولم يصل.

5ـ كما ارتبط ذلك بقوله تعالى: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر) فإنه قدم التكذيب والتولي وأخر التصديق والصلاة.

6ـ وارتبط قوله: (فلا صدق) بقوله: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ذلك أن التصديق أمر إيماني، وهو من دخائل النفوس التي لا يطلع عليها إلا الله. والإنسان أعلم من غيره بما في نفسه فهو على نفسه بصيرة، ثم إن الإيمان كما يقال: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، فهو لم يصدق بالجنان (فلا صدق) وكذب باللسان، كما قال تعالى: (ولكن كذب) فأظهر التكذيب (وتولى) ولم يعمل بالأركان فانتفت عنه حقيقة الإيمان.

7ـ وارتبط عدم الصلاة والتولي بإلقاء المعاذير، فإنه سيسأل عن ذلك، فيحاول أن يدفع عن نفسه بالمعاذير.

8ـ وارتبط قوله: (فلا صدق) وقوله: (ولكن كذل) بقوله: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) فإنه لم يؤمن، والإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان.

9ـ وارتبطت هاتان الآيتان أعني قوله: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذل وتولى) بقوله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) فهو قد أحب العاجلة، فكذب وتولى وترك الآخرة.

10ـ وارتبطتا بقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) فإنه لو صدق وصلى لكان من أصحاب الوجوه الناضرة، ولكن كذب وتولى فأصبح من أصحاب الوجوه الباسرة.

قوله:

(ثم ذهب إلى أهله يتمطى)

يتمطى، يتبختر وأصله من المطا، وهو الظهر، أي: يلوي مطاه تبختراً، وقيل أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيته ومد منكبيه قلبت الطاء فيه حرف على كراهة اجتماع الأمثال[30] مثل تظنى من تظن.

وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: (تظن أن يفعل بها فاقرة)

والفاقرة هي الداهية التي تقصم فقار الظهر. فهذا الذي يتبختر في مشيته ويلوي ظهره، سيقصم فقار ظهره، فلا يستطيع حراكاً. وهو جزاء من جنس العمل، أفلم يكن يلوي ظهره ويتبختر، فسيحطم هذا الظهر الذي طالما لواه وتبختر به.

وهذا أنسب عقاب له، ولو قال بدل ذلك مثلاً: ستصيبه داهية أو تحل به كارثة أو قارعة لم تجده يحسن هذا الحسن، ولا يرتبط به مثل هذا الارتباط، فإن ذلك لا يجانس تمطيه.

وهي مرتبطة أيضاً بقوله تعالى: (إلى ربك يومئذ المساق) فهو كان يذهب إلى أهله وينقلب إليهم متى شاء، أما الآن فإنه يساق سوقاً إلى ربه وسيده على الرغم من أنفه.

ثم انظر كيف قدم الجار والمجرور في السوق فقال: (إلى ربك يومئذ المساق) لأنه ليس له اختيار، وإنما هو مذهوب به إلى جهة واحدة. أما في الدنيا فهو ينقلب إلى أهله وإلى عمله، وإلى اصدقائه وإلى من شاء ليس ثمة حصر، ولذا لم يقدم الجار والمجرور في الدنيا، فقد كانت له عليها الحرية، أما الآن فهو مسوق سوق العبد إلى مولاه وربه وسيده.

ثم انظر كيف أنه لم يذكر (يومئذ) في الدنيا بخلاف يوم موته وسوقه فإنه كان في الدنيا يذهب كل يوم وليس في يوم معين، أما سوقه إلى ربه فذلك في يوم معين وهو يوم الفراق فلم يحتج إلى ذكر اليوم في الدنيا بخلاف يوم المساق.

فانظر كيف تقابل التعبيران والمشهدان

قوله:

(أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى)

(أولى لك) عبارة تقال على جهة الزجر والتوعد والتهديد تقول لمن تتوعده وتتهدده، (أولى لك يا فلان) أي: ويل لك، واشتقاقها من (الولي) وهو القرب، فهو اسم تفضيل يفيد قرب وقوع الهلاك.

جاء في (الكشاف): (فأولى  لهم) "وعيد بمعنى: فويل لهم، وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه: الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه"[31].

وجاء في (روح المعاني): (أولى لك فأولى) "من الولي بمعنى القرب، فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء، كأنه قيل: هلاكاً أولى لك بمعنى: أهلكك الله تعالى هلاكاً أقرب لك من كل شر وهلاك… وفي الصحاح عن الأصمعي، قاربه ما يهلكه: أي نزل به… وقيل: اسم فعل مبني ومعناه: وليك شر بعد شر"[32].

واختيار هذا الدعاء أنسب شيء ههنا، فهو دعاء عليهم وتهديد لهم بالويل القريب والشر الوشيك العاجل، فهو مناسب لإيثارهم العاجلة وتقديمهم الفجور والشهوات وتأخيرهم الطاعات، فكما عجلوا في فجورهم وشهواتهم ومعاصيهم عجل لهم الويل والثبور. وهو مناسب لجو العجلة في السورة الذي ذكرنا قسماً من مظاهره.

لقد ورد هذا الدعاء في سورة محمد فقال: (فأولى لهم) غير  أننا نلاحظ الفروق التعبيرية الآتية بينهما:

1ـ إنه كرر الدعاء في سورة القيامة في الآية الواحدة فقال: (أولى لك فأولى) ولم يكرره في سورة محمد بل قال: (فأولى لهم).

2ـ ثم إنه عاد فكرر الآية: (أولى لك فأولى) كلها في سورة القيامة، فكان تكراران: تكرار جزئي في الآية ، وتكرار كلي للآية.

3ـ في آية (أولى لك فأولى) كرر لفظ (أولى) فقط ولم يكرر (لك).

4ـ فصل بين الدعائين في الآية الواحدة بالفاء.

5ـ فصل بين الآيتين بـ (ثم).

وبالتأمل في السياقين نجد السبب واضحاً.

قال تعالى في سورة محمد: (ويقول الذين أمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم).

وقال في سورة القيامة: (فلا صدق ولا صلى  ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى).

وكل سياق يقتضي ما ذكر فيه من جهات متعددة منها.

إن المذكور في آية القيامة أشد كفراً وضلالاً من المذكورين في آية محمد، ذلك أنه قال في آية محمد: (رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) وهؤلاء من ضعفة الدين.

جاء في (الكشاف): "(الذين في قلوبهم مرض) هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام"[33].

وجاء في (روح المعاني): "(رأيت الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق. وقيل: ضعف في الدين"[34].

في حين قال في سورة القيامة: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى) وربما أظهر الأول التصديق والصلاة في حين أن الثاني أظهر التكذيب والتولي، ثم ذهب إلى أهله متبختراً بذاك فهو إذن أولى بالوعيد الشديد.

2ـ إن المذكورين في سورة محمد أخبر عنهم وهم أحياء، والأحياء ترجى لهم التوبة، وباب التوبة مفتوح، أما المذكور في سورة القيامة فأخبر عنه بعد الموت وقد مات على التكذيب والتولي وتحقق عليه الوعيد الشديد.

3ـ ذكر في آية سورة محمد صفة واحدة، وهي الجبن عن القتال، فهددهم مرة واحدة في حين ذكر أكثر من صفة من صفات الكفر في سورة القيامة فكرر تهديده.

4ـ ذكر صفتين للمذكور في سورة القيامة وهما: عدم التصديق وعدم الصلاة: (فلا صدق ولا صلى) ولكل منهما ذكر تهديداً:

فلا صدق ……… أولى لك

ولا صلى……… فأولى

ثم كرر هاتين الصفتين وأكدهما بمعناهما، فقال: (ولكن كذب) وهي بمعنى (فلا صدق) ثم قال: (وتولى) وهي إثبات لعدم الصلاة وغيرها من الطاعات. فالآية الثانية تكرير وتوكيد لما نفاه عنه في الآية الأولى. ولذا كرر التهديد وأعاده، لأنه أعاد الصفتين كلتيهما بمعناها فقال: (ثم أولى لك فأولى).

وعلى هذا فهو ذكر عدم التصديق وأكده بالتكذيب، وذكر عدم الصلاة وأكده بالتولي، ولكن تهديد ووعيد فكرره أربع مرات كل وعيد مقابل صفة.

5ـ لقد ذكر صفتين كما أسلفنا في سورة القيامة، وهاتان الصفتان ليستا بدرجة واحدة من الضلال بل إحداهما أشد من الأخرى.

فالأولى: هي التكذيب أو عدم التصديق.

والأخرى: التولي ومنه عدم الصلاة.

وعدم التصديق أو التكذيب هو إنكار لإيمان من أساسه، فهو لم يصدق بالرسالة ولا ببقية أركان الإيمان.

والثانية: عدم الصلاة. جاء في (فتح القدير): "(فلا صدق ولا صلى) أي: لم يصدق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه… وقيل: فلا آمن  بقلبه ولا عمل ببدنه"[35].

ولا شك أن عدم التصديق، هو أكبر جرماً وضلالاً لأن صاحبه لم يؤمن أصلاً. أما عدم الصلاة فهو أخف. ذلك أن المؤمن إذا قصر في الطاعات تكاسلاً فقد يغفر الله له أو يتجاوز عنه، لأنه لا يزال في دائرة الإسلام. وقد قال أكثر الفقهاء أن المسلم إذا ترك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً غير جاحد لفرضيتها لا يخرجه ذلك عن الإسلام.

أما إذا لم يؤمن ولم يصدق فلا ينفعه شيء، وإن فعل ما فعل من مظاهر الطاعة. ولذا كانت قوة التهديد بمقابل قوة الوصف. فقال مقابل (فلا صدق) (أولى لك) فذكر (لك) ومقابل (ولا صلى) (فأولى) بحذف (لك ) إشارة إلى عظم الإيمان وأهميته، وإشارة إلى أن الصفتين المذكورتين ليستا بدرجة واحدة في الضلال.

فهذا الحذف ليس للفاصلة فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه أيضاً، وإنما هو للمعنى وللفاصلة.

6ـ إن الصفتين لم يكررهما بلفظهما بل بمعناهما ومقتضاهما، وهما في لفظ الإعادة والتوكيد أشد سوءاً ونكراً مما ذكرهما أولاً.

فإنه قال أولاً:(فلا صدق) وقال في التأكيد والإعادة: (ولكن كذب) والتكذيب إنما يكون بالإعلان والإشهار أما عدم التصديق فلا يستلزم الإعلان، وقد تقول: (هو لا يصدق غير أنه لا يعلن تكذيبه) فربما لا يصدق إنسان بأمر غير أنه لا يكذب به.

فالتكذيب إذن أشد سوراً أو ضلالاً من عدم التصديق.

وكذا قوله: (ولا صلى) فقد كرره وأكده بقوله: (وتولى) والتولي أعم من عدم الصلاة وأشد.

وعلى هذا فآية التوكيد أشد من الآية المؤكدة.

وقد فرق بين الآيتين بـ (ثم) وذلك لجملة أسباب:

منها أن (ثم) قد تفيد عموم البعد والتباين وليس المقصود بها التراخي في الزمن فقط، ومن ذلك قولهم: (أعجبني ما صنعته اليوم، ثم ما صنعته أمس أعجب) [36].

ونحو ذلك قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذات متربة ثم كان من الذين أمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) [البلد].

دخلت (ثم) لبيان تفاوت رتبة الفلك والإطعام من رتبة الإيمان[37].

فما بعد (ثم) أبعد في الرتبة مما قبلها، وكذلك ههنا فإن التهديد الثاني أقوى من الأول.

وقيل: إن التكرار عهنا مبالغة في التهديد والوعيد[38].

ومنها: أنه جاء بـ (ثم) لتوكيد الكلام، إذ أن جملة التوكيد قد يفصل بينها وبين المؤكدة بحرف العطف، تقول: والله ثم والله. وفي (روح المعاني): "إنها كررت للتأكيد"[39].

وربما جاء بـ (ثم) للتراخي الزمني أيضاً، إذ هناك عذاب في القبر وعذاب في الآخرة، وبينهما مدة مديدة كما قال تعالى في آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر].

فهم يعرضون على النار غدواً وعشياً في القبر، ويوم تقوم الساعة لهم عذاب أشد.

وعلى هذا يكون التهديد الأول في القبر والثاني في الآخرة، وجاء بهما بـ (ثم) الدالة على المهلة والتراخي، والدالة على بعد ما بين تهديدين والعذابين في الشدة.

ونحوه ما قيل في قوله: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) [التكاثر] فقد قيل: أن العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثاني في القبر.

جاء في التفسير القيم وقوله: "(كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) قيل تأكيد لحصول العلم كقوله: (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) [النبأ] وقيل: ليس تأكيداً بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر، وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس.

ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه:

أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.

الثاني: لتوسط (ثم) بين العلمين، وهي مؤذنة ما بين المرتبتين زماناً وخطراً"[40].

وجاء في (فتح القدير) في قوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) "قيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات: الويل لك حياً والويل لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار"[41].

7ـ لذا جاء بالفاء بين الأوليين لقربهما وتعجيلهما فقال: (أولى لك فأولى) فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر.

وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما وتعجيلهما فقال: (أولى لك فأولى) فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر.

وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما من بعضهما وهو (أولى لك فأولى) الثانية فإنهما متصلان بيوم القيامة ودخول النار. فكل عذابين قريبين من بعضهما فصل بينهما بالفاء. وقد فصل بـ (ثم) للفاصل الزمني البعيد بين كل منهما.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أنه جيء بالفاء الدالة على التعقيب بلا مهلة لمناسبة العجلة التي بنيت عليها السورة في قوله: (كلا بل تحبون العاجلة) وقوله (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) وغير ذلك من السياقات التي تدل على العجلة.

ثم قال بعد ذلك:

(أيحسب الإنسان أن يترك سدى)

هذه الآية مرتبطة بأول السورة، وهو القسم بيوم القيامة، ومرتبطة بقوله تعالى: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) ومرتبطة بقوله: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) ذلك أنه مجزي عن عمله ولا يترك سدى، بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بالآية قبلها وهي (أولى لك فأولى) ذلك أن معناها: أنه لا يترك سدة بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بما بعدها وبآخر السورة، وهو قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)

وغنية هذه الوثاقة في الارتباط عن كل قول.

قوله: (ألم يك نطفة من منى يمنى)

حذف نون (يكن) لسببين ولله أعلم:

الأول: مراعاة لجانب العجلة الذي طبعت به السورة، وتكررت مظاهره في أكثر من موطن، فحذف نون (يكن) للفراغ من الفعل بسرعة وهو الملائم لجو العجلة في السورة.

الثاني: أن الإنسان لا يكون إنساناً من المني وحده حتى يراق في الرحم، ويلتقي بالبويضة، فبالمني والبويضة يكتمل الخلق وبهما يتم الإنسان، أما المني وحده، فلا يكون منه إنسان وكذاك البويضة وحدها. فنقص من فعل الكون إشارة إلى أن التطوير المذكور في الآيات هذه لا يكون إلا بهما معاً، أما المني فهو جزء من السبب. ولم يتم الفعل إشارة إلى ذلك.

ومعنى (يمنى): يراق في الرحم، فإن لم يمن فلا تكوين، وهذا من مواطن الحذف لبديعة.

ثم قال:

(ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى)

الملاحظ أنه لم يذكر فاعل الخلق ولا التسوية ولا الجعل ولم يجر له ذكراً فقد قال: (فخلق فسوى فجعل) وقد كان بنى الفعل قبلها للمجهول، فلم يذكر فاعله أيضاً، وهو قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) فلم يذكر فاعل الترك، وعدم ذكر فاعل الخلق وما بعده مناسب لحذف فاعل الترك. وكل ذلك مناسب لجو العجلة في السورة.

والهاء في (منه) تعود على المني، فمن ماء الرجل يكون الذكر والأنثى، وليس للأنثى فيه دخل، ولم يكن هذا الأمر معلوماً حتى العصر الحديث، فقد ثبت أن الذكر هو المسؤول عن الجنس وليس الأنثى. وقد ذكره القرآن الكريم قبل اكتشاف قوانين الوراثة وعلم الأجنة فقال: (ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل (منه) الزوجين الذكر والأنثى).

فأعاد الضمير على المني، ولو أعاده على العلقة لقال: (منها) ولم يعده على النطفة مع أنها هي القطرة من المني، لئلا يحتمل إعادته على العلقة وهذا إعجاز علمي علاوة على الإعجاز الفني.

ثم قال بعد ذلك:

(أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)

اسم (ليس) مكني غير مصرح به وهو اسم الإشارة (ذلك) وقد أشار به إلى ذات غير مذكورة في الكلام، فناسب ذلك عدم التصريح بالفاعل فيما تقدم من الأفعال.

وناسب آخر السورة أولها، فقد أقسم في مفتتح  السورة بيوم القيامة، وختمها بإحياء الموتى.

وقد تقول: ولم قال هنا: (أليس ذلك بقادر) على سبيل التقرير، وقال في أوائل السورة: (بلى قادرين) على سبيل الإثبات؟

والجواب أن إحياء الموتى أصعب وأعسر من تسوية البنان في القياس العقلي، وإن كانت الأفعال بالنسبة إلى الله كلها سواء، فجاء في آية إحياء الموتى بأسلوب التقرير الاستفهامي الدال على الأهمية وأكد القدرة بالباء الزائدة فقال: (أليس ذلك بقادر) في حين جاء بالإثبات في تسوية البنان، يقال: (بلى قادرين) ثم إنه حذف الفعل وصاحب الحال، وجاء بالحال أحدها، فقال: (قادرين) ولم يقل: (نجمعها قادرين) فأخلاها من كل توكيد في حين ذكر الجملة تامة، مؤكدة في إحياء الموتى فدل ذلك على الفرق بين المقامين.

وفي ختام هذه اللمسات، نقول: إن هناك أكثر من خط فني في هذه السورة.

منها: خط مراعاة العجلة، ومنها: مراعاة جانب القيامة، ومراعاة الازدواج في التعبير وغيرها من الخطوط.

أما مراعاة جانب القيامة وجانب النفس اللوامة، فالسورة مبنية عليهما أصلاً كما بينا. وسنشير إلى جانبين آخرين هما: مراعاة جانب العجلة، ومراعاة الازدواج في التعبير. أما بقية الجوانب، فهي ظاهرة لا تحتاج إلى إيضاح.

فمن مراعاة جانب العجلة:

1ـ حذف جواب القسم الذي افتتحت به السورة وهو (لا أقسم).

2ـ حذف عامل الحال وهي (قادرين).

3ـ عدم ذكر مرجع الضمير في قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآنه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) فالهاء لا تعود على مذكور.

4ـ عدم ذكر فاعل الفعل (بلغت) في قوله: (كلا إذا بلغت التراقي) ولم يجر له ذكر.

5ـ عدم ذكر فاعل الظن في قوله: (وظن أنه الفراق) ولم يجر له ذكر.

6ـ عدم ذكر فاعل (فلا صدق ولا صلى).

7ـ حذف نون (يكون) في قوله: (ألم يك).

ومن السياقات الواردة في العجلة:

1ـ قوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) والمعنى: أنه يؤثر العاجلة، فيقدم شهواته. 

2ـ قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به).

3ـ قوله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة).

أما ظاهرة الازدواج أو الاقتران بين الأمرين المتناظرين أو المتقابلين، فإن السورة مبنية كما يبدو على هذا الازدواج والاقتران.

فالسورة تبدأ بالقسم بشيئين هما: يوم القيامة، والنفس اللوامة، ثم تستمر السورة على هذا النحو من الاقتران والازدواج، فمن ذلك مثلاً:

1ـ أنها أقسمت بشيئين هما يوم القيامة والنفس اللوامة.

2ـ وجمعت بين آيتين من آيات الله الكونية: آية الليل وآية النهار، وهما الشمس والقمر وذلك في قوله: (وجمع الشمس والقمر).

3ـ وذكرت نوعين من العمل ينبأ بهما الإنسان، وهما ما قدم وما أخر (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر).

4ـ وذكرت ما خفي في النفس وما يظهره الإنسان من الحجج والمعاذير وذلك في قوله: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره).

5ـ وذكرت العاجلة والآخرة وذلك في قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة).

6ـ وذكرت الحب والترك وذلك في قوله: (تحبون) و(تذرون).

7ـ وذكرت نوعين من الوجوه: الوجوه الناضرة، والوجوه الباسرة.

8ـ ونفت اثنتين من الطاعات في قوله: (فلا صدق ولا صلى).

9ـ وأثبتت اثنتين من المعاصي وذلك في قوله: (ولكن كذب وتولى).

10ـ وكررت آية واحدة مرتين وهي قوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى).

11ـ وذكرت نعمتين من نعم أهل الجنة: نضرة الوجوه والنظر إلى الرب (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

12ـ وذكرت عقوبتين من عقوبات أهل النار، بسور الوجه وقاصمة الظهر: (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة).

13ـ وذكرت نوعين من الجمع، جمعاً في يوم القيامة وجمعاً في الدنيا. أما الجمع في يوم القيامة فهو قوله: (ألن نجمع عظامه) وقوله: (وجمع الشمس والقمر).

وأما جمع الدنيا فهو جمع القرآن، وهو قوله: (إن علينا جمعه وقرآنه).

14ـ وذكرت نوعين من القدرة:

القدرة على تسوية البنان وهو قوله: (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) والقدرة على إحياء الموتى، وهو قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى).

ذكرهما بطريقتين من الإثبات.

الإثبات الصريح: وهو قوله: (بلى قادرين).

والإثبات على طريق التقرير (أليس ذلك بقادر).

وإحداهما بحرف الجواب هو: (بلى)، والأخرى بحرف السؤال وهو الهمزة: (أليس ذلك).

15ـ وذكر نوعين من التسوية:

تسوية جزئية مقيدة وهي تسوية البنان وهو قوله: (نسوي بنانه).

وتسوية عامة مطلقة وهو قوله: (فخلق فسوى).

16ـ وذكر طورين من أطوار خلق الإنسان، وهما النطفة والعلقة.

17ـ وذكر الجنسين وهما الذكر الأنثى: (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى).

18ـ وذكر طريقتين من التعبير عن الله.

التعبير بالجمع (بلى قادرين) و(نجمع) و(نسوي).

والتعبير بالإفراد وذلك نحو قوله: (فخلق فسوى).

إلى غير ذلك من مظاهر الازدواج.


[1]  البحر المحيط 8/384 وانظر روح المعاني 29/135 [2]  الإتقان 2/110 [3]  التفسير الكبير 30/215   [4]  معاني النحو 4/552 [5]  أساليب القسم في اللغة العربية 150-151 [6]  التفسير الكبير 30/216 [7]  التبيان في أقسام القرآن 15 [8] الكشاف 3/292، البحر المحيط 8/384، روح المعاني 29/137.

[9] انظر البحر المحيط 8/385. [10] الكشاف 3/293 وانظر تفسير ابن كثير 4/448.[11] البحر المحيط 8/385.[12] الكشاف 3/293.[13] لسان العرب برق. [14] لسان العرب ريب. [15] الكشاف 3/293[16] لبحر المحيط 8/387[17] الكشاف 3/293.[18] البحر المحيط 8/387.[19] التفسير الكبير 30/224.

[20] البحر المحيط 8/387.[21] البحر المحيط 8/387.[22] البحر المحيط 8/387.[23] انظر لسان العرب وذر.[24] انظر لسان العرب ودع. [25] انظر روح المعاني 29/146، التفسير الكبير 30/230.[26] روح المعاني 29/146.[27] الكشاف 3/294.[28] البحر المحيط 8/389.[29] نفس المرجع. [30] البحر المحيط 8/382، الكشاف 3/294.[31] الكشاف 3/131.[32] روح المعاني 29/149.[33] الكشاف 3/131.[34] روح المعاني 26/67.[35] فتح القدير 5/331.[36] المغني 1/118.[37] البرهان 4/226.[38] البحر المحيط 8/390.[39] روح المعاني: 29/149، وانظر فتح القدير 5/332.[40] التفسير القيم 515ـ516.[41] فتح القدير 5/332.

 

 

 

من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة القيامة

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿1﴾ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴿2﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴿3﴾  بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿4﴾  بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴿5﴾ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴿6﴾  فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ﴿7﴾  وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴿8﴾  وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴿9﴾  يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿10﴾  كَلَّا لَا وَزَرَ ﴿11﴾  إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴿12﴾  يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿13﴾  بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾  وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴿15﴾  لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16﴾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴿17﴾ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ﴿18﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴿19﴾ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴿20﴾ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ﴿21﴾ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴿22﴾ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿23﴾ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴿24﴾ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴿25﴾ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ﴿26﴾ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴿27﴾ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴿28﴾ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴿29﴾ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴿30﴾ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ﴿31﴾ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿32﴾ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴿33﴾ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿34﴾ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿35﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴿36﴾ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴿37﴾ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴿38﴾ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴿39﴾ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴿40

أولاً- سورة القيامة مكية بلا خلاف، وآياتها أربعون، وهي تعالج موضوع البعث والجزاء، الذي هو أحد أركان الإيمان، وتركِّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، وعلى حالة الإنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب؛ ولذلك سمِّيت:{ سورة القيامة }.

تبدأ السورة الكريمة بالتلويح بالقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة على أن البعث حقٌّ، لا ريب فيه. ثم تذكر طرفًا من ذلك اليوم المهول، الذي يتحيَّر فيه البصر، ويُخْسَف فيه القمر، ويُجمَع الخلائق والبشر للحساب والجزاء.

وتتحدَّث السورة الكريمة عن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن الكريم، عند تلاوة جبريل- عليه السلام- فقد كان عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه في متابعة جبريل عليه السلام، ويحرِّك لسانه معه؛ ليسرع في حفظ ما يتلوه، فأمره الله تعالى أن يستمع للتلاوة، ولا يحرِّك لسانه به.

وتذكر السورة الكريمة انقسام الناس إلى فريقين: سعداء، وأشقياء. فالسعداء وجوههم مضيئة، تتلألأ بالأنوار، ينظرون إلى الرب جل وعلا.. والأشقياء وجوههم مظلمة قاتمة، يعلوها ذلٌّ وقَتَرَة.

ثم تتحدَّث السورة عن حال المرء عند الاحتضار، حيث تكون الأهوال والشدائد، ويلقى الإنسان من الكرب والضِّيق ما لم يكن في الحسبان. وتختتم بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة والبراهين العقلية.

ثانيًا- هذه السورة الكريمة- كغيرها من سور القرآن الكريم- حافلة بأسرار البيان المعجز، الذي أعجز أرباب الفصاحة والبيان. وأول ما يطالعنا من هذه الأسرار البديعة المعجزة:

1-سر دخول ﴿ لَا النافية على الفعل ﴿ أُقْسِمُ  في الآية الأولى والثانية:

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2)

ويكاد يجمع العلماء- قديمًا وحديثًا- على القول بأن ﴿ لَا هذه زائدة لتوكيد القسم، في حين ذهب بعضهم إلى أنها نافية للقسم، وذهب آخرون إلى أنها نافية لكلام تقدم ذكره، ثم ابتدىء بالقسم، إلى غير ذلك من الأقوال. ومن العلماء المعاصرين، الذين تحدثوا عن الخلاف في ﴿ لَا  هذه الدكتور فاضل السامرَّائي، وهو أشهر من أن يعرَّف به، ففي كتابه الغنيِّ عن التعريف { لمسات بيانية في نصوص من التنزيل } تحدث الدكتور فاضل عن لمسات بيانية في سورة { البلد }، وقد سأل السؤال الآتي: ما دلالة ( لا ) في القسم ؟ ثم أجاب بقوله: أولاً- لم يرد في القرآن كلّه ( أقسم بـ ) أبدًا. كل القسم في القرآن ورد باستخدام ( لا )؛ كقوله تعالى:( لا أقسم بمواقع النجوم ) ، ( ولا أقسم بالخنّس )، ( فلا وربّك لا يؤمنون ).. وهكذا في القرآن كله..

فما هي ( لا ) ؟ اختلف النحاة في دلالة ( لا ): كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا، يقولون:( لا ) زائدة لتوكيد القسم بمعنى:( أقسم )، مثال قولنا: والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى، والقسم دلالة واحدة.. وقسم يقولون: هي للنفي. أي: نفي القسم. والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه، فلا داعي للقسم.. وقسم قال: إنها تنفي لغرض الاهتمام؛ كأن تقول: لا أوصيك بفلان، بمعنى: لا أحتاج لأن أوصيك.

وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام .

هذا ما قاله فضيلته بنصِّه، وهو مدوَّن في كتاب، وليس جوابًا ارتجاليًّا مباشرًا على الهواء، وهو كلام يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل، حتى يستطيع فهمه؛ لأنه أشبه بالألغاز؛ وإلا فكيف يمكن أن يفهم قولهم:( والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة ).

أو كيف يمكن أن يفهم قوله:( وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام ).

هذا إلى ما فيه من خلط واضح بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم. وبين قوله تعالى:{ لا أقسم }، وقوله تعالى:{ فلا وربك لا يؤمنون }..

وكأن الدكتور فاضل أحس بما في كلامه من اضطراب وخلط، فرجع عنه في حديثه عن { لمسات بيانية في سورة القيامة } إلى القول:” وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو لون من ألوان الأساليب في العربية، تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا. أو لا أريد أن أحلف؛ لأن الأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدارجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله- لأن الحلف بالله عظيم- إن الأمر على غير ما تظن، فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر.. أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد... “  

ومثل هذا الخلط نجده عند الطاهر ابن عاشور، يدل على ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (الواقعة: 75): و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد. وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم. وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم؛ لأن الأمر واضح الثبوت. ثم كثر هذا الاستعمال، فصار مرادًا تأكيد الخبر، فساوى القسم، بدليل قوله عقبه:{ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } .

ثم قوله في سورة البلد:و{ لا أقسم } صيغة تحقيققِ قَسَم، وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف( لا ) كالمزيد كما تقدم عند قوله تعالى:{ فلا أقسم بمواقع النجوم }(الواقعة: 75) .

لاحظوا قوله: و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد . 

ثم تأملوا قوله: وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم ، وقوله: وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث ،وتذكروا أن المقسم- هنا- هو الله عز وجل !

والله جل شأنه عندما يقول:﴿ لَا أُقْسِمُ بِكَذَا ﴾ فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط، وهو أنه تعالى ليس بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم عليه حقٌّ، لا ريب فيه ! لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد حقِّيَّتَه وثبوته؛ كالبعث والنشور في هذه السورة الكريمة. والفرق واضح كل الوضوح بين أن نقول:{ أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }، وبين أن نقول:{ لا أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }. فالأول يجعل من البعث أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب، بخلاف الثاني. 

وإذا علمنا الفرق بين الجملتين أدركنا سرَّ دخول ﴿ لَا النافية على فعل القسم في هذه السورة، وفي غيرها من السور، التي يكون فيها ضمير الفعل عائدًا على الله جل وعلا، ويكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة الثابتة.

ومن هنا يمكننا القول بأن ﴿ لَا أُقْسِمُ في القرآن، ليس بقسم مباشر، ولا هو نفي للقسم أو نفي لغيره؛ بل هو تلويح بالقسم، وعدول عنه لعدم الحاجة إليه. وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال سيد قطب رحمه الله- أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر، وهو أسلوب، ذو تأثير في تقرير الحقيقة، التي لا تحتاج إلى القسم؛ لأنها ثابتة واضحة.. وهذا هو سر البيان في هذا التركيب القرآني، الذي ما زال الناس في تفسيره يتخبطون !

وأما الفرق بين ﴿ لَا في قوله تعالى:﴿ لَا أُقْسِمُبِكَذَا ﴾، وبينها في قوله تعالى:﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (النساء: 65) فيبينه أن الأولى موصولة بالقسم، وأن الثانية منفصلة عنه، والدليل على ذلك دخول الواو بينهما.

وأما الفرق بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم، فقد أجابت عنه  الدكتورة بنت الشاطىء بقولها:وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون﴿لَا ﴾لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم؛ كما يهدي إليه البيان القرآني.. ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام. والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه، وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا . 

وأما القول بأن{ لا أقسم } بمعنى:{ أقسم }، بدليل قوله تعالى:﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (الواقعة: 76 )فقد أجاب عنه الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقاله{ دخول{ لا } النافية على فعل القسم}، والموجود على هذا الرابط:

http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=1294&select_page=9

وفيه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني ما يكفي.

2- والسر الثاني من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ نفي الفعل﴿ نَجْمَع ﴾ بـ﴿ لََنْ ، وتخيصه بـ{ العظام }، في قوله تعالى:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)

ولمَّا عُدِلَ عن القسم المباشر بيوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفاء بالتلويح به، عُدِلَ عن ذكر المقسَم عليه، وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، ﴿ لَتُبْعَثُنَّ ﴾

 ولكن عُدِلَ عن هذا للعلة السابقة، وجيء به في صورة أخرى؛ كأنها ابتداء لحديث، بعد التنبيه إليه، بهذا المطلع، الذي يوقظ الحس والمشاعر:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)

وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حيًّا! وهي مشكلة لا تزال كذلك عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا ! وقد تردد ذكرها في القرآن كثيرًا على ألسنة المشركين، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عنهم:

﴿ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *﴿ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾(الواقعة: 47- 48)

والقرآن الكريم يردُّ عليهم، فيقول سبحانه:

﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * ﴿ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾(الواقعة: 49- 50)

ونحو ذلك قوله تعالى:

﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (يس:78)

ويأتي الرد من الله تعالى:

﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾(يس: 79)

ومثل ذلك قوله تعالى هنا:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)

فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم، في اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم، فردَّ عليهم تعالى بقوله مؤكدًّا وقوعه:

﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (القيامة: 4)

والمعنى: أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟ بلى ! إننا لقادرون على أن نسوِّيَ أطراف أصابعه الصغيرة، ونجعلها كما كانت قبل الموت، فكيف بالعظام الكبار.

وقد أعاد الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى، في آخر السورة، فقال سبحانه:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى *أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 36- 40)

والاستفهام في قوله تعالى:﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ ﴾ لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه. والتعريف في﴿ الْإِنْسَانُ ﴾ تعريف الجنس، والمراد به هنا جنس الكافر، المنكر للبعث.

وأما سرُّ تخصيص فعل الجمع بالعظام فلأن العظام هي قالب النفس، لا يستوي الخَلْقُ إلا باستوائها، وأنها أبعد شيء عن الحياة بعد البلى. وجمعها بعد البلى لا قدرة لأحد عليه سوى الله، الذي خلقها أول مرة، سبحانه وتعالى! قال ابن قيِّم الجوزيَّة:الذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثماني وأربعون عظمًا، سوى الصغار السَّمسَميَّات، التي أحكمت بها مفاصل الأصابع، والتي في الحنجرة.. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلاً. فإن كانت المفاصل هي العظام، فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظامًا صغارًا، لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم. وإن كان المراد بالمفاصل المواضع، التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض- كما قال الجوهري وغيره- فتلك أعم من العظام.. فتأمله !.

3- والسر الثالث من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ اختيار لفظ البنان وتخصيصه بالتسوية في قوله تعالى:

﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (القيامة: 4)

و﴿ بَلَى حرف جواب، ولها موضعان:

الموضع الأول:أن تكون ردًّا لنفي يقع قبلها؛ كقوله تعالى:

﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (النحل: 28)

أي: بلى ! قد عملتم السوء.

والموضع الثاني:أن تقع جوابًا لاستفهام، دخل عليه نفي حقيقة، فيصير معناها التصديق لما قبلها؛ كقولك: ألم أكن صديقك ؟ ألم أحسن إليك ؟ فتقول: بلى ! أي: كنت صديقي. ومنه قوله تعالى:

﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ  ؟ ﴿ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا (الملك: 8- 9) 

فهي في هذا الموضع تصديق لما قبلها، وفي الأول ردُّ لما قبلها، وتكذيب.

ويجوز أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقًا؛ حقيقيًّا كان، أو مجازيًّا.

فالمجازي كقوله تعالى:

﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ ؟﴿ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا (الأعراف: 172) 

أي: بلى! أنت ربنا ! فان الاستفهام هنا ليس على حقيقته؛ بل هو للتقرير. لكنهم اجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده بـ﴿ بَلَى . وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم، لكفروا . ووجهه أن لفظة { نعم }تصديق لما بعد الهمزة؛ نفيًا كان، أو إثباتًا.

والحقيقي كقوله تعالى:

﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ؟﴿ بَلَى ﴾(الزخرف: 80) 

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ؟ ﴿ بَلَى قَادِرِينَ ﴾(القيامة: 3- 4)

ومن ثمَّ قال الجمهور: التقدير: بلى! نجمعها قادرين؛ لأن الحسبان؛ إنما يقع من الإنسان على نفي جمع العظام، و﴿ بَلَى إثبات فعل النفي، فينبغي أن يكون فعل الجمع بعدها مذكورًا على سبيل الإيجاب.

وقوله تعالى:﴿ قَادِرِينَ ﴾حال مقيِّد لفعل الجمع المقدَّر، وفيه بعد الدلالة على التقييد، تأكيد لمعنى الجمع؛ لأن الجمع من الأفعال، التي لا بدَّ فيها من القدرة، فإذا قُيِّد بالقدرة البالغة، فقد أُكِّدَ .

والبنان في قوله تعالى:﴿ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ يطلق في اللغة، ويراد به: الأصابع، وأطرافها. وقيل: سمِّيت الأصابع بذلك؛ لأن بها صلاح الأحوال، التى يمكن للإنسان أن يَبْني بها. وقال تعالى:

﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾(الأنفال: 12)

أي: الأصابع، أو أطرافها؛ لأجل أنهم بها يقاتلون؛ فإنه لا ظهور على العدوِّ إلا بضرب بنانه. والمراد بها في قوله تعالى: 

﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (القيامة: 4) 

أطراف الأصابع. وهذه الآية الكريمة من أقوى الأدلة على جمع أجزاء الإنسان المتفرقة، وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية على ذلك؛ إذ تؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها؛ بل تُسوَّى تسويةً كاملة، مهما صغُرت ودقَّت! وبهذا يُعلَم سرُّ تخصيص لفظ { البنان} بالذكر- هنا- دون غيره.

وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر؛ إذ تبين أن البشرية بأسرها، قد ميَّز الله العليم القادر بين جميع أفرادها بميزة، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم، حتى الأب مع ابنه، تلك الميزة هي اختلاف البنان، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان. فثبت بذلك أن أصابع الإنسان هي التي تحدد شخصيته، وأن بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الشخصية، ونشأ عن ذلك علم، سمِّي:{ علم تحقيق الشخصيَّة }. 

فإذا كان الأمر كذلك، وقد أخبر تعالى أنه قادر على جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته، فكيف يستبعد الجاحد على من هذه قدرته، إعادته إلى الحياة مرة أخرى ؟

وبالتالي فالآية نصٌّ صريحٌ في جمع الأجزاء المتفرقة، حتى أصغر وأدق جزء منها، ودليلٌ على أن بدن الإنسان يتفرق، ولا ينعدم.

وهكذا نرى أن قوله تعالى:﴿ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ يدل على معنى، لم يكشف العلم سره، إلا بعد نزول القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة سنة، حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر. وصدق رب العزة حين قال:

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت: 53)

4- والسر الرابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التكرار:

ومن ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين: الأولى والثانية. وفي الآيتين: الثامنة والتاسعة. وفي الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين.

أ-أما التكرار في الآيتين: الأولى والثانية:

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2) 

ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة.

والثاني: أنه أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة.

والثالث: أنه لم يقسم بهما.

وقد سبق أن ذكرت أن قوله تعالى:﴿ لَا أُقْسِمُ  ليس بقسم مباشر؛ بل هو تلويح بالقسم وعدول عنه، لعدم الحاجة إليه. وأن ﴿ لَا ﴾ جيء بها قبل الفعل ﴿ أُقْسِمُ ، لنفي الحاجة إلى القسم، ولم يؤتَ بها لغرض آخر. وهذا هو سرُّ البيان فيها. وأما تكرارها مع الفعل﴿ أُقْسِمُ ففيه سرٌّ آخرُ من أسرار البيان، وبيان ذلك أنه لو قيل:   

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، احتمل ذلك معنيين:

أحدهما: نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين.

والثاني: نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما، دون الآخر.

وأما قوله تعالى:

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

فيدل على نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين ومنفردين. وهذا يعني أن التكرار هنا مقصود، ويدلك على ذلك أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها على المزاوجة بين إيقاع يوم القيامة، وإيقاع النفس اللوَّامة؛ وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية، التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة بطريقة دقيقة جميلة.

أما يوم القيامة فقد ورد وصفه في هذه السورة وفي غيرها بما لم يوصف به غيره، وسيمر بنا شيء من هذا الوصف.. وأما النفس اللوَّامة فقد روي في تفسيرها أقوال متنوعة، كلها متقاربة المعنى، ولعل أقربها إلى المراد ما روي عن الحسن البصري من قوله: إن المؤمن، والله ! ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا، ما يعاتب نفسه. وعنه أيضًا: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.

يقول سيد قطب رحمه الله: فهذه النفس اللوَّامة، المتيقظة التقية، الخائفة المتوجِّسة، التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله؛ حتى ليذكرها مع يوم القيامة. ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة، نفس الإنسان، الذي يريد أن يفجر أمام خالقه، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة، مستبعًدا وقوعه، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه، ودون تلوُّم، ولا تحرُّج، ولا مبالاة ! .

﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (القيامة: 5- 6)

والسؤال بـ﴿ أَيَّانَ هذا اللفظ المديد الجرس، يوحي باستبعاد ذلك السائل لهذا اليوم الواقع لا محالة؛ وذلك تمشيًا مع رغبته في أن يفجر، ويمضي في فجوره، لا يصدُّه شبح البعث، وشبح الآخرة. والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور؛ فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ، وإزاحة هذا اللجام؛ لينطلق في الشر والفجور، بلا حساب ليوم الحساب.

ومن ثمَّ كان الجواب على تهكمه بيوم القيامة، واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا حاسمًا، ليس فيه تريث، ولا إبطاء، حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ..

﴿ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ *وَخَسَفَ الْقَمَرُ *وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ *يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ *كَلَّا لَا وَزَرَ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ *يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ *بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (القيامة: 7- 15)

ب- وأما التكرار في الآيتين: الثامنة والتاسعة:

﴿ وَخَسَفَ الْقَمَرُ *﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (القيامة: 8- 9)

فالمراد به تكرار لفظ { القمر }. والسر في هذا التكرار أن الله تعالى أخبر عنه في الآية الثانية بغير الخبر في الأولى. فخسْف القمر غير جمعه مع الشمس. وخسفه معناه: ذهاب ضوئه وإظلامه. قال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو كسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف .

وغلِّب المذكر على المؤنث في الآية الثانية، لاجتماع الشمس والقمر. ولو قيل: طلع الشمس والقمر، بدلاً من جمع الشمس والقمر، لقبح؛ كما يقبح أن يقال: قام هند وزيد، إلا أن يراد بالواو: الواو الجامعة، لا العاطفة. وأما في الآية الكريمة فلا بد أن تكون الواو جامعة، وهي التي تسمَّى واو المعيَّة، ولفظ الجمع قبلها يقتضي ذلك، وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:

﴿ وَجُمِعَ بين الشَّمْس وَالْقَمَر .

وقيل في المراد من جمعهما: أن الله تعالى يجمع بينهما يوم القيامة، ويلقيهما في النار؛ ليكونا عذابًا على الكفار. وفي تنوير المقباس من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما: يجمع بينهما كالثورين المقرونين العقيرين الأسودين فيرمَي بهما في حجاب النور .

وجمعُ الشمس والقمر هو عبارة عن فناء الكون. أي: يحدث وقت التحام الشمس والقمر. في ذلك الوقت يحدث اضطراب بين النجوم والكواكب، وتوابعها، فتصطدم ببعضها، وتتحطم، ثم تتناثر.

ويؤكِّد العلماء أن جمع الشمس والقمر سوف يكون بفعل فقدان تعادل القوى الجاذبة والطاردة، وسينجذب القمر الى مركزه الأصلي، وهو الشمس.

ذكر الأستاذ عبد الدايم كحيل في مقال له، نشر في هذه الموسوعة تحت عنوان{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }، أن علماء الفلك  يخبرون بنتيجة حساباتهم أن الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر بعد خمسة آلاف مليون عام، وفي تلك اللحظة سيكبر حجم الشمس، حتى يصل غلافها إلى حدود القمر، وسيتم اجتماع الشمس والقمر!.

ثم قال:منذ عام/ 1695 لاحظ العالم هالي Edmund Halley أن دوران الأرض يتباطأ مع الزمن، وبعد ذلك وعندما تطورت القياسات الفلكية تمكن العلماء من اكتشاف أن القمر يبتعد عن الأرض تدريجياً وبمعدل/ 4 سم كل عام.

وفي ذلك الوقت سيكون القمر أبعد عن الأرض بمعدل/ 40 بالمائة أكبر من بعده الحالي. أي: أنه سيكون أقرب إلى الشمس، عند هذه المرحلة سوف يتحطم القمر، وينخسف كما تنخسف الأرض أثناء الزلزال.. وبالتالي سيكون القمر أول من يجتمع مع الشمس، ويتأثر بحرارتها.. في ذلك الوقت سيكون طول اليوم على الأرض/ 47 ضعف اليوم الحالي، وسيصبح طول الشهر/ 47 يومًا.

ويؤكد العلماء أن القمر ما هو إلا جزء من الأرض نتج عن اصطدامات، تعرضت لها الأرض قبل{ 4.5 } بليون سنة، فتناثرت أجزاء من الأرض، وبدأت تدور حولها، ثم تجمعت وشكلت القمر. والقمر يبعد عن الأرض{ 385 } ألف كيلو متر وسطياً، هذه المسافة قطعها القمر بعد رحلة شاقة، استمرت آلاف الملايين من السنوات، ولا يزال القمر يبتعد عن الأرض حتى يدخل في نطاق جاذبية الشمس، ويكون الاجتماع بينهما.. ويؤكد العلماء أن اقتراب الشمس من القمر واقتراب القمر من الشمس واجتماعهما حقيقة مؤكدة بناء على القوانين التي تحكم الكون .

فالله القادر على جمع الشمس والقمر في هذا اليوم هو على جمع عظام الإنسان بعدما فرَّقها البلى ومزَّقها أقدر وأقدر، وإن كان الكل أمام القدرة الإلهية سواء !

ج- وأما التكرار في الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين: 

﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى *﴿ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (القيامة: 34- 35)

فقد جاء فيهما لفظ﴿أَوْلَى مكررًا أربع مرات. والغرض من هذا التكرار المبالغة في التهديد والوعيد. والخطاب لأبي جهل، عمرو بن هشام، الذي تقدم وصفه في الآيات، التي سبقت هاتين الآيتين، وهي قوله تعالى:

﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى  *﴿ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ * ﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴾(القيامة: 31- 33) 

وكان يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالاً بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر؛ كأنما فعل شيئًا يذكر.

والتعبير القرآني يتهكم به، ويسخر منه، ويثير السخرية كذلك، وهو يصور حركة اختياله بأنه﴿ يَتَمَطَّى ﴾، وهو ذاهب إلى أهله. أي: يمطُّ في ظهره، ويتعاجب تعاجبًا ثقيلاً كريهًا !

والله تعالى يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد، فيقول سبحانه:

﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى *ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى

وهو تعبير اصطلاحي، يتضمن التهديد والوعيد. ومعناها: قاربك ما تكره، فاحذره. وهو مأخوذٌ من الوَلِيِّ، وهو القرب. 

وفي ( زاد المسير ) لابن الجوزيِّ:قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان، إذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وَلِيَكَ المكروه، يا أبا جهل ! .

وقال الكرماني في ( أسرار التكرار ):فإن قوله:﴿ أَوْلَى تامٌّ في الذمِّ، بدليل قوله:﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ (محمد: 20)، فإن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أنه للتهديد؛ وإنما كرَّرها؛ لأن المعنى: أولى لك الموت، فأولى لك العذاب في القبر، ثم أولى لك أهوال يوم القيامة، وأولى لك عذاب النار، نعوذ بالله من شرها .  

وفي المستدرك على الصحيحين: عن سعيد بن جبير، قال:قلت لابن عباس رضي الله عنهما:﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ، أشيءٌ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شيءٌ أنزله الله ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله الله .

وفي لباب النقول في أسباب النزوللجلال الدين السيوطي: أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: إن الله أمرني أن أقول لك:

﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى *  ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى

قال: فنزع ثوبه من يده، فقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شئ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ، وأنا العزيز الكريم. فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيَّره بكلمته، ونزل فيه:

﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (الدخان: 49) “.  

5- والسر الخامس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّالتقديم والتأخير:

ومن ذلك سر تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ. وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها.

أ- أما تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ فنلاحظه في الآيات الآتية:

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (القيامة: 12)

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (القيامة: 30)

﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (القيامة: 17)

﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة: 19)

ففي الآية الأولى قُدِّم الخبر﴿إِلَى رَبِّكَ على المبتدأ﴿ الْمُسْتَقَرُّ ، والسر في هذا التقديم هو إفادة معنى التخصيص، مع تحسين اللفظ. والمعنى: أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة، لا إلى غيره، فلا مفرَّ لهم منه سبحانه إلا إليه.

قال الزمخشري:أي: استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصِبوا إليه. أو: إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره؛ كقوله:

﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾(غافر: 16).

أو: إلى ربك مستقرُّهم. أي: موضع قرارهم، من جنة، أو نار .

وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى:

 ﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة: 17- 19)

أي: إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات قراءته في لسانه، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه. فالله سبحانه تكفل بجمعه، وقرآنه، وبيانه. وبيانه يكون على ألسنة العلماء المتدبرين على مر الدهور والعصور، الغائصين في مكنوناته، المتحيرين في أسرار إعجازه. وهذا يعني: أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر، ولم يقتصر على زمن دون زمن.

أما لفظ { قرآن }هنا فهو مصدر:{ قرأ }، جيء به بدلاً من { قراءة }؛ ليدل على المبالغة في القراءة. هذا أصله، ثم أطلق على الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار علمًا عليه. ومثله في دلالته على المبالغة:{ فرقان }، و{ غفران }، و{ شكران }، و{ كفران }.  

ب- وأما تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها، فنلاحظه في الآيات الآتية:

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (القيامة: 12)

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (القيامة: 14)

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (القيامة: 22)  

﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة: 23)

﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (القيامة: 24)

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (القيامة: 30)

ففي هذه الآيات تقدم الظرف، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو العربي مصطلح{ العامل }. والغرض من هذا التقديم هو الاختصاص، وهو الغرض نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في الآيات، التي تقدَّم ذكرها قبل هذه الآيات. وفي قوله تعالى: 

﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة: 23) 

قال الزمخشري:تنظر إلى ربها خاصَّة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول .

واستطرد الزمخشري قائلاً:ألا ترى إلى قوله:

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (القيامة: 12) 

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (القيامة: 30)

﴿ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (الشورى: 53)

َ﴿ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ﴾(آل عمران: 28)

﴿َ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (البقرة: 28)

﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾(هود: 88)

كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص ! .

ومصطلح{ المفعول }يطلق- عند النحاة- ويراد به: شبه الجملة؛ كما يراد به: المفعول به.

وذكر الهاشمي في{ جواهر البلاغة } من فوائد التقديم: ما يفيد زيادة في المعنى، مع تحسين في اللفظ، ثم قال:وذلك هو الغاية القصوى، وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا.. انظر إلى قوله تعالى:

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة: 22- 23)  

تجد أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص، وأن النظر لا يكون إلا لله، مع جَوْدَة الصياغة، وتناسق السجَع .

6- والسر السادس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول{ الواو }على { لو } الشرطية، في قوله تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (القيامة: 14- 15)

و﴿ بَلِ للإضراب الانتقالي، وهو للترقي من مضمون الجملة السابقة:

﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (القيامة: 13) 

إلى الإخبار بأن الإنسان يعلم ما فعله. فالمعنى: بل الإنسان حجَّة بيِّنة على نفسه يوم القيامة، وشاهد عليها وحده بما جنت، وارتكبت من الموبقات، ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عنها؛ وذلك لأن جوارحه تنطق يومئذ بذلك.. 

﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النور: 24)

ولهذا لا يحتاج إلى غيره؛ لينبئه بأعماله. ألا ترى إلى قوله:

﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ ﴾ *﴿ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (الحاقة: 25)

وهو كقوله تعالى:

﴿ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (الإسراء: 14)

فالبصيرة على هذا هي الحجة البينة الظاهرة؛ مثلها في قوله تعالى:

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ (يوسف: 108)

والتاء فيها للمبالغة؛ كما في{ راوية }، و{ علاَّمة }، و{ ونسَّابة }.  

وقيل: البصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب؛ كما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين. وقيل: البصيرة: العقل، الذي تظهر به المعاني والحقائق؛ كما أنّ البصر إدراك العين، الذي تتجلى به الأجسام. وتجمع على بصائر. قال تعالى:

﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)

والمعنى المراد من الآية أن الإنسان بصير على نفسه، رغم المعاذير، التي يأتي بها. وهذا ما أفادته { الواو }الداخلة على ﴿لَوْ في العبارة الشرطية، التي جاءت قيدًا على الجملة قبلها. ولولا هذه الواو، لكان إلقاء المعاذير شرطًا في كون الإنسان بصير على نفسه، فجاءت الواو لتحصن المعنى..

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ 

ومثل ذلك قوله تعالى:

﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ (البقرة: 221)

﴿ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (يوسف: 17) 

7- والسر السابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول { الباء }على خبر المنفي بـ{ ليس }، في قوله تعالى:

﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (القيامة: 40)

لما ذكر الله تعالى في أول السورة الكريمة إمكان البعث والنشور في صورة تقريرية حاسمة ردًّا على منكريه، ذكر سبحانه في آخرها الأدلة على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بقوله:

﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 40)

وهذه الحقيقة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرًا في خلق هذا الإنسان وتقديرًا، هي إحدى الحقائق الكبيرة، التي عرضتها السورة الكريمة، إلى جانب مشهد يوم القيامة، وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة وقلق في مواجهة الأحداث الغالبة، حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس، وهي تروغ من هنا ومن هناك؛ كالفأر في المصيدة ! وذلك ردًّا على تساؤل الإنسان الكافر عن يوم القيامة، في شك واستبعاد ليومها المغيَّب، واستهانة بها، ولجاج في الفجور.  

وهي- كما قال سيد قطب رحمه الله- حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها، وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة، ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلهًا واحدًا، يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بيِّنة، لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة، تمشيًّا مع التقدير والتدبير، الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.. وهذا هو الإيقاع، الذي تمسُّ السورة به القلوب، وهي تقول في أولها:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)

 ثم تقول في آخرها:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة:36- 40)

وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة، ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان. وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى 

فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة، لا علة لها، ولا هدف، ولا غاية.. أرحام تدفع، وقبور تبلع.. وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب زائل من متاع الحيوان.

فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء، ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.

وهذه اللمسة: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى  هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.

وفي غير تعقيد ولا غموض، يأتي سبحانه وتعالى بالدلائل الواقعة البسيطة، التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى، التي يدركها الإنسان بفطرته السليمة:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾(القيامة:36- 39)

وأمام هذه الحقيقة، التي تفرض نفسها فرضًا على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق، التي تعالجها السورة:

﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ ؟

وجمهور العلماء على القول بأن همزة الاستفهام، إذا دخلت على النفي؛ كما في هذه الآية:﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾، أفادت معنى التحقيق والتقرير، وأن الباءالداخلة على الخبر ﴿ بِقَادِرٍ ﴾ زائدة للتوكيد، وعليه يكون قوله تعالى:

﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾، وقولهم في تقديره:

{ أليس ذلك قادرًا} ، سواء في المعنى. 

وفي الحقيقة أن الهمزة الداخلة على النفي لا تفيد معنى التقرير في الجمل المنفية، إلا بدخول { الباء }على خبر المنفي، أو ما يقوم مقامه. وبعبارة أخرى: التقرير لا يستفاد من دخول الهمزة على النفي؛ وإنما يستفاد من دخول الباء على الخبر الواقع في سياق هذا المنفي. ونحو ذلك قوله تعالى:

﴿ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾(الأنعام: 53)

﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (الزمر: 36)

﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (الزمر: 37)

﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (التين: 8)

فالنفي في هذه الآيات جميعًا، ونحوها قد انتقض، وخرج إلى إثبات حاسم، مرادًا به التقرير. أما الإثبات فمستفاد من دخول { الهمزة }على ﴿ لَيْسَ . وأما التقرير فمستفاد من دخول الباء على الخبر. وهذا هو سرُّ الإعجاز البياني في هذه الباء، التي حكموا عليها ظلمًا وعدوانًا بالزيادة !

ثالثًا- وبعدُ.. فإنه ينفد القول، وما تنفد كلمات ربي، وما تنطوي عليه من أسرار البيان. وإن كنت قد اكتفيت بهذا القدر مما ذكرت من هذه الأسرار المبهرة في هذه السورة الكريمة، فأرجو ألا يظن أحد أنني قد أتيت على كل ما فيها من أسرار؛ فإنه لا يزال فيها الكثير مما أجهله، إذا ما قيس بالقليل، الذي أزعم أنني أعلمه، فما يعلم أسرار كلمات ربك إلا هو، سبحانه وتعالى أن يحيط بهذه الأسرار مخلوق من مخلوقاته. فتبارك من أودع كلامه هذه الأسرار، التي هي أجل وأعظم من أن تدركها العقول، فإن ما ظهر لنا منها بالنسبة إلى ما خفي يسيرٌ يسير.. والحمد لله رب العالمين !

الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني

مدرسة لغة عربية- حلــــب

 يمكن التواصل مع المؤلف:

m_ismael@scs-net.org