بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مرحبا بكم معنا في المسجد الأقصى المبارك

سورة 002 - البقرة - آية رقم 006

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

صدق الله العظيم

 

كابوس الكفــــر
 
بقلم الكاتب التركي هارون يحيي

النزوع إلى الشر، الظلم، الحزن، التشاؤم، الاضطراب، العزلة، الخوف، الضغط النفسي، الإحباط، انعدام الأمن والطمأنينة ، تشتت الذهن، القلق، الغضب، الغيرة، الامتعاض، إدمان المخدرات، تضعضع الأخلاق، المقامرة، البغاء، الجوع، الفقر، التفسخ الاجتماعي، السرقة، الحرب، الصراع، العنف، الاضطهاد، الخوف من الموت...هذه الظواهر وغيرها يتكرر الحديث عنها في الصحف والمجلات ومحطات التلفزة بشكل يومي. وتخصص الصحف الكبيرة صفحات كاملة لهذه الموضوعات، كما تنشر صحف أخرى سلسلة من المقالات التي تتناول الجوانب النفسية والاجتماعية لهذه القضايا. غير أن احتكاكنا بهذه القضايا لا يقتصر على الصحف وحدها، بل نحن نواجه هذه المشكلات بشكل متكرر في سياق حياتنا اليومية، وأهم من ذلك، لكل واحد منا تجارب شخصية معها.

يكافح  الناس والمجتمعات للتحرر من وطأة هذه الاضطرابات والظواهر السلبية، ومن مثل هذه الهياكل الاجتماعية الضارة والعليلة التي هيمنت على العالم منذ عصور. ويكفينا للتيقن من ذلك أن نلقي نظرة خاطفة على دولة اليونان القديمة وعلى الإمبراطورية الرومانية العظمى وروسيا القيصرية

وعلى ما يسمى بعصر التنوير، بل حتى القرن العشرين قرن البؤس الذي شهد حربين عالميتين اثنتين وكوارث اجتماعية واسعة النطاق. وأيا كانت الحقبة الزمنية أو الحيّز الجغرافي الذي تصوّب إليه نظرك، فإن الصورة تظل هي هي، بلا اختلاف ذي بال.

ويثور سؤال هنا وهو: لماذا عجز الناس، والحال كذلك، عن الإتيان بحلول لهذه المشكلات، أو على الأقل، بذل الجهود لتخليص مجتمعاتهم من هذه العلل الاجتماعية؟ 

الواقع أنه لم يسلم مجتمع في أي عصر من العصور من هذه المشكلات، ومع هذا استمرت خيبة الناس في التخلص منها وما ذاك لا لعدم صلاحية الوسائل المستخدمة لبلوغ هذه الغاية. فقد تداووا بكل الأدوية وجربوا نظماً سياسية شتى، وبسطوا قوانين شمولية فاشلة، وأقاموا الثورات، وتبنوا أيدلوجيات منحرفة، هذا في حين اتسم سلوك البعض الآخر باللامبالاة تجاه هذه المشكلات وآثروا التسليم بالوضع القائم.

وفي عصرنا هذا الراهن أشرب الناس، أو كادوا، هذا النمط الحياتي، أعني اللامبالاة. فهم مسلمون بأن هذه المشكلات هي من حقائق الحياة التي لا يملك أحد تغييرها. لذلك فهم موقنون بأن وجود مجتمع يتمتع بالحصانة من هذه المشكلات إنما هو ضرب من المحال أو حلم طوباوي بعيد المنال. ورغم امتعاضهم المتكرر والمعلن من هذا النمط الحياتي إلا أنهم يركنون إليه ويعتنقونه بكل سهولة وذلك بسبب ما قرّ في نفوسهم من استحالة وجود بديل آخر لهذا النمط الحياتي.

إن الترياق الوحيد لهذه المشكلات كلها يكمن في اعتناق مبادئ "الدين الحق". فلا أمل في تغيير هذه الصورة الكالحة التي ستبقى ما بقي التجاهل لحدود الله وإبدالها بصورة أخرى هادئة ومشرقة إلا إذا سادت قيم الدين الحق. وبعبارة أخرى، سيظل الناس نهبا لهذه المعضلات طالما تناءوا عن قيم القرآن. ولو شئنا أن نعرف هذا الوضع بعبارة بسيطة لقلنا إنه: كابوس الكفر.

لقد دفعت أرحام المطابع بكتب كثيرة حاول مؤلفوها التعامل مع المشكلات النفسية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات اليوم، إلا أن الخاصية التي تميّز هذا الكتاب هي أنه يركّز على الحل الأكثر واقعية، كما أنه ينذر الناس من مغبة المستقبل الكئيب الذي ينتظرهم إذا عشوا عن هذا الحل.

وإننا لنرجو أن يدرك الذين يقبلون على هذا الكتاب بعقل متفتح وضمير واع أن معاني السلام والثقة المتبادلة وتوفر حياة اجتماعية مثالية لا تتأتى إلا بتقمّص قيم القرآن والإقبال على الدين الحق، وهو الدين الإسلامي.

عندها سيندرج هؤلاء في سلك الناجين من رهق المعاناة، معنوية كانت أو حسية، ومن نصب المتاعب التي سلف الحديث عنها، وسيحيون في بحبوحة من الرحمة والحب والاحترام والسلام والثقة، وستسود بينهم القيم الأخلاقية. وسيتوسلون إلى مرضاة الله بمراعاة حدوده والتزام هدي القرآن. وبهذا يقوى إيمانهم بالله فيفرغ الله عليهم شئآبيب رحمته ويثيبهم جنات الفردوس بعد الممات.

مـا الــدين الحـــق؟

من أين أتيت وإلى أين أذهب؟ ما هدف ومعنى حياتي؟ ما حقيقة الموت؟ هل هناك حياة أخرى بعد الموت؟ هل الجنة والنار توجدان حق؟ ما هو أصل الحياة؟ أين الله؟ ماذا يريد منا خالقنا؟ كيف لي أن أفرّق بين الحق والباطل؟ أين أعثر على إجابات لهذه الأسئلة؟

لقد حاول الناس في كل العصور الإجابة على هذه الأسئلة المهمة وفكروا فيها بجد وأوسعوها نقاشا، ومع ذلك، وخلافا للاعتقاد الشائع، فقد خرجت أفضل الإجابات على هذه الأسئلة وعلى مر العصور من مشكاة "الدين الحق" الذي تنزل به الوحي الإلهي لا من قرائح الفلاسفة وعقول المفكرين.

كثيرة هي الأديان التي أوت إليها أفئدة الناس وجذبت الأتباع على امتداد العالم، ومن هذه الأديان على وجه التمثيل لا الحصر: البوذية والشامانية والوثنية، إلا أنه لا أحد من هذه الأديان تنزل به الوحي الإلهي. ولهذا فهي لا تزيد على كونها فلسفات أو حركات. وبعض هذه الأديان، وبحكم اقتصارها على معان رمزية أو ثقافية، لم تأت بأي حلول اجتماعية أو نفسية للمشكلات. كما أن الأشخاص الذين اضطلعوا بمهمة تطوير هذه الأديان قد أهمتهم هذه الأسئلة الملحة، إلا أنهم عجزوا عن الإتيان بإجابات يعوّل عليها. ومع هذا فهناك بعض الأديان الصحيحة والتي يتعيّن علينا تقييمها وفرزها من الأديان الباطلة. وإن أبرز سمة تميّز الأديان الصحيحة من الأديان الزائفة هي الأصل الذي خرجت منه، إذ تتصل جذورها جميعا بالوحي. لقد أخبر الله سبحانه وتعالى الناس في القرآن عن هيمنة وعلو الدين الحق على ما عداه من أديان أو فلسفات أو نظم اجتماعية، وذلك في قوله: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا"  (الفتح: 28)، وفي قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِه َالْمُشْرِكُونَ"  (الصف: 9)

إن اليهودية والنصرانية والإسلام هي الديانات التي ترجع أصولها إلى الوحي. فهي في أصولها تنزلات وحيية من الله تبارك وتعالى، إلا أن فسادا عريضا قد اعترى الديانتين النصرانية واليهودية بعد موت عيسى وموسى عليهما السلام. فقد غشيت غاشية التحريف والحذف والإضافة كتابي العهد الجديد (الإنجيل) والعهد القديم (التوراة)، وباختفاء الكتب الأصلية بمرور الوقت ظهرت نسخ محرفة كثيرة للعهدين الجديد والقديم، ولف النسيان المطبق النسختين الأصليتين من الكتابين. ولهذا تفرقت السبل بأتباع الديانتين عن سبيل الدين الإلهي الأصيل، فأقاموا معتقداتهم وطقوسهم وطرائقهم التعبدية والحياتية على فهم محرف لدين اختلقه الأحبار والرهبان. ولا تزال هذه التفسيرات والمعتقدات الزائغة باقية إلى يوم الناس هذا. ولهذا عجزت هذه الأديان المحرفة عن تقديم حلول للمشكلات سالفة الذكر.

بعد هذا التحريف الذي طرأ على هاتين الديانتين أوحى الله آخر الكتب السماوية والذي أريد له أن يبقى بريئا من التحريف إلى يوم القيامة وذلك بعد أن تعهد الله بحمايته وحفظه من عبث العابثين وتحريف المبطلين، يقول الله تعالى: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"  (الحجر: 9).

لقد بقي القرآن ولأربعة عشر قرنا من الزمان بهيئته الأولى ونسخته الأصلية بريئا من غوائل التحريف والدس. فقد بقي كل حرف من النسخة الأولى للقرآن والتي كتبت بخط اليد كما هو في المصاحف التي في أيدي المسلمين اليوم. ففي كل مصر من أمصار العالم يتلو المسلمون كتابا واحدا مما يبرهن على أن القرآن مكلوء برعاية إلهية خاصة.

لقد أوصل الله رسالاته للبشر بواسطة الرسل أو من طريق الكتب وذلك على امتداد التاريخ. فقد فرض الله على آدم، أول إنسان خلقه الله في الأرض، ذات المبدأ الذي أنزله على الرسل الذين تتالت بعثاتهم بعده. وبعبارة أخرى، فقد كان الإنسان الأول على علم تام بوجود الله. ثم حمي تنزل الكتب وبعث الرسل بعد ذلك وتتابع عبر حقب الزمان. وهذه الحقيقة أشار إليها القرآن في قوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُم  ُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (البقرة: 213)

وكما أشارت الآية آنفة الذكر، فقد أوصل الله رسالاته لبني الإنسان عبر رسله وكتبه. وقد دأب الرسل على تحذير أقوامهم وتذكيرهم بيوم القيامة وخوّفوهم من جهنم التي سيخلّد الله فيها من يكفر برسالاته من البشر، كما بشر هؤلاء الرسل من يستجيب لدعوة الله من أقوامهم بالخلود الأبدي في جنات الفردوس. إن الله الذي تكفل بخلق الإنسان هو الذي يعلم أي نوع من الحياة يصلح له ويجلب له الراحة والطمأنينة في الحياة الدنيا. وهذا هو السبب في كون القيم الأخلاقية ونمط الحياة الذي يرتضيه الله للناس هو الذي يضمن لهم حياة طيبة في الدنيا وفي الآخرة. صفوة القول، فبما رحمة من الله كان الدين هو النظام الذي يمكن الإنسان من أن يعيش حياة تجري على نسق مثالي على الصعيدين النفسي والاجتماعي.  

رغم أن الوصايا والرسالات التي أنزلها الله إلى خلقه كانت متنوعة بحسب تنوع بيئات الناس وأحوالهم وأزمنتهم، إلا أن الأديان السماوية تلتقي في أصول المعتقدات والمثل الأخلاقية التي يراد للناس التشبث بها. فقد جاءت كل الرسالات السماوية بحقائق جوهرية حول وجود الله، وأوضحت أسماء الله وصفاته، وبينت الغرض من خلق الإنسان وغيره من المخلوقات، ورسمت المنهج الذي يحقق للناس العبودية الحقة لله، وجلت كل ما يرتضيه الله من أنماط السلوك والعمل، وكشفت عن المبدأ الذي يعين الناس على التفريق بين الحق والباطل، وبين السيئ والحسن، وكيف يجعل الإنسان من حياته مطية تبلغه رضا الله وتدخله جنات الفردوس.

عليه فإن الدين الحق عند الله هو الإسلام. فهو أصل ومادة كافة الأديان التي عبد الناس الله بها منذ عهد أول رسول في الأرض، آدم عليه السلام. والإسلام يعني الاستسلام لإرادة الله الغالب. وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن على النحو التالي: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ"  (آل عمران: 19).

ورغم أن الأديان الصحيحة نسبت إلى الرسل التي جاءوا بها فقيل اليهودية والنصرانية، إلا أن الأديان التي جاء بها هؤلاء الرسل كانت كلها دينا حقا واحدا. وبعبارة أخرى، فقد كانت كلها إسلاما في عهودها: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير"  (الحج: 78).

إن الناس الذين أنزلت عليهم كتب سماوية (اليهود والنصارى) سبقت نزول القرآن، كانوا في الحقيقة مسلمين، وهذه الحقيقة يعبر عنها القرآن على لسان أصحاب المعتقد السليم من اليهود والنصارى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُون وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ  " (القصص: 52-53 ).وقد دحض الله مزاعم اليهود والنصارى في هذا الصدد مصححا خطأ ما ذهبوا إليه بقوله: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"  (آل عمران: 67).

وإذا أجلنا النظر في القرآن نجد أن كل الرسل بمختلف عصورهم جاءوا بمنظومة واحدة من المعتقدات والعبادات.  فقد وردت الإشارة في القرآن إلى رسول الله زكريا ونداء الملائكة له وهو قائم يصلي: "فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ " (آل عمران: 39).ورسول الله شعيب حين خاطبه قومه قائلين: "قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ " (هود: 87).ورسول الله إدريس: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا" (مري: 55م)، وعن رسل الله اسحق ويعقوب: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين" (الأنبياء: 73)ورسولا  الله داوود وسليمان: "وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ" (يونس: 78)،ورسول الله عيسى أنه قال: " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا" (مريم:1 3)ولقمان حين خاطب ابنه ناصحا: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (لقمان: 17)وقوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان: 13)، ومريم حين أوصاها الله قائلا: "يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" (آل عمران : 43).

وليست هذه سوى بعض الأمثلة لبعض طرق العبادة ومبادئ العقيدة ويمكن تعميمها على كافة رسل الله طالما أن الدين الحق نفسه هو الذي أنزل على كافة الرسل. وفي الآية التالية تتجلى الملامح الجوهرية الثابتة لهذا الدين الحق : "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه َمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة َوَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"(البيّنة: 5)

عليه فإن الدين عند الله هو الإسلام. هذه الحقيقة الثابتة يعبر عنها القرآن في قوله تعالى:"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين"َ(آل عمران: 85)

لماذا أنزلت الأديــــان؟

لقد أودع الله في أصل فطرة الإنسان ومنذ لحظة خلقه ميلا إلى إدراك وجود الله وذلك باستخدام ما عنده من ملكات الوعي والحكمة. إن من الحقائق الجلية أن كل شيء في الكون من أكبر ما فيه من موجودات إلى أصغرها، هو من خلق وتدبير الله. ففي كل شيء يحيط بنا آية وبرهان على وجود الله. فقد خلق الله الطير الذي يحلق في جو السماء والأسماك التي تسبح في قيعان البحار والإبل التي تجوب الصحراء وطيور البنغوين التي تعمر الدائرة القطبية الجنوبية للكرة الأرضية والبكتريا التي تتخذ من أجسادنا سكنا والتي لا ترى بالعين المجردة والثمار والنباتات والغيوم والكواكب والمجرات العظيمة في أكمل هيئة وأحسن تقويم وزودها جميعا بأنظمة وأجهزة حساسة ومزايا راقية.

وبالمثل، كل النظم التي تعين على استمرار الحياة في الأرض مرسومة وفق توازن دقيق. فحدوث أدنى اختلال أو انحراف في هذه التوازنات، ولو قيس بالمليمتر، من شأنه أن يجعل الحياة على وجه الأرض مستحيلة. وإن التأمل في هذه التوازنات ليكشف عما تنطوي عليه من حساب دقيق رائع وخطة بديعة. فلو تراجعت سرعة دوران الأرض حول الشمس عن معدلها الحالي لأسفر ذلك عن فروق هائلة في درجات الحرارة بين الليل والنهار، كما ستؤدي الزيادة في سرعة دوران الأرض حول الشمس إلى حدوث أعاصير وفيضانات مما يشكل تهديدا خطيرا للوجود على كوكب الأرض. 

كما توجد توازنات أخرى دقيقة تجعل الحياة ممكنة على ظهر كوكبنا الأرضي. لهذا يستحيل عقلا القول بأن هذه التوازنات الدقيقة الرائعة هي وليدة المصادفة العمياء. فكاميرا التصوير أو السيارة تدل الإنسان على وجود صانع حاذق واع، وبالمثل يتعين على المرء أن يستنتج أن الكون وما فيه من شبكة نظم مترابطة ليس كياناً مستقلا بذاته خالقا لها. وتتكرر في القرآن الآيات التي يلفت الله فيها أنظارنا إلى أدلة وجوده وآيات حكمته المبثوثة في الكون: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون" (النحل: 10-13) وفي قوله تعالى: "أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون  " (النحل: 17).

حري بمن يتأمل الآيات سالفة الذكر أن يقر، ولو كان مجرداً تماماً من المعارف الدينية، بوجود الله وأن ينبهر من قدرة الله وحوله. إن نظر الإنسان في جسده، ذلك الكيان الذي يموج بمنظومات معقدة ومترابطة، كفيل بجعل الإنسان يقر بجلال خلق الله. وكذلك بمقدور الشخص الذي لم يطلع على كتاب الله الموحى أن يهتدي إلى خالقه بملاحظة وتأمل ما يحيط به من مخلوقات. فالكون يزخر بالأدلة على وجود الله لكن لا يقف على هذه الأدلة إلا الذين أوتوا قرائح متقدة: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران: 190-191).

وهنا، أي بعد الإقرار بوجود الله، تتجلى الحاجة إلى الدين أكثر. وذلك ببساطة لأن الشخص الذي يقر بوجود الله سيرغب حتما في التقرب إليه، ومعرفة المزيد عنه والبحث عن سبل لاكتساب حبه ورحمته، والسبيل الوحيدة إلى هذه الغايات تكمن في فهم قيم القرآن كلام الله الخالد ودستور الإسلام السماوي، دين الحق.

لقد دعا الله الناس في كل العصور للإيمان به وأعد جهنم لكل من رفض الاستجابة لهذه الدعوة.

القرآن يزود الإنسان بكل المعارف الضرورية له

لم يخل عصر من العصور من كتب منزلة ورسل مرسلون  إلى بني الإنسان، كل ذلك لأجل أن يعرّف الله نفسه للإنسان وليعلمه أنماط السلوك والقيم الأخلاقية وأسلوب الحياة الذي يريد له العيش وفقه وهيئه له. لقد أرشدت تلك الكتب وتلك الرسل الإنسان إلى المعاني الحقيقية لمفاهيم الخير والشر والخطأ والصواب، ولفتت نظره إلى ما سيقفو الموت من حياة أخروية يثاب فيها المحسن ويعاقب فيها المسيء.

وبهذه الكيفية بيّن الله كل ما يحتاج الإنسان إلى معرفته على امتداد حياته عن طريق الأديان السماوية، فلم تغادر هذه الأديان كبيرة ولا صغيرة فيما يتصل بكيفية تحقيق حياة قيمة وطيبة في هذه الدنيا وفي الآخرة إلا جاءت بها. وقد وردت الإشارة إلى الغاية الأولى من خلق الإنسان وإرسال الرسل وإنزال الديانات في آيات كثيرة من آي الذكر الحكيم : "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين "(النحل: 89)،"وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا"(الإسراء: 105)، "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ"(الأنعام: 154).

القرآن يبين الغاية الحقيقة من خلق الإنسان

شهد التاريخ على امتداد حقبه خلق وحياة وفناء مليارات من البشر. قلة قليلة من هؤلاء البشر جهدت وسعت لمعرفة الغاية الحقيقية للحياة، أما البقية الباقية فانجرفت مع تيار الأحداث اليومي وقضوا حياتهم جرياً وراء غايات صغيرة تافهة. ولهذا كانت غاية وجودهم وشغلهم الشاغل هو أن يحققوا رغباتهم الخاصة. إن موقفا باطنيا غير مسئول يميّز هذا الضرب الطاغي من السلوك في كل المجتمعات في مختلف عهود التاريخ تقريبا. فكل جيل، باستثناء حالات قليلة، وقع في ذات الأخطاء التي وقع فيها الجيل السابق وتبنى بكل بساطة أهداف وقيم آبائهم الأولين. وهي دائرة مفرغة  لا تزال تدور إلى يوم الناس هذا.

لقد استعبدت أكثر الناس فلسفات ومبادئ راتبة يقوم أكثرها على المبدأ التالي: إن الإنسان يظهر في الوجود ويشب ثم يكبر ثم يموت. إن الإنسان لا يولد إلا مرة واحدة، وإن الموت هو نهاية كل شيء. ولهذا يتعين على الناس أن يحيوا حياتهم طولا وعرضا وأن يسعوا لتحقيق رغباتهم وإشباع نزواتهم وشهواتهم ما دامت في حياتهم بقية.

وهكذا طفق الناس ينفقون حياتهم التي ظنوا حمقاً أنها الحياة الوحيدة متشبثين بأنماط الحياة والسلوك التي ورثوها من أسلافهم الغابرين. وشرعوا، مدفوعين بروح مجردة من الوعي بالموت، في جعل اتباع الشهوات والتخطيط للمستقبل غايات سامية لحياتهم. ويصدق هذا الوصف على كل الناس على اختلاف مشاربهم وشياتهم الثقافية والاجتماعية. فقد أصبح الحصول على تعليم راق وشغل منصب مرموق وتحقيق مستوى عال من العيش وبناء أسرة سعيدة وغير ذلك مما لا يحصى من الأهداف المماثلة، غايات ثابتة للحياة. 

كل شيء حي سيفارق الحياة في وقت محدد وسيقف بمفرده أمام الله

ليحاسبه على ما قدم في حياته وهذه حقيقة يؤكدها القرآن.

 

يمكن للمرء أن يفيض في ذكر هذه الأهداف فيسوّد بها صحائف كثيرة، لكن الحقيقة هي أن هؤلاء الناس قد عشوا عن الغاية الوحيدة لوجودهم، وأنفقوا حياتهم كلها والتي هي فرصة فريدة أعطوها لتحقيق غاية وجودهم الكبرى، في الباطل والسفه. وهذا الهدف النهائي هو أن يغدوا عبيدا لله الخالق. وهذا الأمر مبسوط في القرآن في قوله تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(الذاريات: 56).

إن السبيل إلى تحقيق العبودية الحقة مبين كذلك في القرآن. والعبودية لله تعني القبول بوجود ووحدانية الله، ومعرفة صفاته العليا وأسمائه الحسنى والإقرار بجلاله وعظمته والالتفات عن عبادة كل معبود سواه وصرف العمر سعياً لنيل رضاه. وقد اشتمل القرآن على وصف مفصل ودقيق لنمط الحياة والقيم الخلقية التي يرضها الله للناس. والشخص الذي يعيش في كنف هذه القيم وفي إطار هذه الحدود مبشر بحياة طيبة يحوزها في الدنيا وفي الآخرة. ولمن تنكب سبيل الله مآل سيئ ينتظره.

إن لنمط حياة المرء في هذه الدنيا دور في تشكيل مستقبله الأخروي وحياته السرمدية بعد الموت. والموت حد فاصل تنتهي عنده فترة الاختبار ولا يسمح للإنسان بعده بإصلاح ما أفسده إبان إقامته في الحياة الدنيا، ولهذا فإن تصرف الإنسان كما لو أنه جاء إلى الوجود بمحض المصادفة أو أنه حر طليق من أي قيد أو أنه قد جاء إلى هذه الحياة ليقضي أيامه في إشباع رغبات مستحقرة، سبيل ستفضي به إلى درك الخسران. إن الذين يستهترون بخالقهم ولا يبالون بأمره ولا يقيمون وزنا للغاية من خلقهم ولا يأبهون لما سيئول إليه أمرهم في الحياة الآخرة، سيقال لهم يوم القيامة على وجه التوبيخ: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون: 115).

هؤلاء الناس هم في واقع الأمر غير مدركين للغاية من وجودهم. وقد أوضح الله هذه الغاية من خلال كتبه ورسله وأرشد الناس إلى الطريق القويم، وفوق ذلك، أعطى الله الإنسان فسحة من العمر ليتعظ. ولن ينفع الذين عموا وصموا عن هذه الفرص وآثروا الشهوات واتبعوها كلها وتنكبوا الطريق الصحيح التي ارتضاها لهم بارئهم، لن ينفعهم الاعتذار يوم القيامة ولن يستعتبون: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ" (فاطر: 37).

القــرآن يرشــد إلى سبــل تحــقيق العبـــودية للـــه

لأن الإنسان خلق ليكون عبدا لله فهو مطالب بمعرفة كيفية هذه العبادة. جاءت الإشارة إلى هذا في القرآن: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ" (الحج: 67).

ففي القرآن وصف مفصل لنوع العبادة التي يريدها الله من عباده. وإن المرء لواجد في القرآن كل الإجابات على الأسئلة المتعلقة بإقامة الصلاة والعبادة الراتبة والزكاة الواجبة إلى جانب الصفات التي يمتدحها الله في عباده المؤمنين وأنماط السلوك التي يتعين على العبد اجتنابها والقيم الخلقية التي ينبغي للعبد اكتسابها، كل هذا مبسوط ومصرح في القرآن. إن التواضع والاستعداد للتضحية والبذل في سبيل الله والأمانة والعدل والتسامح والثبات على المبدأ ونحو ذلك من السمات الخلقية، مشار إليها ومحمودة في القرآن. كما تحدث القرآن باستفاضة عن الأعمال الشريرة وسيئات السلوك والتعامل الفج مع الناس وحذر المؤمنين من الاقتراب منها.

لقد خلق الله الكون والإنسان من لا شيء. وخص الإنسان من بين سائر المخلوقات بفضائل جمّة حباه إياها منها الروح وهي أبرز وأعظم ما يميّز الإنسان، وهي التي تجعل الإنسان كائنا واعيا مدركا. وأفضال الله ونعمه على الإنسان كثيرة يأتي دونها الحصر (18-النحل) لهذا يتعين على الإنسان التأمل في سبب استحقاقه لهذه النعم والمكرمات وما هو المطلوب منه مقابل ذلك.

لقد أودع الله في الإنسان القدرة على إدراك حقيقة أن كل النعم التي يستمتع بها قد جاءته من قبل الله، وبالتالي يسهل عليه إدراك ما يتعين عليه من واجب الشكر لهذه النعم. لكنه قد تنبهم أمامه طرق التعبير عن هذا الشكر والامتنان، وهنا يأتي القرآن ليهديه السبيل. فقد أمر الله عباده في القرآن أن يستشعروا الحاجة إلى نيل رضاه على امتداد حياتهم. ولتحقيق هذه الغاية يتعين على الإنسان وفي كل لحظة من وجوده أن يؤثر رضا ربه على إشباع رغباته وأهوائه، لأن المرء يغدو بدون ذلك عبدا للشهوات تستهويه فينقاد لها: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" (الفرقان: 43)

وعليه يكون نهج المسلم في كل أطوار حياته قائما على النظر في كل الخيارات والبدائل التي تعرض له، سواء تعلقت هذه البدائل بحادثة أو بفكرة أو بموقف، ثم يختار أقربها إلى رضا الله. وبالتالي يحق للمؤمن الذي قضى حياته في طلب رضا خالقه، أن يتطلع إلى إكرام الله له بالجزاء الأوفى والإنعام الأبدي. وعليه فإن نفع عبادة المؤمن يعود إليه هو لا إلى الله، لأن الله غير محتاج لصلاة العبد أو عبادته أو أعماله الصالحة، وقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة في قوله تعالى: "وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت: 6).

القرآن يعلم الإنسان التفريق بين الحق والباطل

في البيئات التي لا تقيم وزنا لمبادئ القرآن يجري تطبيق معايير متنوعة لا يعوّل عليها للتفريق بين الخير والشر. ويتمخض عن الاعتماد على مثل هذه المعايير المتنوعة سلوك خاطئ ونتائج مؤذية. فالشخص الذي حاول اقتراف جريمة مرة واحدة مثلا يعتبر أكثر براءة من الآخرين الذين ارتكبوا عدداً من الجرائم. فاللص الذي يسطو على البيوت يعد نفسه أقل ضرراً من مرتكب جريمة القتل، في حين  يظن مرتكب جريمة القتل بنفسه خيراً لأنه لم يرتكب في حياته سوى جريمة قتل واحدة. فحسب رأيه، فإن من يتكسبون بسفك دماء الآخرين هم الأشرار. ومن الناحية الأخرى يرسم قاتل محترف خطاً فاصلاً بينه وبين شخص مختل العقل، و يعد نفسه بريئا تماماً. وينطبق هذا الوصف على من تجردوا من الوازع الخلقي وإن لم يكونوا في عداد المجرمين. فمن يغتاب الناس لا يرى بفعلته بأساً لأنه إنما فعلها بحسن نيّة، ومن يحمل حقداً على آخر يستصغر ذنبه لأنه لا يحقد إلا بوجه حق. ويمكن للمرء أن يسترسل في سرد حجج مماثلة كثيرة. صفوة القول أن جميع هؤلاء الناس يظنون أنهم أبرياء ولا يقرون ببشاعة جرائمهم، إلا أن الحجج والذرائع التي يسوقونها باطلة وموغلة في الخطأ، وذلك لأن الشخص البريء هو من يستمسك بكتاب الله، في حين يكون الشخص آثما إذا تعارضت تصرفاته مع دستور الأخلاق الذي جاء به القرآن، مهما انتحل من مزاعم.

وكما نعلم جميعا فإن للنفس البشرية وجهان: الضمير والنفس الأمارة بالسوء. يلهم  الضمير المرء ويحفزه دائما إلى فعل الخير والصواب في حين تدفعه النفس الأمارة بالسوء إلى سيئ السلوك وكل ما يغضب الله. وانتفاع المرء بضميره، من الناحية الأخرى، لا يتسنى إلا إذا قوي إيمانه بالله وتحلى بالخوف منه.

يهب الدين الإنسان وعيا يميز به بين الخير والشر. ولن تكون للمرء آلية لاتخاذ القرارات ولا ملكة تفكير سليمة إلا إذا صدّق بما أنزل الله من هدى وسيّر حياته وفق مقررات هذا الهدى. فالشخص الذي يخاف الله مثلا يجعل له ربه فرقانا يفرق به بين الحق والباطل: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الأنفال: 29)فالقرآن فيصل فريد بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " (الفرقان: 1). ويشتمل القرآن على تفصيل دقيق لمفهوم الحق والباطل ويرشد الناس إلى أفضل السبل لاستخدام ضمائرهم ووعيهم. وفي الآية التالية نرى تفصيلا شاملا لمفهوم الحق والباطل: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة: 177).

إن كل معتقد يرثه المرء من أسرته أو من أسلافه أو يكتسبه من بيئته الاجتماعية لا يستحق أن يعول عليه طالما تعارض مع مبادئ القرآن. وشاهدنا على ذلك تلك العبارات المعينة التي يشيع استخدامها لوصف شخص ما بأنه خيّر، ومنها قولهم "إن فلان لا يؤذي ذبابة". إلا أن كف الإنسان عن إلحاق الأذى حتى بالذباب مع تنكبه سبيل الهدى التي رسمها القرآن لا تجعله رجل خير. فالمهم أن يحجز الإنسان نفسه عن الأعمال الشريرة التي أشار إليها القرآن وأن يأتي أفعال الخير التي امتدحها القرآن. يعتقد البعض أن تحلي الشخص بصفة الرأفة بالمساكين والشفقة بالأطفال وتقديم العون لهم لا يسبغ عليهم صفة التدين. فالقرآن يبين لنا أن هذه الأعمال لا تجعل صاحبها أهلا لصفة الإيمان الحق، إنما المؤمن الحق هو الشخص الذي يجهد في اقتفاء أثر القرآن ويقف نفسه لنيل مرضاة الله.

القرآن يرشد الإنسان إلى طبيعة العالم الحقيقية

يخبرنا الله في القرآن—أحدث الكتب عهدا بالسماء وهادي البشرية إلى الصراط المستقيم—أننا خلقنا لنعبد الله وحده. كما يلفت أنظارنا إلى حقيقة أن هذا العالم دار اختبار وابتلاء للمؤمنين، يمتحنهم ربهم ليميز الخبيث من الطيب. وبناء عليه، وكشرط من شروط هذا الاختبار، يحذر الله الإنسان من مغبة الاستجابة للعوامل التي خلقت لتغريه وتبعده عن الصراط المستقيم، مشيرا إلى الطبيعة الخداعة المغوية لهذه العوامل: ".وثمة آيات كثيرة في القرآن تصف حقيقة الحياة في هذا العالم نورد فيما يلي بعضا منها: " إِنَّمَاأَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم"(التغابن: 15)، "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"(آل عمران: 14)، "وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُون" (القصص: 60)

إن المكانة الاجتماعية والمال والأولاد ورغد العيش والفقر وضنك العيش كل أولئك أشياء يبتلى بها الإنسان في الدنيا، يقول الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الأنعام: 165).أما الدليل على أن خلق الحياة والموت ليس سوى اختبار وابتلاء للإنسان ففي قوله تعالى: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُالْغَفُور "(الملك: 2). وكل النعيم الذي يحوزه الإنسان أو يُسلبه  في الدنيا إنما هو اختبار له: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء: 35)،"وَأَمَّا إِذَا مَاابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ"(الفجر: 15-16)، هذه الآية تتضمن وصفا جليا لموقف شخص ليس له من الوعي ما يجعله يستوعب طبيعة هذا الابتلاء. وقد حذر الله المؤمنين من هذا الصنيع وذكرهم مرارا بالغرض الحقيقي من خلقهم: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (طه: 131).

ومع ذلك فإن أمثال هؤلاء الناس الذين عجزوا عن إدراك هذه الحقائق، ينخدعون بالمظهر الخداع لهذه النعم، إذ يدفعهم ولعهم بالحياة واغترارهم بها إلى بذل الغالي والرخيص في سبيل تحصيل هذه المكاسب الدنيوية، وينتابهم شعور بالخيبة ويتملكهم الإحباط إذا واجهوا أزمة أو مصاعب. وفي القرآن إشارة إلى هذه الحالة العقلية: "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُور إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ" (هود: 9-10)

أما المؤمنون الذين يفهمون كل الحوادث التي تعترض سبيلهم في ضوء هدى القرآن كائنا ما كانت الظروف، فلا يذهلون عن ذكر الله واليوم الآخر ويدأبون في السعي للفوز بدار الخلود. فهم يعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (البخاري) فيدركون أن إقامتهم في الدنيا محدودة وأن أيامهم فيها معدودة وأن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية.وهذا هو سر نجاة المؤمنين من غوائل الضلال والتيه والعجب حين تهبط عليهم النعم تترى ومن مشاعر الحزن والغم والهم إذا ابتلوا بشيء من الخوف والحرمان ونقص من الثمرات. ولأنهم علموا أن الله مبتليهم بالنعم وبالحرمان فلا يبدر منهم إلا ما يرضي الرب. استجابتهم للأحداث يحكيها قوله تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء: 35)

بهذا يدرك المرء أن القرآن تتجلى فيه رحمة الله الواسعة المحيطة وذلك لأن المؤمنين يتعلمون أصدق الحقائق عن طريق القرآن.

القرآن يعلمنا أن الدار الآخرة لهي الحيوان(أي الحياة الحقيقة)

لا يستطيع الإنسان أن يحيط بأي شئ من مسائل الغيب. والمستقبل منأمور الغيب المستورة عن إدراك الإنسان. فلا يستطيع أحد أن يقطع بما سيقع في الثواني القليلة القادمة. وبسبب قصور التصور هذا ينظر الناس في كل العصور بفضول وحيرة إلى كل شئ مرهون بذمة المستقبل وبخاصة طبيعة الحياة التي تعقب الموت.

لا جرم أن الله، خالق الكون والإنسان والموت والساعة والجنة والنار والماضي والمستقبل، هو وحده القادر على إعطاء أدق وأصدق الإجابات عن هذه الأسئلة. فهو الذي خلق الكون وما حوى من كائنات حية من عدم ولا يزال يخلقها لحظة بعد أخرى. كما خلق اللهالزمان، أحد الأبعاد الكونية والذي يلف كل كائن حي. لكن الله لا يحده زمان فهو بلا ريب خارج حدود مفاهيم الزمان والمكان. فالله خلق  كل شيء خارج إطار الزمن. فقد خَلق الله وعلم بكل شيء مما نعده نحن ماضياً أو حاضراً في لحظة واحدة.

يطلق وصف الغيب على كل شيء تعجز حواسنا عن إدراكه بما في ذلك المستقبل. واليوم الآخر هو أيضا جزء من الغيب بالنسبة للإنسان طالما ظل على قيد الحياة. والقرآن يحدث الناس عن اليوم الآخر ويتحفهم بوصف مفصل له. ولقد وضع الفلاسفة في كل العصور افتراضات شتى فيما يتعلق بالحياة بعد الموت بالإضافة إلى الثقافات المتعددة التي تزخر بالمعتقدات الأسطورية عن الدار الآخرة. إلا أن الدين الحق هو الذي يعطي أدق وصف لليوم الآخر.

إن الدين الحق هو وحده الذي ينبئ الإنسان بالطبيعة المحدودة للحياة الدنيا وبما ينتظر الإنسان من حياة سرمدية في الدار الآخرة. يخبرنا القرآن أنه سيأتي يوم يعاقب فيه المسيء ويثاب المحسن. فالقرآن هو المصدر الفريد الذي نستقي منه المعلومات عن لحظة الموت وعن يوم الحساب وعن الجنة والنار. يذكرنا القرآن، آخر وحي تنزل من رب العالمين، وفي آيات عديدة أن المقر الحقيقي الإنسان سيكون في الدار الآخرة. يقول الله تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون" (الأنعام: 32)

أثر الدين على الحياة الاجتماعية

إن للكفر آثاراً وانعكاسات سلبية شتى على الناس والمجتمعات، فالظلم والأنانية وانعدام الثقة هي أبرز سمات المجتمعات اللادينية. وهذه هي طبيعة المجتمعات الكافرة، لأنه لا شيء غير الدين يحقق الاستقامة الأخلاقية  للأفراد والمجتمعات. فالأشخاص الذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر يتصرفون بمسئولية وذلك لأنهم يقضون حياتهم في طاعة الله. فالخوف من الله  يحملهم على اجتناب الشرور. وما سادت هذه الروح في مجتمع إلا تلاشت منه العلل الاجتماعية أو انحسرت إلى أبعد الحدود. لكن الكافر وبسبب غفلته عما ينتظره في اليوم الآخر من عقاب أو ثواب، لا يراعي حدود الله. لأن تكذيبه بيوم الدين يدفعه إلى الظن باستحالة الكف عن الشرور. ولا يتردد كثير من الناس رغم تحاشيهم لأنماط معينة من السلوك المنبوذ اجتماعيا، في ارتكاب شرور أخرى إذا تولد فيهم دافع إلى ذلك أو حفزوا إليها أو واتتهم الفرصة لارتكابها.

إن من يسلك طريق الكفر تبدأ متاعبه ومشكلاته المادية والمعنوية في حال حياته وذلك لأن كل إنسان يستيقن في قرارة  نفسه أن به حاجة ماسة للتمسك بأهداب القيم الدينية. ولا شك أنه ما من إنسان إلا وقد وهب ملكة الضمير، لكن في حين نجد هذه الآلية منضبطة لدى المؤمنين فإنها تكون مختلة لدى الأشخاص الذي لا يحيون بقيم الدين. وبعبارة أخرى، يعاني الأشخاص الذين ينأون عن قيم الدين من رهق روحي بسبب تلهيهم عن صوت الضمير. فكل إنسان في حقيقة الأمر يقر بأن له خالقاً يراقبه وأنه مطالب بأن يسمو بنفسه أخلاقياً، لكن هذه الحقائق تتعارض مع رغباته ونزواته الدنيوية، وهذا هو الدافع الذي يجعل الناس ينبذون الدين بالكلية أو ينتحلون معاذير مثل قولهم"إنني رجل أمين وطيب ومخلص" مراوغة وتملصا من العيش وفق هدى القرآن. لكن فيكلا الحالين فإن الناس يحسون بميل باطني إلى العيش وفق منهج القرآن. إن مصدر الانحراف العقلي وغيره من المشكلات النفسية والروحية في المجتمعات التي خبت فيها جذوة الدين هو هذا الضنك والعنت الروحي الذي نسميه "وخز الضمير". الآيتان التاليتان تصفان حال الأشخاص الذين حلت بهم هذه المصيبة وهم على قيد الحياة: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُون" (النمل: 71-72)

إن وخز الضمير ليس سوى جزء يسير من العذاب الروحي والجسدي الذي سيذوقه الكافر يوم القيامة. ولقد استحق الإنسان هذا العذاب الدنيوي لأن حياته وسلوكه وتصوراته ليست منسجمة ومتلائمة مع الغاية من خلقه. وسيظل يعاني من هذا الألم الروحي طالما أصر على هذه العقلية والسلوك اللاديني. وهذا هو السبب الذي يجعله ينقب عن سبل لكبت صوت ضميره طمعاً في إسكات سياط الألم الروحي.

إن الإنسان بحكم تكوينه العقلي والجسدي ميّال إلى قيم الدين. فالله خلق الإنسان وخلق له طريقة  مثلى للعيش. ولهذا فإن تجاوز حدود الله يخلق مشكلات شخصية واجتماعية. وكما ذكرنا في الصفحات السابقة فإن هذه المضاعفات والمشكلات ليست في الحقيقة سوى نكبات وكوارث شخصية واجتماعية كان ولا يزال لها أثر سلبي على الإنسانية على امتداد التاريخ. وليس من سبيل لتجاوز هذه المعضلات إلا بالاستمساك بقيم الدين، وذلك لأن الدين يوجد حلا حقيقيا لكل معضلة من هذه المعضلات.

التمسك بالقيم الدينية يمنع وقوع الجريمة

لا يرجى من أي شخص لا يحيا وفق قيم الدين ولا يتوقع بالتالي أن يحاسب على أفعاله وأن يعاقب في نهاية المطاف، أن يراعي حدود الله أو أن يعمل لخير ومصلحة الآخرين طمعاً في مرضاة الله. فهو حسب معتقده الباطل يرى أن له فرصة واحدة للحياة في الدنيا وبالتالي يتعين عليه أن يجعلها حياة ممتعة إلى أقصى حد وأن يسعى لتحقيق رغباته وأن يفعل جميع ما يشتهي. يصور القرآن هذا المنطق فيقول: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون " (الجاثية:24).

حري بأي شخص تتقمصه هذه الروح المتمردة ويعتد بهذا المذهب الضال أن تصدر عنه كافة ألوان الشرور والانحراف الخلقي، فهو لا يبالي أن يسرق أو يكذب أو ينقض عهوده أو يلجأ إلى العنف أو يزوّر أو يستغل جهود وممتلكات الآخرين متى ما لاحت له الفرصة لعمل ذلك. صفوة القول، ليس ثمة ما يحجز مثل هذا الشخص عن مقارفة الشرور.

وبمرور الوقت يستسلم هذا الشخصلأوامر  نفسه الأمارة بالسوء بعد أن تكون قد استعبدته. فهو لا يتورع عن إتيان أي قدر أو ضرب من الشرور.  فهو يسارع إلى القتل إن ظن أن في القتل مصلحة له. وصفحات الصحف اليومية تطفح بأخبار هذا النوع من الحوادث. إذ تمتلئ صفحاتها بأخبار أشخاص يقتلون جيرانهم ليستولوا على مجوهراتهم،وأخبار عن نساء يدفعهن الغضب إلى قتل أزواجهن وعن آباء يعذبون أطفالهم أو أبناء يقتلون آباءهم ليستولوا على أموالهم. ولا شك أن هناك الكثير من شاكلة هذه الحوادث تحدث كل يوم دون أن يكشف عنها الغطاء. وفي هذا كله برهان ساطع على حقيقة أن الناس قد غدوا عبيدا لأنفسهم الأمارة بالسوء وانتكسوا روحيا حتى صاروا أضل من البهائم. ويصف القرآن كل فرد من هؤلاء بأنه معتد وذلك في قوله تعالى: " وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيم " (المطففين: 12) .

في المجتمعات التي يستطيع فيها الناس عمل ما يشاءون  متى يشاءون يمكن للشخص الذي يجلس إلى جنبك في الباص أو في مركز التسوق أو في المسرح أن يشكل تهديداً محتملا لك ولسواك. فقد يكون لصا كاسراً أو قاتلاً أو مغتصباً. وفوق ذلك فقد يكون مثل هذا الشخص الخطر جميل المحيا وحائزا على درجات علمية راقية. إن مقابلة أجرتها إحدى المجلات الشهيرة لتؤكد ذلك. سألت المجلة الضيف قائلة له: "أشرت إلى أن حوادث القتل تثير اهتمامك. فهل تفكر في ارتكاب جريمة قتل في يوم ما؟ أجاب الضيف قائلا: "فكرت في القتل مرات كثيرة لكن ليس في بالي شخص معين استهدفه. أحيانا أشعر بدافع لقتل ثمانية أو تسعة أشخاص في اليوم الواحد. إن روحي مسكونة بالرغبة في مثل هذا النوع من العنف. وهي وهذه الرغبة موجودة في أعماق كل إنسان. وعلى الرغم من أن جريمة القتل  تبدو منفرة، فهناك الدم والقتيل وسيارات الإسعاف والشرطة وغير ذلك، إلا أن هذا لا يمنعني من الانجذاب إلى حوادث القتل." ثم كان السؤال التالي: "أي نوع من حوادث القتل تود أن ترتكبه؟" فأجاب الضيف: "أنا أفضل استخدام السلاح الناري. وذلك لأن أساليب القتل الأخرى كتسميم الضحية مثلا لا تحدث جو الرعب الذي يصحب حوادث القتل عادة، فهي طريقة للقتل مغرقة في التخفّي"

المدهش أن الشخص الذي وجهت إليه الأسئلة أعلاه، والذي يصفه مجتمعه بأنه شخصية مستنيرة، يحمل مثل هذه المشاعر الإرهابية ولا يستنكف أن يجاهر بها. إن هذا المثال يرسم صورة واضحة المعالم للعقلية للروح التي تسود مجتمعاً لا يقيم وزنا للقيم الدينية، كما يعكس البشاعة التي تنطوي عليها دخائل الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله ولا يخافون عقابه. إن حكم القرآن في القتل، الذي يرتكبه الكفار بكل سهولة، هو على النحو التالي: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(المائدة-28).

إن المثل الذي تتضمنه الآية أعلاه ، والذي يقول فيه الله إن قتل نفس واحدة هو كقتل البشر قاطبة، مهم جدا. وفي آية أخرى يبين الله أن قاتل النفس مصيره الخلود الأبدي في نار جهنم: " وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " (النساء:93). ولهذا فإن الشخص العامرة دواخله بالخوف من الله يتفادى حتى مجرد التفكير في ارتكاب جريمة القتل. هذا المبدأ تصوره حكاية القرآن عن ابني أدم عليها السلام. لقد دفعت الغيرة أحد ابني آدم إلى العزم على  قتل أخيه، لكن الضحية، الذي يخاف الله ربه، أبدى سلوكا وموقفا غاية في الروعة والجلال: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة:28)وعند هذه النقطة يتجلى الفرق الجوهري بين المؤمن والكافر.  فالمؤمن لا تحدث نفسه بالاقتراب من فعل ذمه الله مهما كانت الظروف. كما أن الحديث الشريف الذي جاء فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" (سنن ابن ماجة)، يوضح هذا الموقف تماما. أما الكفار فلا شيء يزجرهم عن ارتكاب الشرور.

إن أخلاق الإسلام تطهر المجتمع من آفات السرقة والرشوة والكذب والقتل. والمستمسكون بأخلاق الإسلام يراقبون حدود الله ولا يصغون للوساوس الشريرة التي تنفثها في جنانهم أنفسهم الأمارة بالسوء.  أما من لا يأبه لقيم الدين فهو دوما يتصرف وفق ما تمليه مصلحته. وهذه هي السبيل المفضية إلى الشر بمختلف ألوانه. فالسرقة مثلا قد تجلب للمرء نفعا ماديا إلا أن المؤمن يعرض عنها لأن الدين حرمها. والسرقة في واقع الأمر تؤذي السارق والمسروق منه. فربما سرقت كل مدخرات المرء في ليلة واحدة لكن سارقها قد يصبح نهبا لتأنيب الضمير. ولهذه الأسباب حرم الإسلام مثل هذه الشرور وفتح الطريق نحو بيئة عالمية رائعة يسودها السلام.

وهنا قد ينبري كافر ليقول: "أنا لا أؤمن بالله لكنني رغم ذلك أعف عن الغش". من الوارد جداً أن يمتنع هذا الشخص عن الغش طوال حياته بدافع من مبادئه، لكنه قد يستسلم في ظل ظروف معينة لإغراء الغش فيغش الآخرين. فقد تمر به مثلا ضائقة مالية أو ربما كان في وسط لا يرى في السرقة بأسا. وثمة دواع أخرى مختلفة قد تجر المرء إلى ممارسة الغش والتورط  في مستنقع الإثم. لكن الدين يحرم بشكل قاطع الاستيلاء على ممتلكات الآخرين دون وجه حق. والشخص الذي يجعل قيم الدين هاديا له في حياته لا يحاول البتة أن يغش الآخرين. فالغش ضرب من ضروب الظلم التي ذمها القرآن ونفر منها في آيات كثيرة منها قوله تعالى: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون" (البقرة:188)

القرآن يأمر بإسناد الأمور إلى أهلها

إن أكبر سبب لاستعصاء كثير من المشكلات على الحل في عالم اليوم هو أن من يتصدون لهذه المشكلات تنقصهم الموهبة والمؤهلات للنهوض بأعباء هذه المهمة. ففي المجتمعات التي تغيب عنها أخلاق الإسلام تجد أناسي كثيرا تنقصهم المهارات الأساسية التي يتطلبها أداء المهام التي يتولونها. وحتى لو توفرت فيهم هذه المهارات فإنهم قد يعوزهم الالتزام بمبدأ فعل الخير للآخرين أو خدمة الإنسانية. وفي أغلب الأحوال لا تكون المهارات والخبرات هي المعيار الذي يحكم عملية توزيع المهام على الأشخاص، بل تحدد ذلك المصلحة الذاتية المتبادلة والامتيازات. فعندما يموت أحد ملاك المصانع مثلا فإن ابنه هو الذي يتولى مسئولية إدارة المصنع، ولا يهم بعد ذلك إن كان الابن يتمتع بالمهارات والمعرفة التي تمكنه من إدارة المصنع أم لا، بل ربما كان في قرارة نفسه كارها لهذا المنصب لكنه يقبل به على مضض لأنه هذا المنصب الموروث يضمن له النجاح والأمان الوظيفي والمالي والهيبة والاعتبار. ولذلك يفشل الابن في تذليل المشكلات التي تظهر في مكان العمل ولو كانت تافهة ويعجز عن اتخاذ إجراء مناسب لتصحيح الأوضاع، الأمر الذي يفضي إلى مزيد من المعضلات الأكثر تعقيدا مع مرور الوقت.

لكن مثل هذه المشكلات لا وجود لها في البيئات التي تسود فيها مبادئ القرآن وذلك لأن القرآن يأمر المؤمنين بإسناد الأمور إلى أهلها الذين تتوفر فيهم المهارات والمعرفة التي تقتضيها هذه المهام: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا " (النساء:58)

إن الشخص الذي يؤمن بالله ويهتدي بمبادئ الدين وقاف عند حدود الله. ولهذا فالمجتمع الذي يتكون من أشخاص مؤمنين هو في الحقيقة يشتمل على: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُون" (المعارج:32-33)حيث يؤدي كل فرد فيه مسئولياته بأحسن وجه.

أخلاق الإسلام تعصم البشرية من الغدر والخيانة

يوجه الدين الإنسان إلى مفاهيم الوفاء والالتزام. ومن الخطأ الظن بأن هذه المفاهيم تبقى في المجتمعات التي لا تهتدي بقيم القرآن، وذلك لأن الفرد في المجتمعات المؤمنة يظل وفياً للآخرين في كل الأحوال حلوها ومرها لا لشيء سوى الفوز برضا الله، أما الذي لا يرجو لله وقارا ولا يظن أنه سيعاقب على ما يرتكب من شرور فإن مصلحته هي التي تحركه ثم لا يلبث أن يغدو إنسانا مفرط الأنانية.

والمجتمعات الكافرة تموج بالأمثلة التي تثبت هذه الحقيقة. فالناس هناك يتنكرون لمن زل عن مكانة كان يتسنمها أو عن منصب كان يشغله، ويزهدون في الشخصيات الهامة التي لم تعد تثير اهتمام الناس، وينفضون من حول الغني إذا افتقر. كما يشعر من يصاب بمرض عضال بمرارة هجر الخلان ورغبتهم عنه.  وهكذا يمكنك الاطلاع على نماذج من الخيانة في صفحات الصحف كل يوم. ففي مجال الأعمال والشركات يبغي الخلطاء على بعضهم على بعضهم الآخر ويتخادعون. ففي مثل هذه العلاقات التي تفوح منها رائحة المصلحة يشاهد المرء كل أشكال السلوك غير الأخلاقي وذلك لما للمال من تأثير كبير على مجريات الحياة اليومية.

أما الصداقة فهي ظاهرة اجتماعية أخرى تتبدى فيها ملامح الخيانة والغدر. إذ لا يتورع الناس عن هجر أعز أصدقائهم إذا أحسوا أنهم يجنون منفعة أكبر من صداقة أخرى. فقد غُبن كثير من الناس من قبل  أصدقائهم لأسباب مماثلة. وينسحب هذا الحكم على الزواج. إذ يترك الزوج زوجه أو يخونها لأتفه الأسباب. فهم يظلون على هذا الضلال لأن فعالهم المنكرة ستظل، حسب منطقهم المعوج، طي الكتمان طالما لم يطلع عليها أحد. لهذا فإنهم لا ينتهون عن غيهم. وباختصار هناك عنصر غدر وخيانة في معظم العلاقات في المجتمعات الكافرة مما يجعل تعامل الناس فيما بينهم مشوبا بالتردد والريبة.

ولا يقتصر انحراف منطق المجتمعات الكافرة على هذه النماذج وحدها. فكم من مشاهير بسبب المال أو الجمال يعشقهم ملايين المعجبين يفقدون هذا الحب وهذا الاهتمام ويقضون بقية أيامهم في عزلة كاملة وفاقة وعوز، يرقبون الموت بعد أن تتقدم بهم السن ويذهب عنهم ما كانوا يتمتعون به من سحر وجاذبية. فقد فقدوا فجأة المعجبين والأصدقاء وأضواء كاميرات الصحافة. 

أن الاعتقاد السائد بين اللادينين هوعلى أن الإنسان بهيئته الحالية قد تطور من مخلوقات شبيهة بالقرد عن طريق عمليةمصادفات. وهذا هو السر في أن الإنسان يقم تقيمه على أساس مظهره   ووضعه الماليوبهما يتميز المرء في مجتمعه. ومتى ما تلاشت هذه القيم المادية تلاشت مكانة المرء في أعين الآخرين. ولا جرم أن هذه الفلسفة  لا تجعل أي قيمة لكائن أصله قرد، إذ ينصرف كل الاهتمام إلى المال والشهرة التي يحوزها المرء. وعليه يحل الأشخاص الأصغر سنا والأكثر جمالا محل المسنين ويزيح المجتمع كبار السن جانبا لأنه لم يعد بحاجة إليهم. كما يفترض بقية أفراد هذا المجتمع أنهم قد انحدروا من قرود وسيطويهم الفناء في نهاية الأمر. ولأن فلسفتهم لا تعرف قيمة الوفاء، فهم لا يتورعون عن التخلي عن آبائهم المسنين وتركهم يقضون بقية أيامهم في دور الرعاية متناسين أن هؤلاء الأباء المسنين هم الذين تطوعوا بتربيتهم ورعايتهم حتى بلغوا مبلغ الرشد. وأسوأ من ذلك أن هؤلاء الآباء والأمهات المسنين يلقون معاملة سيئة في كثير من دور الرعاية.

لا ريب أن أي قلب يخلو من قيم الدين يمكن أن يدفع صاحبه إلى أن يتصرف بعنف أو بعدم اهتمام حتى تجاه والديه. وفي ظل هذا الجدب الروحي تتسرب قيم التنكر والخيانة والغدر إلى كافة أشكال العلاقات الإنسانية. وليس من حل لهذه المشكلة الاجتماعية التي تشيع الألم والاضطراب الروحي إلا بمراعاة قيم الدين. فحين يتمسك الناس بمبادئ الإسلامفسينظر بعضهم إلى بعض باحترام وتقدير. فلا يغدو المال ولا جمال الخلقة ولا المكانة الاجتماعية معيارا للتفاضل بينهم، بل تكون قيمة الواحد منهم بقدر ما عنده  من خشية الله وبحسب نصيبه من الكمال الأخلاقي.  فالجسد ليس سوى نعمة مؤقتة وهبها الله للإنسان. وقد خلق الله الإنسان واستعمره في الأرض ومنحه الحياة اختبارا له. ومقامه في هذه الدنيا قصير إلى أجلمعين ثم ينتقل إلى مقامه الأبدي في الدار الآخرة.  وحين يوافي الآخرة فإنه يحاسب على قدر ما تحقق له من سمو خلقي ولهذا كان سمو الأخلاق، لا غيره، هو الأهم. إن الله يأمر عباده بالوفاء لبعضهم البعض وهذا هو مصدر سعادة المؤمنين.

حيثما سادت أخلاق الإسلام فثمة قيم الوفاء والإخلاص المحض. الأطفال يجلون والديهم. والآباء والفنانون والعلماء والأشخاص الذين خدموا أممهم ينالون التقدير اللازم بغض النظر عن تقدم سنهم. والشباب لا يتخلون عن كبار السن من أفراد أسرهم ولا يدعونهم يقاسون مرارة الوحدة في نهاية حياتهم. فهم يزورونهم بانتظام ويجهدون في خدمتهم. ففي مثل هذه المجتمعات تعمّر الصداقات وتتطاول آجالها، لا بل يصبح الناس كأنهم اخوة أو أخوات، لا أصدقاء فحسب. وأكثر من ذلك يرى الناس في مثل هذه المجتمعات في عوادي المرض وغوائل المصائب والصعاب مواسم لنيل رضا الله. والرجل والمرأة المقبلان على الزواج يحافظان على بقاء علاقتهما ويقويانها بالإكثار من ذكر الله. كما يدفعهما إيمانهما بالحياة الآخرة السرمدية إلى الإخلاص التام لبعضهما الآخر. إخلاص لا يغيّره تبدل الظروف، كأن يصاب أحدهما بالمرض أو العجز أو الكبر. فإخلاص الرجل وحبه واحترامه لزوجته مثلا يبقى على مر الأيام، لا ينضب معينه حتى لو فقدت الزوجة جمالها الأول بسبب تقدم السن أو الإصابة بمرض. وليس هذا إلا لأن المؤمنين يعلون من شأن الروح فقط. بل يتحول الصبر الذي يبدونه في أيام البلاء هذه إلى متعة روحية عظيمة. والحديث التالي يوضح ولاء المؤمنين لبعضهم بعضا بشكل جيّد: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه ومن فرج عن أخيه كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. " (البخاري ومسلم).

وينطبق هذا الفهم للإخلاص والوفاء على الشراكات التجارية وغير ذلك من ضروب العلاقات التي تربط بين المؤمنين. فالوفاء بالعهود والعقود من أبرز وأهم سمات المؤمن. إلا أنه من سفه الرأي أن نتوقع من الناس في المجتمعات المحرومة من قيم القرآن أن يراعوا قيم الوفاء والإخلاص.

وهناك مسألة تتعين الإشارة إليها هنا وهي: أنه ربما زعم شخص ما أنه لا يخلف وعوده ولا يغدر رغم أنه لا يدين بدين معين. ونحن نقول إنه من الوارد أن يوجد شخص غير متدين لكنه مستقيم في تعامله، متنزها عن الخيانة والغدر طوال حياته. لكن، وكما سبق أن أشرنا، قد تتبدل الظروف بشكل يجعله يظن أن بإمكانه خدمة مصالحه. وفي هذه الحالة لا يملك إلا أن يستجيب لإغراء الظروف الجديدة. لكن المؤمنين لا يجرؤن على انتهاك حرمات الله مهما دعت الظروف.

الأمن والسلام يسودان حيث يتمسك الناس بمنهج الله

يرشد الله الإنسان إلى حياة يسودها الأمن والسلام. حياة تختفي من على وجهها سورة الغضب وغير ذلك من أنماط السلوك غير الأخلاقية التي حرمها الله: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين  " (آل عمران: 134)، "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون  " (الشورى: 37). كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حث المؤمنين على كبح جماح الغضب وكظم سورة الغيظ في كثير من أقواله: "ليس الشديد بالصرعة لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب" (البخاري).

هكذا وصف الله المؤمنين في القرآن، وهم، أي المؤمنين، حريصون على الالتزام بمقتضى هذا الوصف. وما ذلك إلا لأن رحى حياتهم تدور حول قطب واحد وهو مرضاة الله تبارك وتعالى. فهم في تطلع دائم إلى إرضاء الله في كل كلمة يتفوهون بها وكل موقف يتخذونه وكل خطوة يمشونها. ويأمر الله عباده بالتزام نمط من السلوك الراقي الرفيع. ويصف هذا النمط من السلوك في كثير من آيات الكتاب الكريم بـ "التي هي أحسن". فهو يلفت الأنظار إلى ذلك بقوله: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا"(الإسراء: 53)، "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُون " (المؤمنون: 96)، "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم" (فصلت: 34).

يدأب كل فرد في الأوساط التي تتمسك بهدي القرآن إلى تنمية أفضل الأخلاق في نفسه. ولهذا تغدو السكينة والوداعة والسلم أسلوب حياة يجئ سجية وتتطوع به النفوس غير مكرهة. فلا تملك آفات الغضب والصراع والشقاق إلا أن تتلاشى. هذا هو دأب المؤمنين وبقائهم على هذه الأخلاق الكريمة. ولا يعثر المرء على أثر لآفات الصراع والنزاع، لا في حياة الأسرة ولا في ميدان التجارة ولا حيث تزدحم حركة المرور. هذه السوءات الخلقية التي يتقبلها أناس آخرون ولا يرون بها بأسا، تسبب الحرج للمؤمنين.

يعم السلم في الأماكن التي يستمسك فيها بأخلاق الإسلام. أما في المجتمعات الكافرة فيعاني الناس من رهق القلق وعنت المشاكل. فليس ثمة آلية واحدة لمنع شخص مجرد من قيم الدين من إتيان صنيع غير مقبول. وأغلب الظن أن مثل هذا الشخص سيعاني من تقلب المزاج وذلك لأنه يتصرف وفق ما تمليه عليه شهواته ونزواته، فهو قد يغضب فجأة، وقد يتصرف تجاه الآخرين بشكل غير لائق، بل قد يلجأ إلى العنف أحيانا.  والحق أن الشعور بالغضب يعكس ما يعتمل في دواخل الفرد من قلق. وكما نوهنا من قبل، فهذه حالة يتكرر حدوثها في أوساط المتزوجين والأصدقاء وفي ميادين العمل التجاري وفي العلاقات الأسرية. ويندر أن تجد في مثل هذه المجتمعات أشخاصا لا ينزعجون إذا أحسوا بأن الأمور تجري على غير ما يشتهون، أو إذا تعرضوا للضغط أو شعروا بأن مصالحهم تتعرض للخطر. ففي مجتمع كهذا يعز العيش في سلام وذلك لأن الناس فيه لا يأبهون ولا يكترثون بمشاعر الآخرين.  

لا يتصور كثير من الناس أن الشخص الذي يثير غضبهم قد يكون مرهقا أو يعاني من قلة النوم أو مريضا أو يواجه مشكلة ما. فالناس ليسوا ملائكة وقد يقعون باستمرار في الأخطاء. ومن العبث مهارشة الآخرين وسبهم أو حتى الاشتباك معهم لأسباب تافهة وأخطاء صغيرة. لكن في المجتمعات الكافرة قد تثور النزاعات لأتفه الأسباب-- بسبب رداءة طعام أو اتساخ قميص أو تأخر خدمة في أحد المطاعم. كما أن أفراد مثل هذا المجتمع قد لا يأبهون لما يحدث من ظلم طالما لم يتأثروا سلبا بنتائجه.

لقد أودع الكثير من الأشخاص المسنين في مؤسسات الرعاية أو ألقي بهم في قارعة الطريق وهذا أحد إفرازات المجتمعات المحرومة من الإيمان والتي لا قيمة فيها للإنسان

منظومة الأخلاق الإسلامية تحقق التوازن العقلي

يوقن المؤمنون أن كل ما يحدث في هذا الكون يجري بقدر الله وبالتالي يسلمون أمرهم إلى الله تبارك وتعالى. وهو إيمان يحقق  لهم توازنا روحيا. فلا تقدر حادثة، حسنة كانت أم سيئة، أن تفقدهم توازنهم. ولا تصدر عنهم ردود أفعال مفاجئة. كما أنهم لا ينساقون وراء عواطفهم ولهذا تكتسب تصرفاتهم طابعا عقلانيا في كافة الأحوال. ولهذا تحلى المؤمنون بدرجة عالية من الثقة. ففي أوقات الشدة والفتن يتخذ المؤمنون احتياطات معقولة ويقللون من مقدار الأضرار المحتملة عليهم وعلى من يحيطون بهم. ولأن المؤمنين قد أشربوا مبادئ القرآن-- الهدى الذي أنزله الله للبشرية--فإن هذه المبادئ تنعكس على كل ما يصدر منهم من مواقف وأفعال. وذلك أن الالتزام الصارم بأوامر الله والخوف منه يقدح وعيهم ويشعل مداركهم. فهم قد وهبوا أدوات بارعة للتفكير وإصدار الأحكام وآلية فذة لاتخاذ قرارات راشدة.

ولا جرم أن امتلاك هذه المواهب يسكب الطمأنينة في نفس المؤمن فلا يستسلم لهواجس الخوف ولا تتملكه مشاعر اليأس ولا يخور. كما لا يطيش صوابه لما يعترض سبيله من حوادث مؤسفة بل يتصرف على الدوام بعقلانية. وهو يناضل الصعاب والمشكلات ولا يستسلم أبدأ. وحتى في أحلك اللحظات فإنه يراعي مشاعر الآخرين ويخاطبهم بأدب ويستعين بالصبر وكل هذه من سجايا النفوس الكبيرة الواثقة. ولأن المؤمن يؤمن إيمانا قاطعا أن كل حدث في الوجود لا يخرج عن قدر الله، فهو يستحضر دائما قول المولى عز وجل: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور  " (الحديد: 22).

إن ذهول المتنكرين لقيم الدين عن هذه الحقائق يجعلهم على الدوام نهبا للقلق والخوف والإجهاد النفسي. والإجهاد النفسي هو الذي ينزع عنهم لباس الاستقرار النفسي والعاطفي. إن من يراقب أمزجة هؤلاء الناس سيجد عجبا. إذ تنتابهم تقلبات مرهقة في المزاج. وإذ بدوا مسرورين فسرعان ما تنتابهم نوبات من البكاء المرٌ. ففي أغلب الأحوال يصعب التكهن بالأشياء التي تفرحهم وتلك التي تسوؤهم. فأحيانا يتذكرون حدثا غير سعيد فيلفهم الغم، وتدهمهم حالات الاكتئاب بسهولة ولا يتردد الواحد منهم في الإعلان عن أنه في حالة اكتئاب كاملة. وتراودهم فكرة الانتحار من حين لآخر، بل يحاولون الانتحار أحيانا. إن سلوك مثل هؤلاء الناس لا يعرف الحدود. وليس لهم فهم لمسائل الخطأ والصواب ولا يميزون بين أنماط السلوك اللائقة وغير اللائقة، وبين المعقول واللامعقول وذلك لأنهم غافلون تماما عن المعيار الذي وضعه الدين.

 

إن هؤلاء الناس لا يتوكلون على الله بسبب جهلهم بالدين. فهم ببساطة غافلون عن حقيقة أن كل الحوادث في هذه الحياة تجري على قدر إلهي مرسوم، وأن جميع الحوادث، حسنها وسيئها، وضعت لابتلاء الإنسان واختباره. إن افتقارهم لمبادئ الدين الحق يحول بينهم وبين إدراك المغزى الحقيقي لما يقع لهم من حوادث. وهذا هو سبب عجزهم عن تقييم هذه الحوادث كما ينبغي. ولأنهم يعزون كل الحوادث للمصادفة المحضة فهم يشعرون على الدوام بالقلق والإجهاد والخوف. كما أن هذا هو السبب الذي يدفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة وإبداء ردود أفعال غير مناسبة. إنهم يعضون أصابعهم ندما على كل تصرف يبدر منهم. 

ليس بمقدور هؤلاء الناس أن يضعوا معيارا سليما لأي شيء، فهم يفرحون وينتشون إذا جرت الرياح بما يشتهون، ثم ما يلبثوا أن تظهر عليهم سيماء الغطرسة والوقاحة. إن ابتهجوا فقدوا السيطرة على أنفسهم وسلكوا سلوكا مشينا. ويمكن أن تصدر عنهم أشياء غير متوقعة، فقد يشرعون فجأة في الزعيق أو البكاء أو الابتهاج. وإن غضبوا أكثروا من الكلام أو ربما غدا سلوكهم عدوانيا.

ولا ينحصر هذا الضرب من السلوك على شريحة اجتماعية معينة من شعب معين، ففي المجتمعات الغافلة عن أخلاق الدين يمكن للأشخاص الأكثر نضجا والأكمل عقولا والأرفع تعليما أن يفقدوا السيطرة على أعصابهم ويسيئوا استخدام مواهبهم بتتبع أغراض شريرة. ومن الأمور المشاهدة بشكل واسع أن هؤلاء الناس يمكن أن ينحطوا إلى الدرك الأسفل من اللؤم والخبث أو أن يصبحوا عدوانيين حين تتعرض مصالحهم للخطر أو حين تجري الأمور على غير ما يريدون. 

التمسك بالدين يثمر شخصية قوية وحازمة

إن الناس في المجتمعات الجاهلة محدودو  القدرات ولو بدا  أنهم يتمتعون بقوة الشخصية، إذ لا يلبث ضعفهم أن يتكشف في ظل ظروف معينة. وحتى أصحاب المبادئ منهم قد يتناسون مبادئهم هذه إذا تعرضت مصالحهم لتهديد. فهم نادرا ما يرقبون حرمة قانون إذا تعرضوا لضغط أو حلت بهم نكبة أو أصابتهم مصيبة المرض وظنوا أنهم بمفازة من أعين الرقباء. إنهم عرضة لأن يتهافتوا على ما يقدم لهم من عروض جذابة طالما لم يكن ثمة سبب وجيه يردعهم عن التنكر لمبادئهم والانقياد لشهواتهم. 

لكن، وكما أسلفنا القول، ليس المهم إن كان المرء من هؤلاء قد ارتكب مثل هذا الجرم أم لا، بل الأمر الأهم هو أنه ليس هناك ما يحجز شخصا لا يبالي بقيم الدين من الانقياد لرغباته الأنانية. إن عدم خوف هذا الشخص من الله يسلبه قوة الإرادة. لكن الأمر مختلف جدا بالنسبة لشخص ملتزم بأخلاق الإسلام. إذ لا شيء يحول بينه وبين فعل ما يؤمن بأنه حق. والسبب الأول لهذا الإصرار هو خوفه العميق من الله. فهو يعلم أن الله يرى ويسمع ويعلم بكل ما أخفى فؤاده ويستشعر معية الله. فالشخص الذي يؤمن بالله حقا هو شخص قوي الشخصية وقاف عند حدود الله لا يتعداها. وهو يرهب أن يأتي عملا يسخط الله، ولا يني يسعى لنيل القربى من خالقه بالغا ما بلغت العوائق التي تعترض سبيل حياته. هذه الحقيقة تتجلى في قوله تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْر حساب " (النور: 36-38)

 

أخلاق الإسلام تذهب الأنانية

ليس غريبا أن ينحصر تفكير المستهترين بقيم الدين في أنفسهم. فهذا في الحقيقة متطلب فلسفي أساس للنظام الذي يحيون وفقه. إن الاستعداد للتضحية وإظهار الرحمة والتخلق بكريم الأخلاق هي قيم يأتي بها الدين وليس ثمة ضامن لمراعاة المرء لها سوى الدين نفسه. إن المؤمنين بالله واليوم الآخر والمدركين لحقيقة أن ثمة حسابا ينتظرهم بعد الموت هم وحدهم المؤهلون لبلوغ مرتبة الكمال الخلقي التي وصفها القرآن. وهذا هو السبب الذي يجعل الكافر غير قادر على تسنم هذه الذروة الأخلاقية. ولا يحق للكافر أن يقول: "صحيح أن في المجتمع أشخاصا أنانيين لكنني قطعا لست واحدا منهم" وذلك لأن المرء إذا لم يراع قيم الدين فلا مناص من أن يصبح أنانيا.

وهذا هو سبب انكفاء الذاهلين عن قيم الدين على مصالحهم الضيقة وعدم اكتراثهم لمصالح غيرهم. فهدفهم الأول في الحياة هو أن يزدادوا غنى وأن يترقوا مهنيا وأن يتوسعوا في الرزق، ولهذا يغيب عن تفكيرهم سد حاجات غيرهم من فقراء ومحتاجين ومسنين أو احتياجات مجتمعهم. والسبب في ذلك هو أن نظرة الكافر للحياة ينقصها الدافع والحافز إلى التضحية أو الالتزام بالخلق الكريم. وشبيه بذلك موقفهم العام ممن حولهم من الناس، بل إن مجموع أفراد المجتمع يتصرفون بذات الطريقة. وهذا الميل العام لدى أفراد المجتمع يمنح شيئا من راحة الضمير. صفوة القول، إن الأنانية ضربة لازب في المجتمعات التي لا تراعي قيم الدين، فهي تنتظم أفراد  هذه المجتمعات قاطبة.

إن الإنسان مبتلى بشعور الأنانية الذي أودعه الله في النفوس العنيدة. يشير الله إلى هذا الاتجاه (الأنانية) في الآية التالية: "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء: 128).

وعلى العموم، فإن الأشخاص الأنانيين يقطعون بصواب وسلامة قناعاتهم الشخصية حتى في المسائل التافهة، فلا تكاد احتياجات الآخرين أو رغباتهم تعني عندهم شيئا. فلو أحس الشخص الأناني بالإجهاد فإن كل ما يفكر فيه هو أن يجلس بأسرع وقت ممكن ولا يفكر بالمريض أو بالشخص المسن الذي يجلس إلى جواره ويحتاج إلى الراحة. إن حرصه على الحصول على أفضل وضع أو أفضل شيء يعميه عن رؤية الناس من حوله. فهو لا يرى بأسا بإقلاق الآخرين في سبيل تحصيل راحته. وهو يطالب الآخرين بالهدوء أثناء عمله لكنه يستنكف أن يحترم الآخرين أثناء عملهم. إن أنانيته هذه تتبدى بصور شتى سواء في بيته أو في مكان عمله.

وقد تجد في المجتمعات الكافرة أناسا كريمي الأخلاق ويتعاملون بنبل مع الناس من حولهم. لكن دافعهم الأول إلى هذا السلوك الحسن هو الرغبة في تحصيل الثناء وحسن الأحدوثة لا الطمع فيما عند الله من مثوبة.  بالإضافة إلى حقيقة أن العون الذي يقدمونه للفقراء يكون في أغلب الأحوال لا يساوي شيئا مقارنة بحجم ثرواتهم.

وقد توجد في المثاليين منهم رغبة في تحمل المسئولية وتولي القيادة، وليس ذلك بالطبع عن رغبة في إرضاء الله أو خدمة الناس، بل يريدون بذلك خدمة مصالحهم وقضاء أوطارهم وتعزيز وضعهم الاجتماعي والاشتهار بين الناس. إذ لا تلبث طباعهم الحقيقية أن تتكشف إذا تعرضت مصالحهم للتهديد. 

إن من يوصفون بالكرم في المجتمعات البعيدة عن هدي الإسلام قد يعتبرون أنانيين إذا قورن كرمهم بأريحية وتضحيات المؤمنين. وإن تصور المؤمنين لمفهوم التضحية بالنفس يختلف جدا عن تصور الكافرين له. فالمؤمنون يؤثرون قضاء حاجات غيرهم على قضاء حوائجهم. وقلوبهم عامرة بحب الخير لأخواتهم وإخوانهم. وهذا تطبيق عملي للوصف القرآني القائل: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا"(الإنسان: 8)،وهذا الحس الأخلاقي هو الذي يدفع المؤمنين إلى خوض أهوال الحرب وتعريض أنفسهم لغوائل الردى استجابة لأمر الله: "وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء: 75) .فبدلا من الانكفاء على احتياجاتهم هم يشعر المؤمنون بالمسئولية تجاه الكافة ويسعون لتحقيق الخير للجميع. وهذه الروح الإيمانية يعبر عنها بجلاء الحديث النبوي القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (البخاري). وهكذا تنهض العلائق الاجتماعية على معاني التضحية في المجتمعات التي تسود فيها قيم الدين فيتمخض ذلك عن بيئة اجتماعية بريئة من المشكلات.

أخلاق الإسلام تحد من المغالاة في الطموح الدنيوي

إن الدين هو وحده الذي يعلم معاني الحب والأخوة والمشاركة في صورتها الحقيقية. وليس سوى الدين ما يعمق هذه المفاهيم ويصون وجودها. ومرد ذلك إلى حقيقة أن النفس البشرية مجبولة على حب الدنيا والطمع والولع بتحصيل حظوظها. ولأن الدار الآخرة غائبة عن قائمة اهتماماتهم، يجهد المحرومون من هدي الدين، وعلى امتداد حياتهم، في إرضاء طموحاتهم التي لا تعرف الحدود. يصور الله رواد هذا الطريق على النحو التالي: " وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ  تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ " ( المدثِّر: 12-15).  تنحصر طموحات الناس في البيئات البعيدة عن هدى الدين في تحصيل المزيد من الثروة، ولهذا يفشو فيهم التنافس المحموم بسب تكالبهم أيهم يغدو الأكثر مالا والأكثر نجاحا والأكثر شهرة. إنهم ببساطة يسوءهم أن يروا غيرهم في نعمة وخير. ويحسدون الآخرين ويسعون لامتلاك ما يملكون، بل يسرهم أن تذهب النعمة عن الآخرين.

وتنبت من هذا الشره فلسفة جوهرية للحياة وهي أن هؤلاء الناس لا يعتبرون الآخرين مخلوقات برأها الله ونفخ فيها من روحه، بل الناس في نظرهم مخلوقات عادية تطورت من مخلوقات بدائية شبيه بالقرود وستتحول في نهاية الأمر إلى هباء لا قيمة له. وقد قاد هذا المنطق إلى الاعتقاد بضرورة أن يحقق الإنسان أقصى وأفضل غاية من حياته طالما أن فرصته في الحياة واحدة لا تتكرر. وهذه النظرة المنحرفة توحي لصاحبها أن من العبث تقديم العون للآخرين أو السعي لتحقيق رغباتهم أو سد احتياجاتهم. وهي نظرة معيبة تدفع الإنسان نحو مهاوي الاكتئاب.

 

إن هذا الاكتئاب مصير محتوم ينتظر كل جاهل بأخلاق الدين، وهو يسلك الإنسان في سقر المشكلات ويملأ حياته بالقلق والضغط النفسي وغير ذلك من آفات ترهق روحه وتؤذيها، وهذا هو سبب حرمان الكافرين من السلام والسعادة الحقيقية.  إن شهوات ورغبات الإنسان، رغم مشروعيتها، لا حدود لها وذلك لأن الإنسان خلق ليكون جزءا من الحياة الأبدية في الدار الآخرة. وهذه الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء ومقدر لها النقص والشح بحيث لا تفي بمراد الإنسان. ولهذا يسعى الذين تغيب عنهم حقيقة الابتلاء هذه ويغفلون عن قيم الدين إلى قضاء  أوطارهم وتحقيق شهواتهم في الحياة مما يوقعهم في حالة مستمرة من عدم الرضا والقناعة. وهذا العجز عن تحقيق تطلعاتهم في الحياة يحيل حياتهم إلى كابوس مقيم. فهم مفتقرون رغم ما يلوح عليهم من مخائل الثراء. إن استسلامهم لمشاعر الأسى على ما فاتهم من غنى يسلبهم نعمة الاستمتاع بما في أيديهم من ثروات. وليس هذا العنت الروحي سوى الخطوة الأولى من مشوار العذاب السرمدي الذي سينتهون إليه.

يحث الإسلام المؤمنين على البذل والعطاء ومواساة الآخرين. والمؤمنين والمؤمناتيوالي بعضهم بعضا: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم " (التوبة :71) وهم يفرحون لأي خير يناله أحد منهم. إن تسخير كل واحد من هؤلاء المؤمنين لمهاراته وخبراته في سبيل الله يشيع في المجتمع روح التعاون والتآسي. إن أفراد مثل هذا المجتمع يؤمنون أن الله هو الذي برأ الإنسان فتطبع هذه القناعة طريقة تعاملهم فيما بينهم بطابع الرحمة والتقدير. إن مجتمعا كهذا تختفي منه مظاهر الظلم الاجتماعي والتدافع واختلال النظام. إن مصدر السلام والأمن في قلوب المؤمنين يوضحه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" (البخاري ومسلم)

التمسك بقيم الدين يقضي على آفة الحسد

لقد سبق أن قلنا أن القرآن عرف الحسد بأنه حالة عقلية غير أخلاقية، وهذا هو سبب اجتناب المؤمنين للحسد ذلك الخلق الذي يتعارض مع إرادة الله. أما الكفار فلا يحول بينهم وبين الحسد حائل وذلك لأنه قد تقرر في منطقهم أن لا وجود لأي دافع للامتناع عن الحسد. إن التنافس يولد في النفوس مشاعر الغيرة والأنانية والانفعال. فالبنت الشابة تحسد بنتا شابة أخرى لأنها أكثر منها جمالا وأفضل هنداما. وتساور الشاب مشاعر الحسد تجاه شاب آخر لأنه أكثر شهرة منه. والحسد مشاهد في كل المستويات الاجتماعية، وهو يكون عادة فيما يملكه الآخرون. فالانتقال للعيش في حي راق وقضاء عطلة الصيف في مصطاف مشهور واقتناء سيارة جديدة والسفر خارج البلاد كل هذه أوضاع تجر حسد الحاسدين. إن الطموح يغلب على البعض بحيث يعجزهم حتى عن التعبير عن سعادتهم بما يحرزه الآخرون من نجاح أو كسب. والعنت الذي يسببه التنافس للروح الإنسانية مشاهد بوضوح ولا سيما في مجال التجارة والمال. وتكاد الرغبة في تحقيق تقدم مرموق في مجال المال والأعمال والحسد الذي ينشأ بسبب ذلك أن تكون أنماطا سلوكية معتادة في الحياة اليومية. 

لكن القرآن يرسم للمؤمنين سبيل حياة مبرأة من الرغبات الأنانية، ولهذا فإنهم يفرحون بما يصيب إخوانهم من نعمة أو خير: " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم  " (الحشر: 9-10)

ويوصي الرسول، نزولا عند أمر الله، يوصي المؤمنين باجتناب الحسد: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" (أبو داوود)

أخلاق الإسلام تشيع الحب والاحترام بين الناس

إن الحب ومكارم الأخلاق هما عماد الدين الحق. ويرغب الله الإنسان في القرآن في معاني الحب والتضحية. والله رحيم بعباده، ويبين الله رحمته لعباده في قوله تعالى: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ" (البروج: 14). ويأمر الله عباده بأن يتواصوا بالمحبة والمرحمة. ولهذا يتراحم المؤمنون ويتحابون تدفعهم إلى ذلك رغبة في إرضاء الله، إلى جانب إيمانهم بقيمة الإنسان الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه وهداه إلى سبل الإيمان.

إن يقين المؤمنين بحقيقة أن العالم دار ابتلاء تدفعهم إلى الإحسان في تعاملهم مع الآخرين وذلك لعلمهم أنهم سيجازون بالحسنى حين يردون إلى خالقهم. إذ تدفعهم مخافة الله التي تنطوي عليها ضمائرهم إلى توخي الإحسان إلى الآخرين في كل ما يأتون. إنهم يستشفون جمال الله في كل ما تقع عليه أعينهم من مخلوقاته فتمتلئ نفوسهم بحبه. كما أن إيمانهم بالحياة التي تنتظرهم في دار المعاد يقوي مشاعر الحب والاحترام هذه ويعمقها.

وهكذا فإن دفء الحياة وهنائها لا يناله إلا المستمسكون بقيم الدين. فحياة الأسرة تغدو أكثر سعادة وذلك بما يكتنفها من مشاعر الاحترام العميق من قبل الأبناء تجاه والديهم وتجاه من يبلغ الكبر عندهم. إن القرآن يأمر بهذا النوع من السلوك: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا" ( الإسراء: 23) كما يلفت الرسول صلى الله عليه وسلم الأنظار صوب هذا المعنى وذلك بقوله: "ليس منا من لا يرحم صغيرنا ولا يوقر كبيرنا" (الترمذي) وفي آية أخرى يرشد الله المؤمنين بقوله: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا  " (النساء: 36)

فإن سادت أخلاق الدين في مكان ما تنافس أهله في التحلي بكريم السلوك والآداب. والحق أنه ليس سوى الدين ما يبعث مثل هذه النزعة الأخلاقية في النفوس: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون" (إبراهيم: 24-25)فالصداقة والحب والتراحم معان لا يلتزم بها إلا الذين يأتمرون بأمر الله، وهذا هو الحب الخالص الذي لا يحث عليه سوى التطلع إلى نيل رضا الله: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 71)

إن رابطة الصداقة التي تصورها الآية أعلاه تفضي إلى تضامن لا انفصام له في المجتمع بوجه عام، تضامن يحس به جميع أفراد هذا المجتمع. أما المجتمعات التي لا تؤمن بقيم الدين فإنها تفتقر إلى الشعور بالمحبة الصادقة وذلك لأنها لا تحب وتحترم غير الجمال والمال والمكانة الاجتماعية.

إن صداقة الشخص الذي يؤسس صداقاته على ثروة أو جمال أو غير ذلك حري بأن تظل صداقته دائرة على محور هذه القيم. كما تظهر الآثار السلبية لهذه العقلية بعمق في العلاقات الزوجية. ففي المجتمعات الكافرة تنكح المرأة لمالها أو لجمالها أو لحسبها. وفي أغلب الأحوال يتبخر حب الرجل لامرأته في هذه المجتمعات إذا بهت جمالها أو أصابها المرض، وفوق ذلك فإن الذي يجهل الآخرة ولا يؤمن بها ليس عنده استعداد لأن يبدد حياته القصيرة في رعاية وتمريض امرأة طريحة الفراش. وهناك أمثلة كثيرة أخرى على أثر الكفر على العلاقات الاجتماعية في مثل هذه المجتمعات.

إن الاحترام لا يقل أهمية عن الحب. فهو تعبير عن مدى الأهمية التي يوليها المرء لشخص ما. لكن في المجتمعات التي لا تأبه لقيم الدين تكون حظوظ الناس من الاحترام بحسب ما عندهم من سلطة أو مال أو جاه، فإن غابت هذه الأسباب لم يكن ثمة ما يحث الأشخاص على احترام بعضهم الآخر.

 

 

كابوس الكفر الجزء الثاني
 

بقلم الكاتب التركي هارون يحيى

أخلاق الإسلام تحث على الصداقة الحق

في المجتمعات البعيدة عن قيم الدين تسمع الناس يقولون: "عندي أصدقاء كثر لكن ليس بينهم صديق واحد يمكن التعويل عليه" أو تسمعهم يقولون: "إنني لا أثق بأي من أصدقائي". فرغم ما لهؤلاء الناس من صداقات حميمة ظاهريا إلا أنهم يشعرون في قرارة أنفسهم بالحرمان من الأصدقاء. ومن المستبعد جدا أن يعثروا على أصدقاء مخلصين. وهذه الحقيقة هي التي تثنيهم عن السعي لإقامة صداقات أفضل. وما ذاك إلا لأن الصداقة الحق تقتضي من طرفيها اجتهادا وتضحية. فالصديق الحق هو الذي لا يتردد في التضحية من أجل أصدقائه إذا حلت بهم ضائقة أو طرقهم مكروه، فلا يتأخر عن مواساتهم بماله  أو بوقته أو بأي شيء آخر من نفيس ما يملك. لكن ليس للناس في المجتمعات الغافلة عن هدى الدين دافع للتضحية والإيثار. 

فلو مرض أحدهم فجأة مثلا فالراجح أن يستثقل صديقه نقله إلى المستشفى أو دفع نفقات علاجه أو البقاء بجانبه في المستشفى لرعايته. وأغلب الظن أنه سينتحل المعاذير ويتحجج بضرورة ذهابه للعمل أو للمدرسة أو البقاء مع أسرته بدلا من البقاء إلى جانب صديقه الذي يحتاج إلى العون. والأدهى من ذلك أن الجميع يعتبرون هذا تصرفا عاديا لا يدعو للاستغراب. 

إن هذا هو السبب الرئيس في انعدام الصداقة الصدوقة في المجتمعات الشاردة عن مبادئ الدين، فحتى الأزواج لا تقوم علاقاتهم على الأمانة والوفاء، إذ لا يلبث الحب أن يتلاشى في وقت قصير. فالأسباب الاقتصادية والضغوط الاجتماعية هي التي تشدهم إلى بعضهم بعضا لسنوات طويلة. وتدفعهم هذه الظروف إلى التعويل على أبنائهم لتأمين مستقبلهم لكن هذا المسعى يخيب أيضا بسبب تقوقع الأبناء على أنفسهم، إذ يصدهم الطمع الدنيوي والأنانية عن مد يد العون لوالديهم. ولهذا كتب على كل من يتنكب سبيل الإيمان أن يحيا وحيدا محسورا يتجرع كأس العزلة ولا يكاد يسيغه.

التمسك بقيم الدين يبدد كافة المخاوف الدنيوية

تنتاب الأشخاص الذين بعدوا عن الله ولا يتوكلون عليه هموم ومخاوف لا أساس لها. ولهذا فهم في قلق وخوف دائم مما يخبئه لهم المستقبل، ومن احتمالات انتهائهم إلى الوحدة أو أن تذهب عنهم أموالهم. إنهم يوجلون من أن يتعرضوا لحادث، وفوق ذلك، فإنهم يهابون الموت ويجزعون من مجرد التفكير فيه: "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجمعة: 8).فالموت في تصور الكفار لغز لا يسبر غوره. فحتى لو لم يكونوا يؤمنون بالحياة بعد الموت فإنهم يفكرون كثيرا في مواجهته وترتعد فرائصهم لمجرد التفكير في أنه سيحل بساحتهم يوما ما. إن تكذيبهم للدار الآخرة يضفي على الموت هالة كبيرة من الرهبة في أذهانهم. فهم يظنون أن الموت سيجعلهم نسيا منسيا ولن تتاح لهم أبدا فرصة ثانية للحياة. والحق أن خوفهم من الموت ينبع في الأساس من خوفهم من الحرمان من متع الحياة والفناء لا من حقيقة اليوم الآخر. ولهذا يسعى هؤلاء الناس لمدافعة هذا الخوف من الفناء بابتداع آثار ضخمة تخلد ذكراهم: "وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون" (الشورى: 129)

إن مجرد التفكير في الموت يطوّح بالكفار في مهاوي البؤس. وحتى لو اجتهدوا في الكف عن التفكير في الموت فإن مشاهده تطل عليهم كل يوم من على صفحات الصحف وشاشات التلفاز. كما تظل حالات الموت التي تتخطف الناس من حولهم وحوادث الأمراض والإصابات التي يتعرض لها أشخاص آخرون في أماكن أخرى، تذكرهم أبدا بنهاية هذه الحياة. ومع هذا فهم يدأبون في تحاشي التفكير في الموت. وإن جاء ذكر الموت على لسان أحد الناس شغبوا عليه وأنسوه النهاية القادمة.

إن تنوع الصور التي يأتي بها الموت يملأهم رعباً. ولذلك تجدهم يتفادون المرور بقرب المقابر مثلا، كما ينفرون من السكنى بجوار المقابر. لكن هيهات، ففوت الموت بعض المستحيل. وهذه الحقيقة الراسخة يحكيها القرآن في قوله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا" (النساء: 78).

إن الموت والحياة الآخرة حقيقتان يدركهما المؤمنون تمام الإدراك ولا تلهيهم الحياة عن التفكير فيهما والاستعداد لهما. فالموت في نظرهم يأخذهم للقيا بارئهم ويقربهم زلفى من دار الخلود والنعيم المقيم ومن الحياة التي لا موتفيها. فهم يوقنون بأن الموت لا يعني نهاية حياتهم وفنائهم ولهذا خلت قلوبهم من رهبته.

التمسك بهدى الدين يزيل الخوف من المستقبل

إن الناس، كل الناس، ما خلا المؤمنين، يساورهم فضول وتطلع وإشفاق مما يخبئه لهم المستقبل. وتغذي قلقهم هذا الحوادث المؤسفة والقروح التي ربما مستهم في أوقات ما من حياتهم وشعورهم بأنهم قد يمسهم مثلها في قادمات الأيام. وهناك، إلى جانب هذه المخاوف المقيمة، مخاوف يومية تتبدى في صور شتى وفي أطوار مختلفة من حياة المرء. وقد تتمثل هذه المخاوف اليومية الصغيرة مثلا في بحث دراسي يتعين على طالب ما الفراغ منه في حيز زمني ضيّق. ومع تقدم عمر الإنسان تزداد التعقيدات التي يصنعها لنفسه وقد يلازم الخوف من هذا التعقيدات الإنسان ما دام حيا.

وبالنسبة لتلميذ في المرحلة الثانوية فإن شكله وعلاقته بأصدقائه وشهرته وسط مجموعته ونجاحه في الدراسة وعلاقته بأسرته تمثل في نظره أهم المشكلات في العالم. ولهذا فهو يصاب بنوبة من الضغط النفسي لأصغر أزمة تواجهه، وتشتدد معاناته بوجه خاص عندما يكون بصدد اتخاذ قرار فيما يتعلق بحياته المهنية. وغني عن القول أن هذه مشكلات لا ينبغي أن تسبب للمرء ضغطا نفسيا عميقا. فمن الطبيعي أن يرغب المرء في الحصول على الوظيفة التي يعتقد أنها ستجلب له السعادة والنجاح، لكن إن أخفق المرء في الحصول على هذه الوظيفة رغم حرصه عليها فما عليه سوى أن يكل أمره إلى الله سائلا إياه أن يتفضل عليه بنعمة أخرى. ولا شك أن النجاح والفشل كليهما يذهبان أدراج الرياح بعد الموت. ولا يبقى إلا ثقة المرء بربه وإيمانه به.

لكن الغافلين عن قيم الدين ولجهلهم بهذه الحقيقة المهمة يشعرون بخوف أكبر بشأن المستقبل كلما تقدم بهم العمر. وبالإضافة إلى خططهم بشأن المستقبل فإن كثرة المهام والمسئوليات الدنيوية تقلقهم، إذ تتعدد المشكلات التي تحيط بهم وتنتابهم، بمرور الوقت، أفكار شتى منها على سبيل المثال: هل ستتم ترقيتهم في الشركة، هل سيأخذون عطلة في ذلك الصيف أو أين سيقضون العطلة السنوية وهل ستتاح لهم فرصة الانتقال لمنزل أفضل حالا أم هل سيتمكنون من الحضور في الوقت المحدد للاجتماع.

وأكثر ما يقض مضاجع هؤلاء هو خوفهم من تردي أوضاعهم المالية، إذ ينتابهم قلق شديد بشأن قدرتهم على إعالة أسرهم في المستقبل. إن لهم طموحات دنيوية عريضة لكن مواردهم محدودة ولا تتيح لهم تحقيق هذه الطموحات. ثم لا يلبث هذا الأمر أن يغدو مصدرا كبيرا لمخاوفهم، ولأجل هذا السبب يحجمون عن إسداء المعروف للآخرين رغم ما بحوزتهم من ثروات تكفل لهم عيشا هنيئا. إنهم قلقون بشأن المستقبل ويتصرفون بلؤم سواء الغني منهم أم الفقير. لكن الله هو الذي يتكفل برزقهم في الحياة الدنيا وهو الذي يرفع عنهم البلاء إن توكلوا عليه حق توكله، إلا أنهم حرموا هذا النعيم بسبب ضعف ثقتهم في الله. إن الإنسان مبتلى بالنعم التي يتفضل بها عليه خالقه ومأمور بأن يسخر هذه النعم في طاعة الله، لكن خوف هؤلاء الناس بشأن المستقبل يجعلهم محصورين في نطاق مصالحهم الشخصية الضيقة وهذا الوضع تشير إليه الآية التي يقول الله فيها: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم ٌ" (البقرة: 268)

وهناك خوف مقيم آخر ينتاب الإنسان بشأن المستقبل،، ألا وهو تقدم السن. فعندما تكبر سن الإنسان تحدث تغييرات في جسده، فتغطي جبينه التعرجات ويأخذ شعره في التساقط ثم يبيّض لونه وتضعف حواسه تدريجيا. وتثير كل واحدة من هذه الآثار الفزع والهلع في نفوس الذين يجهلون أخلاق الدين. فيتساءلون مثلا: هل سيعتني بهم أبناؤهم إن أصابهم مرض؟ ويفكرون كذلك في كيفية مواجهتهم للموت الذي سيلاقيهم يوما ما. ومن دواعي قلقهم الكبيرة هو ما ستؤول إليه حياتهم بعد موت أزواجهم.

هذه ببساطة هي المشكلات والمخاوف التي تصيب أصحاب القلوب الخالية من الإيمان. لكن الأمر جد مختلف عند المؤمنين، فقلوبهم خلو من هذه المخاوف ولا تحزنهم البلوى تصيبهم لأنهم يقطعون بأن كل ما يجري لهم لا يعدو كونه تقديرا إلهيا وراءه من الحكم ما وراءه. ولذلك فهم لا يرجون غير هدى الله لأنهم يؤمنون أنه هو وحده ملتحدهم الذي إليه يأوون. هذا بالإضافة إلى عدم خوفهم من أي شيء أو وضع في هذه الحياة الدنيا. فهم يكلون أمرهم إلى الله وينشدون رضاه. وهذا الموقف الإيماني تحكيه الآية التالية: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون" (التوبة: 51). ويحكي صلابة إيمان المؤمنين بربهم وتوكلهم عليه الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يقول فيه: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأنهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" (الترمذي)

إن المرء إذا اعتصم بمبادئ الإسلام مقيما لها وجهه تلاشت من طريقه كثير من المشكلات والمعاناة، وعاش حياة ملؤها الأمن والهناء. إن عند الدين حل لكل أزمة ومخرج من كل ضيق. والمتدينون يشعرون بالراحة والتحلل من الأعباء، وما ذاك إلا لقناعتهم الراسخة بأن كل ضر يصيبهم إنما هو ابتلاء من رب العالمين. ففي غمرة الشدائد تجدهم يحتسبون الأجر بالثقة في الله. وبالمثل تراهم شاكرين لأنعم الله عليهم في الحياة الدنيا ويتطلعون إلى ما في الدار الآخرة من حسنات. إن هذه القناعة هي بلا شك امتياز تحقق للمؤمنين بسبب تمسكهم بأخلاق الإسلام. لكن لا سبيل إلى تحصيل هذا الامتياز إلا بقوة الإيمان والثقة بالله والتسليم لأمره. فالذين تجتمع فيهم هذه الخصال هم وحدهم الذين لا ترى عليهم وعناء القلق. أما الآخرون الذين تكتنفهم الهموم والمخاوف وتحيط بهم من كل جانب، فيذوقون نصيبهم من العذاب وهم على قيد الحياة وحين تقوم الساعة يردون إلى أشد العذاب.

أخلاق الإسلام تحث المؤمنين على التواضع

يأمر الله الناس في كثير من آي القرآن بأن يتواضعوا ويذكرهم مرارا بسخطه على كل جبار متعجرف. ولهذا ليس أمام المؤمن خيار سوى التواضع. إلا أن الكافرين لا يمكن أن يتواضعوا وذلك بسبب بعدهم عن الهدى الرباني. إذ تصبح عندهم المزايا الشخصية كالذكاء والغنى والجمال والشهرة دواعي للإعجاب بالذات وتصعير الخدود واحتقار الآخرين. إنهم دوما يسعون إلى التفوق على الآخرين في مجالات الجاذبية الشخصية والتميز والذكاء، لكنهم يذهلون، في عماهة سكرتهم هذه، عن حقيقة أنهم سيلاقون الموت يوما ما وأنهم سيفارقون كل شيء مما تشتهيه نفوسهم وأن ما يدلون به من جمال ورشاقة قوام سيتحلل متلاشيا في الثرى. إنهم في حقيقة الأمر يبالغون في الاعتداد بالنفس وهو في فهمهم علامة على سلامة الشخصية.

إن الغرور هو الذي يمنعهم من معاملة الناس بحب واحترام خالصين. فهم يتوقعون أن يعاملهم الآخرون بكل محبة واحترام لكنهم يظنون أن مقابلة هذا الحب وهذا الاحترام بمثله أو بأحسن منه، غباء لا يليق بهم. إن الناس الذين يجهلون مبادئ الإسلام مصابون بالنرجسية وتضخم الأنا. كما يدفعهم ظنهم أنهم قد أحاطوا علما بكل شيء،، إلى محاولة السيطرة على الآخرين واغتنام كل سانحة لإذلالهم. والشيء المهم هنا هو أن هؤلاء الناس ليسوا حالة نادرة أو استثناء، إذ ينطبق هذا الوصف على كثير من الناس في المجتمعات الغافلة عن قيم الدين: "وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُول  " (الإسراء: 37)وفي آية أخرى: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور" (لقمان: 18)ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين من الكبر وذلك في الحديث: "بئس الرجل المتكبر الذي ينفخ أوداجه وينسى العلي العظيم" (مسلم)

قد يخدع بعض الناس أنفسهم بقولهم "أنا متواضع"، لكن التواضع كخلق إسلامي له تأثيره على كل لحظة في حياة الإنسان وعلى كل ما يصدر عنه من سلوك وما يتخذ من مواقف. إن دافع المؤمن إلى التواضع الحق هو إيمانه بأن الله بيده ملكوت كل شيء بما في ذلك نفس الإنسان وما ملكت يداه وأنه خالق كل شيء. فهو يعلم أن علم الله محيط بكل ما يقع في الكون. وهؤلاء الناس لا يسعهم إلا أن يكونوا مؤمنين. وليس يرجى من الشخص الذي ينقصه العلم الديني أن يتواضع وذلك لأنه يفتقر إلى البعد الخلقي الذي لا يكون إلا للمؤمن. فكل ما يبدي من تواضع، إن لم يتقيد بهدي القرآن، لا يعدو أن يكون نفاقا أو سلوكا ناشئا عن شعور بالنقص.

إن أي مجتمع يفشو فيه الكبر هو مجتمع لا يطاق ولا ينضح إلا بالقلاقل والعذاب. وثمة بون شاسع بين مجتمع لا يعرف أفراده حدودا للتكبر والقسوة والنرجسية وآخر سيماء أفراده التواضع. وهذا الفرق سببه الأول إعراض البعض  عن هدى الدين.

أخلاق الإسلام تطهر المجتمع من القسوة والشحناء

إن الرحمة، إلى جانب كونها صفة للرحمن، خلق يحب الله من عباده أن يتخلقوا به. إذ يرشد الله المؤمنين في كثير من الآيات إلى أن يعمروا قلوبهم بالرحمة. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يحث المؤمنين على التراحم وذلك في الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (الترمذي وأبو داوود)

إن العيش بغير أخلاق الإسلام والزهد في رضا الله يقعدان بالمرء عن ابتغاء الكمال الأخلاقي. وإن مظاهر انعدام الرحمة في المجتمعات البعيدة عن الإيمان لتتبدى في كل مناحي الحياة وفي كافة العلاقات الاجتماعية فيها. فالشخص غير المؤمن قد يعامل حتى أمس الناس به رحما كأبيه وأمه وأخواته واخوته وغيرهم بقسوة. كما أنه قد يغضب بسرعة من أخطاء أو تقصير الآخرين فيؤذيهم، وذلك لأنهم لا ينظرون إلى الحوادث من زاوية الرحمة.

تقل في المجتمعات الكافرة مظاهر الرأفة بالبؤساء وأصحاب العاهات وذلك لأن المصالح المباشرة لأفرادها أهم عندهم من كل شيء آخر. وهذا الاشتغال بالمصالح الشخصية هو الذي يحول بينهم وبين التفكير في الآخرين. والحق أن لكل واحد من هؤلاء الناس تفسيره الخاص للرحمة، لكنه تفسير ممسوخ. فهو مثلا يترفق بالشحاذين ويرى ذلك غاية الرحمة لكنه يتلهى وينكفئ على ذاته حين تبرز ظروف تستدعي تصرفا نابعا من أصل الضمير، أو تتطلب تضحية. فإن شهد حادث سير مثلا فإنه لا يتوقف ليساعد المصابين، وتراه يصطنع معاذير شتى يسوغ بها هذا التصرف. إذ إن تطوعه بأخذ المصابين إلى المستشفى سيفسد عليه يومه أو قد يكلفه شيئا من المال أو الوقت. وفوق ذلك، لا يجد مثل هذا الشخص دافعا للتضحية من أجل شخص لا يعرفه، فهو في النهاية لن يحصل على شيء.

إن هذه الأحداث تكثر في المجتمعات النافرة عن هدي الدين. ولا سبيل إلى اختفاء هذه اللامبالاة غير الإنسانية إلا إذا تشبث الناس بأخلاق القرآن. فليس سوى الدين ضامنا لقيام مجتمع طيب يتواصى أهله بالمرحمة ويتنافسون في فعل الخيرات. ومع هذا ينبغي التنبيه إلى أنه لا يكفي أن تتوفر هذه السمات الخلقية في فئة محدودة من الناس، بل إن التمسك بهدي القرآن في بعض الأوضاع والتنكر له في أوقات أخرى، أو اجتناب منكرات معينة ثم الوقوع في غيرها لا يضمن قيام هذا المجتمع المنشود. إذ لا سبيل إلى إقامة حياة اجتماعية آمنة إلا إذا خضع كل أفراد المجتمع لإرادة الله الشرعية واتسم سلوكهم بالتضحية والإيثار.

الوحشية والسلوك غير الإنساني لا يظهر في المجتمعات التي يلتزم أهلها بقيم القرآن بل يهنأ فيها

 المسنون والأطفال والفقراء والمحتاجون بالحماية والرعاية. والصور أعلاه نتاج لحياة بعيدة عن أخلاق القرآن.

أخلاق الإسلام تهب الجميع مفاتيح للخير

إن الشخص المستمسك بهدي القرآن يأتي بالحلول للمشكلات ويتصرف بحكمة في كل الظروف، ولهذا لا يعرف الإحباط طريقا إلى قلبه العامر بمبادئ القرآن بالغا ما بلغ تعقيد الوضع الذي يواجهه. 

حين تختفي أخلاق الدين تقل الحكمة وهذا هو السبب الذي يبقي المشكلات البسيطة بلا حل في المجتمعات اللادينية. ولهذا يواجه أفراد مثل هذه المجتمعات أزمات ومشكلات جمة خلال مسيرة حياتهم. وبدلا من التماس حلول ناجعة لهذه المشكلات فإنهم يجعلونها جزءا من حياتهم اليومية وكأن هذه المشكلات مقدر لها أن تبقى بلا حل. إن لهذا العجز عن الإيتاء بحلول للمشكلات تداعيات ضارة على كافة جوانب حياة المجتمعات اللادينية. إنهم في الغالب يتردون في وهاد اليأس والألم والشكوى. وفي غضون ذلك يعجزون عن الإتيان بالحلول بسبب تعطيلهم لموهبة العقل، وحتى إن حاولوا عمل ذلك جاءوا بحلول غير عقلانية بسبب انحصار فكرهم في فضاء ضيٌق جدا.

وفوق ذلك، يكاد تعذر العثور على حلول للمشكلات أن يكون مسوغا للاستكانة والاستسلام في المجتمعات التي لا ترعى قيم الدين. فهو في الغالب يتخذ غطاء توارى به سوءة الكسل واللامبالاة والخدر وتجاهل المسئولية. ففي مكان العمل بخاصة يحاول كل فرد أن يظهر تعقيد المهام الموكلة إليه محاولا إظهار نفسه بمظهر الشخص الذي يتولى أداء مهام صعبة. لكن هذه ليست في حقيقة الأمر سوى مناورة  يريد أن يسوغ بها ما عسى أن يبدر منه من فشل أو إهمال أو أخطاء.

إن السبب الأول لبقاء الأزمات دون حل في المجتمعات البعيدة عن قيم الدين هو أن أهلها عاجزون حتى عن التعامل مع مشكلاتهم الشخصية. ولا غرو، فالشخص البعيد عن مبادئ الإسلام تغلب عليه شهواته فتجده منهمكا في إشباعها غافلا عن مصالح واحتياجات محيطه الاجتماعي. فهو في كل الأحوال مقبل على مصالحه الخاصة محتف بها مستنكفا أن ينفق ماله ووقته في خدمة مصالح الآخرين.

إن توافه المشكلات تبقى في مثل هذه المجتمعات عصية على الحل. وفي غضون ذلك يحاول كل فرد ترك انطباع حسن في نفوس الآخرين أو يلتمس الزلفى إلى رؤسائه أو يسعى إلى تلميع وجهة نظره أو على الأقل يحاول أن يكون هو صاحب القول الفصل والكلمة الأخيرة. وهذه الطموحات والعقد الشخصية هي التي تشل قدرة الإنسان على الإتيان بحلول للمشكلات الماثلة في نهاية الأمر. إن السبب الأول لعجز المتنكرين لمبادئ الدين عن الإتيان بحلول مرضية للمشكلات توضحه الآية التالية: "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون" (الحشر: 14)

وكثيرا ما يشاهد المرء نماذج لهذا العجز في البرامج الحوارية التلفزيونية المفتوحة حيث ينفق المشاركون ساعات طويلة في مناقشة قضية معينة بل يأخذهم النقاش أحيانا إلى مطلع الفجر. وسبب استحكام الخلاف بين هؤلاء المتحاورين هو أن الكل قد أوتي جدلاً. فقد يستيقن طرف بسلامة وجهة نظر الطرف الآخر لكنه يجحدها علوا وتكبرا وتأخذه العزة بالإثم والرغبة في إذلال الآخرين ومعارضتهم. ويخوض المجادلون في طوفان من التفاصيل التافهة ليظهروا سعة اطلاعهم. فالهدف الأول هنا هو استغلال كل سانحة لإبراز ذكائهم وحذقهم. وهم في الغالب يطيشون عن موضع النقاش ليكتشفوا بعد ساعات لاحقة أنهم لم يصلوا إلى حل. والمدهش أن هذه النقاشات تبرز إلى السطح مزيدا من التعقيدات والاختلافات والآراء المتعارضة. فهم في الحقيقة لا يبغون حلا أصلا، فتراهم يلجئون إلى فلسفات خاوية معتقدين أن النقاش وتبادل الأفكار هو غاية في نفسه. إنهم يرون أن عدم الوصول إلى أي حلول بعد نقاش متطاول أمر مقبول وطبيعي.

أما المؤمنون، ولقناعتهم أن الله محيط بالأمور، فلا تطيش عقولهم ولا تعشى أبصارهم مهما كانت الظروف التي تمر بهم. إنهم يتخذون أفضل القرارات وأنجع الحلول وأقربها للتقوى. إنهم يبادرون إلى البت بشأن القضايا لا يصدهم عائق وكيف لا وهم يسترشدون بأكرم الأخلاق وأقوى شعور بالمسئولية وأمضى ملكة تفكير تفضل بها عليهم خالقهم: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى:38)فهواهم في كل الأحوال مع ما يرضي الله فلا يصرفهم عن السير في سبيل الحق والعدل صارف ولو اقتضى ذلك تفويت مصلحة لهم شخصية.

إن إخلاص المؤمنين لربهم وجهادهم في سبيله وانقطاع أملهم إلا منه يحجزهم عن الطمع فيما عند الآخرين ويزهدهم في ثناء الناس ومدحهم، ولهذا يمدهم الله بتأييده وعونه وتوفيقه في كل قرار يتخذونه. إن الخوف الشديد من الله والوقوف الصارم عند حدوده يجعل للمؤمن نورا يبصر به إذا سجى ليل النوازل (الأنفال: 29) فيهتدي إلى أفضل القرارات وأبرك الحلول: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا " (الطلاق: 2-4)

أخلاق الإسلام تهدي إلى التوكل على الله

إن أرواح المتمردين على إرادة الله المتنكرين لمبادئ الإسلام يغلب عليها التشاؤم والتمرد والاكتئاب. إنهم يعزون كل ما يقع لهم إلى المصادفة المحضة وتزخر حياتهم بمشاعر التوتر والقلق والاضطراب. فهم، بخلاف المؤمنين، محرومون من نعمة التوكل على الله وإدراك أن كل شيء في الكون يجري حسب قدر إلهي مكتوب. لقد عزب عن إدراكهم أن الخير والشر يقعان بإرادة الله لاختبار الإنسان وأنهم لن يعيشوا بسلام إلا إذا انصاعوا لأمر الله. ولهذا فإنهم يقاسون عواقب تصرفاتهم ويغتمون بكل ما يصيبهم في حياتهم صغيرا كان أو كبيرا.

يأخذ هؤلاء الناس تجاربهم اليومية بجد ويطيلون التفكير في حوادث الدنيا كما لو أنها أهم شيء في الحياة. وهكذا فإنهم يتبرمون إذا لم تجر الأمور بما يشتهون، ثم لا يلبث التشاؤم أن يسلمهم إلى اليأس ظانين أن ما أصابهم إنما هو سوء طالع لا يملكون حيلة لدفعه ولا يهتدون سبيلا. إن فسقهم عن أمر ربهم هو الذي يحول بينهم وبين إدراك أن كل الحوادث تجري بقدر مقدور.

إن اهتمامهم بالأحداث اليومية التي تقع لهم يجعل أمزجتهم متقلبة لا تستقر على حال. أصغر الأشياء في هذه الحياة تقلقهم، فتراهم ينفقون الأيام في التأسف والتحسر والدعاء بدعوى الجاهلية. إن العواقب السيئة لعدم توكلهم على الله تتبدى في حياتهم كلها بشكل يومي وفي كل الظروف.

فالزوجة القائمة على أمر بيتها مثلا تحصر اهتمامها كله في نطاق أسرتها ومشاغلها في البيت. فإن عجزت عن حل مشكلة ولو كانت صغيرة جزعت وندبت حظها دون أن يخطر لها أنها محنة قدرها الله وأنها لا بد أن تنطوي على منحة. والعجيب أن هذه الحادثة التي تنغص حياتها قد تكون طعاما نسيته في الموقد فاحترق أو عطل أصاب المكنسة الكهربائية. إن عدم تسليمها لأمر الله وبعدها عن قيم الدين يجعل أصغر المشكلات تكبر في عينها لتصبح مصدرا للقلق والحزن.

وهذا الوصف ينطبق أيضا على زوجها مدير الشركة حين يواجه بعض المشكلات في عمله التجاري. فهو يرى أن مشاكل زوجته لا تساوي شيئا إذا قيست بهمومه هو. ولذلك يصاب بقلق نفسي لأنه يجهل أن الحوادث أقدار مقدرة ولأنه ينقصه السلوك الإيجابي. كما ينسحب هذا الوصف على الأطفال الذين يعيشون في بيئة لا تقيم وزنا لمبادئ الدين. إذ تستحوذ مسيرتهم الدراسية التي تمتد لعشر أو خمس عشرة سنة على كامل تفكيرهم. فلا يكاد الواحد منهم يتغلب على مشاعر اليأس إذا لم يكن أداؤه مرضيا في امتحان واحد ولو حصل على كامل الدرجات في المواد الأخرى. فتجدهم أكثر قلقا بشأن صداقاتهم وشهرتهم. وما التشاؤم واليأس والعجز عن العثور على حلول للمشكلات والشكوى سوى آفات انتقلت إليهم عدواها من والديهم ومن يحيط بهم من الناس.  وهذه السمات تظل ملازمة لهم. لكن الشيء الذي صيّرهم إلى هذا الوضع هو عدم تمسكهم بمبادئ الدين وجهلهم بخالقهم وعدم توكلهم عليه.

يستطيع الإنسان أن يسلم من غوائل الاكتئاب والبؤس إذا طبق مبادئ القرآن متى ما أحس بالإحباط وأيقن أن هناك خيرا في كل شيء قدره الله. فالتمسك بأخلاق الإسلام  يستأصل كل أنواع التشاؤم والإحساس بالفشل، لأن المتخلق بأخلاق الإسلام ينظر إلى كل قضية، صغيرة كانت أو كبيرة، نظرة إيجابية. وهذا السلوك يجلب السلام للحياة على الصعيدين الشخصي والاجتماعي.

إن المهتدي بأخلاق الإسلام لا ينظر إلى الحوادث على أنها وليدة المصادفة. ولأنه يؤمن بأن كل الحوادث لا تخرج عن نطاق القدر الإلهي، فهو يتوخى إدراك الحكمة من وراء الأحداث والرسائل التي يوصلها الله لعباده. وهذا هو سبب اختفاء كلمة "لو"  عن كل مكان تعمره قيم الدين. فلا تصل إلى سمعك عبارات من شاكلة "لو لم أذهب بالأمس لما أصابني هذا الأمر" أو "كنت سأسافر للخارج لتلقي للدراسة لولا التحاقي بهذه المدرسة" أو "لو أتيت مبكرا لكنت قد التقيته" أو عبارة "لماذا سلكنا هذا الطريق؟ إنه طريق يزدحم بالحركة" أو "ما منعني من التمتع بشبابي إلا اقتراني بك" أو "لو أنني لم أرتد هذا الثوب لما أفسدت ليلتي" أو "لو امتنعت عن الخروج لنجوت من المرض" أو "لو امتنعت عن السفر لما تعرضت لحادث سير" أو "لو أنها قابلت طبيبا آخر لعوفيت من مرضها" أو "لو أنه لم يسافر في تلك الطائرة لما مات". إن الأشخاص الذين تخلو حياتهم من الإيمان بالله وينأون عن هدي الدين يكثرون من قول "لو" وسيقولونها في الدار الآخرة لكنها لن تغني عنهم شيئا: "وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (الأنعام: 27)

الآثار السلبية للكفر على جسد الإنسان

كما أن للكفر آثاراً ضارة على المجتمع فكذلك له أثر ضار على سلامة الأفراد الجسدية والروحية، وسنتعرض في هذا الفصل لهذه الأضرار الروحية والجسدية.

كما مضت الإشارة فيما مر فإن الأشخاص الذين لا تظللهم أخلاق الإسلام يعيشون في قلق وتوتر دائمين، وهو أمر يسبب لهم أمراضا نفسية لا حصر لها. فأجسادهم تسرع إليها الشيخوخة، وذلك أن ضرر معاناتهم الروحية يمتد إلى أجسادهم فيضعفها بالأوجاع.

وهذه الآثار يمكن أن تطال حتى الأشخاص الذي يتمتعون بالصحة والشباب والجمال. إذ تبدو أعراض التغييرات الفسيولوجية ويبهت لون الشعر والعينين ويزداد تساقط الشعر والصلع في أشخاص صغار السن لكن هذه الأعراض لا تظهر عند الأشخاص المتدينين من نفس الفئة العمرية. ولأسباب فسيولوجية يخشوشن الجلد ويغلظ ويفقد نعومته في وقت قصير ثم لا يلبث أن تظهر على الجلد إمارات الاعتلال. ولا ريب أن لعدم التزام هؤلاء الناس بإرشادات القرآن المتعلقة بالنظافة دخل كبير في ذلك. وهذه ظواهر مشاهدة على نطاق واسع في المجتمعات البعيدة عن أخلاق الإسلام وعن هدي القرآن. فهي من الشيوع بحيث تعد ظاهرة طبيعية. إنهم يلقون جزاء كفرهم في الحياة الدنيا وحين تقوم الساعة ينالهم عذاب أشد وأمض.

أما المؤمنون فيحتفظون بحيويتهم وذلك بسبب تمتعهم بالصحة والاستقرار النفسي وسلامتهم من مشاعر الأسى والضغط النفسي واليأس. ولا غرو، فأن توكلهم على الله وحسن ظنهم به وطمعهم في رحمته يؤثر إيجابا على صحتهم الجسدية. وينسحب هذا الوصف على أصحاب الضمائر الحية من الناس الذين يؤمنون بالله حقا.

صحيح أن المؤمنين يمرضون ويشيخون لكن هذه الأحوال ليست وليدة أسباب نفسية كما هو الحال لدى غير المؤمنين، فالمرض والموت والكبر حتم مقضي على الناس كلهم. إلا أن سرعة وضراوة هذه العمليات لها علاقة مباشرة بالسلوك النفسي السلبي الذي يغلب على الشخص بسبب تنكبه طريق الإيمان. فالشخص الذي يقضي حياته كلها مطمئن القلب تملأ جوانحه الثقة بخالقه ويرجو خيرا في كل شر يعرض له، سيعيش سعيدا هانئ البال فيسلم بذلك من غواشي القلق والخوف وما تلحقه بصحته من أذى.

إن مجتمعا يغفل أهله عن قيم الدين حري بأن يحرم من الأمن والطمأنينة التي يسكبها الدين في قلوب من يتشبثون به، وسيذوق الثمار المرة لهذه الغفلة من أذى نفسي وجسدي. وأمثلة ذلك كثيرة ومشاهدة في المجتمعات التي تفسق عن أمر ربها.

وثمة علتان في عصرنا هذا ترتبطان بمصطلح "أمراض العصر" ألا وهما الاكتئاب والضغط النفسي. وهاتان العلتان يعاني منهما كل الناس ولكنهما ترتبطان أيضا باضطرابات فسيولوجية.

إن أشهر الاضطرابات التي ترتبط بالضغط النفسي والاكتئاب تتمثل في ثنائي: إدمان تعاطي المخدرات والأرق. ثم تأتي بعد ذلك الأمراض الجلدية والباطنية بالإضافة إلى الاضطرابات المرتبطة بضغط الدم والكلى والجهاز التنفسي والحساسية والانفلونزا والصداع النصفي والذبحة الصدرية وتضخم المخ. إن من الخطأ طبعا إرجاع أسباب هذه الأمراض إلى الضغط النفسي والاكتئاب وحدهما. إلا أن البحوث الطبية أثبتت أن هذه الأمراض ترجع في كثير من الأحيان إلى مشكلات نفسية.

إن الشخص الملتزم بمبادئ الدين يجعل توكله كله على الله ويؤمن بالقدر خيره وشره. كما يدفعه علمه بحب الله لعباده الصالحين، إلى التصرف بطريقة ينال بها رضا ربه. وفي النهاية فإن إحسان المرء في كل الظروف، يجلب نوعا من الطمأنينة التي يجدها المرء حين يستجيب لداعي ضميره.وإن حدث أن نزلت بساحة المؤمن ضراء فإنه يعلم أنها ابتلاء من الله فيتعامل معها وفق مقررات القرآن، فلا يستسلم لمشاعر الأسى واليأس والضيق. إن تركيزه على الفوز في الآخرة يجعل همه الأكبر هو أن يتصرف بطريقة تضمن له الفوز برضا الله حين يقوم الناس لرب العالمين. إن قوة إيمانه بالله تحصنه من بأس النوازل فيثبت جنانه. وهذه الطمأنينة ورباطة الجأش تعجم قناته وتقويه.

شتان بين العيش وفق مبادئ الدين والتنكر لها. إن أقصى ما يأمله الكافر ويرجوه هو أن "يعيش حياته طولا وعرضا" وأن يحافظ على قوته وصحته ليستمتع بالحياة. وهو بهذا المعنى شديد الارتباط بجسده الذي يقربه إلى طموحه هذا زلفى. وهذا، حسب اعتقاده، أفضل شيء يفعله. لكنه اعتقاد بيّن الخطأ واضح الخطل. إن شروده عن هدى القرآن يقربه من هلاكه وبواره بدلا من أن يكسبه حياة هانئة. فهو سيذوق من العذاب الأصغر في الدنيا دون العذاب الأكبر الذي ينتظره في يوم الحساب. وبهذا يغدو الجسد الذي أريد له أن يستمتع بكل مباهج الحياة عرضة لأضرار فاتكة.

لقد خلق الله عقل وجسد الإنسان لكي يلتزما بالعيش وفق هدى الدين. وقد هيأهما الله للعمل في إطار نظام تسوده قيم الدين وزودهما بمزايا وسمات ملائمة. فإن سخّر الجسد لغاية غير الغاية التي من أجلها خلق أسرع إليه الفساد وحل به الخراب. والواقع أن جسد وعقل الإنسان خلقا متشابكين متصلين. ولأن الله خلقهما فمن الضروري أن يسخرا في خدمة الغاية التي من أجلها خلقا.

في المجتمعات التي لا تلتزم بقيم الإسلام يكون الحزن والغم والضغط النفسي والسخط جزءا من حياة الناس اليومية. والحق أن كل شيء لا يحدث إلا بإذن الله، والناس الذين يقرون بهذه الحقيقة يتوسمون الخير في كل الحوادث والنوازل. أما الكفار فسيعلمون بعدم جدوى الأحداث التي أصابتهم بالهم والحزن أو الغضب حين يأتيهم الموت: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون " (البقرة: 216)

أوضحنا فيما مضى من فصول هذا الكتاب كيف أن روح الإنسان تكون عرضة لعنت رهيب في هذه الحياة الدنيا متى ما تنكب الإنسان الجادة التي رسمها الله وأراد له السير فيها. كما يعاني الناكبون عن صراط الله المستقيم من رهق جسدي. إن قوة الرابطة بين الروح والجسد تتبدى في كثير من الأمثلة في المجتمع. فقد لوحظ أن الأشخاص الذين ينعمون بالاستقرار النفسي وهناء العيش، والذين ينظرون لكل حادثة بإيجابية ويرجون المنح من وراء المحن ولا يغلب عليهم التشاؤم ولا يستولي عليهم الغضب يحافظون على حيويتهم إلى آخر أيام حياتهم ويشيخون بإيقاع بطيء. وهذا هو السبب الذي يجعل المجلات والصحف الطبية والصحية تؤكد على وجوب أن يتعامل القراء بإيجابية مع أحداث الحياة ليضمنوا لأنفسهم عيشا سعيدا. وتجمع هذه المجلات على ضرورة أن يحافظ الإنسان على هدوئه وأن يكون متفائلا بغض النظر عن الظروف التي تمر به. لكن الإنسان إذا تأمل في هذه النصائح فسيجد أنها جميعا مزايا يمكن للمرء نيلها بالالتزام بمبادئ الدين. فبدون الالتصاق التام بأخلاق القرآن لا يتسنى للناس التحكم التام بأمزجتهم.

تجاهل قيم الدين يسبب التوتر النفسي

يرجع الضغط النفسي، ذلك الوباء المقلق والواسع الانتشار، إلى أسباب نفسية. وهو عبارة عن حالة عامة من التوتر الذهني والجسدي الذي يسببه الخوف واليأس والقلق ومشاعر أخرى كالخوف من فقدان الوظيفة والخوف من الإصابة بالمرض أو الخوف من موت أحد أفراد الأسرة.

يستجيب جسم الإنسان للضغط النفسي بإحداث سلسلة من التفاعلات البيوكيماوية. ولهذا يزداد معدل هرمون الأدرنالين في الدم ويصحب ذلك ارتفاع شديد في معدل استهلاك الطاقة وتسارع تفاعلات الجسم. وفي غضون ذلك تتسرب مواد السكر والكولسترول والأحماض الدهنية إلى مجرى الدم فيرتفع نتيجة ذلك ضغط الدم وتزداد ضربات القلب.

تحدث حالات الضغط النفسي المزمن ضررا بالغا بجسم الإنسان ولا سيما في وظائف الجسم. كما يحدث الضغط النفسي ارتفاعا كبيرا في نسبة هرموني الكورتيزون والأدرنالين. كما يحدث الجلكوز المتجه إلى المخ ارتفاعا في معدل الكلسترول معرضا الجسم لمخاطر شديدة. ويسبب الضغط النفسي أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم والاكتئاب وإصابات  في الجهاز التنفسي والجلد وداء الصدف إلى جانب مشكلات صحية كثيرة أخرى.

تشير مصادر علمية كثيرة إلى وجود علاقة مهمة بين الضغط النفسي والتوتر والآلام التي يسببها. فقد أشارت الدراسات أن التوتر الناشئ عن الضغط النفسي يحدث تقلصا في الأوردة مما ينتج عنه إعاقة تدفق الدم لمناطق معينة من المخ. وتحدث هذه العملية نقصا حادا في كمية الدم التي تصل إلى هذه الأجزاء من المخ. وفي غضون ذلك يحدث حرمان هذه الأجزاء من الدم لفترات طويلة أضرارا بأنسجتها. ففي حالة الضغط النفسي تزداد حاجة النسيج المتوتر إلى قدر أكبر من الأوكسجين لكن عدم حصوله على قدر كاف من الدم يدفعه إلى تنبيه أجهزة استشعار الألم. وفي غضون هذا التوتر يتم إفراز هرموني الأدرنالين والنورأدرنالين، وهما هرمونان يؤثران على الجهاز العصبي، مما ينشأ عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة زيادة في توتر العضلات. ويولد هذا التوتر آلاما ثم تبدأ بعد ذلك دورة شريرة من ألم يحدث توترا يفضي إلى قلق ينشئ آلاما حادة.

إن الذبحة الصدرية هي بلا شك إحدى أخطر الاختلالات الجسدية الذي يسببها الضغط النفسي. وتشير كثير من الدراسات والبحوث إلى أن خطر الإصابة بالذبحة الصدرية يزيد عند الأشخاص المصابين بالقلق وحدة الطبع وسرعة الانفعال ويقل عند الأشخاص الذين لديهم قدرة على السيطرة على أنفسهم عند الغضب. وطبقا للبحوث العلمية التي أجريت في هذا الصدد فإن الإثارة الشديدة للجهاز العصبي المتجانس تحدث زيادة في معدل الأنسولين في الدم والذي يشكل بدوره تهديدا كبيرا للصحة وذلك لأن جميع الحالات التي تؤدي إلى مرض الشريان التاجي لا يفوق ضررها الضرر الذي تسببه زيادة معدل الأنسولين في الدم.

إن هذه الحالة غير العادية التي تصيب جسم الإنسان واستمرارها لمدة طويلة من الوقت تلحق ضررا بالغا بالصحة وبالتوازن الطبيعي للجسم. إن أهم مخاطر الضغط النفسي على جسم الإنسان تتمثل في الآتي:

-                                الهم والخوف: قلق الشخص من فقدان السيطرة على الغضب في حياته

-                                التعرّق: كثافة العرق والحاجة إلى الاستخدام المتكرر للمرحاض

-                                تغير الصوت: تلعثم وارتعاد الصوت

-                                حالة النشاط الفائق: نوبات مفاجئة من تفجر الطاقة وضعف التحكم بمعدل السكر في الدم

-                                الأرق: الكوابيس

-                                أمراض الجلد: النمش والحمى والإكزيما وداء الصدف

-                                أمراض الجهاز الهضمي: سوء الهضم والقرحة والغثيان

-                                الشد العضلي: آلام الفك والظهر والعنق والكتفين

-                                إصابات طفيفة: الانفلونزا وغيرها

-                                الصداع النصفي

-                                تزايد ضربات القلب وألم الصدر وارتفاع ضغط الدم

-                                اضطرابات الكلى وبقاء السوائل داخل الجسم

-                                اضطرابات الجهاز التنفسي وضيق التنفس

-                                الحساسية بأنواعها المختلفة

-                                الذبحة الصدرية

-                                ضعف جهاز المناعة

-                                تضاؤل حجم المخ

-                                الشعور بالذنب وفقدان الشعور بالأمان

-                                الاضطراب وضعف القدرة على إصدار أحكام متوازنة والعجز عن التصور وضعف الذاكرة

-                                حدة التشاؤم والقناعة القوية بالفشل

-                                صعوبة الوقوف المستقر

-                                عدم أو ضعف التركيز

-                                توتر الأعصاب وفرط الحساسية

-                                التصرف بشكل غير عقلاني

-                                فقدان شهية الطعام أو شدة الجوع

إن الضغط النفسي بلاء يصيب الأشخاص الذين يجهلون المنافع التي يجلبها الالتزام بأخلاق الإسلام. وليس لهم نجاة من هذا العذاب طالما ظلت أفكارهم ونظرتهم إلى الحياة وأحداثها على ما هي عليه من جمود. وهذه الحقيقة تؤكدها توصيات الخبراء فيما يتصل بالتعامل مع الضغط النفسي. ولنوضح هذا الأمر بضرب المثال الآتي: يحث دين الله على "التغلب على الغضب". والخبراء يعلقون على الغضب، وهو أحد أهم مسببات الضغط النفسي، على النحو التالي: " لا تفقد أعصابك مهما كان مقدار الاستفزاز الذي تشكله الحالة الماثلة. لا تلجأ للعنف (إلا في حالات الدفاع عن النفس) ولو شعرت بأن لك الحق في اللجوء إلى العنف".

وكما رأينا فيما مر فإنه كلما أفلح المرء في المحافظة على هدوئه ورباطة جأشه كلما زاد حظه من السلامة من كثير من الأمراض. إن هذه حقيقة يؤكدها العلم. ومما لا شك فيه أن هدوء البال وطمأنينة النفس لا ينالا إلا بالتمسك بالدين.

الاختلالات المناعية الناشئة من الضغط النفسي 

ثمة علاقة وثيقة بين الضغط النفسي وجهاز المناعة. وللضغط النفسي أثر سلبي بالغ على جهاز المناعة، فالضغط النفسي يدمر جهاز المناعة. ففي حالة الضغط النفسي يزيد المخ من معدلات هرمون الكلسترول في الجسم مما يضعف جهاز المناعة.  وبعبارة أخرى، هناك ارتباط وثيق بين الهرمونات وجهاز المناعة.

لقد أظهرت الدراسات في مجال الضغط النفسي والجسدي أن حدة الضغط النفسي وبقاءه لمدة طويلة  يضعف مقدرة جهاز المناعة على المقاومة تبعا للتوازن الهرموني للجسم. وقد أثبتت آخر الدراسات أن كثيرا من الأمراض، بما في ذلك السرطان، تظهر وتحتد تبعا للضغط النفسي. وهذا هو ما يجعل لهدوء البال وصفاء المزاج دور كبير في الحفاظ على سلامة أعضاء الجسد بوجه عام. وقد ظهر أن هذا الاستقرار النفسي يمنع ظهور طائفة من العوامل التي تقود إلى الإصابة بالأمراض. والحق أن الإيمان بالله يفرز مثل هذه النظرة التي تعين الفرد على التمتع بسلامة العقل والجسم. إن النظرة الإيجابية إلى كل حادثة تعرض للمرء هو نوع من العبادة بشرط أن يكون الطمع في إرضاء الله هو الدافع إلى هذا السلوك. إن القرآن يرشد المؤمنين إلى إحسان الظن بالله والثقة به والأمل فيما عنده ويسهل لهم سبيلا إلى النجاة والفوز في الدار الآخرة بالإضافة إلى ما يحققه لهم في الحياة الدنيا من حياة سعيدة وهانئة ومباركة. على أن هذا هو فقط جزء من الفضل الجزيل الذي وعد الله الذين يلتجئون إليه ويقتدون بهديه. وليس معنى ذلك أن المؤمنين لا يمرضون ولا يصيبهم مكروه، بل الأمر ببساطة هو أن المؤمنين، مقارنة بغيرهم، أقل تعرضا للأمراض وذلك لأنهم بمفازة من الضغط النفسي وتعكر المزاج.

هناك أمر مهم تجدر الإشارة إليه، وهو أن الناس لا يفزعون إلى الدين هربا من الأمراض. لكن الثقة بالله والتسليم لأمره واتباع النور الذي أنزله يفضي إلى العافية في العقل والجسد. وبعبارة أخرى، فإن سلامة صحة المؤمنين لها علاقة بقوة إيمانهم وصلابة بنيتهم الروحية.

وبصريح العبارة فإن إنسان القرن الحادي والعشرين بحاجة إلى تحقيق شيء واحد هو: أن يعود لفطرته الأولى التي فطره الله عليها وأن يلتزم بمبادئ الدين، لأنه إن لم يفعل حصد الخيبة والخسران في الدنيا والآخرة.

التشبث بقيم الدين يحل جميع المشاكل الاجتماعية

ناقشنا بتفصيل فيما مر من فصول هذا الكتاب الحالة العقلية وسمات الأشخاص الغافلين عن قيم الدين والسلوك الإنساني الذي تحدثه هذه الغفلة. وسنبين في هذا الفصل كيف أن التشبث بقيم  الدين يعين على حل مشكلات اجتماعية استعصت على الحل لعقود متطاولة من الزمن.

تلاشي كافة ألوان الفساد والانحطاط

إن التفسخ الأخلاقي هو أبرز سمات المجتمعات البعيدة عن هدي الدين. ويتخلل هذا التفسخ كافة مستويات المجتمع ويزداد حدة وتمكنا بمرور الوقت. ويفاقم من هذا التفسخ غفلة الناس عن هدي القرآن وافتقارهم إلى قيم الخوف من الله والرغبة في نيل رضاه. ولا جرم أن في هذه المجتمعات بعض التقاليد والأعراف والقوانين الاجتماعية التي طورها الأفراد والقادة والتي تسهم في تشكيل السلوك العام للمجتمع، لكن لأن هذه الأعراف والقوانين هي نتاج للعقل البشري ولا يرفدها خوف من الله، فإن أثرها على المجتمع ضعيف ولا تستطيع  أن تقضي على السلوك المعوّج.

والدليل على ذلك أنه لا يوجد سبب يمنع الشخص المنحرف من الإمعان في الفساد. تأمل مثلا في حال أحد ملاك الشركات، فهو إن لم يكن يؤمن بالله ولا يخاف عقابه فمعنى ذلك أنه قد وطن نفسه على التصرف بشكل غير أخلاقي وأصبح متحفزا لاستغلال كل سانحة لتمرير قراراته ووضعها موضع التنفيذ. وهو لا يرى بأسا بإساءة معاملة موظفيه واحتقارهم أو استغلالهم. كما أنه يسلك نفس هذا السلوك تجاه شركائه، فيخدعهم ويخادعهم ويحاول بشتى الطرق الملتوية أن يحوز لنفسه أكبر قدر من الثروة وفي أسرع وقت ممكن دون أن يزعه من هذا الصنيع الفاجر وازع.

كما أوضحنا من قبل فإن التصور الأخلاقي يختلف من شخص لآخر إذا لم تكن الشريعة الإلهية أصلا للمعايير الاجتماعية. فقد يعاف شخص ما سلوكا معينا في حين يعده شخص آخر سلوكا مقبولا لا بأس به. فحين يختفي تأثير القيم الدينية عن مكان ما يتخذ أهله  قيما أخلاقية شتى. وفي ظل غياب منظور قيمي موحد يصبح المجتمع فيصلا وحاكما للبت في مختلف النزاعات والصراعات، ولهذا تكون الأجيال اللاحقة أسوأ أخلاقا من الأجيال السابقة.

إن الأثر السيئ للتفسخ الأخلاقي على المجتمعات في تزايد مستمر. وينتشر الفساد بسرعة في المجتمعات التي لا تؤمن بالله. وقد يكون السلوك مرفوضا في عام مقبولا في الذي يليه. ولا شك أن هذا التردي المطرد يقود إلى تدمير المجتمع ويفاقم الانحطاط الخلقي.  والعجيب أن هذا التفسخ الأخلاقي يوصف بأنه "حداثة" ومعاصرة ويغدو أهم موضوع في حملات تعليم وتثقيف المجتمع، وينشط المنظرون اللادينيون في الترويج للشعار القائل: " إن إنسان القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون حرا وطليقا من كل القيود".

إن أجيالا بكاملها تتعرض في سن مبكرة للتفسخ الأخلاقي. بل هناك زيادة كبيرة في أعداد الأطفال الذين يرتكبون جرائم قتل في أوربا وأمريكا. ومن الشرق الأقصى تأتينا الأخبار بتعرض الأطفال لأبشع ألوان الاستغلال الجنسي لتحقيق أغراض تجارية. والحق أن الانحراف الجنسي كان في الثمانينات موضوعا يتحرج الناس حتى من مجرد الخوض فيه، أما اليوم فقد أصبحوا يعدونه جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة العصرية بل ويتعاطفون مع الأشخاص المنحرفين جنسيا. ومن ناحية أخرى يرمى الأشخاص الذين يعارضون هذه النظرة بتهمة التخلف ومخالفة روح العصر. وقد عاب القرآن سلوك هؤلاء الناس وذلك في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون " (النور:19)

إن من المستبعد جدا أن يشيع التفسخ الأخلاقي في مجتمع تسوده تعاليم الدين، وذلك لأن خوف أفراد هذا المجتمع من الله يعصمهم من الانزلاق في مهاوي الانحطاط الخلقي. ففي الآية التالية مثلا يتضح المعيار الأخلاقي الذي وضعه الله للناس: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون" (النحل:90)

إن الانحراف الخلقي يقل كثيرا في المجتمعات المؤمنة التي تراعي حدود الله التي بينها في كتابه المجيد. وإن شذ من هذه الاستقامة العامة سلوك معين فخرج على الإجماع الخلقي فإن ذلك لا يمثل مشكلة للمجتمع وذلك لأن المؤمنين سيواجهونه بالنكير لا بالتشجيع كما هو الحال في المجتمعات الضالة، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أحد أهم واجبات المسلم كما يوضح ذلك قوله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم" (التوبة:71)

بناء على ما تقدم يمكن القول إن المجتمع الذي تظلله قيم القرآن هو أيضا مجتمع فريد ومتميز أخلاقيا وذلك لأن أفراد هذا المجتمع: "وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ" (آل عمران:114) وثمة فضيلة أخرى يتحلى بها المؤمنون يشير إليها قوله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصّلت:33) وقوله تعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَاب" (الزمر:18)وقوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون" (آل عمران:110).وجاء في أحد الأحاديث النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه" (أبو داوود) كما حث الرسول المؤمنين على التواصي بالخلق النبيل وذلك في قوله: "أحسن الناس إسلاما أحاسنهم أخلاقا" (أبو داوود). وفي هذا شاهد قوي على أن مجتمع المؤمنين متفوق أخلاقيا على غيره من المجتمعات اللادينية.

 

التمسك بقيم الدين يقوي الرابطة الأسرية

إن قوة الترابط الأسري هي الدعامة التي ينهض عليها كل هيكل اجتماعي ناجح. وتفكك المجتمعات مرده إلى تفكك الأسر. ولقد كانت الأسرة هدفا أول للأيديولوجيات الهدامة مثل الشيوعية والاشتراكية، إذ هدف هؤلاء إلى هدم مؤسسة الزواج والقضاء على قيم الأمومة والإخلاص والخصوصية والشرف. وقد زعم فلاسفة ومنظرو هذه الاتجاهات أن هذه القيم لا قيمة لها. ففي الماضي كان العيش المشترك بين رجل وامرأة لا تجمع بينهما رابطة زوجية مثلا محل رفض المجتمع لكنه أصبح هذه الأيام سلوكا معتادا. وفوق ذلك فإن متوسط أعمار الأشخاص الذي يتعايشون دون رابطة زوجية يتناقص باطراد.

إن نظرة مجتمع اليوم إلى الأسرة معيبة بوجه عام. فغالب النساء ينظرن إلى الزواج كضمانة للعيش. وهذه النظرة تجعل المال المعيار الأول في اختيار الزوج. وأحيانا قد تكون المكانة الاجتماعية والجمال والبيئة عوامل مهمة في قرار الارتباط برجل معين، لكن في الأغلب يبقى المال هو المعيار الأول والأهم. ولهذا لا يستغرب المرء من تصاعد معدلات الطلاق والتي تفضح ضحالة الزيجات التي تقوم على عوامل خادعة كالمال والمكانة الاجتماعية والجمال.

وثمة مهدد آخر معروف للزواج وهو ارتفاع سقف توقعات الأزواج من زوجاتهم. فالجمال من ناحية عامة عامل مهم في اختيار الرجل لزوجته، كما قد يتأثر اختياره بعوامل أخرى مثل حظ المرأة من التعليم وتعدد مهاراتها. ولا شك أن توفر هذه المزايا في أحد الزوجين أو كليهما أمر لا اعتراض عليه، لكن إذا أسس الزواج، الذي ينبغي أن يقوم على أرضية صلبة، على هذه العوامل وحدها فستنهار الأسرة متى ما تبين لاحقا أن أحد هذه العوامل غير موجود.

إن الزواج يتطلب وفاءً وحبا واحتراما وهو نوع من المفاهيم لا يمكن أن تصبح قيما صلبة وملزمة إلا من خلال الدين. وعليه فإن الدين هو الضمانة الوحيدة لتماسك ونجاح العلاقة الزوجية.

إن الزواج القائم على هذا الفهم غير العقلاني هو زواج مؤسس على شفاء جرف هار. إذ سرعان ما تختفي من أفق الزواج معاني الحب والاحترام وتذهب المودة المتبادلة بين الزوجين جفاء. فما يمر طويل وقت على الزواج حتى تتبدى لكل طرف عيوب ونواقص الطرف الآخر، فيحتدم النقاش والاختلاف بين الزوجين ويتبادلا الاتهامات الخطيرة. لكن بعد حين من الوقت يقبل الزوجان بالأمر الواقع وتلفهما الدائرة الخبيثة ككثيرين غيرهم. ومما يجدر ذكره هنا أن الأجيال التي تخرج من كنف هذه الأسر تكون مضطربة نفسيا، وذلك لأن تأثرهم بسلوك والديهم يجردهم من معاني الحب والاحترام.

إن الأسر تتفكك عادة في المجتمعات التي لا تجعل من قيم الدين هاديا لحياتها. فللمال في هذه المجتمعات دور كبير في تشكيل العلاقات بين أفراد الأسرة. فالأب الذي ينفق بسخاء على أسرته يكافأ من قبل زوجته وأولاده حبا واحتراما، لكن إن حدث أن توقف الأب يوما ما عن الإنفاق على أسرته فإن هذا الحب والاحترام ينقلب إلى سخط، وهكذا يصبح المال سببا مستمرا للنزاع داخل الأسرة، وليس ثمة ضمانة على بقاء الزوجة مع زوجها إذا أفلس أو قل دخله. والغالب في مثل هذه الحالات أن ينتهي الزواج بالطلاق. وهذا بلا شك إحدى عواقب العيش بعيدا عن مظلة القرآن.

ثمة بون شاسع بين نظرة المؤمن ونظرة الكافر للزواج. فيقين المؤمن بأن هناك حياة أبدية تنتظر الإنسان بعد الممات تجعله يصمم على البقاء في كنف الزواج إلى الأبد. فالقرب من الله هو كل ما يرجوه المؤمن من الزواج. وبعبارة أخرى، فهو يريد من الشخص الذي سيبقى معه إلى الأبد أن يحيا وفق هدي القرآن. وذلك لأن كل السمات التي يتحلى بها الإنسان في الحياة الدنيا إنما هي عرض زائل. فاهتداء الزوجين بالقرآن يملأ حياتهما بالحب والاحترام والانسجام. فإن حدث أن أخطأ أحدهما ذكره الآخر بهدي القرآن فتزول المشكلة وذلك لأن المؤمن لا يجد حرجا فيما قضى الله بل يسلم تسليما. وعليه يمكننا، بناء على الأسباب الواردة أعلاه، أن نقول إن الأشخاص الذين يؤمنون بالله ويخافونه يقيمون زيجاتهم على قاعدة صلبة.

لكن من الخطأ حصر مفهوم الأسرة في العلاقات بين الزوجين فقط، فسلوك الأطفال تجاه والديهم وكبار السن من أفراد الأسرة مهم أيضا، وفي البيئات التي تعمرها مبادئ الدين تقوم هذه العلاقات على قاعدة الحب والاحترام. كما يخلو جو الأسرة من أنماط السلوك الفظ والزعيق والعراك والتي لا يسلم منها جو أسري في أيامنا هذه. ويسود بدلا منها جو من السلام والبهجة. فلا وجود لمزيد من الكوارث الأسرية وكل فرد يحمل أسرته في حدقات عيونه الأمر الذي يخرج إلى الوجود حياة أسرية يعز نظيرها. ويرى الأطفال في أبويهم نعمة عظيمة ويشعرون برابطة قوية تشدهم إليهما. ويشعر الأبوان أن أبناءهما إنما هم وديعة أستودعهم الله إياها واستحفظهم عليها. إن "الأسرة" تعني الدفء والحب والثقة والتضامن. ولا بد من التأكيد ثانية على أن مثل هذه الحياة الأسرية السليمة تقتضي التزاما تاما وخالصا بقيم الدين وخوفا من الله وحبا له.

رابطة الود والاحترام تقوى بين أفراد المجتمع

ذكرنا في عرضنا للآثار المعنوية للكفر على الإنسان أن الكفار لا يمكن أن يدركوا المعنى الحقيقي للحب والاحترام. فمجتمع قوامه أناس كهؤلاء لا يمكن للعلاقة بين أفراده، صغارا كانوا أم كبارا، بدوا كانوا أم حضرا، أن تتسم بالدفء. ويشعر الفرد في ظل مثل هذه الظروف بالوحشة والعزلة. فكل فرد يفكر بنفسه فقط. والواقع أن مشاعر الحب والاحترام التي يبدونها لبعضهم بعضا ليست هي التي وصفها القرآن. والسبب الأول لذلك أن قيمهم كلها مبنية على اهتمامات مادية الصبغة.

لا أحد في هذه المجتمعات يحترم شخصا آخر دون مقابل. فالموظف يحترم رئيسه خوفا من غضبه وما قد يترتب على هذا الغضب من فقدان للوظيفة. ويجل الطالب أستاذه لئلا يفشل في الامتحان. كما تشعر المرأة بالرغبة في الإحسان إلى زوجها طمعا في استمراره في الإنفاق عليها. لكن من الواضح جدا هنا أن الاحترام الذي تعكسه جميع هذه الأمثلة يقوم على المصلحة الخالصة.

لكن لا تكاد تعثر على أثر لصور التعامل هذه في المجتمعات وأنماط العيش المصبوغة بصبغة الخلق القرآني. إذ يحترم كل فرد في هذه المجتمعات وبشكل تلقائي كل مؤمن يسعى للفوز برضا الله. فلا يحتاج المرء لأن يصبح نجما مشهورا أو ثريا واسع الثراء لينال التوقير وحسن التقدير في مجتمعه. فمجرد إيمانه بالله وخوفه منه وسعيه لنيل رضا خالقه يكفي لرفع مكانته في عيون الناس في مجتمعه.

أشرنا فيما سلف من فصول هذا الكتاب إلى نمط الأخلاق والروح التي تغلب على المجتمعات الكافرة. ولنتأمل الآن، في حال مجتمع قوامه أمثال هؤلاء الناس. هل سيكون مجتمعا تسوده معاني الحب والاحترام؟ إن الإجابة هي وبلا تردد بالنفي. فمن خلا قلبه من حب الله خالقه ورازقه لا يمكن أن يحب خلق الله وعباده. وحل هذا الإشكال يكمن في قيام مجتمعات تسير حياة أفرادها وفق مبادئ الدين.

انتهاء فظائع السكر والقمار 

إن أبرز ملامح هذه الصورة الكالحة للمجتمعات اللادينية هو أن السكر والقمار قد أصبحا طريقة حياة لغالبية أفراد هذه المجتمعات. إن حرمان هؤلاء الناس من هدي الإسلام جعلهم لا يدركون معاني الصبر أو الرجاء أو التوكل على الله، وهذا هو سبب فزعهم إلى السكر والقمار متى ما اعترضت سبيلهم محنة. فإن لم تجر الرياح بما يشتهون أو إذا تملكهم الغضب أو استولى عليهم الملل أو ركبهم الحزن أو حتى إن ألمت بهم حالة فرح، هرعوا إلى الكحول يطلبون عندها السلوى والعزاء، لكنهم لا يجنون من ذلك سوى الإضرار بأنفسهم وبالآخرين. فحين تبلغ سكرتهم مداها تذهب عنهم عقولهم ويغيب وعيهم فيرتاحون عندها من عذابات الضمير ووخزه الممض، ثم يأخذون في شتم الناس وإساءة الأدب والتعامل بوقاحة دون أدنى شعور بالحرج.

إن ذهاب العقل والوعي بسبب السكر وما يترتب على ذلك من نتائج مؤسفة يوضح حالة الاضطراب التي يجلبها ذلك للمجتمع. فليس بمستغرب أن يفقد شخص ما كل ما يملك في ليلة واحدة على طاولة القمار، أو أن يندفع بتأثير السكر إلى ارتكاب جريمة قتل أو ممارسة العنف أو الانتحار أو غير ذلك من الموبقات. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الشرور وذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون " (المائدة:90-91)

يجتنب المؤمنون القمار لأن الإسلام يحرمه تحريما قاطعا. إن الخوف من الله الذي يعمر قلوبهم يضمن هذا الاجتناب ويعينهم عليه، فلا يستهويهم أبدا بالغا ما بلغت قوة الدافع وشدة الإغراء. والحق أنه ليس ثمة معاذير ومسوغات شرعية تتيح للمرء الوقوع في مثل هذا المنكر. وما كان لمؤمن أو مؤمنة أن يأثم بالتماس الأعذار وذلك لأنه لا مجال للمرونة أو التساهل في شيء حرمه الإسلام.

إنه لا يمكن الوثوق بقيم الغافلين عن قيم الدين وذلك لأنها تتغير تبعا لتغير الظروف والوقت والملابسات. لذلك تبرز تفسيرات شتى انطلاقا من هذه العوامل. فقد تجد القمار وأمثاله من المنكرات مرفوضة في بعض الأمكنة في حين تجدها مقبولة تماما حتى في نظر منكريها إذا مورست في أماكن معينة كالفنادق مثلا. فقد لا يجد الشخص الذي لا يقامر   حرجا البتة في لعب القمار إذا كان المكان ملائما لذلك.

إن السلوك القويم يقتضي مجانبة الشرور في كل الأحوال. وإن تقلب سلوك المرء بحسب الظروف والرفقة دليل على ضعف الشخصية. وليس يرجى من شخص يجهل قيم الدين أن يكون ذا شخصية أو إرادة قوية.

اختفاء مشكلة المخدرات

ذكرت إحدى وكالات الأنباء نقلا عن تقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة في عام 1997م أن 200 مليونا من سكان العالم يتعاطون المخدرات. ولا تنفك الصحف ومحطات التلفزة تعرض في كل يوم تقارير مطولة عن تعاطي وإدمان المخدرات الأمر الذي يصيب عقولنا بالخدر ويدفعنا إلى عد هذا الأمر من جملة الأشياء المعتادة. غير ن التأمل في هذه الشرور يتيح لنا فهما أفضل لوهن الأساس الذي يرتكز عليه هذا القبول. فهل يعقل أن يستسلم الإنسان الذي خصه الله بنعمة العقل وميزه بها عن كافة المخلوقات لإدمان مليجرامات قليلة من مادة ما ويفقد وعيه أو ينهار بالكامل إذا حرم منها؟

يتعاطى مدمنو المخدرات في الغالب الجرعة الأولى من المخدرات قائلين: "لا بأس من تجربة هذا الأمر مرة واحدة"، فتتولد فيهم، بوعي أو بدون وعي، نزعة تمرد. ثم يجدون أعذار "معقولة" لإدمانهم لكنها مع ذلك أعذار واهية. إن تلهي هؤلاء الأشخاص عن ضعف إرادتهم الشخصية يدفعهم  إلى الإنحاء باللائمة على من حولهم من الناس، حيث تصبح المشاكل الأسرية و الفشل في الدراسة و العمل والصراعات الاجتماعية والمشكلات المالية وتصعّب الأمور أو الاكتئاب لسبب أو لآخر، أسبابا كافية للتورط في مستنقع الإثم. وما إن تتلبسهم هذه الروح حتى تتكون لديهم نظرة سلبية للأمور ثم يغوصون أكثر في لجج السلبية والتشاؤم. 

يشعر هؤلاء الناس بالضعف أمام مصاعب الحياة. ولأنهم محرومون من معية الله ورفقته فإنهم لا يثقون بأحد، مما يزيّن لهم أن سداد الرأي يحتم عليهم نسيان كل شيء وأن يفقدوا الوعي الحقيقي. فتدفعهم هذه القناعة إلى زيادة كمية المخدرات التي يتعاطونها في كل يوم فيخربون حياتهم بأيديهم. كما يزيدهم إنكارهم للمعاد الأخروي وإيمانهم بأن الموت هو النهاية التي لا بعث بعدها يزيدهم حرصا على الاستمتاع بحياتهم إلى آخر مدى لكنهم يصابون بالهلع حين تتحول هذه الحياة إلى كابوس يقض مضاجعهم، فينتهون إلى ورطة وذلك حين تفتك المشكلات، التي تلقي بوطأتها الثقيلة على حياتهم اليومية، بصحتهم العقلية والجسدية.

إن هذه الحالة المرعبة من السخط والغضب الذي يجدونه إنما هو عقاب في هذه الدنيا على تهافتهم على شهواتهم بدلا من الحرص على إرضاء الله.

لقد وهب الله الإنسان حكمة وضميرا وعقلا وبشره بحياة مباركة في هذه الدنيا وفي الآخرة شريطة أن يكون همه هو إرضاء الله، فإن لم يفعل فالجحيم مصيره في الدنيا وفي الآخرة. والحق أن الذين يبتغون القرب من الله هم وحدهم الذين ينعمون بالأمن أملا في الفوز بالنعيم المقيم في فردوس الله الأعلى وطمعا في العيش الهانئ في الحياة الدنيا.

إن القرب من الله مالك السماوات والأرض وما بينهما هو بلا ريب أشد ركن يمكن أن يأوي إليه الإنسان، وهذا هو الذي يجعل المؤمنين أقوى الناس وأصلبهم قناة، قوة في الإرادة وقوة في الإدراك. إن عمق إيمانهم بالله وإخلاصهم لدينه الذي أنزل هو الذي يمدهم بهذه القوة.

إن الأمراض الاجتماعية كتعاطي المخدرات والكحول والقمار والعنف تنشأ بسبب الغفلة عن ذكر الله.

 وهي آفات يسلم منها كل من يعرف نعم الله عليه ومسئولياته تجاه مسبغ هذه النعم.

اختفاء البِغاء

"وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً"(الإسراء: 32)

إن الزنا، وهو أحد الأفعال التي حرمها الله، جريمة شنعاء تحط من قدر الإنسان في الدنيا والآخرة إن لم يتب صاحبها. ويجلب الزنا للمجتمع وللأفراد الذين يمارسونه أمراضا عديدة. أما المؤمنون فيجتنبون الزنا بل ويبغضونه لأن الله حرمه. ويجب أن لا يغيب عن البال أن الله يحث على الزواج والذي هو رابطة يباركها الإسلام.

وفوق ذلك، فإن الأذى الذي يلحقه الزنا بالمجتمع عامل آخر يعزز عزيمة المؤمنين على النفور منه والابتعاد عنه. كما يحذر المؤمنون من سوء عاقبة مرتكبي جريمة الزنا التي حرمها الله في القرآن تحريما قاطعا. ولقد أركس الزنا كثيرا من الناس اليوم وسلبهم الكرامة والثقة بالنفس والاحترام وسلكهم في نمط حياة مذل. كما هدم الزنا كثيرا من الأسر وملأ حياتها بالحزن والقلق وفاقم أزماتها النفسية. وما درى هؤلاء البؤساء أنهم سيحصلون على الأمن والاستقرار النفسي وسيستعيدون ثقتهم بأنفسهم وسيحافظون على أواصر الحب والاحترام فيما بينهم إن استجابوا لأمر الله وقصروا أنفسهم على الحلال المشروع. إلى جانب أن هذه العفة ستضمن سلامة الجو الأسري وسلامة المجتمع.

إن للزنا دوراً معروفاً في تحطيم المجتمعات وذلك لأنه يستهدف الركيزة الأولى في المجتمع وهي الأسرة. ويفقد الأشخاص الذين سقطوا في حمأة الزنا هيبتهم وكرامتهم الشخصية واحترام الناس من حولهم. ومن الخطأ الظن بأن الرغبة في الحصول على المال هي وحدها التي تدفع الناس إلى ممارسة الدعارة. ففي الغالب يكون هناك ميل شخصي نحو الزنا ولكن هذا لا يغير من حقيقة أنه زنا. وينشد الناس بوجه عام في مثل هذه الحالات الراحة النفسية وذلك بزعم أنهم "لا يرمون إلى تحقيق أي مكسب مادي من وراء علاقاتهم" لكن هذا تمويه وتضليل كبير إذ لا يرجى من شخص مرد على تجاوز حدود الله أن يقف عند حدود مشروعة. ويخبرنا الله في القرآن أنه حرم كافة أشكال العلاقات الجنسية التي تحدث خارج إطار الزواج. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نمتنع عن حصر البغاء في قالب معين واحد.

ومن جهة أخرى فإن قناعة أكثر الناس الذين يمارسون الزنا بحرمته وشناعته تملأهم هما وغما وتجعلهم فريسة لعذابات الضمير. ولن يفلح إنكارهم وجحودهم في إخفاء حقيقة أنهم قد فقدوا كرامتهم وثقتهم بأنفسهم.

إن نصب أماكن معينة لممارسة البغاء هو من الأضرار الأخرى التي تلحقها هذه الظاهرة بالمجتمع. وكلما زاد البغاء كلما زاد عدد هذه الأماكن مما يعجل بخراب المجتمع. إذ ينجذب الشباب إلى هذه المواضع وتضعف الروابط الأسرية ثم تكثر الخيانة. لكن الله يدعو إلى أوضاع يسودها الأمن والإخلاص والوفاء والثقة ويسمي ذلك نعمة.

لقد اختار كثير من الناس عبر تاريخ البشرية أن يتكسبوا بالبغاء فأركسوا بذلك أنفسهم وحطوا من أقدارها. ويعرض الزنا في أيام الناس هذه كطريق سهلة للكسب المادي. إذ تدفع الرغبة في الثراء كثيرا من الناس إلى أن يحيوا حياة مذلة مشينة. ويحذر الله الناس في القرآن من هذا الخطر فيقول: " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة:268)

لكن إذا لاذ الإنسان بكنف خالقه ودخل في زمرة المؤمنين فسيسوق له الله الرزق من حيث لا يحتسب ويغنيه من فضله. ولا ريب أن المؤمن الحق سينال بإذن الله الفضل في الدنيا والآخرة. لكن الله قد يبتلي عبده المؤمن فيقدر عليه رزقه، وفي هذه الحالة ينال المؤمن خيرا  عند خالقه إذا تأمل حال الحياة وحتمية زوالها.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإنسان قد يقع في أي نوع من الأخطاء في حياته. وليس بمستبعد أن يأتي المرء أفعالا محرمة في القرآن أو أن يقضي حياته في البغاء أو في أي لون آخر من ألوان العلاقات الجنسية المحرمة. لكن إذا تاب المرء وأناب إلى الله وخلصت بذلك نيته فإن الله سيقبل توبته إن شاء الله. لكن يتعين على المرء أيضا أن يدرك أن التوبة التي يقبلها الله ليست هي التوبة التي تأتي عند قدوم الموت. ولقد أوضح الله هذا الأمر في القرآن فقال: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {17} وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النساء: 17-18)

لا أحد يتكسب بفعل غير مشروع

أشرنا فيما مضى من فصول هذا الكتاب إلى حقيقة أن الناس المحرومين من قيم الدين لا يدركون حقيقة اليوم الآخر ولذلك تصبح الدنيا أكبر همهم ولا يعرفون حدودا في انسياقهم وراء شهواتهم. فهؤلاء الناس لا يتورعون عن عمل أي شيء في سبيل إشباع رغباتهم ولو أدى بهم ذلك إلى التضحية بكرامتهم. فهم، حسب منطقهم المعوج، سيموتون في نهاية المطاف ويتحولون إلى تراب ولذلك يتعين عليهم أن يستمتعوا بكل لحظة من حياتهم القصيرة. فيصبح المال بغيتهم الأولى وذلك لأنه في نظرهم الطريق الموصلة إلى النجاح والوسيلة التي يحصلون بها على ما يريدون. وهنا يتجلى ضعفهم الأخلاقي فيتكون لديهم استعداد لعمل كل شيء يجلب لهم المال بطريقة هينة ميسورة.

حري بهؤلاء الناس أن يقعوا في كل ما يمكن تصوره من ألوان الشرور كالخداع والخيانة والغش والسرقة والنصب والابتزاز وشهادة الزور. وإن في الأخبار التي تفيض بها الصحف اليومية عن هذه الممارسات لتأكيد لهذه الحقيقة، فمن منا لم يسمع بجرائم القتل التي أرتكبت بغرض الحصول على ميراث القتيل، ومن منا لم يسمع بتشجيع أناس لزوجاتهم وبناتهم وجيرانهم على ممارسة البغاء للحصول على المال أو غير ذلك من ضروب الغش.

لكن المؤمنين يعلمون أن الله هو الرزاق المتين. وليس معنى ذلك أنهم يجلسون في بيوتهم ينتظرون الرزق أن يأتيهم بل يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، لكن طمعهم في الدنيا محدود ولا يرد على خواطرهم هم باكتساب العيش من غير وجوهه المشروعة. إنهم يدركون أن رضوان الله لا ينال ألا بالصدق وبالتقوى، كما جاء في الحديث: "إن الله يحب المؤمن يحب أن يكون رزقه حلالا" (الطبراني). لكن الله يكافئهم على زهدهم في الحياة بأن يسبغ عليهم آلائه الكثيرة.

ماذا يحدث للمجتمعات عندما يتشبث أفرادها بأخلاق الإسلام؟

إن وجود قيم الدين يملأ النفوس بحب الله. ولهذا الحب تأثير إيجابي بالغ على الناس كافة. إن تطلع المؤمنين إلى نيل رضا الله وعفوه يدفعهم إلى التحلي بأفضل الأخلاق وإبداء المحبة والاحترام لبعضهم البعض فتتخلل معاني الرحمة والتسامح والعطف جميع مفاصل المجتمع ويتسابق الناس ويتنافسون على فعل الخيرات.

وفي المقابل، تحول خشية الله بين الناس وبين الوقوع في الإثم وبهذه الطريقة يقضى بسهولة على كل أنواع الشر وينفذ دفء الدين وروحه إلى سائر جوانب الحياة. ولا ريب أن المقصود بالدين هنا هو العقيدة الأصلية التي جاء بها القرآن والاستمساك بها بتجرد وإخلاص.

إن للأسرة وظيفة جوهرية في تكوين وبقاء أي مجتمع من المجتمعات. وحين يتمسك الناس بمبادئ الدين ويقيموا لها وجوههم تزدهر العلاقات وتقوى بين أفراد الأسرة ويسود الحب والاحترام الحقيقيين. وحين تفقد الأسرة يفقد مفهوم الدولة معناه، وذلك لأن الأسرة والدولة مفهومان متداخلان. إن تفكك الأسرة يعجل بنهاية المجتمع والدولة. وفي المجتمعات البعيدة عن هدى الدين ينزع الناس إلى التمرد والفوضى والخروج على سلطان الدولة.  وإذا دعت الحاجة إلى إظهار القيم الأخلاقية وحمايتها يحجم الأشخاص الذين تخلو قلوبهم من خوف الله عن المشاركة في تحقيق هذا الهدف. وحين تتعارض مصالح المجتمع مع المصالح  الشخصية يسارع الأشخاص المجردون من قيم الدين، حكاما كانوا أو محكومين، إلى تفضيل مصالحهم الفردية. ومما يجدر ذكره هنا أن هذا التفضيل للمصالح الشخصية يحمل صاحبه إلى التهرب من خدمة قومه حين تدعو الحاجة. ولهذا فليس بمستغرب أبدا أن يمارس هؤلاء الأشخاص أنشطة إرهابية. لكن الشخص المقتدي بهدي الدين لا يفرط في واجباته الوطنية بل لديه استعداد لتعريض حياته للخطر ذبا عن القيم التي يؤمن بها. إن مصالح الوطن في نظر مثل هذا الشخص مقدمة على مصالحه الشخصية.

في المجتمعات التي يسود فيها الوعي الديني يشعر الطلاب بالحب والاحترام تجاه الدولة ويدعمونها ولا يهاجمون قوات الشرطة أو قوات الجيش كما يحدث في المجتمعات الأخرى. إنهم يثمنون دور قوات الشرطة والجيش في حفظ الأمن. ويثق أفراد المجتمع بوجه عام بدولتهم وجيش وشرطة بلادهم ويعينونهم. وتنتهي انتفاضات الطلاب والصراعات بين الأخوة والنزاعات بين اليمين واليسار. وذلك لأنه لا يبقى شيء يشتجر حوله الناس بعد أن توحدت كلمتهم بشأن كتاب الله وما فيه من تعاليم تحث على التعاون والتعاضد.

 

إن حكم الدولة يصبح في ظل هذه الأوضاع سهلا ميسورا ويعم الأمن والرخاء ربوع البلاد. أما الأشخاص الذين يتولون إدارة شئون البلاد فيعاملون مواطنيهم برفق وإنصاف ولا يسومونهم الظلم والخسف. ويرد المواطنون التحية بأحسن منها فيحترمون مسئوليهم. ولا ريب أن دولا بهذا الوصف لتنهض على أساس متين.

إن البعد عن أخلاق الإسلام يجعل الأب عدوا لابنه وبالعكس، ويولد الشقاق بين الاخوة، ويدفع أصحاب العمل إلى ظلم موظفيهم وهكذا تنتظم الفوضى الاجتماعية كافة قطاعات المجتمع، فتتوقف المصانع والشركات عن العمل بسبب الفوضى ويستقل الأثرياء عرق الفقراء. أما في مجال العمل التجاري فيغلب الغش على كافة المعاملات. وهكذا تصبح الفوضى والصراعات طريقة حياة لأفراد المجتمع. وسبب ذلك كله تجرد الناس من خشية الله. وذلك لأن الشخص الذي لا يرجو لله وقارا لا يتورع عن الظلم أو عن اللجوء إلى العنف المفرط والقسوة، بل وحتى القتل. كما يدفعهم موت الضمير إلى الإصرار والتبجح بفعالهم المقبوحة. وعلى النقيض من ذلك فإن الشخص الذي يخاف عذاب الله الذي أعده للظالمين يوم القيامة يحجم عن إتيان هذه المعاصي. إن منظومة الخلق الإسلامي تمنع وقوع هذه الأفعال وذلك لأن كل شيء يعالج برفق وهدوء وبالتي هي أحسن، فلا أخطاء ولا تجاوزات قانونية تحدث وتخلو ساحات المحاكم ومراكز الشرطة من القضايا والمرافعات.

إن الاستقرار العقلي الذي ينعم به أفراد المجتمع قاطبة يعود بالخير والبركة على المجتمع. وتنتعش حركة البحث العلمي فلا يمر يوم دون حدوث تقدم تقني أو اكتشاف علمي جديد ثم يسخر كل ذلك في خدمة المجتمع ككل. وتزدهر الثقافة ويسعى القادة لتحقيق الرفاه العام للمجتمع. وهذا الازدهار هو نتيجة لتحرر أرواح الناس وعقولهم من الضغوط. وذلك لأن هدوء البال يشحذ الذهن ويعمّق الفكر. إن الحياة القائمة على الاستقامة الخلقية تجلب للناس السعادة والنجاح الاقتصادي والزراعي والصناعي.

إن الفقر والجوع وسفك الدماء والعنف الذي ينتظم العالم تعود جذوره إلى المنطق الذي يعد جميع هذه الشرور أمرا معتادا ولا مناص منه. ويسمح هذا المنطق بقتل النساء والأطفال المساكين لا لشيء إلا لأنهم ينتمون لعرق آخر، أو يسمح بتجويعهم في الوقت الذي يعاني فيه الآخرون ممن التخمة. وجميع هذه الأمور تحدث لأن هذا المنطق المذكور يعدها من "قوانين الحياة الثابتة". لكن هذا العنف ليس "قانونا من قوانين الحياة" بل هو أحد "قوانين الكفر". وهذه البشاعات ستتلاشى إلى الأبد وسيسود العدل والرحمة ربوع العالم إذا آب الناس لقيم القرآن.

أما في مضمار الفنون والآداب فتحدث نهضة كبيرة. فالناس الذين تتبخر أحلامهم ويضيق أفقهم بما يجابهون من فتن وأزمات يومية يمكنهم التخلص من هذه المشكلات بالتشبث بقيم الدين. وكأثر لذلك يبدع الناس في الفنون وتبلغ قدراتهم ومواهبهم غايتها القصوى. والشخص الذي يدرك أن الله قد نفخ فيه من روحه وبشره بجنة تزخر بالمجد والفن وغير ذلك من آلاء يأتي دونها الحصر يتولد فيه تشوف وتطلع إلى بلوغ غايات الكمال الفني والجمالي. وفوق ذلك، فإن الحب الذي تنطوي عليه جوانحه لمن حوله من الناس سيعزز التزامه بتقديم أفضل ما عنده.

لكن الناس المحرومين من أخلاق وقيم الدين لا تجد فيهم اهتماما ولا تطلعا إلى إثراء أرواحهم. فلا يشعرون البتة بالرغبة في التعامل مع الآخرين بخلق حسن وذلك لأن هؤلاء الآخرين ليسوا في نظرهم سوى أحفاد قرود مآلهم إلى الفناء. وغاية هؤلاء الناس في الحياة هي أن يتبعوا شهواتهم التي تمليها عليهم غرائزهم الأنانية الحيوانية.  غير أن تتبع شهوات النفس لا يسعد الروح الإنسانية ولا يزكيها بل يصيبها بالتبلد والتحجر. فهؤلاء الناس لا يرجى منهم إضافة شيء ذي بال إلى الفن والأدب، كما أنهم يفقدون القدرة على تذوق الفن والجمال والانفعال بهما. والبلد الذي لا يستمتع أهله بالفن والجمال الحقيقي يصاب أهل الفن والأدب فيه بالإحباط فتعقم قرائحهم أن تنتج إبداعا فنيا حقيقيا. ويغدو الجري وراء المال والشهرة الهدف الأول للفنانين والأدباء فتأتي أعمالهم الفنية ممسوخة وزائفة.

وختاما، فإنه حين يتمسك الناس بقيم الدين التي جاء وصفها في القرآن تستحيل حياتهم إلى فردوس ويغدو الانسجام والتناسق الاجتماعي الذي هفت إليه أفئدة الناس في كل العصور وأصبح في نظرهم حلما صعب التحقق، يغدو واقعا معاشا في فترة زمنية قصيرة.

قيم القرآن هي الحل

تطرقنا عبر فصول هذا الكتاب إلى وجهة نظر وأنماط سلوك الأشخاص البعيدين عن قيم الدين وناقشنا السمات الأساسية للمجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد. وحللنا طريقة عيشهم الموبوءة بالمشكلات والأزمات المعضلة وما يترتب عليها من ضرر نفسي وجسدي. كما تعرضنا بالوصف للحياة المباركة لمجتمعات المؤمنين وذكرنا أن ما تتسم به حياة المؤمنين من سلام وأمن ليس سوى انعكاس لحقيقة أن القرآن يطرح الحلول لكافة أنواع المشاكل. بل يوفر القرآن الحل الأنجع والأعقل لأي مشكلة أو معضلة كانت.

إن التمسك بأخلاق القرآن يسكب السعادة والأمن في الروح الإنسانية ويضع حدا لكل صنوف الظلم والصراعات والحروب والإجحاف والسرف والقلق والتعصب والقسوة والعنف. ويرشد ويوجه العلاقات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية ويضع حدا للتدافع بين أفراد الأسرة والأقارب والمجتمع ككل. لقد جاء القرآن بأفضل وأكمل وأنجع الحلول. وفوق ذلك، يرشد القرآن الإنسان إلى أقوم الخلق وأفضل السلوك للتعامل مع أي قضية وفي ظل أي ظرف. وإن مجتمعا يكون أفراده مثالا يتجلى فيه هذا السمو الأخلاقي سيهتدي إن شاء الله إلى أفضل الهياكل الاجتماعية التي لهث وراءها البشر من قديم العصور. إن اشتمال القرآن على حلول لجميع المشكلات تبينه الآية التي يقول فيها رب العزة: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون" (يوسف: 11)

لا يمكن للناس بدون هدي القيم الإسلامية أن يأتوا بحلول عملية لمشكلاتهم الشخصية والاجتماعية. والحق أن التاريخ يزخر بمشكلات كثيرة ظلت بلا حل حتى نزول القرآن. وطالما استمر الإنسان في تجاهله للدين الحق فإنه لا محالة سيواجه مشكلات وأزمات يعجز عن التعامل معها. وهذا هو المصير الذي ينتظر الغافلين عن الدين في الحياة الدنيا أما العذاب الذي ينتظرهم في الدار الآخرة فهو أنكى وأبقى. 

إن الله هو وحده المحيط بأحوال الإنسان، وقد زود الله الإنسان في كل العصور بكل أنواع التفسيرات والتوضيحات والمعارف من خلال الدين الحق. ويخبرنا الله في القرآن أن الإنسان سينال السعادة في الدنيا إذا اقتفى أثر القرآن: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون" (النحل: 97).لكن إذا أصر الإنسان على التنكر لهدي الله وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فستناله سيئات ما قدمت يداه. وذلك لأن تجاهل القرآن يعني الحرمان من نور الله. فلا تجارب الإنسان الشخصية ولا تجارب الأجيال السابقة ستغني عن الإنسانعند التعامل مع المشكلات التي سيواجهها في مسيرة حياته. بل سيغرق في مستنقع الغم والهم والضغط النفسي والحيرة والفشل. وبعد حين سيستسلم هذا الإنسان لهذا الوضع ويحيا حياته الحاضرة معتقدا أن النكبات التي تحل به، والتي هي في الحقيقة ثمرة للكفر، حقائق حياتية لا تتغير.

إن سبيل الخلاص واضحة بينة، ألا وهي الالتفات إلى الله خالق الكون والركون إليه وابتغاء السعادة وراحة البال في التمسك بالدين الذي ارتضاه الله لنا. لقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن الالتفات إلى الدين هو طوق النجاة في الحياة وبشرنا أنه سينجي عباده المخلصين من الخوف بشرط أن يسمعوا ويطيعوا له: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون" (النور-55)

المصدر : موقع هارون يحيى www.harunyahya.com

 

 

مواضيع ذات علاقة

اسم الموضوع

هجري

تاريخ الموضوع

الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم

25 شعبان 1429

2008/08/26