قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ اختلف المفسرون في هذه
الوصية، هل كانت واجبة أم لا على قولين:
أحدهما: أنها كانت ندبا لا واجبة، وهذا مذهب جماعة منهم [الشعبي] والنخعي واستدلوا
بقوله بِالْمَعْرُوفِ قالوا: المعروف لا يقتضي الإيجاب وبقوله: عَلَى الْمُتَّقِينَ
والواجب لا يختص به المتقون.
والثاني: (أنها كانت فرضا ثم نسخت، وهو قول جمهور المفسرين، واستدلوا بقوله: كُتِبَ
وهو بمعنى فرض كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وقد نص أحمد في رواية
الفضل بن زياد، على نسخ هذه الآية، فقال: الوصية للوالدين، منسوخة وأجاب أرباب هذا
القول أهل القول الأول، فقالوا: ذكر المعروف لا يمنع الوجوب، لأن المعروف بمعنى
العدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير كقوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولا خلاف في وجوب هذا [الرزق والكسوة،
فذكر المعروف في الوصية لا يمنع وجوبها بل يؤكده، وكذلك تخصيص الأمر بالمتقين دليل
على توكيده لأنها إذا وجبت على المتقين كان وجوبها على غيرهم أولى، وإنما خصهم
بالذكر، لأن فعل ذلك من تقوى الله تعالى، والتقوى لازمة لجميع الخلق.
فصل: ثم اختلف القائلون، بإيجاب الوصية ونسخها بعد ذلك، في المنسوخ من الآية على
ثلاثة أقوال:
أحدها: أن جميع ما في الآية من إيجاب الوصية منسوخ، قاله ابن عباس =رضي الله عنهما=
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي،
قالا أخبرنا ابن شاذان، قال: أبنا أحمد بن كامل، قال: أبنا محمد بن سعد، قال: حدثني
أبي، قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية قال: حدثني أبي عن جدي عن عبد الله بن
عباس =رضي الله عنهما= إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ قال: نسخت الفريضة التي للوالدين والأقربين "الوصية".
أخبرنا بن ناصر، قال: أبنا ابن أيوب، قال: أبنا ابن شاذان، قال: أبنا أبو بكر
النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا الحسن بن محمد. وأخبرنا إسماعيل بن
أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أبنا علي بن محمد بن بشران، قال:
أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي
"قال" بنا حجاج قال: بنا ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس =رضي الله عنهما=
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ نسختها لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ الآية أخبرنا
عبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف قال: أبنا محمد بن مرزوق، قال: أبنا أبو بكر
الخطيب، قال: أبنا ابن رزق، قال: أبنا أحمد بن سلمان، قال: بنا أبو داود، قال: بنا
أحمد بن محمد، هو المروزي، قال: حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه عن يزيد
النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس =رضي الله عنهما= إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث أخبرنا
أبو بكر العامري، قال: أبنا علي بن الفضل، قال: أبنا ابن عبد الصمد، قال: أبنا ابن
حموية، قال: بنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: أبنا النضر بن شميل،
قال: أبنا ابن عون عن ابن سيرين، قال: كان ابن عباس يخطب، فقرأ هذه الآية إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ فقال: هذه نسخت قال
عبد الحميد: وحدثنا يحيى بن آدم عن ابن حماد الحنفي عن جهضم عن عبد الله بن بدر
الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يسأل عن هذه الآية الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ قال: نسختها آية المواريث.
قال عبد الحميد: وحدثنا يحيى بن آدم عن محمد بن الفضيل، عن أشعث عن الحسن إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ قال: نسختها آية
الفرائض. قال عبد الحميد وأخبرني شبابة عن ورقاء عن "ابن أبي نجيح" عن مجاهد قال:
كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين، فهي منسوخة وكذلك قال: سعيد بن
جبير: (إن ترك خيرا الوصية قال: نسخت).
القول الثاني: أنه نسخ منها الوصية للوالدين: أخبرنا عبد الوهاب، قال: أبنا أبو
ظاهر الباقلاوي، قال: أبنا ابن شاذان، قال: أبنا عبد الرحمن ابن الحسن، قال: بنا
إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم عن الورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا الْوَصِيَّةُ قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ
منه الوالدين أخبرنا إسماعيل، قال: أبنا أبو الفضل البقال قال: أبنا بن بشران، قال:
أبنا إسحاق الكاذي، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال:
بنا أسود بن عامر، قال: بنا إسرائيل، عن مغيرة عن إبراهيم، قال: كانت الوصية
للوالدين فنسختها آية الميراث، وصارت الوصية للأقربين.
قال أحمد: وحدثنا أبو داود عن زمعة عن ابن طاؤس عن أبيه قال: نسخت الوصية عن
الوالدين، وجعلت للأقربين.
قال أبو داود: وحدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سألت العلاء بن
زياد ومسلم بن يسار عن الوصية، فقالا هي للقرابة.
القول الثالث: إن الذي نسخ من الآية الوصية "لمن" يرث ولم ينسخ الأقربون الذين لا
يرثون، رواه عكرمة عن ابن عباس =رضي الله عنهما=، وهو قول الحسن والضحاك وأبي
العالية.
أخبرنا أبو بكر العامري، قال: أبنا علي ابن الفضل، قال: أبنا ابن عبد الصمد، قال:
أبنا عبد الله بن أحمد، قال: أبنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال بنا
مسلم بن إبراهيم عن همام بن يحيى، عن قتادة قال: أمر أن يوصي لوالديه، وأقربيه ثم
نسخ الوالدين والحق لكل ذي ميراث نصيبه منها، وليست لهم منه وصية فصارت الوصية لمن
لا يرث من قريب أو غير قريب.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا أبو الفضل البقال، قال: بنا أبو الحسن بن بشران
قال: أبنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي قال:
حدثنا هشيم، قال: أبنا يونس عن الحسن، قال: كانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ
ذلك، وأثبتت لهما نصيبهما في سورة النساء وصارت الوصية للأقربين الذين لا يرثون،
ونسخ من الأقربين كل وارث قال أحمد: وحدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: أمر الله أن يوصي لوالديه
وأقربائه ثم نسخ ذلك في سورة النساء فألحق لهم نصيبا معلوما، والحق لكل ذي ميراث
نصيبه منه وليست لهم وصية، فصارت الوصية لمن لا يرث من قريب أو بعيد أخبرنا أبو بكر
العامري، قال: أبنا علي بن الفضل، قال: أبنا ابن عبد الصمد قال: أبنا ابن حموية،
قال: أبنا إبراهيم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يحيى بن آدم، قال: بنا إسماعيل
بن عياش، قال: بنا شرحبيل بن مسلم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث).