قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
اختلف العلماء هل في هذه الآية منسوخ أم لا على قولين:
أحدهما: أن فيها منسوخا، واختلف أرباب هذا القول فيه على قولين:
أحدهما: أنه قوله: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ قالوا: وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة فصده المشركون عن أداء عمرته
فقضاها في السنة الثانية في ذي القعدة فاقتضى هذا، أن من فاته أداء ما وجب عليه
بالإحرام الذي عقده في الأشهر الحرم أن يجب عليه قضاؤه في مثل ذلك الشهر الحرام، ثم
نسخ ذلك وجعل له قضاؤه أي وقت شاء، أما في مثل ذلك الشهر أو غيره، قال شيخنا علي بن
عبيد الله: وممن حكى ذلك عنه عطاء.
قلت: وهذا القول لا يعرف عن عطاء ولا يشترط أحد من الفقهاء المشهورين على من منع من
عمرته أو أفسدها أن يقضيها في مثل ذلك الشهر.
والثاني: أنه قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
ثم اختلف أرباب هذا القول في معنى الكلام ووجه نسخه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذا نـزل بمكة، والمسلمون قليل ليس لهم سلطان يقهرون به المشركين، وكان
المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى فأمر الله تعالى المسلمين أن يأتوا إليهم مثل ما
أتوا إليهم أو يعفوا ويصبروا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
وأعز الله سلطانه نسخ ما كان تقدم من ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس =رضي
الله عنهما=.
والثاني: أنه كان في أول الأمر إذا اعتدي على الإنسان فله أن يقتص لنفسه بنفسه من
غير مرافعة إلى سلطان المسلمين ثم نسخ ذلك بوجوب الرجوع إلى السلطان في إقامة
الحدود والقصاص، قال شيخنا وممن حكي ذلك عنه ابن عباس =رضي الله عنهما= قلت: وهذا
لا يثبت عن ابن عباس ولا يعرف له صحة، فإن الناس ما زالوا يرجعون إلى رؤسائهم،
وسلاطينهم في الجاهلية والإسلام إلا أنه لو أن إنسانا استوفى حق نفسه من خصيمه من
غير سلطان أجزأ ذلك وهل يجوز له ذلك؟ فيه روايتان عن أحمد.
والثالث: أن معنى الآية فمن اعتدى عليكم في الشهر الحرام فاعتدوا عليه فيه ثم نسخ
ذلك، وهذا مذكور عن مجاهد، ولا يثبت ولو ثبت كان مردودا، بأن دفع الاعتداء جائز في
جميع الأزمنة عند جميع العلماء، وهذا حكم غير منسوخ، والصحيح في هذه الآية أنها
محكمة غير منسوخة فأما أولها فإن المشركين لما منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
من دخول مكة في شهر حرام اقتص لنبيه عليه السلام بإدخاله مكة في شهر حرام.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن خيرون وأبو طاهر
الباقلاوي، قال: أبنا أبو علي بن شاذان، قال: أبنا أحمد بن كامل القاضي، قال: أبنا
محمد بن سعد العوفي، قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي الحسين بن حسن بن عطية، قال:
حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس =رضي الله عنهما= قال: كان المشركون حبسوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت ففخروا عليه بذلك فرجعه الله في ذي
القعدة فأدخله البيت الحرام فاقتص له منهم فأما قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فقال سعيد بن جبير: كان المشركون قد عاهدوه يوم الحديبية أن يخلوا له مكة ولأصحابه
العام المقبل ثلاثة أيام، فلما جاء العام الذي كان الشرط بينهما قفل رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه محرمين بعمرة فخافوا، أن لا "يوف" لهم المشركون بما شرطوا
وأن يقتلوهم عند المسجد الحرام، وكره المسلمون القتال في شهر حرام وبلد حرام فنـزلت
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أي: من قاتلكم من المشركين في
الحرم فقاتلوه فإن قال قائل: فكيف يسمى الجزاء اعتداء؟ فالجواب: أن صورة الفعلين
واحدة وإن اختلف حكماهما، قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلا] ن فظلمته: أي:
جازيته بظلمه، وجهل علي فجهلت عليه، أي جازيته بجهله.
قلت: فقد بان بما ذكرنا أن الآية محكمة ولا وجه لدخولها في المنسوخ أصلا.