قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
اختلف العلماء هل هذا محكم أو منسوخ على قولين:
أحدهما: أنه منسوخ.
أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري، قال: أبنا علي بن الفضل، قال: أبنا ابن عبد الصمد،
قال: أبنا عبد الله بن حموية، قال: أبنا إبراهيم بن حريم، قال: أبنا عبد الحميد،
قال: بنا إبراهيم عن أبيه عن عكرمة اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال ابن عباس:
فشق ذلك على المسلمين فأنـزل الله عز وجل بعد ذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ قال عبد الحميد: وأبنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ قال: نسختها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد الله، قال: أبنا ابن بشران، قال:
أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: بنا
عبد الرزاق قال: بنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ قال: أن يطاع فلا يعصى، ثم نسخها قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ.
أخبرنا المبارك بن علي، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا أبو إسحاق
البرمكي، قال: "أبنا محمد" بن إسماعيل بن العباس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود،
قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا ابن بكير، قال: بنا ابن لهيعة عن عطاء بن دينار
عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ اشتد على القوم
"العمل فقاموا" حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنـزل الله تخفيفا عن المسلمين
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت الآية الأولى وعن ابن لهيعة عن أبي صخر
عن محمد بن كعب اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: نسختها فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ.
قال أبو بكر: وحدثنا محمد بن الحسين بن أبي حنيف، قال: أبنا أحمد بن المفضل، قال:
أبنا أسباط عن السدي قال: أما حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر
فلا يكفر فلم "يطق" الناس هذا فنسخها الله عنهم فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وإلى هنا ذهب الربيع بن أنس، وابن زيد، ومقاتل بن سليمان. ومن نص هذا
القول قال: حق تقاته: هو القيام له بجميع ما يستحقه من طاعة واجتناب معصية، قالوا:
هذا أمر تعجز "الخلائق" عنه، فكيف بالواحد منهم فوجب أن تكون منسوخة وأن تعلق الأمر
بالاستطاعة [ويوضح] هذا ما أخبرنا به يحيى بن علي المدير قال: [أبنا أبو] الحسين بن
المنصور قال: أبنا [أحمد بن] محمد الحرزي، قال: أبنا البغوي، قال: بنا محمد بن
بكار، قال: بنا محمد بن طلحة عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود =رضي الله عنه= اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا
يكفر.
والقول الثاني: أنها محكمة.
أخبرنا المبارك بن علي، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا إسحاق
البرمكي، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال:
بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس =رضي الله عنهما= اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: لم تنسخ.
ولكن حق تقاته: أن تجاهدوا في الله حق جهاده. ولا تاخذهم في الله لومة لائم ويقوموا
لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وهذا مذهب طاؤس وهو الصحيح ؛ لأن
التقوى: هو اجتناب ما نهى الله عنه، ولم ينه عن شيء ولا أمر به إلا وهو داخل تحت
"الطاقة" كما قال عز وجل لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا فالآيتان
متوافقتان، والتقدير: اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، فقد فهم الأولون من الآية
تكليف ما لا يستطاع فحكموا بالنسخ وقد رد عليهم ذلك قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وإنما قوله حق تقاته كقوله حق جهاده الحق هاهنا بمعنى
الحقيقة ثم إن هفوة المذنب لا تنافي أن يكون مكلفا للتحفظ، وإنما شرع الاستغفار
والتوبة بوقوع الهفوات. وقال أبو جعفر النحاس: (معنى قول الأولين نسخت هذه الآية أي
أنـزلت الأخرى بنسختها وهما واحد، وإلا فهذا لا يجوز أن ينسخ، لأن الناسخ هو
المخالف للمنسوخ من جميع جهاته الرافع له المزيل حكمه) وقال ابن عقيل: ليست منسوخة،
لأن قوله: مَا اسْتَطَعْتُمْ بيان لحق تقاته "وأنه تحت" الطاقة فمن سمى بيان القرآن
نسخا فقد أخطأ وهذا في تحقيق الفقهاء يسمى: تفسير مجمل أو بيان مشكل، وذلك أن القوم
ظنوا أن ذلك تكليف "ما لا يطاق" فأزال الله إشكالهم فلو قال: لا تتقوه حق تقاته كان
نسخا وإنما بين أني لم أرد بحق التقاة، ما ليس في الطاقة.