المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قوادح عقدية في بردة البوصيري د. عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف


محب الأقصى
02-26-2011, 10:12 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

قوادح عقدية في بردة البوصيري
د. عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن ميميه البوصيري - المعروفة بالبردة - مـن أشـهــــر الـمــدائـح النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، ولذا تنافس أكثر من مائه شاعر في معارضتها، فضلاً عن الـمـشـطِّرين والمخمِّسين والمسبِّعين، كما أقبل آخرون على شرحها وتدريسها، وقد تجاوزت شروحـهـــــا الـمكتوبة خمـسـيـن شــرحـــــاً، فيها ما هو محلى بماء الذهب! وصار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن.
يـقــول الـدكـتـور زكـي مـبــارك : وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عـقـــــد الدروس في يومي الخميس والجمعة لدراسة حاشية الباجوري على البردة، وهي دروس كـانـت تـتـلـقـاهــــا جماهير من الطلاب، وانما كانوا يتخيرون يومي الخميس والجمعة، لأن مـثــل هذا الـــدرس لم يـكـــن من المقررات فكانوا يتخيرون له أوقات الفراغ(1).

وقد أطلق البوصيري على هذه القصيدة البردة من باب المحاكاة والمشاكلة للقصيدة الشهيرة لـكـعـــــب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ فقد اشتهر أن النـبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى كعباً بردته حين أنشد القصيدة - إن صح ذلك - (2) فـقــــد ادعى البوصيري - في منامه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى عليه بردة حين أنشده القصيدة !!

وقد سمى البوصيري هذه القصيدة أيضاً بـ الكواكب الدرية في مدح خير البرية(3). كما أن لهذه البردة اسماً آخـــــر هو الـبرأة ؛ لأن البوصيري كما يزعمون برئ بها من علته، وقد سميت كذلك بقصيدة الشـدائــد ؛ وذلك لأنها - في زعمهم - تقرأ لتفريج الشدائد وتيسير كل أمر عسير.
وقـد زعم بعض شراحها أن لكل بيت من أبياتها فائدة ؛ فبعضها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون(4).

يقــــول محمد سيد كيلاني - أثناء حديثه عن المخالفات الشرعية في شأن البردة -: ولم يكـتـف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول البردة، بل وضعوا لقراءتها شروطاً لم يوضــع مثلها لقراءة القرآن، منها : التوضؤ، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابـهــــــا، وأن يكون القارئ عالماً بمعانيها، إلى غير ذلك. ولا شك في أن هذا كله من اختراع الصوفـيــة الذين أرادوا احتكار قراءتها للناس، وقد ظهرت منهم فئة عرفت بقراء البردة، كانت تُستدعى في الجنائز والأفراح، نظير أجر معين(5).
وأما عن مناسبة تألـيـفـها فكما قال ناظمها : كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثـــم اتفق بعد ذلك أن أصابني خِلْط فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فـعـمـلـتـهـــا، واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت ودعوت، وتوسلت ونمت، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بــردة، فـانـتـبـهــت ووجــدت فيّ نهضة ؛ فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء، فقال لي : أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت : أيّها؟ فقال : التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولّها، وقال : والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت رسول الله -صلى الله عـلـيــــه وسلم-، يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكــر الفقير ذلك، وشاع المنام(6).


ففي هذه الحادثة تلبّس البوصيري بجملة من المزالق والمآخذ، فهو يستشفع ويتقرب إلى الله - تعالى - بشرك وابتداع وغلو واعتداء - كما سيأتي موضحاً إن شاء الله -.
ثم ادعى أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يبيّن نعته ؛ فإن من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- حسب صفاته المعلومة فقد رآه، فإن الشيطان لا يتمثل بــــه - كما ثبت في الحديث -.


ثـم ادعــى أن النبي في -صلى الله عليه وسلم- مسح على وجهه وألقى عليه بردة، فعوفي من هذا الفالج، فتحققت العافية بعد المنام دون نيل البردة! ثم التقى البوصيري - في عالم اليقظة - بأحد المتصوفة وأخبره بسماع القصيدة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسـلــم، وأن الرســــــول -صـلـى الله عليه وسلم- تمايل إعجاباً بالقصيدة، وهذا يذكّرنا بحديث مكذوب بأن النبي -صلــى الله عليه وسلم- تواجد عند سماع أبيات حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال: ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب.
قال شيخ الإسلام : إن هذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته وأحواله(7).
وأما عن استجابة دعاء البوصيري مع ما في قصيدته من الطوامَّ، فربما كان لاضطراره وعظم فاقته وشدة إلحاحه السبب في استجابة دعائه.

يقول شيخ الإسلام : ثم سـبـب قـضــــاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطراً ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وان كان تحري الدعاء عند الوثن شركاً، ولو استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فـإنــــه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعفُ الله عنه، فكم من عبد دعا دعاء غير مبــاح، فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة(8).
وأما عن التعريف بصاحب البردة فهو : محـمــــد بن سعيد البوصيري نسبة إلى بلدته أبو صير بين الفيوم وبني سويف بمصر، ولد سنة 608هـ، واشتغل بالتصوُّف، وعمل كاتباً مع قلة معرفته بصناعة الكتابة، ويظهر من ترجمته وأشعاره أن الناظم لم يكن عالماً فقيهاً، كما لم يكن عابداً صالحاً ؛ حيث كان ممقوتاً عند أهـــــــل زمانه لإطلاق لسانه في الناس بكل قبيح، كما أنه كثير السؤال للناس، ولذا كان يقـف مــــــع ذوي السلطان مؤيداً لهم سواء كانوا على الحق أم على الباطل.



ونافح البوصيري عن الطريقة الشاذلية التي التزم بها، فأنشد أشعاراً في الالتزام بآدابها، كما كانت له أشعار بذيئة يشكو من حال زوجه التي يعجز عن إشباع شهوتها!
توفي البوصيري سنة 695هـ وله ديوان شعر مطبوع(9).


وسنورد جملة من المآخذ على تلك البردة التي قد تعلّق بها كثير من الناس مع ما فيها من الشرك والابتداع. والله حسبنا ونعم الوكيل.


1- يقول البوصيري :
وكيف تدعو إلى الدنيا ضـرورة مـن لـولاه لم تُخرج الدنيا من العدم
ولا يخفى ما في عَجُز هذا البيت من الغلو الشنيع في حق نـبـيـنــا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث زعم البوصيري أن هذه الدنيا لم توجد إلا لأجله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال - سبحانه: ((ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]،
وربما عوّل أولئك الصوفية على الخبر الموضوع : لولاك لما خلقت الأفلاك(10).



2- قال البوصيري :
فاق النبيين في خَلق وفي خُلُق ولـم يـدانــوه في عــلـــم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
أي أن جميع الأنبياء السابقين قد نالوا والتمسوا من خاتم الأنبيـاء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، فالسابق استفاد من اللاحق! فتأمل ذلك وقارن بينه وبين مقالات زنادقة الصوفية كالحلاج القائل : إن للنبي نوراً أزلياً قديماً كان قبل أنــــــه يوجد العالم، ومنه استمد كل علم وعرفان ؛ حيث أمدّ الأنبياء السابقين عليه.. وكذا مقالـة ابن عربي الطائي أن كل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي يأخذ من مشكاة خاتم النبيين(11).




3- ثم قال :
دع ما ادعته النصارى في نـبـيـهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - منتقداً هذا البيت : ومن المعلوم أن أنواع الغلو كثيرة، والشرك بحر لا ساحل له، ولا ينحصر في قول النصارى ؛ لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان وأهل الجاهلية كذلك، وليس فيهم من قال في إلهه ما قالت النصارى في الـمـسـيـــح - غالباً - : إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله، لكن عبدوها معه لاعتقادهم أنها تشفع لهم أو تنفعهم فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات على أن قوله في منظومته : دع ما ادعته النصارى في نبيهم مَخْلَصٌ من الغلو بهذا البيت، وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة(12).
لقد وقع البوصيري وأمثاله من الغلاة في لبس ومغالطة لمعنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- : لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مـريـم إنـمــــــــا أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله(13)، فزعموا أن الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث هـــــو الإطراء المماثل لإطراء النصارى ابن مريم وما عدا ذلك فهو سائغ مقبول، مع أن آخر الحديث يردّ قولهم ؛ فإن قوله - عليه الصلاة والسلام - : إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله تقرير للوسطية تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يُكذب، والمبالغة في مدحه تؤول إلى ما وقع فيه النصارى من الغلو في عيسى - عليه السلام -، وبهذا يُعلم أن حرف الكاف في قوله -صلى الله عليه وسلم- : كما أطرت هي كاف التعليل، أي كما بالغت النصارى(14).
ويقول ابن الجوزي - في شرحه لهذا الحديث - : لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه ؛ لأنَّا لا نعلم أحداً ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى - عليه السلام - وإنما سبب النهي فيما لم يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له فامتنع ونهاه ؛ فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك فبادر إلى النهي تأكيداً للأمر(15).





4 - وقال أيضاً :
لو ناسبت قــدره آيــاتــه عِظماً أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم
يقول بعض شرّاح هذه القصيدة : لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند الله - تعالى - وكل قربه وزلفاه عنده لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره(16).
يقول الشيخ محمود شكري الآلوسي منكراً هذا البيت : ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو ؛ فإن من جملة آياته -صلى الله عليه وسلم- القرآن العظيم الشأن ؛ وكيف يحل لمسلم أن يقول : إن القرآن لا يناسب قدر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو منحط عن قدره ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لها تحيي دارس الرمم؟(17).




5- وقال أيضا :
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق منه وملتثم
فقد جعل البوصيري التراب الذي دفنت فيه عظام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطيب وأفضل مكان، وأن الجنة والدرجات العلا لمن استنشق هذا التراب أو قبَّله، وفي ذلك من الغلو والإفراط الذي يؤول إلى الشرك البواح، فضلاً عن الابتداع والإحداث في دين الله - تعالى -.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد(18).





6- ثم قال :
أقسمتُ بالقمر المنشق إنّ له من قلبه نسبةً مبرورة القسم
ومن المعلوم أن الحلف بغير الله - تعالى - من الشرك الأصغر ؛ فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك(19).
وقال ابن عبد البر - رحمه الله - :لا يجوز الحلف بغير الله - عز وجل - في شيء من الأشياء ولا على حال من الأحوال، وهذا أمر مجتمع عليه... إلى أن قال : أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز الحلف بها لأحد(20).




7- قال البوصيري :
ولا التمست غنى الدارين من يــده إلا استلمت الندى من خير مستلم
فجعل البوصيري غنى الدارين مُلتَمساً من يد النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع أن الله - عز وجل - قال : ((ومَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) [النحل:53]، وقال - سبحانه - : ((فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ)) [العنكبوت:17]، وقال - تعالى - : ((قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ) [يونس:31]، ((قُلِ ادْعُوا الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ)) [سبأ:22] .
وأمر الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة المذكورة في قوله - تعالى - : ((قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ)) [الأنعام:50].




8- قال البوصيري :
فإن لي ذمة منه بتسمـيـتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
وهذا تخرُّص وكذب ؛ فهل صارت له ذمة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمجرد أن اسمه موافق لاسمه؟! فما أكثر الزنادقة والمنافقين في هذه الأمة قديماً وحديثاً الذين يتسمون بمحمد!
و يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - تعقيباً على هذا البيت : قوله : فإن لي ذمة... إلى آخره كذب على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- فليس بينه وبين اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك(21).
فالاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة(22).




9- وقال البوصيري :
إن لم يـكـن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة الـقــدم
والشاعر في هذا البيت ينزل الرسول منزلة رب العالمين ؛ إذ مضمونه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المسؤول لكشف أعظم الشدائد في اليوم الآخر، فانظر إلى قول الشاعر، وانظر في قوله - تعالى - لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : ((قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [الزمر:13].
ويزعم بعض المتعصبين للقصيدة أن مراد البوصيري طلب الشفاعة ؛ فلو صح ذلك فالمحذور بحاله، لما تقرر أن طلب الشفاعة من الأموات شرك بدليل قوله - تعالى - : ((ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ ولا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [يونس:18]، فسمى الله - تعالى - اتخاذ الشفعاء شركاً(23).




10- وقال :
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
يقول الشيخ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - تعقيباً على هذا البيت -: فتأمل ما في هذا البيت من الشرك :
منها : أنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
ومنها : أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية(24).
وانتقد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد ابن عبد الوهاب هذا البيت قائلاً : فعظم البوصيري النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يسخطه ويحزنه ؛ فقد اشتد نكيره -صلى الله عليه وسلم- عما هو دون ذلك كما لا يخفى على من له بصيرة في دينه ؛ فقصر هذا الشاعر لياذه على المخلوق دون الخالق الذي لا يستحقه سواه ؛ فإن اللياذ عبادة كالعياذ، وقد ذكر الله عن مؤمني الجن أنهم أنكروا استعاذة الإنس بهم بقوله : ((وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً)) [الجن: 6]، أي طغياناً، واللياذ يكون لطلب الخير، والعياذ لدفع الشر، فهو سواء في الطلب والهرب(25).
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - عن هذا البيت : فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . إنا لله وإنا إليه راجعون(26).




11- وقال البوصيري :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : سؤاله منه أن يشفع له في قوله : ولن يضيق رسول الله... إلخ، هذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوهم وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره ؛ فإن الله - تعالى - هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداءاً(27).




12- وقال أيضا :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وإفضاله، والجود هو العطاء والإفضال ؛ فمعنى الكلام : أن الدنيا والآخرة له -صلى الله عليه وسلم-، والله - سبحانه وتعالى - يقول : ((وإنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأُولَى)) [الليل:13](28).
وقوله : ومن علومك علم اللوح والقلم. في غاية السقوط والبطلان ؛ فإن مضمون مقالته أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم الغيب، وقد قال - سبحانه - : ((قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ)) [النمل:65] وقال - عز وجل - : ((وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)) [الأنعام:59]، والآيــات فـي هـذا كثيرة معلومة(29).
وأخـيـراً أدعو كل مسلم عَلِقَ بهذه القصيدة وولع بها أن يشتغل بما ينفع ؛ فإن حق النبي -صلى الله عليه وسلم- إنـمـا يكون بتصديقه فيما أخبر، واتباعه فيما شرع، ومحبته دون إفراط أو تفريط، وأن يشتغلوا بسماع القرآن والسنة والتفقه فيهما ؛ فإن البوصيري وأضرابه استبدلوا إنشاد وسماع هذه القصائد بسماع القرآن والعلم النافع، فوقعوا في مخالفات ظاهرة ومآخذ فاحشة.
وإن كـــان لا بد مـن قـصائد ففي المدائح النبوية التي أنشدها شعراء الصحابة -رضي الله عنهم- كحسان وكعب بن زهير ما يغني ويكفي.
اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ؛ إنك حميد مجيد. (*)

=============
الهوامش :
(1) المدائح النبوية، ص 199.
(2) يقول ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية (4 /373) : ورد في بعض الروايات ان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاه بردته حن أنشده القصيدة.. وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء، من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه ؛ فالله أعلم .
(3) انظر مقدمة محقق ديوان البوصيري، ص 29.
(4) انظر المدائح النبوية لزكي مبارك، ص 197.
(5) مقدمة ديوان البوصيري، ص 29، 30.
(6) فوات الوفيات لمحمد بن شاكر الكتبي، 2/258.
(7) مجموع الفتاوى، 11 /598.
(8) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/692، 693، باختصار.
(9) انظر ترجمته في مقدمة ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني، ص 5 - 44، وللمحقق كتاب آخر بعنوان : البوصيري دراسة ونقد .
(10) انظر : الصنعاني في موضوعاته، ص 46 ح (78)، والمسلسلة والموضوعة للألباني، 1/299، ح(282).
(11) انظر تفصيل ذلك في كتاب محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرؤوف عثمان، ص 169 - 196.
(12) الدرر السنية، 9/81، وانظر 9/48، وانظر : صيانة الإنسان للسهسواني (تعليق محمد رشيد رضا)، ص 88.
(13) أخرجه البخاري، ح ./3445.
(14) انظر القول المفيد، 1 /376، ومفاهيمنا لصالح آل الشيخ، ص 236، ومحبة الرسول لعبد الرؤوف عثمان، ص 208 .
(15) فتح الباري، 12 /149.
(16) غاية الأماني للآلوسي، 2 /349.
(17) غاية الأماني للآلوسي، 2/ 350، باختصار وانظر الدر النضيد لابن حمدان، ص 136.
(18) الرد على الأخنائي، ص 41.
(19) رواه أحمد، ح. /4509، والترمذي، ح./ 1534.
(20) التمهيد، 14/366، 367 .
(21) تيسير العزيز الحميد، ص 22.
(22) انظر الدرر السنية، 9 /51.
(23) انظر الدرر السنية، 9/49، 82، 271.
(24) تيسير العزيز الحميد، ص 219، 220.
(25) الدرر السنية، 9/ 80، وانظر 9/49، 84، 193، ومنهاج التأسيس والتقديس لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، ص 212.
(26) الدر النضيد، ص 26.
(27) تيسير العزيز الحميد، ص 220، وانظر الدرر السنية، 9/52.
(28) انظر الدرر السنية، 49، 50، 81، 82، 85، 268.
(29) انظر الدرر السنية، 9/50، 62، 81، 82، 268، 277.
(*) نقلا عن قرص مجلة البيان عدد 139

admin
02-26-2011, 11:16 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

السبت 23 ربيع الأول 1432

أحسنت في إختيار الموضوع أخي محب الأقصى، جعله الله في ميزان حسناتك،

اللهم جنبنا البدع وإتباعها وإتباع متبعيها، وإجعل عملنا خالصاً لوجهك يا عظيم.

محب الأقصى
02-27-2011, 01:22 PM
بارك الله فيكم

سليم
02-27-2011, 04:02 PM
السلام عليكم
للعلم فقط أنا لست صوفيًا...ولا اقول هذا دفاعًا عنهم ,وليس كل الصوفية فيها خزعبلات وخرافات...ولكن هذه القصيدة"نهج البردة" للبوصيري قد تعرض لها كثير من علماء المسلمين وأعلام التراث الإسلامي, ورموز الفقه واللغة والعلم الشرعي, وشرحوها وبينوا ما فيها منهم:
1.المُحدث شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني: المتوفى سنة 923 هـ، وسمى شرحه على البردة الأنوار المُضية في شرح الكواكب الدُرية.
2.جلال الدين المحلي: المتوفى سنة 864 هـ وهو صاحب كتاب (تفسير الجلالين) وكتاب (شـرح الورقات في أصول الفقه).
3.الإمام الزركشي : صاحب كتاب (البرهان في علوم القرآن) المتوفى سنة 794 هـ.
4.الإمام اللغوي خالد الأزهري: مؤلف كتاب (موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب) المتوفى سنة 905 هـ.
5.الشيخ الباجوري: صاحب كتاب (شرح جوهرة التوحيد) المتوفى سنة 1276 هـ.
6.الإمام النحوي ابن هشام الحنبلي المتوفى سنة761هـ فقد شرح قصيدة البردة شرحاً لغوياً سماهُ الكواكب الدرية.
7.محمد بن أحمد ابن مرزوق التلمساني: صاحب كتاب (مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الاصول) المتوفى سنة 842 هـ.
8.ابن العماد: صاحب كتاب (شذرات الذهب) المتوفى سنة 808 هـ.
9.شيخ الإسلام زكريا بن محمد الأنصاري: المتوفى سنة 926هـ وسماهُ الزبدة الرائقة في شرح البردة الفائقة.
10.محمد علي بن علاَّن الصدّيقي المكي: شرح البردة وسماه الذخر والعدة في شرح البردة.
11.ابن الصائغ: المتوفى سنة 776 هـ.
12.علاء الدين البسطامي: المتوفى سنة 875 هـ.
13.محمد بن عبد الله بن مرزوق المالكي المغربي: المتوفى سنة 781 هـ.
14.الشيخ القاضي بحر بن رئيس الهاروني المالكي.
15.علي القصاني: المتوفى سنة 891 هـ.
16.الإمام ابن حجر الهيتمي: وسماهُ العمدة في شرح البردة.
ومن المعاصرين:
1.الشيخ عمر عبد الله كامل: وسماه البلسم المريح من شفاء القلب الجريح.
2.الشيخ محمد عيد عبد الله يعقوب الحسيني: وسماه الشرح الفريد في بردة النبي الحبيب.
3.العلامة الطاهر بن عاشور:الدفاع عن البردة".
أيعقل أن يكون كل هذا الجم من العلماء قد نسوا أو سهوا أو غفلوا عن الشركيات التي يدعوها هؤلاء الشرذمة ال...,أيعقل أن يسكت كل هؤلاء عما في هذه القصيدة من بدع وزيغ وضلال؟؟؟؟
أستغفر الله العلي العظيم من هذا الظلم والنكران غير المبين وليس بالقويم.

محب الأقصى
02-27-2011, 07:26 PM
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
لا يخفى على كُلِّ طالبٍ للحقّ، متجردٍ عن الهوى والتعصب، ما تضمَّنَتهُ قصيدة البُردة للبوصيري مِن مخالفات شرعية وعقَدية، ومع ذلك، نرى من يُشيد بها، بل ويُقدِمُ على شرحها، مؤوِّلاً في ذلك الألفاظ الصريحة الواضحة، إلى ما قصَدهُ الشَّاعر وما عناه (زعموا)، وما علِموا أنَّ دلالة السِّياق وقرينة الحال أكبرُ شاهدٍ وأوضحُ دليلٍ على قصد هذا البوصيري.
وهذا التَّصرُّف منهم راجعٌ لأمور منها:
1-الجهل باللُّغةِ العربية ومضامينِها، وما تدلُّ عليه الألفاظُ والتَّراكيبُ اللُّغوية.
2-التلبيس على عوام المسلمين ونشر البدع والشِّركيات بينهم.
3- إحسان الظَّنِّ بالشَّاعر، وحملُ كلامه على خير مَحْمل، لأنَّ أحدًا لم يُقِم عليه الحُجَّة (فيما عُلِم) - وقد تقرَّر شرعًا وطبعًا أنَّه إذا وُجِدت أمارةٌ صحيحةٌ وسببٌ ظاهر يدُلُّ على تلبُّس المتَّهَم، فلا يُظنُّ به إلَّا ذاك.
((انظر: تفسير القرطبي (16 -331).))
ثُمَّ إنَّ القصدَ مِن وراء هذه التوضيحات، ليس مجرد الرد على البوصيري، أو الإشتغال بتحليل قصيدته على سبيل النقد الأدبي - مثلا -، فوقتُ المسلمِ أغلى مِن أنْ يضيع في الكلام حول هذه الخُزعبلات التي حُشِيت بها القصيدة، وإنَّما بسبب ما وصلت إليه القصيدة من شهرة فائقة، على ما فيها من إقرار للبدع والشركيات، فاغترَّ بها كثيٌر من المسلمين، وصاروا ينشدونها في المحافل والجحافل، ويَصخبون بها في مجامِعهم!!!
ومِمَّا يستدِلُّ به هؤلاء (المولَعون)، - من المتصوفة ومَن يستنهج سبيلهم - على باطلهم، روايةُ بعض أهل العلم والفضل لها، وحفظهم إيَّاها، كالحافظ العراقي، وابن الملقن وابن حجر، والسخاوي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والسُّيوطي... وغيرهم!!!
وهذه النِّسبةُ في بعضها كذبٌ وزور، وما كان مِنها صحيحًا فلا يعني بالضَّرورة تزكيةً للقصيدة أو مدحًا لها، ولا يُقال: إنَّ هؤلاء الأجِلَّاء روَوا القصيدة ولم يفهموا منها غُلُوًّا، لأنَّه لا يلزم من السُّكوت عن الشيء إقرارُه، ولو فرَضنا جدلاً –على سبيلِ التَّنزُّل- أنَّ هؤلاء الأئمَّة قد فهموا من القصيدة مدحًا نبويًّا لا محذور فيه، فإنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع، ومعلومٌ أنَّ الرجال يُعرفون بالحقِّ ولا يُعرَفُ الحقُّ بالرجال، فكيف وأنَّ ذلك لم يثبت أصلا، ولكن ما عساك تقول لمن أعماه التعصب واتباع الهوى فصُدَّ عن السبيل.
وإن تعجب فعجب قولهم، كيف وقد ملؤوا حواشيهم ب: الشاعر يقصد...، والشاعر لا يقصد...، وكأنَّ القصيدةَ أُلغِزت فلا يُجَلِّيها غيرهم.
وإليكم بعض الأمثلة على ما وقع فيه هؤلاء الشُّرَّاح، من الغَلَطِ الصُّرَاح:
المثال الأول:
قال البوصيري:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورةُ من *** لولاه لم تُخرَجِ الدُّنيا من العدم
قلت: في هذا البيت علَّلَ الشاعرُ وجودَ الدُّنيا بوجود النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا مُخالِفٌ لصريح القرآن الكريم، قال تعالى: (وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون).
وعامَّةُ من شرحَ البُردة استدلَّ لهذا البيت بحديثٍ موضوعٍ نصُّه:
"لَمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لم غفرت لي، فقال الله: يا آدم و كيف عرفت محمدا و لم أخلقه ؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، و نفخت فِيَّ من روحك، رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك ".
قال الشيخ الألباني رحمه الله بعد أن ضعَّف الحديث وحكَمَ عليه بالوضع:
((الموضع الثاني : قوله في آخره : (ولولا محمد ما خلقتك) فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقا أو صحيح عند آخرين ولو كان ذلك صحيحا لورد في الكتاب أو السنة الصحيحة وافتراض صحته في الوقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى : ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآنا وسنة كما قرره ابن حزم في (الإحكام) وأيضا فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته فقال عز وجل : ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم كمخالفة هذا الحديث الباطل . ومثله ما اشتهر على ألسنة الناس : (لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك) فإنه موضوع كما قال الصنعاني ووافقه الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة). ومن الطرائف أن المتنبي ميرزا غلام أحمد القادياني سرق هذا الحديث الموضوع فادعى أن الله خاطبه بقوله : (لولاك لما خلقت الأفلاك) وهذا شيء يعترف به أتباعه القاديانون هنا في دمشق وغيرها . لوروده في كتاب متنبئهم (حقيقة الوحي).)) [التوسل ص (116)]
المثال الثاني:
قال البوصيري:
دع ما ادَّعته النصارى في نبيهم *** واحكُم بما شئت مدحًا فيه واحتكمِ
وهذا البيتُ قد بيَّن أهل العلم ما فيه من ضلال وغُلوّ،يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب –رحمهم الله-((ومن المعلوم أن أنواع الغلو كثيرة ، والشرك بحر لا ساحل له ، ولا ينحصر في قول النصارى ؛ لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان وأهل الجاهلية كذلك ، وليس فيهم من قال في إلهه ما قالت النصارى في المسيح غالباً: إنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة ، بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله ، لكن عبدوها معه لاعتقادهم أنها تشفع لهم أو تنفعهم فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات على أن قوله في منظومته: دع ما ادعته النصارى في نبيهم مَخْلَصٌ من الغلو بهذا البيت، وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة)). الدرر السنية (9-81)
أمَّا الذين شرحوا البردة فقد زعموا أنَّ في هذا البيت إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلَّم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله))، قال الباجوري في تعليقه على البردة: (هذا البيت احتراسٌ عمَّا يوهمه قولُه: (مُنزَّه عن شريكٍ في محاسِنِه)، وفيه إشارةٌ إلى قوله صلى الله عليه وسلم (لا تُطروني...) الحديث.(شرح البردة ص 49)
وهذا زعمٌ خاطئ يدُلُّ على قُصورٍ في الفهمٍ، وبلادةٍ في العقل، وكأنَّ الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث هو المشابِهُ لإطراء النصارى فقط، وما سوى ذلك فلا حرج، وهذا مردودٌ عليهِم بقوله صلى الله عليه وسلَّم في الحديث (فإنَّما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، حيث ذكر المنهي عنه ثُمَّ ذكر البديل، فدلَّ على أنَّ المنهي عنه هو المبالغة في الإطراء لا نفسُ إطراء النصارى.
قال ابن حجر رحمه الله في شرحه على حديث (إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مثل المسلم....):
((وفيه إشارة إلى أنَّ تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيرَه من جميع وجوهه، فإنَّ المؤمن لا يماثِلُه شيء من الجمادات ولا يعادله..)) فتح الباري (ج1 ص606، ط-المعرفة، حديث رقم:61))
المثال الثالث:
قال البوصيري:
أقسمتُ بالقمر المُنشقِّ إنَّ له *** من قلبِه نِسبةً مبرورةَ القسَمِ
في هذا البيتِ يُقسمُ الشَّاعِرُ بالقمر، وقد ثبتَ النَّهي عن الحلف بغير الله عز وجل، بل إنَّ ذلك من الشِّرك به سبحانه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلَفَ بغير الله فقد أشرك) رواه أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح.
وإذا رجعتَ إلى شروح البردة تجدهم ذكروا - أنَّ الشاعر قد قَصَد (أقسمتُ بربِّ القمر)، ولم يقصد الحِلف بالقمر ذاتِه، لأن عادة العرب جرت على حذف ما عُلم عند المخاطَب، وهو مِن الإيجاز الذي يزيد الكلام قُوَّة - وهذا مردود من وجوه:
أمَّا قولهم: "إنَّ من أساليبِ العرب في الكلام حذفَ المعلوم، كقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أي القرآن وقولِه: (حتى توارت بالحجاب) أي الشَّمس، وأنَّ الشَّاعِرُ حَذف (ربّ) لضرورةِ الشِّعر"، فهذا تعليلٌ عليل، لأنَّ هذا الحذف الجائزَ لُغةً، أدَّى إلى فعلٍ محظورٍ شرعًا، ومعلومٌ أنَّه إذا تعارض نصَّان شرعيان أحدهما حاظرٌ والآخر مُبيحٌ قُدِّم الحاظر على المبيح، والمُبيح هنا لا يتعدَّى كونَه قاعدةً لغوية، فنُخضعُ القاعدةَ اللُّغوية للنَّص الشرعي (من حلف بغير الله فقد أشرك).
ومن جِهةٍ أُخرى، فإنَّ الحذف في اللغة يُشترطُ فيه أن يترك المعنى واضحًا، بحيثُ لا يُبقيه مُبهمًا يحتمِلُ أكثر من معنى، قال ابن مالك في الألفية:
وَحَذفَ مَا مِنهُ تَعَجَّبتَ استَبِحْ *** إن كانَ عِندَ الحَذفِ مَعنَاهُ يَضِحْ. (بيت رقم 476).
ولو سلَّمنا أنَّ قول البوصيري: (أقسمتُ بالقمر) فيه حذف، لصار اللَّفظُ على ظاهره يحتمِلُ معنيين: القمرُ نفسه، وربُّ القمر، وهذا مُخالِفٌ لشرط وضوح المعنى، فلا حذفَ إذن.
وأخرج أحمد ( 2 / 69 ) و البيهقي ( 10 / 29 ) عن أبي محمد الكندي قال : ((جاء ابنَ عمر رجلٌ فقال: أحلف بالكعبة ؟ قال : لا و لكن احلف برب الكعبة ، فإن عمر كان يحلف بأبيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحلف بأبيك ، فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك )). (الصحيحة رقم: 1166).
ففي هذا الحديث نهى أفصحُ العرب وأبلغُهم صلى الله عليه وسلم عمرَ رضي الله عنه عن الحلف بأبيه، وما قال له: هل قصدتَ "ربّ أبيك"، مع أنَّهم كانوا أعرف باللغة وأعلم..
وأمَّا التعليلُ باضطرار الشَّاعرِ للوزن، فيُجابُ عليه بأنَّ الشَّاعر له ضروراتٌ شِعرية، وليس له ضروراتٌ شَرعيَّة في شِعره، فلا يجوز له الحلف بغير الله لضرورة الشعر.
المثال الرابع:
قال البوصيري:
ظنُّوا الحمامَ وظنُّوا العَنكبوتَ على *** خيرِ البرِيَّةِ لم تنسُج ولم تحُمِ
في هذا البيت يُخبِر الشَّاعر عن كُفَّار قريش أنَّهُم لمَّا رأوا العنكبوت والحمام على باب غار ثور، ظنُّوا أنْ لا أحدَ بداخِلِه...، وهذا المعنى مأخوذٌ من حديثٍ اشتَهرَ كثيرًا عند العوام، ورُوِي بألفاظ مِنها:
1-عن أبي مصعب المكي قال : أدركت زيد بن أرقم و المغيرة بن شعبة و أنس بن مالك يذكرون أن "ليلة الغار أمر الله عز وجل شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره و إن الله عز وجل بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم، و أمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا تدفان (و في نسخة: ترفان ) حتى وقعا بين العنكبوت و بين الشجرة..."وهذا الحديث ضعيف, فيه عون بن عمير, قال فيه البخاري: منكر الحديث مجهول, وفيه أبو مصعب وهو مجهول. (وانظر "السلسلة الضعيفة و الموضوعة " (3/259 )).
2-(" انطلق النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر إلى الغار، فدخلا فيه، فجاءت العنكبوت، فنسجت على باب الغار، و جاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، و كانوا إذا روأوا على باب الغار نسج العنكبوت، قالوا : لم يدخله أحد....) قال الألباني في "السلسلة الضعيفة و الموضوعة " ( 3/261 ): ضعيف.
3-(" جزى الله عز وجل العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت علي و عليك يا أبا بكر في الغار، حتى لم يرنا المشركون و لم يصلوا إلينا ").
قال الألباني في " السلسلة الضعيفة و الموضوعة " ( 3/338 ) : ((منكر)).
وعليه فلا تثبتُ هذه القصَّة المُنكرة.
المِثال الخامس:
قال:
ما ضامني الدهرُ يومًا واستجَرتُ به *** إلا ونِلتُ جِوارًا مِنه لم يُضَمِ
ولا التمَستُ غِنى الدَّارين مِن يدِهِ ***إلا استَلَمتُ النَّدى مِن خيرِ مُستَلَمِ
ومعنى البيتين الذي قصدَه الشَّاعر وأقرَّ به شُرَّاح البُردة (إذ ليس لهم مِن تأويلِه على ظاهره مهرب)، أنَّه ما ظلَمه الدَّهرُ يومًا إلا وأُعطِي حِمًى وحِفظًا مِن الرسول صلى الله عليه وسلَّم، وهذا لا شكَّ افتراءٌ وكذِبٌ يتضمَّنُ شِركًا بالله عزَّ وجلَّ، فهُو النَّافع الضَّار الحافِظُ لا شريك له.
وفي البيتِ الثَّاني يؤكِّد البوصيري هذا المعنى ويُفصحُه ويُعَمِّمُه، فيقول: ما طلبتُ منهُ صلى الله عليه وسلَّم شيئا إلَّا وأُعطيتُه!!فمَن يُصدِّقُ هذا الكذِبَ الأزرق؟!!، وهل يقولُ بهذا القولِ إلا غُلاةُ الصُّوفيَّة والمتمسِّحون بالقبور؟؟!!.
قال المحلِّي في شرحه لهذا البيت: (فإنَّه صلى الله عليه وسلَّم لا يرُدُّ سائلَه وبِيَدِه خير الدنيا والآخِرة، وفي الصّحيحين عن جابر قال: ما سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئا قطُّ فقال لا).
قلتُ: الاستدلالُ بمثلِ هذا الحديث على جواز سؤالِه صلى الله عليه وسلم غيرُ صحيح، والرَّدُّ عليه مِن وجهين:
1-قولُه في الحديث (ما سُئِلَ)، فعبَّر بصيغةِ الماضي الدَّالَّة على وقوع الفِعل في زمن مضى وانقضى، وهو مُدَّة حياتِه صلى الله عليه وسلَّم.
2-أنَّ المقصودَ مِن هذا الحديثِ بيانُ سخائِه وَجُودِه صلى الله عليه وسلَّم، وإلا فإنَّ ذلك مَخصوصٌ بِما إذا كان الإعطاءُ سائِغًا، كما جاء في الآيةِ قوله تعالى: ( قُلتَ لا أجِدُ ما أحمِلُكم عليه..)، قال الحافظ في الفتح (ج 7 ص169 – ط: المعرفة): (وليس المُرادُ أنَّه يعطي ما يُطلَبُ مِنه جزمًا، بل المُرادُ أنَّه لا ينطِقُ بالردِّ، بل إن كان عِنده أعطاه إن كان الإعطاءُ سائغا وإلا سكت).






منقووول

محب الأقصى
02-27-2011, 07:30 PM
ينظر الموضوع الثاني في هذا الرابط



http://majles.alukah.net/showthread.php?t=44372

محب الأقصى
02-27-2011, 07:31 PM
مظاهر الغلو في قصائد المديح النبوي
سليمان بن عبد العزيز الفريجي
منذ أن انتشر الإسلام أقبل الأدباء على مدح نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بمدائح كثيرة ، حفظ لنا التاريخ شيئاً منها ، ومن أقدمها ما جاء عن أم معبد - رضي الله عنها - من وصفها للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما حل بخيمتها في طريق هجرته إلى المدينة ، وكان من وصفها : ( إن صمت فعليه الوقار ، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء ، أجمل الناس وأبهاه من بعيد ، وأحسنه وأجمله من قريب ، حلو المنطق ، لانزر ولا هزر ) [1] .

كما كان لشعراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وكعب بن مالك والعباس بن مرداس وغيرهم قصائد عدة في مدحه ورثائه ، منها قصيدة حسان بن ثابت - رضي الله عنه - التي مطلعها :
بطيبة رَسْم للرسول ومَعهد * * * منير ، وقد تعفو الرسوم وتهْمَد
ولا تنمحي الآيات من دار حُرْمة * * * بها منبر الهادي الذي كان يصعد
ومنها قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه - التي قالها عند إسلامه ، واعتذر بها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وألقاها بين يديه في مسجده وسط صحابته ، ومطلعها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * * * مُتَيَّم إثرها لم يُجْزَ مكبول
وفيها يقول :
أنبئت أن رسول الله أوعدني * * * والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة * * * القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لذاك هيب عندي إذ أكلمه * * * وقيل إنك مسبور ومسؤول
من ضيغم من ضراء الأُسْد مُخْدرة * * * ببطن عثَّر غيل دونه غيل
إن الرسول لسيف يُستضاء به * * * مهند من سيوف الله مسلول
بل إن هناك من شعراء الكفار من مدحه وأثنى على أخلاقه الكريمة ، كعمه أبي طالب في قصيدته المشهورة ، ومنها قوله :
وأبيض يُستسقى الغمامُ بوجهه * * * ثمالُ اليتامى ، عصمة للأرامل
وكالأعشى الكبير ميمون بن قيس الذي مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصيدة رائعة ، وجاء بها ليسلم عنده ويلقيها بين يديه ، ولكن قريشاً أغرته بالدنيا فعاد ومات كافراً . ومن قصيدته قوله :
نبيٌ يرى ما لا ترون ، وذكره * * * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ ونائل * * * وليس عطاءُ اليوم مانعه غدا
وهكذا اتصل مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته ورثائه بعد مماته ، وذكر أخلاقه وأوصافه عند أصحابه والتابعين دون غلو أو تجاوز لحدود المشروع .

وبعد قيام دولة بني أمية والحوادث التي جرت لآل بيت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وتشيع من تشيع لهم بدأت المبالغة في مدحهم والثناء عليهم ، حتى اشتهر شعراء بذلك ، وأكثروا منه ، كالكميت الأسدي ودعبل الخزاعي والشريف الرضي ومهيار الديلمي ، وهؤلاء جاءت مبالغتهم من غلوهم في رجالات آل البيت ، وتفضيلهم على من يرونهم أعداء لهم من الأمويين وغيرهم ؛ فموقفهم في الحقيقة سياسي أكثر من كونه معتمداً على اقتناعاتهم الشرعية ؛ فلهذا جاء كلامهم على آل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دون غيرهم ، حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قل مديحهم له في مقابل مديحهم لآل بيت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .

ومن أشعارهم هاشميات الكميت وأشهرها : البائيتان واللامية والميمية ، يقول في إحدى البائيتين :
إلى النفر البيض الذين بحبِّهم * * * إلى الله فيما نالني أتقرِّب
بني هاشم رهط النبي فإنني * * * بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
وما جاء عن هؤلاء من المدح الخاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يكاد يكون مدحاً معتاداً لا نجد فيه ما سنجده في مدائح الصوفية في القرن السابع . ومن ذلك قول الكميت :
وأنت أمين الله في الناس كلهم * * * عليها وفيها احتار شرق ومغرب
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً * * * وبوركت عند الشيب إذ انت أشيب
وبورك قبرٌ أنت فيه وبوركت * * * به وله أهـل لذلك يثرب
لقد غيَّبوا بِراً وصدقاً ونائلاً * * * عشية واراك الصفيح المنصَّب
ومع ذلك كان مدح من مضى لآل البيت أكثره صادقاً ، لأنهم يمدحونهم والدنيا ليست بأيديهم خلاف شعراء الدولة العبيدية المنتسبة - زوراً - إلى فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - التي كان الشعراء يتزلفون إلى حكامهم بمدحهم ومدح آل البيت ومنه مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا المدح غير داخل في حقيقته في المدائح النبوية ، لأنه مدح من أجل الدنيا ، لا لحبهم أو التقرب إلى الله بمدحهم ، ولهذا وصل الأمر ببعضهم إلى حد الشرك كابن هانئ الأندلسي ، حيث يقول في مدح المعز لدين الله الفاطمي :
ما شئتَ ، لا ما شاءت الأقدار * * * فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول :
ولك الجواري المنشآت مواخراً * * * تجري بأمرك والرياح رخاءُ
ولهذا كان مدح هؤلاء منصباً على حكام الدولة العبيدية ومن يزعم هؤلاء الحكام محبتهم من رجالات آل البيت ، ويقل فيه مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وتستمر المدائح النبوية دائرة حول أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم- الخُلُقية والخَلْقية المعروفة ، ولا نجد ذلك الغلو الذي يخرج بالمدائح النبوية إلى رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- فوق مقامه البشري ، وإضفاء بعض الصفات الإلهية عليه إلا في القرن السابع الذي يعرف في التاريخ الإسلامي بانتشار التصوف فيه إلى حد كبير ، مما أثر تأثيراً كبيراً على الشعراء الذين تسابقوا في مضمار المدائح النبوية ، بنَفَسٍ يخالف المدائح السابقة ، ويوافق الفكر التصوفي .

وكانت البداية الفعلية لهذه المدائح بهذا النَفَس الصوفي المتميز على يد محمد بن سعيد البوصيري ، المتوفى في الإسكندرية سنة695 هـ ، فقد نظم عدة قصائد في المدائح النبوية ، وأشهرها قصيدتان :

الأولى الميمية ، وهي على رواية الديوان (160) بيتاً ومطلعها :
أمن تذكُّر جيرانٍ بذي سلم * * * مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
والأخرى الهمزية ، ومطلعها :
كيف ترقى رقيَّك الأنبياء * * * يا سماء ما طاولتها سماءُ
والميمية أشهر وأذيع عند عامة المتصوفين ومقلديهم ، وقد نسجت حولها المنامات والأساطير ، ابتداء بناظمها الذي جاء عنه أنه بسبب استشفائه بهذه القصيدة مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام عليه فبرئ من فالج كان أبطل نصفه وألقى عليه بردة ، فسميت القصيدة لذلك بالبردة ، ونسجت الأساطير لكل بيت من أبياتها ، وشاع التبرك والاستشفاء بها ، فصارت تسمى أيضاً : البُرْأَة ، والبُروة ، وقصيدة الشدائد ، وغالى المتصوفة وأتباعهم فيها ( حتى عملوها تميمة تعلق على الرؤوس ، وزعموا فيها مزاعم كثيرة من أنواع البركة ، وهم على ذلك إلى يومنا هذا ) [2] .

ويظهر أن كل هذه التسميات كانت بعد موت البوصيري ، أما هو فسماها :

(الكواكب الدريَّة في مدح خير البرية) .

وقد أجمع معظم الباحثين على أن ميمية البوصيري أفضل قصيدة في المديح النبوي من الناحية الفنية الأدبية - لا الشرعية - إذا استثنينا لامية كعب بن مالك (البردة الأم) ، حتى قيل : إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي بين العامة والخاصة .
ومهما يكن من أمر فقد أثّرت ميمية البوصيري في المدائح النبوية تأثيراً عميقاً ، حيث نقلتها مضموناً وقالباً . أما من حيث المضمون فقد نقلت المدائح النبوية من المدح المعتاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصافه المشهورة المعروفة إلى أوصاف غلو ومبالغة ( على نحو إعجازي خارق ، بالغ المثالية ، بالغ الكمال ، وبالغ الجلال ... يرقى بالنبي إلى درجة ربانية ) [3] ، ويسمون هذه الأوصاف : (الحقيقة المحمدية) التي يدعي المتصوفة أن غيرهم لا يعرفونها ؛ ولهذا فهم يحملون كل غلو في ميمية البوصيري وغيره ممن سار على دربه على أنه من الحقيقة المحمدية التي ينفردون بمعرفتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

أما من حيث القالب فقد جعل المدائح النبوية تتكون من ثلاثة أجزاء : الأول يسمى النسيب النبوي ، وهو التشوق إلى المدينة النبوية التي تضم قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها جرى أغلب أحداث سيرته ، ويتلو هذا النسيب بعض الحِكَم التي تحذر من الدنيا وأهواء النفس ، وهذا الجزء يمثل من ميمية البوصيري الأبيات من (1 - 33) ، ومن أجملها قوله :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على * * * حب الرضاع ، وإن تفطمه ينفطم
وقوله :
وخالف النفس والشيطان واعصهما* * * وإن هما محَّضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً * * * فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
والجزء الثاني مديح النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض سيرته ، وهذا الجزء هو غرض القصيدة ، وفيه يذكر الشاعر سيرته من مولده إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، ويتكلم على معجزاته وخصائصه ... ويمثل هذا الجزء من القصيدة الأبيات من (34-139) ، ويبدؤه بقوله :
محمد سيد الكونين والثقلي * * * ن والفريقين من عُرب ومن عجم
وفي هذا الجزء أغلب الغلو المشار إليه من قبل ، وكأن بعض المتأخرين عن البوصيري أحسَّ شدة هذا الغلو فأراد أن يخففه فزاد في القصيدة - وما أكثر ما زيد عليها - بيتاً ناشزاً ألقاه في مكان غير مناسب في القصيدة ، وهو قوله :
فمبلغ العلم فيه أنه بشر * * * وأنه خير خلق الله كلهم
ولم يرض كثير من الصوفية هذا البيت للنص فيه على بشريته وأنها منتهى العلم فيه ، فغيروه إلى :
مولاي صلِّ وسلم دائماً أبداً * * * على حبيبك خير الخلق كلهم
ونسبوا فيه مناماً خاصاً للبوصيري ، فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي ألقى بشطره الثاني على البوصيري .

والجزء الثالث هو إقرار الشاعر بذنوبه وطلب العفو عنها ، ويشمل هذا الجزء الأبيات من (140-160) ويبدأ إقراره بقوله :
خدمته بمديح أستقيل به * * * ذنوب عُمْرٍ مضى في الشعر والخدم
ثم يقول :
لم تشتر الدين بالدنيا ولم تَسم * * * فيا خسارة نفس في تجارتها
ولكن طلبه للعفو كان موجهاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من أكبر انحرافات البوصيري ، وقد كرر هذا في عدة أبيات ، منها :
إن آت ذنباً فما عهدي بمنتقض * * * من النبي ، ولا حبلي بمنصرم
فإن لي ذمةً منه بتسميتي * * * محمداً ، وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي * * * فضلاً فقل يا زلة القدم
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به * * * سواك عند حلول الحادث العَمِمِ
وعندما ذكر العفو والرحمة من الله رجا أن تكون الرحمة مقسومة حسب العصيان ، لا الإحسان ، فقال :
لعل رحمة ربي حين يقسمها * * * تأتي على حسب العصيان في القسم
وفي آخر هذا الجزء يختم القصيدة بالصلاة والسلام الدائمين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الجزء يكثر فيه دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستغاثة به وإضافة صفات ربانية إليه ، وإن كان الجزءان السابقان لا يخلوان من مثل ذلك ، كقوله :
أقسمت بالقمر المنشق أن له * * * من قلبه نسبة مبرورة القسم
وقوله :
ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به * * * إلا ونلت جواراً منه لم يُضم
هذه هي ميمية البوصيري التي كان لها أعظم الأثر في المديح النبوي ، وتحويلها من مسارها السليم إلى مسار مليء بالانحرافات الشرعية ، وقد ساعد المتصوفة وأصحاب الطرق على نشرها بغنائها وانشادها وتلحينها في كل مناسبة حتى الحروب فضلاً عن الأفراح والأحزان والموالد المبتدعة واحتفالات الحجيج .

ولم يقتصر أثرها على العامة ، بل تعداه إلى الخاصة ؛ إذ تزاحم الشعراء العرب وغير العرب على تقليدها ، وتفننوا في ذلك حتى أنشؤوا فيها فنوناً أدبية منها :

أ- البديعيات التي تسير على نهجها وزناً وروياً ومضموناً وأجزاءً ، ويكون كل بيت من أبياتها خاصاً بلون من ألوان علم البديع في البلاغة كبديعية صفي الدين الحلي (750 هـ) ومطلعها :
إن جئت سلعاً فسل عن جيرة العلم * * * واقرا السلام على عرب بذي سلم
وبديعية عز الدين الموصلي ومطلعها :
براعة تستهل الدمع في العلم * * * عبارة عن نداء المفرد العلم
ب- المدائح النبوية التي فيها التورية بكل سور القرآن ، ومن أشهرها قصيدة ابن جابر الأندلسي (780 هـ) ، ومطلعها :
في كل فاتحة للقول معتبرة * * * حق الثناء على المبعوث بالبقرة
وقد عارض ابن جابر في قصيدته هذه عدة شعراء حتى أُلِّف فيها كتاب مستقل وهو كتاب : (المدائح النبوية المتضمنة لسور القرآن الكريم لهاشم الخطيب) .

ج - معارضتها وتشطيرها وتخميسها وتسبيعها ... ومن أشهر من عارضها من المحدثين : محمود سامي البارودي بمطولة بلغت (447 بيتاً) هي : (كشف الغمة في مدح سيد الأمة ! ) ، ومطلعها :
يا رائد البرق يمم دارة العلم * * * واحْدُ الغمام إلى حي بذي سلم
وأحمد شوقي في قصيدة في (190 بيتاً) سماها : (نهج البردة) ، مطلعها :
ريم على القاع بين البان والعلم * * * أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
وقد زاد الغلو في المدائح النبوية منذ عهد البوصيري إلى بدايات العهد الحديث ، ومن أمثلة هذا الغلو والمغالين محمد بن أبي بكر البغدادي الذي صنف ديواناً كاملاً باسم : (القصائد الوترية في مدح خير البرية) نظم فيه 29 قصيدة ، وكل قصيدة منها 21 بيتاً . بحيث تبدأ أبيات كل قصيدة بحرف وتنتهي به نفسه ، ومن مدحه الغالي قوله :
أغثني ، أجرني ، ضاع عمري إلى متى * * * بأثقال أوزاري أراني أُرزأُ
وقوله :
ذهاباً ذهاباً يا عصاةُ لأحمد * * * ولوذوا به مما جرى وتعوَّذوا
ذنوبكم تُمحى وتعطون جنة * * * بها دُرَرٌ حصباؤها وزمرد
ومن أشد الغالين : عبد الرحيم البرعي اليماني ، فله ديوان شعر أكثره مدائح نبوية ، ومن مدحه الغالي قوله :
سيد السادات من مضر * * * غوث أهل البدو الحضر
وقوله :
يا سيدي يا رسول الله ، يا أملي * * * يا موئلي ، يا ملاذي ، يوم تلقاني
هب لي بجاهك ما قدمت من زلل * * * جوداً ورجح بفضل منك ميزاني
واسمع دعائي واكشف ما يساورني * * * من الخطوب ونفِّس كُلَّ أحزاني
وكذلك أكثر من عارض البردة قديماً وحديثاً - وما أكثرهم - تأثر بما فيها من غلو .

وقد تأثر كذلك المتأخرون بهذا الغلو ، فمستكثر ومستقل ، فهذا البارودي يقول :
أبكاني الدهر حتى إذ لجأت به * * * حنا علي وأبدى ثغر مبتسم
وهذا أحمد شوقي يقول :
فالطف لأجل رسول العالمين بنا * * * ولا تزد قومه خسفاً ولا تسُمِ
ويقول في أحد المدائح الخديوية :
إذا زرت يا مولاي قبر محمد * * * وقبَّلت مثوى الأعظم العطرات
فقل لرسول الله : يا خير مرسل * * * أبثك ما تدري من الحسرات
وهذه شاعرة معاصرة ألفت كتاباً كاملاً من شعر التفعيلة باسم : (بردة الرسول) من أجل أن تشفى من مرض عانت منه طويلاً ، ملأته بالغلو ، ومن مثل قولها :
يا سيدي ، اسمع دعائي ... كن مًعين
وأجب رجائي ، يا محمدنا الأمين
أما هذا الغلو عند شعراء الصوفية ومقلديهم فأشهر من أن أشير إليه هنا .

ومما سبق نستخلص أن المدائح النبوية الغالية منذ البوصيري ومن قلده لا علاقة لها بالمدائح النبوية قبلها ؛ لأنه شتان بين التصور الواقعي البشري كما صوره شعراء المديح النبوي الأوائل من أمثال كعب بن زهير وكعب بن مالك وحسان بن ثابت ، ومعاصريهم ، وبين التصور المتأخر للرسول - عليه الصلاة والسلام - عند شعراء المديح النبوي المتأخرين الذين أحالوا شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى سلسلة طويلة من الخوارق والمعجزات والقدرات فوق الطبعية ، حتى بات النبي -صلى الله عليه وسلم- ذا طبيعة إلهية لا بشرية [4] .

ومع هذا فقد بقي كثير من الشعراء قديماً وحديثاً بمعزل عن هذا الغلو ، ولكن الحديث الآن ليس عنهم ، والله أعلم .
________________________
(1) المستدرك على الصحيحين ، 9/3 ، وغريب الحديث لابن قتيبة 1/ 463 ، وانظر الإصابة في ترجمة أم معبد .
(2) دراسة محمد النجار لبردة البوصيري ، ص 62 عن كتاب المقفى للمقريري .
(3) دراسة محمد النجار للبردة ، ص 11 .
المصدر : مجلة البيان - العدد 139 - ربيع الأول 1420 هـ