admin
06-09-2009, 02:14 PM
مقام النبي موسى في فلسطين<?xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" /><o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
إعداد : محمود سعيد<o:p></o:p>
مدير دائرة الأبحاث التاريخية<o:p></o:p>
مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
المقصود بالمقام وموقعه:<o:p></o:p>
يقصد بالمقام لغة: مكان الإقامة؛ واصطلاحاً: مدفن نبي أو رجل صالح حقيقةً أو مجازاً كما هي حال مقام النبي موسى الواقع شرق القدس العاصمة التاريخية لفلسطين على بعد (28) كم؛ لذا فهو أقرب لأريحا التي يبعد إلى الجنوب منها (8) كم. وقد شيد المقام على تل بارز وسط برية القدس ذات الطبيعة الجيرية المختلطة بالقطران والصوان؛ لذا فهي تفتقر إلى خصوبة التربة والغطاء النباتي. ويبدو المقام جغرافياً مشرفاً على البحر الميت وطريق الحج التاريخي وأريحا. كما يبدو مثيراً في الربيع تحديداً؛ حيث تنمو بعض الأعشاب التي تجعل من البرية بساطاً أخضراً رائعاً. وساهم ذلك بإضفاء العزلة والصمت على المكان فأصبح مقصداً للمتعبدين منذ الفترة البيزنطية.<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
تأسيس المقام:<o:p></o:p>
يفيد النقش التأسيسي للمقام ان السلطان الظاهر بيبرس (658-678هـ/1260-1287م) مؤسس دولة المماليك البحرية، وصاحب الانتصارات الباهرة، والاهتمام الواسع بالقدس- أمر بإنشاء المقام أثناء عودته من فريضة الحج وقصده زيارة القدس الشريف سنة (668هـ/1268م). وقد نسب المقام إلى موسى عليه السلام الذي لم يدخل فلسطين أو يدفن في مكان منها تكريماً وتقديراً لنبي من أولي العزم من الرسل وكليم الله، في وقت وقعت فيه قبلة المسلمين الأولى وموطن الإسراء والمعراج تحت احتلال الفرنجـة (492-583هـ/1099-1187م) مما أثار غيرة أهل فلسطين على مقدساتهم وبلادهم، ودفعهم إلى الدفاع عنها وتحريرها، حتى ارتبطت جهودهم بحكاياتهم الشعبية؛ وهو مما لم يتجاهله العلماء أو السلاطين. فهذا أبو بكر الهروي يـزور القدس سنة (569هـ/1173م) ويسجل ما ردده عامة الناس عن وجود قبر لموسى عليه السلام قرب أريحا. وهذا ضيـاء الدين المقدسي (643هـ/1246م) الفقيه والمؤرخ والمحدث يحمل حديث الرسول (ص) الذي أشار فيه إلى قبر موسى " إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر " على أنه قصد " قبراً ... اشتهر أنه قبر موسى " في سابقة تاريخية. وقد خلص المرحوم د. كامل العسلي إلى أن هذا التحديد تم في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي. أما السلاطين، والظاهر بيبرس أحدهم، فقد وظف الغيرة والآمال الشعبية في التحرير ونظمها ووجهها الوجهة الصحيحة لاستنقاذ البلاد وإعادة بناء هويتها العربية الإسلامية، وفق رؤية واضحة من الحوار الحضاري منذ العهد الأيوبي (580-648هـ/1775-1250م).<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
مراحل إعمار المقام:<o:p></o:p>
تفيد بعض النصوص التاريخية أن المقام كان يتألف ابتداءً من قبة ومسجد، وأن التوسع في إعماره استمر حتى نهاية حكم المماليك (923هـ/1517م) حيث أضيف للمسجد غرفة أخرى ثم ثلاثة أروقة مقببة، ومحراب ومغارة وسور خارجي يحميه من العواصف وعبث البدو. كما أضيف للمقام مرافق للسكن والخدمة من غرف وفرن واصطبلات ومطابخ وآبار. واستناداً إلى سجلات محكمة القدس الشرعية، حظي المقام بالبناء والترميم في العهد العثماني. ففي سنة (1013هـ/1604م) أنشيء ثلاثة وعشرون رواقاً، وحفرت بئرين وبلطت الساحة الخارجية. كما حولت أروقة المسـجد القديمـة إلى غرف للسكن. وأنشأ الشيخ محمد الخليلي (1147هـ/1734م) طبقتين وغرفة ودرج مقابل المسجد. وتوثق تلك السجلات وأربعة نقوش ما تزال ماثلة، أبرز الإصلاحات في المقام، وأهمها: ما شهده سنة (1150هـ/1717م) من إصلاحات علي كتخدا أحد أعيان أمراء مصر، وإصلاحات نقيب الأشراف وشيخ الحـرم عبد اللطيف الحسيني سـنة (1175هـ/1762م) وإصـلاحات سـنة (1235هـ/1819م) بأمر عبد الله باشا والى صيدا وطرابلس حيث شهدت إضافة رواق للمسجد من الشمال. وهناك إصـلاحات سنة (1303هـ/1885م) المنسوبة إلى مفتي القدس محمد طاهر الحسيني، والتي كانت شاملة لمرافق المقام باستثناء سوره. كما شهدت إضافة غرف ومرافقها في الطابق الأول. وعلى أية حال، تحفل الوثائق العربية والتركية في مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالكثير من تفصيلات ترميم المقام حتى نهاية فترة الانتداب البريطاني؛ مما يمكن الباحث أن يشير إلى وحدات المقام الرئيسية بدءاً بالسور الخارجي وأبوابه الخمسة. وهو يحيط بالمقام بطول (1266م) وارتفاتع (3-4)م. ثم الساحات الخارجية الأربعة، وهي مبلطـة وتزيد مساحتها عن (1300) م<SUP>2</SUP>. وهناك ثلاثة طوابق: تسوية، وفيـه (11) غرفة استخدمت اصطبلاً؛ وأرضي، وفيه (13) غرفة مبيت، مثـل (38) غرفة في الطابق الأول. ومن مرافقه الأخرى: مخزنان وخلوتان وصالونان وممران وشُرف وفرن وثلاثة آبار تتوسط كل منها ساحة داخلية سماوية، تحيـط بمجموعهـا بالمسجد الذي تبلـغ مساحتـه (125)م<SUP>2</SUP>، وتتقدمه خمسة أروقة من جهة الشمال. أما غرفة الضريح، فهي مربعة بطـول (5.6) م للضلع الواحد وغنية بالزخارف التي تعلو مدخل المسجد ودعاماته فقط. ويتميز المقام بالقباب التي تعلوه بكثرة، لكن أكبرها قبة الضريح الأكثر كروية من القباب الأخرى. وتنتهي وحدات المقام المعمارية بالمئذنة المقابلة لمدخل المسجد، وهي بسيطة أقيمت فوق طابق المقام الأرضي على ثلاثة أدوار: الأول والثاني مربعان، وبينهما أفريز حجري بارز إلى الخارج؛ والثالث: شرفتان، الأولى بقاعدة مربعة ذات إزار خارجي مثمن؛ والثانية، مثمنة لكنها أصغر حجماً وأقل ارتفاعا من الأولى، وتغطيها قبة تحمل الهلال.<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
أوقاف المقام:<o:p></o:p>
لقد خصص الظاهر بيبرس أوقافاً تنفق على المقام؛ حيث يمكن أن يشار إليها في وثيقة أعادت تسجيلها مؤخراً تبين أن السلطان المذكور وقف من ملكه الخاص أراضي كل من قرية ترمسعيا والمزرعة (الشرقية) وخربة أبي فلاح وأريحا وفي صور باهر؛ وجميع أراضي الغور الواقعة بين دير السيق غرباً وقرية زغر والبحر الميت شرقاً، وجميع أراضي ومياه وادي الفوار والقلط والطاحونة التي كانت تقوم على مياهه (وادي القلط). ويتمثل الهدف من الوقف في استغلال الموقوفات ليصرف ريعها في " إطعام الطعام لزوار المقام إبان الموسم من كل عام، وفي الإنفاق على العاملين " فيه وعلى ولاته. وتحفل سجلات محكمة القدس الشرعية ودفاتر التحرير العثمانية بتفصيلات أوفى عن شؤون أوقاف المقام، ومن ذلك: بعض ما أضيف إلى موقوفاته بعد الظاهر بيبرس مثل: جميع قرية فاغور ومزرعة وادي فوكين و(8) قراريط في مزرعة العياض (القدس) وفداناً في قرية كفرين (لواء عجلون) وقطعة أرض في قرية جرايا وحاكورة الصبانة في لواء نابلس. ومن الأوقاف الذرية التي اشترط منشؤها أن تؤول على مصالح المقام: وقفا خانم ابنة محمد طاهر الحسيني (دار ودكانين) وعبد الله بن عبد اللطيف الحسيني نقيب الأشراف بالقدس (بيارة ودواوين ودكاكين في يافا). وهناك حجج حول استغلالها وصرف ريعها على الإنشاء والترميم والسماط والوظائف والعاملين فيه الذين بلغوا (46) شخصاً فيما يقرب من (50) موظفاً عملوا في أكبر منشأة خيرية في فلسطين في العهد العثماني (تكية خاصكي سلطان). ومن الوظائف في المقام: شيخ مشايخ، كاتب وقف، خادم، نفطجي، شعال، بواب، قراء، ... . وقد حظي آل يونس بولاية أوقاف المقام تاريخياً، وشغل آل غضية (جودة الحسيني اليوم) نصيباً أوفر منها.<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
موسم النبي موسى:<o:p></o:p>
يفهم من كتاب وقف الظاهر بيبرس السابق أن زيارة مقام النبي موسى عليه السلام كانت منتظمة في عهده. أي أن بداياتها ترجع إلى فترة سابقة على عهده. ومن المرجح أن بدايات الزيارة كانت في القرن السادس الهجري لأفراد من القدس شعروا بضرورة دينية وسياسية وترفيهية؛ حيث كانت فيه القدس تعاني من احتلال الفرنجة الذين أفسد تعصبهم الديني التسامح الذي ساد العلاقات بينهم وبين المسلمين في احتفالات المسيحيين في عيد الفصح، وأشعر المسلمين باسـتمرار خطـر احتلال القـدس ثانية بعد تحـريرها عـام (583هـ/1187م). لذا شعر مسلمو القدس وفلسطين بضرورة تنظيم هذا الموسم من الاحتفالات الشعبية في وقت يتزامن فيه مع عيد الفصح المسيحي تأكيداً على الوحدة الوطنية. وقد لاقى ذلك اهتمام حكام المسلمين منذ أيام صلاح الدين الأيوبي حيث شجعوا مثل تلك المناسبات. وهكذا أصبح موسم النبي موسى عيداً شعبياً عاماً، اشترك فيه سكان المدن والقرى في فلسطينن وخاصة من مناطق القدس ونابلس والخليل. وكان هناك برنامج زمني للاحتفالات وُضع في جزء منه على الاقل في القرن الأخير، بعد أن اشتد التنافس بين الاهالي على إحراز مكان السبق والصدارة فيها فتم ترتيب مواعيد لقدوم الزوار. وكان أسبوع موسم النبي موسى يحدد وفق عيد الفصح عند المسيحيين الأرثوذكس، حيث يأتي في الأسبوع الذي يسبق أسبوع عيد الفصح في كل عام. أما عيد الفصح فكان توقيته يتم وفق الاعتدال الربيعي بحيث يصادف أول يوم أحد يأتي بعد البدر الأول الذي يلي الاعتدال الربيعي. أي أن موعد عيد الفصح يختلف من عام إلى آخر لأنه لم يكن يعتمد على التقويم الشمسي وحده، بل مع التقويم القمري أيضا؛ً وتحديداً مع موعد اكتمال القمر ليصبح بدراً لأول مرة بعد الاعتدال الربيعي وعلى ذلك فإن عيد الفصح يمكن أن يأتي في اي يوم بين 22 آذار و25 نيسان على الحساب الشرقي. وكانت الوفود المشاركة بالموسم تفد إلى القدس وتجتمع في الحرم لتنطلق في اليوم التالي إلى المقام فيما يعرف بنزلة البيرق. ونترك المؤرخ د. صبحي غوشه الذي شارك في صباه في الموسم يصفها قائلاً: <o:p></o:p>
يوم الجمعة، يوم نزول أو "نزلة البيرق" إلى النبي موسى كان يوماً مشهوداً في القدس، كانت تتجمع الجماهير في الصباح الباكر، حتى كان البعض منها ينام في "لواوين" الحرم والأحياء المجاورة حتى يكونوا في الصفوف الأمامية لمشاهدة المواكب. وبما أن الموكب والبيارق تمر من باب حطة ثم تتوجه منه بمحاذاة سور دير الصلاحية إلى باب الأسباط فكانت كل الدور المتاخمة لهذه الطريق والأسوار والأشجار تغص بالمواطنين صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً. أما أهم المواقع الاستراتيجية للمشاهدة فكان سور مقبرة باب الأسباط الممتدة من باب الأسباط وعلى طرفي الشارع إلى طريق الجثمانية لأنه كان السور عالياً ومطلاً على الموكب. وما تبقى من الطريق - من الجثمانية إلى رأس العامود فالعيزرية فالخان الأحمر فالنبي موسى - فكانت تأتي في المرتبة الثانية.<o:p></o:p>
وكان حملة البيارق يتجمعون في ساحة الحرم الشريف. وأهم البيارق كان يحملها الوجهاء وكل عائلة تفوض حاملاً لبيرقها فكان حافظ الدجاني يحمل بيرق آل الدجاني أو بيرق النبي داود وفؤاد القطب يحمل بيرق آل قطب، وسعيد زايد بيرق الشباب، وفي فترة أخرى كان يحمله الحاج حافظ الطحان، والحاج عمران القزاز يحمل بيرق القزاز، والشيخ عاطف الديسي أو من يمثله بيرق الديسي، وهناك كثيرون غيرهم يحملون البيارق مثل الحاج جودت الحلبي ، صالح عبده، أحمد القرجولي، حسين قليبو. وهذا يعتبر شرفاً كبيراً لهم، فهم يسيرون في المقدمة – يسبقهم جماعة " يا حلالي يا مالي". وكانت هتافات الهتافين الذين يحملونهم على الأكتاف:<o:p></o:p>
((يا حلالي يا مالي يا ربعي ردو عليا ))
ثم يتابعون هتافاتهم وشعاراتهم وبعد كل هتاف أو شعار يقولون: يا حلالي يا مالي والناس تردد هذه الشعارات والأهازيج. وقد أطلق الناس على هذه الأناشيد أو الأهازيج "شوباش النبي موسى" ومنها ما هو مرتبط بالنبي موسى عليه السلام، مثل:.<o:p></o:p>
يا زوار موسى سيروا بالتهليل<o:p></o:p>
زرنا النبي موسى عقبال الخليل<o:p></o:p>
يا زوار موسى زوروا بالعدّة<o:p></o:p>
زرنا النبي موسى عقبال الحجة<o:p></o:p>
يا زوار موسى زوروا بالدرقة<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
ويضيف العسلي نقلاً عن د. صبحي غوشه: ومن الممتع أن نلاحظ .. أن الغناء والرقص والتصفيق واستعمال الآلات الموسيقية ومشاركة جميع الطبقات هي اليوم مثلما كانت عليه قبل آلاف السنين ... . وأهم أنواع الرقص هي السّحجة والدبكة. أما الآلات الموسيقية التي تستعمل فهي: الطبل، الكاس، المِزهَر، والشّبابة،، والأرغل، والناية، والزمّارة، والمجوز، والدرقة، والنوبة. والإيقاع الذي يحدثه الطبل والكاسات يكون له دائماً تقريباً معنى محدد، مثل:<o:p></o:p>
الله الله الله حي دا-يم دا-يم قيوم قيوم<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
ولا يسمح للطبل بالاهتزاز إلا عندما تؤدى كلمة " الله " وحدها، بينما يرتد الصوت بطيئاً عند الكلمة الثانية، ويؤدي المقطع الأخير مصحوباً بضربة قوية على الطبل. ولعله من الطريف أن يختم هذا العمل بوصف مراسل صحفي ألماني لموكب النبي موسى سنة 1875 حيث يقول:<o:p></o:p>
((قوافل عديدة جاءت من دمشق (إلى القدس) وسارت وهي تحمل الأعلام الكبيرة والطبول الكثيرة، في شوارع القدس الضيقة المزدحمة بالحجاج المسيحيين. وقد سمح الباشا هنا للحجاج (المسلمين) هذه المرة بأن يأتوا بسلاحهم. ولذلك فإن المرء كان يشاهد المئات منهم يمرّون شاكي السلاح. من الخليل وضواحيها كان هناك حوالي 2000 شخص، وكذلك من نابلس، وقد شارك في المواكب، حسب تقدير المسلمين، عدد من الحجاج يقارب العشرة آلاف شخص، لأن جميع المدن والقرى تقريباً كانت ممثلة فيه، وعلى الأخص الفلاحون من الضواحي، الذين ظهروا بأعداد كبيرة جداً ... إن نشوة الاحتفال أو أكاد أقول، الصخب الهائج الذي احتفل فيه الناس بموسم النبي موسى يعسر على القلم وصفه ... وقامت الجموع بحج مشترك إلى جبل النبي موسى تعظيماً للموسم واستغرقت المسيرة هنا إلى هذا الجانب من نهر الأردن خمس ساعات ... ولم يقتصر الموكب في مسيره إلى خارج باب الأسباط على العسكريين بكامل لباسهم الرسمي، بمرافقة الموسيقى بل إنّ الموظفين أيضاً على رأسهم الباشا خرجوا في زي موحد. وبدءاً من ساحة (أي الحرم الشريف) حيث ارتفعت أعلام المدن المختلفة والقرى الكبيرة، كانت الجموع الهائلة تغطي أيضاً جزءاً كبيراً من جبل الزيتون (الطور) وكذلك الطريق المؤدية إلى أريحا بكامله)).
<o:p> </o:p>
إعداد : محمود سعيد<o:p></o:p>
مدير دائرة الأبحاث التاريخية<o:p></o:p>
مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
المقصود بالمقام وموقعه:<o:p></o:p>
يقصد بالمقام لغة: مكان الإقامة؛ واصطلاحاً: مدفن نبي أو رجل صالح حقيقةً أو مجازاً كما هي حال مقام النبي موسى الواقع شرق القدس العاصمة التاريخية لفلسطين على بعد (28) كم؛ لذا فهو أقرب لأريحا التي يبعد إلى الجنوب منها (8) كم. وقد شيد المقام على تل بارز وسط برية القدس ذات الطبيعة الجيرية المختلطة بالقطران والصوان؛ لذا فهي تفتقر إلى خصوبة التربة والغطاء النباتي. ويبدو المقام جغرافياً مشرفاً على البحر الميت وطريق الحج التاريخي وأريحا. كما يبدو مثيراً في الربيع تحديداً؛ حيث تنمو بعض الأعشاب التي تجعل من البرية بساطاً أخضراً رائعاً. وساهم ذلك بإضفاء العزلة والصمت على المكان فأصبح مقصداً للمتعبدين منذ الفترة البيزنطية.<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
تأسيس المقام:<o:p></o:p>
يفيد النقش التأسيسي للمقام ان السلطان الظاهر بيبرس (658-678هـ/1260-1287م) مؤسس دولة المماليك البحرية، وصاحب الانتصارات الباهرة، والاهتمام الواسع بالقدس- أمر بإنشاء المقام أثناء عودته من فريضة الحج وقصده زيارة القدس الشريف سنة (668هـ/1268م). وقد نسب المقام إلى موسى عليه السلام الذي لم يدخل فلسطين أو يدفن في مكان منها تكريماً وتقديراً لنبي من أولي العزم من الرسل وكليم الله، في وقت وقعت فيه قبلة المسلمين الأولى وموطن الإسراء والمعراج تحت احتلال الفرنجـة (492-583هـ/1099-1187م) مما أثار غيرة أهل فلسطين على مقدساتهم وبلادهم، ودفعهم إلى الدفاع عنها وتحريرها، حتى ارتبطت جهودهم بحكاياتهم الشعبية؛ وهو مما لم يتجاهله العلماء أو السلاطين. فهذا أبو بكر الهروي يـزور القدس سنة (569هـ/1173م) ويسجل ما ردده عامة الناس عن وجود قبر لموسى عليه السلام قرب أريحا. وهذا ضيـاء الدين المقدسي (643هـ/1246م) الفقيه والمؤرخ والمحدث يحمل حديث الرسول (ص) الذي أشار فيه إلى قبر موسى " إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر " على أنه قصد " قبراً ... اشتهر أنه قبر موسى " في سابقة تاريخية. وقد خلص المرحوم د. كامل العسلي إلى أن هذا التحديد تم في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي. أما السلاطين، والظاهر بيبرس أحدهم، فقد وظف الغيرة والآمال الشعبية في التحرير ونظمها ووجهها الوجهة الصحيحة لاستنقاذ البلاد وإعادة بناء هويتها العربية الإسلامية، وفق رؤية واضحة من الحوار الحضاري منذ العهد الأيوبي (580-648هـ/1775-1250م).<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
مراحل إعمار المقام:<o:p></o:p>
تفيد بعض النصوص التاريخية أن المقام كان يتألف ابتداءً من قبة ومسجد، وأن التوسع في إعماره استمر حتى نهاية حكم المماليك (923هـ/1517م) حيث أضيف للمسجد غرفة أخرى ثم ثلاثة أروقة مقببة، ومحراب ومغارة وسور خارجي يحميه من العواصف وعبث البدو. كما أضيف للمقام مرافق للسكن والخدمة من غرف وفرن واصطبلات ومطابخ وآبار. واستناداً إلى سجلات محكمة القدس الشرعية، حظي المقام بالبناء والترميم في العهد العثماني. ففي سنة (1013هـ/1604م) أنشيء ثلاثة وعشرون رواقاً، وحفرت بئرين وبلطت الساحة الخارجية. كما حولت أروقة المسـجد القديمـة إلى غرف للسكن. وأنشأ الشيخ محمد الخليلي (1147هـ/1734م) طبقتين وغرفة ودرج مقابل المسجد. وتوثق تلك السجلات وأربعة نقوش ما تزال ماثلة، أبرز الإصلاحات في المقام، وأهمها: ما شهده سنة (1150هـ/1717م) من إصلاحات علي كتخدا أحد أعيان أمراء مصر، وإصلاحات نقيب الأشراف وشيخ الحـرم عبد اللطيف الحسيني سـنة (1175هـ/1762م) وإصـلاحات سـنة (1235هـ/1819م) بأمر عبد الله باشا والى صيدا وطرابلس حيث شهدت إضافة رواق للمسجد من الشمال. وهناك إصـلاحات سنة (1303هـ/1885م) المنسوبة إلى مفتي القدس محمد طاهر الحسيني، والتي كانت شاملة لمرافق المقام باستثناء سوره. كما شهدت إضافة غرف ومرافقها في الطابق الأول. وعلى أية حال، تحفل الوثائق العربية والتركية في مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالكثير من تفصيلات ترميم المقام حتى نهاية فترة الانتداب البريطاني؛ مما يمكن الباحث أن يشير إلى وحدات المقام الرئيسية بدءاً بالسور الخارجي وأبوابه الخمسة. وهو يحيط بالمقام بطول (1266م) وارتفاتع (3-4)م. ثم الساحات الخارجية الأربعة، وهي مبلطـة وتزيد مساحتها عن (1300) م<SUP>2</SUP>. وهناك ثلاثة طوابق: تسوية، وفيـه (11) غرفة استخدمت اصطبلاً؛ وأرضي، وفيه (13) غرفة مبيت، مثـل (38) غرفة في الطابق الأول. ومن مرافقه الأخرى: مخزنان وخلوتان وصالونان وممران وشُرف وفرن وثلاثة آبار تتوسط كل منها ساحة داخلية سماوية، تحيـط بمجموعهـا بالمسجد الذي تبلـغ مساحتـه (125)م<SUP>2</SUP>، وتتقدمه خمسة أروقة من جهة الشمال. أما غرفة الضريح، فهي مربعة بطـول (5.6) م للضلع الواحد وغنية بالزخارف التي تعلو مدخل المسجد ودعاماته فقط. ويتميز المقام بالقباب التي تعلوه بكثرة، لكن أكبرها قبة الضريح الأكثر كروية من القباب الأخرى. وتنتهي وحدات المقام المعمارية بالمئذنة المقابلة لمدخل المسجد، وهي بسيطة أقيمت فوق طابق المقام الأرضي على ثلاثة أدوار: الأول والثاني مربعان، وبينهما أفريز حجري بارز إلى الخارج؛ والثالث: شرفتان، الأولى بقاعدة مربعة ذات إزار خارجي مثمن؛ والثانية، مثمنة لكنها أصغر حجماً وأقل ارتفاعا من الأولى، وتغطيها قبة تحمل الهلال.<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
أوقاف المقام:<o:p></o:p>
لقد خصص الظاهر بيبرس أوقافاً تنفق على المقام؛ حيث يمكن أن يشار إليها في وثيقة أعادت تسجيلها مؤخراً تبين أن السلطان المذكور وقف من ملكه الخاص أراضي كل من قرية ترمسعيا والمزرعة (الشرقية) وخربة أبي فلاح وأريحا وفي صور باهر؛ وجميع أراضي الغور الواقعة بين دير السيق غرباً وقرية زغر والبحر الميت شرقاً، وجميع أراضي ومياه وادي الفوار والقلط والطاحونة التي كانت تقوم على مياهه (وادي القلط). ويتمثل الهدف من الوقف في استغلال الموقوفات ليصرف ريعها في " إطعام الطعام لزوار المقام إبان الموسم من كل عام، وفي الإنفاق على العاملين " فيه وعلى ولاته. وتحفل سجلات محكمة القدس الشرعية ودفاتر التحرير العثمانية بتفصيلات أوفى عن شؤون أوقاف المقام، ومن ذلك: بعض ما أضيف إلى موقوفاته بعد الظاهر بيبرس مثل: جميع قرية فاغور ومزرعة وادي فوكين و(8) قراريط في مزرعة العياض (القدس) وفداناً في قرية كفرين (لواء عجلون) وقطعة أرض في قرية جرايا وحاكورة الصبانة في لواء نابلس. ومن الأوقاف الذرية التي اشترط منشؤها أن تؤول على مصالح المقام: وقفا خانم ابنة محمد طاهر الحسيني (دار ودكانين) وعبد الله بن عبد اللطيف الحسيني نقيب الأشراف بالقدس (بيارة ودواوين ودكاكين في يافا). وهناك حجج حول استغلالها وصرف ريعها على الإنشاء والترميم والسماط والوظائف والعاملين فيه الذين بلغوا (46) شخصاً فيما يقرب من (50) موظفاً عملوا في أكبر منشأة خيرية في فلسطين في العهد العثماني (تكية خاصكي سلطان). ومن الوظائف في المقام: شيخ مشايخ، كاتب وقف، خادم، نفطجي، شعال، بواب، قراء، ... . وقد حظي آل يونس بولاية أوقاف المقام تاريخياً، وشغل آل غضية (جودة الحسيني اليوم) نصيباً أوفر منها.<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
موسم النبي موسى:<o:p></o:p>
يفهم من كتاب وقف الظاهر بيبرس السابق أن زيارة مقام النبي موسى عليه السلام كانت منتظمة في عهده. أي أن بداياتها ترجع إلى فترة سابقة على عهده. ومن المرجح أن بدايات الزيارة كانت في القرن السادس الهجري لأفراد من القدس شعروا بضرورة دينية وسياسية وترفيهية؛ حيث كانت فيه القدس تعاني من احتلال الفرنجة الذين أفسد تعصبهم الديني التسامح الذي ساد العلاقات بينهم وبين المسلمين في احتفالات المسيحيين في عيد الفصح، وأشعر المسلمين باسـتمرار خطـر احتلال القـدس ثانية بعد تحـريرها عـام (583هـ/1187م). لذا شعر مسلمو القدس وفلسطين بضرورة تنظيم هذا الموسم من الاحتفالات الشعبية في وقت يتزامن فيه مع عيد الفصح المسيحي تأكيداً على الوحدة الوطنية. وقد لاقى ذلك اهتمام حكام المسلمين منذ أيام صلاح الدين الأيوبي حيث شجعوا مثل تلك المناسبات. وهكذا أصبح موسم النبي موسى عيداً شعبياً عاماً، اشترك فيه سكان المدن والقرى في فلسطينن وخاصة من مناطق القدس ونابلس والخليل. وكان هناك برنامج زمني للاحتفالات وُضع في جزء منه على الاقل في القرن الأخير، بعد أن اشتد التنافس بين الاهالي على إحراز مكان السبق والصدارة فيها فتم ترتيب مواعيد لقدوم الزوار. وكان أسبوع موسم النبي موسى يحدد وفق عيد الفصح عند المسيحيين الأرثوذكس، حيث يأتي في الأسبوع الذي يسبق أسبوع عيد الفصح في كل عام. أما عيد الفصح فكان توقيته يتم وفق الاعتدال الربيعي بحيث يصادف أول يوم أحد يأتي بعد البدر الأول الذي يلي الاعتدال الربيعي. أي أن موعد عيد الفصح يختلف من عام إلى آخر لأنه لم يكن يعتمد على التقويم الشمسي وحده، بل مع التقويم القمري أيضا؛ً وتحديداً مع موعد اكتمال القمر ليصبح بدراً لأول مرة بعد الاعتدال الربيعي وعلى ذلك فإن عيد الفصح يمكن أن يأتي في اي يوم بين 22 آذار و25 نيسان على الحساب الشرقي. وكانت الوفود المشاركة بالموسم تفد إلى القدس وتجتمع في الحرم لتنطلق في اليوم التالي إلى المقام فيما يعرف بنزلة البيرق. ونترك المؤرخ د. صبحي غوشه الذي شارك في صباه في الموسم يصفها قائلاً: <o:p></o:p>
يوم الجمعة، يوم نزول أو "نزلة البيرق" إلى النبي موسى كان يوماً مشهوداً في القدس، كانت تتجمع الجماهير في الصباح الباكر، حتى كان البعض منها ينام في "لواوين" الحرم والأحياء المجاورة حتى يكونوا في الصفوف الأمامية لمشاهدة المواكب. وبما أن الموكب والبيارق تمر من باب حطة ثم تتوجه منه بمحاذاة سور دير الصلاحية إلى باب الأسباط فكانت كل الدور المتاخمة لهذه الطريق والأسوار والأشجار تغص بالمواطنين صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً. أما أهم المواقع الاستراتيجية للمشاهدة فكان سور مقبرة باب الأسباط الممتدة من باب الأسباط وعلى طرفي الشارع إلى طريق الجثمانية لأنه كان السور عالياً ومطلاً على الموكب. وما تبقى من الطريق - من الجثمانية إلى رأس العامود فالعيزرية فالخان الأحمر فالنبي موسى - فكانت تأتي في المرتبة الثانية.<o:p></o:p>
وكان حملة البيارق يتجمعون في ساحة الحرم الشريف. وأهم البيارق كان يحملها الوجهاء وكل عائلة تفوض حاملاً لبيرقها فكان حافظ الدجاني يحمل بيرق آل الدجاني أو بيرق النبي داود وفؤاد القطب يحمل بيرق آل قطب، وسعيد زايد بيرق الشباب، وفي فترة أخرى كان يحمله الحاج حافظ الطحان، والحاج عمران القزاز يحمل بيرق القزاز، والشيخ عاطف الديسي أو من يمثله بيرق الديسي، وهناك كثيرون غيرهم يحملون البيارق مثل الحاج جودت الحلبي ، صالح عبده، أحمد القرجولي، حسين قليبو. وهذا يعتبر شرفاً كبيراً لهم، فهم يسيرون في المقدمة – يسبقهم جماعة " يا حلالي يا مالي". وكانت هتافات الهتافين الذين يحملونهم على الأكتاف:<o:p></o:p>
((يا حلالي يا مالي يا ربعي ردو عليا ))
ثم يتابعون هتافاتهم وشعاراتهم وبعد كل هتاف أو شعار يقولون: يا حلالي يا مالي والناس تردد هذه الشعارات والأهازيج. وقد أطلق الناس على هذه الأناشيد أو الأهازيج "شوباش النبي موسى" ومنها ما هو مرتبط بالنبي موسى عليه السلام، مثل:.<o:p></o:p>
يا زوار موسى سيروا بالتهليل<o:p></o:p>
زرنا النبي موسى عقبال الخليل<o:p></o:p>
يا زوار موسى زوروا بالعدّة<o:p></o:p>
زرنا النبي موسى عقبال الحجة<o:p></o:p>
يا زوار موسى زوروا بالدرقة<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
ويضيف العسلي نقلاً عن د. صبحي غوشه: ومن الممتع أن نلاحظ .. أن الغناء والرقص والتصفيق واستعمال الآلات الموسيقية ومشاركة جميع الطبقات هي اليوم مثلما كانت عليه قبل آلاف السنين ... . وأهم أنواع الرقص هي السّحجة والدبكة. أما الآلات الموسيقية التي تستعمل فهي: الطبل، الكاس، المِزهَر، والشّبابة،، والأرغل، والناية، والزمّارة، والمجوز، والدرقة، والنوبة. والإيقاع الذي يحدثه الطبل والكاسات يكون له دائماً تقريباً معنى محدد، مثل:<o:p></o:p>
الله الله الله حي دا-يم دا-يم قيوم قيوم<o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
ولا يسمح للطبل بالاهتزاز إلا عندما تؤدى كلمة " الله " وحدها، بينما يرتد الصوت بطيئاً عند الكلمة الثانية، ويؤدي المقطع الأخير مصحوباً بضربة قوية على الطبل. ولعله من الطريف أن يختم هذا العمل بوصف مراسل صحفي ألماني لموكب النبي موسى سنة 1875 حيث يقول:<o:p></o:p>
((قوافل عديدة جاءت من دمشق (إلى القدس) وسارت وهي تحمل الأعلام الكبيرة والطبول الكثيرة، في شوارع القدس الضيقة المزدحمة بالحجاج المسيحيين. وقد سمح الباشا هنا للحجاج (المسلمين) هذه المرة بأن يأتوا بسلاحهم. ولذلك فإن المرء كان يشاهد المئات منهم يمرّون شاكي السلاح. من الخليل وضواحيها كان هناك حوالي 2000 شخص، وكذلك من نابلس، وقد شارك في المواكب، حسب تقدير المسلمين، عدد من الحجاج يقارب العشرة آلاف شخص، لأن جميع المدن والقرى تقريباً كانت ممثلة فيه، وعلى الأخص الفلاحون من الضواحي، الذين ظهروا بأعداد كبيرة جداً ... إن نشوة الاحتفال أو أكاد أقول، الصخب الهائج الذي احتفل فيه الناس بموسم النبي موسى يعسر على القلم وصفه ... وقامت الجموع بحج مشترك إلى جبل النبي موسى تعظيماً للموسم واستغرقت المسيرة هنا إلى هذا الجانب من نهر الأردن خمس ساعات ... ولم يقتصر الموكب في مسيره إلى خارج باب الأسباط على العسكريين بكامل لباسهم الرسمي، بمرافقة الموسيقى بل إنّ الموظفين أيضاً على رأسهم الباشا خرجوا في زي موحد. وبدءاً من ساحة (أي الحرم الشريف) حيث ارتفعت أعلام المدن المختلفة والقرى الكبيرة، كانت الجموع الهائلة تغطي أيضاً جزءاً كبيراً من جبل الزيتون (الطور) وكذلك الطريق المؤدية إلى أريحا بكامله)).