المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القدس الأخرى : ، .. وكعك المصرارة ..


نائل أبو محمد
06-15-2009, 08:08 AM
الاثنين 22 جمادى الثانية 1430

دفاتر الأيام
القدس الأخرى
زياد خدَّاش

لا أعرفها تلك الـمدينة التي انتحلوا وجهها، وأجبروها على ابتلاع دواء ثقيل الطعم لا يتناسب ومرضها، اسمه (عاصمة الثقافة العربية)، تخيّلوا امرأةً مريضةً بهشاشة العظام يعطيها طبيب جاهل دواءً لحب الشباب! ويقول لها: حمداً لله على سلامتك؛ فيتضاعف ألـمها، وتزداد خيبتها، أحقاً هذه هي القدس؟! لا أصدقها هذه الـمدينة / مدينتهم التي سحبوها عنوةً من جوعها وغبارها ونحولها ووحشتها، وأوقفوها ــ متحاملةً على أكتافهم قسراً ــ على قدميها الكسيحتين وصوّروها أمام الكاميرات كأميرة مبتسمة تنتظر من يراقصها ويغسل ضميره بالرقص معها، ليست مدينتي تلك التي يتحدثون عنها بصوت متحمس وعال، عبر الـموجات الفضائية والإذاعية الـمشتركة، كنت أتخيل جموع الـمثقفين الفلسطينيين في الوطن والشتات وهم يفتتحون البث الـمباشر للإعلان عن انطلاق الفعاليات، لكني لـم أر أحداً منهم، عمن يتحدث هؤلاء؟ عن مدينة غريبة لا أعرفها، حاولت أن أعرفها، أن أقترب من نبضها، أن أبحث عن ملامحها / ملامحنا فيها، عن رضاها عمّا يحدث، وفي كل مرة أكتشف أنها ليست هي، ليست هي؛ إذ كيف أصدق مدينتهم التي لا تعرف عروبة خليل السكاكيني وثقافته، ولا تفكر في ترجمة كتاب هالة السكاكيني إلى اللغة العربية (القدس وأنا) ــ بالـمناسبة هذه الـمذكرات الصادقة جداً نقلت بأسلوب لغوي جمالي بالغ الفتنة آخر أيام حي القطمون وهي توفر معلومات وحقائق عجز عن توفيرها الـمؤرخون ــ ولا تنبش ذكريات الـمكان في الشيخ جراح (بقعة الحب الـمقدس والشجاع بين سلطانة وخليل في بدايات القرن العشرين) ولا تشتاق إلى حي القطمون حيث مئات الـمسروقات من البيوت والكتب والتحف والحيوات، ولا تحاول استرجاع مكتبة السكاكيني الضخمة التي استولت عليها الجامعة العبرية، ولا تحتفي بأيام نخلة زريق ومعروف الرصافي فيها، ولا تنشر وتحتفي بمذكرات الاديب إسحق موسى الحسيني التي نشرت منها تسع حلقات في مجلة الفجر الأدبي، ولا تذكر ولا تنتبه إلى دور القاص والـمثقف والصحافي الـمقدسي مروان العسلي الذي مات في القدس العام 1982 تاركاً إرثاً صحافياً وثقافياً كبير الدلالة ممثلاً في مجلة (الشراع) التي أصدرت عشرات الأعداد، ولا تفكر في جمع أعداد مجلة (الفجر الأدبي) التي عكست بأمانة وإخلاص وعدالة الحياة الثقافية الفلسطينية الـمقدسية بمختلف أجناسها منذ 1979 وحتى 1993، ولا تكرم رئيس تحريرها الشاعر علي الخليلي الذي أدارها بذوب روحه وعينيه وقلبه، ولا تكرم أو تعيد فتح مقهى الصعاليك في باب الخليل، الـمقهى الذي لخص جوهر وجه القدس العربي الثقافي والحضاري والإنساني في ثلاثينيات القرن الـماضي، هل يعرف منتحلو وجه القدس أن ثمة صحافياً وأديباً تسعينياً شهيراً يعيش في القدس الآن، أتحدى القائمين على إدارة عاصمة الأجندات الـمؤسساتية أن يعرفوا اسمه، هو ناصر الدين النشاشيبي الصحافي القدير الذي عايش عديداً من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي وشهد عديداً من الـمواقف والأحداث الفلسطينية والعربية والدولية وأجرى حوارات مهمة مع عديد الزعماء العرب والعالـميين.
مسكينة هي القدس الحقيقية، الـمطموسة، القدس الـمغيبة، قدس الناس وثقافاتهم وأحلامهم الصغيرة، قدس أبطال الظل، قدس محمود شقير وعلي الخليلي وإميل حبيبي، وفوزي البكري (تصوروا فعاليات ثقافية دون تكريم ومشاركة صعلوك القدس الجميل وراوي حكاياتها وأسرارها) وإسماعيل الدباغ ونجوان درويش، وكامل الباشا، وجميل السلحوت، وأسعد الأسعد، وإبراهيم جوهر، ورنا بشارة، وجمال القواسمة، وأحمد أبو سعلوم، وريم تلحمي، وحسام أبو عيشة، ورجاء صندوقة، وخليل أبو عرفة، ووائل أبو عرفة، وعبد السلام عبده، وفهمي الأنصاري، ومحمود عوض، وصلاح الأطرش، وطالب الدويك، وآخرين من الكتاب والأدباء والفنانين الـمقدسيين الحقيقيين الذين يتنفسون في كتاباتهم وإنتاجهم حيرة القدس وضياعها وبطولاتها الخفية، ويعتنقون هواجسها ومخاوفها وحصارها وصمودها وفقرها وكبرياءها، الذين شربت القدس من خطواتهم التائهة، وشربوا هم من أمكنتها ومعابدها وتاريخها ومقاهيها، وأزقتها، الذين تمرغوا في عزلة بلاطاتها وتمرغت هي في جماليات فنونهم، صاحبتهم، وصاحبوها كأهل وعشاق، عاشوا في قاعها الثري وعاشت في أعماقهم الـمشتعلة، هؤلاء هم وجه القدس، هؤلاء هم القدس ثقافة وحضارة وإنساناً، هؤلاء هم أحفاد خليل السكاكيني الفقير والـمبدع والـمربي والـمثقف والـمفكر الكوني، هؤلاء هم الغائبون عن الفعاليات، فصارت قدس الفعاليات غريبة عن قدس الحقيقة، صارت مدينة أخرى، بمؤسسات متخمة بالشعارات والعناوين الثقافية الفارغة، بعيداً عن رائحة الكتب العتيقة في مكتبة الأنصاري، وقهوة صيام وفلافل وحمص أبو شكري في البلدة القديمة وكعك الـمصرارة.

Zkhadash@yahoo.com

تاريخ نشر المقال 03 آذار 2009
عدد القراء: 481