المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من فقه القرآن : المصيبة في الدين


ابو محمد
09-08-2013, 09:31 AM
من فقه القرآن
المصيبة في الدين
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
www.algantan.com
قال الله تعالى : (واصابتكم مصيبة الموت)
المصائب التي يصاب بها الناس عامة والمسلمون خاصة عديدة ، أعظمها ثلاث وهي :
المصيبة الأولى : مصيبة انقطاع الوحي بانتقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وقد روي عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أصاب أحدكم مصيبة ، فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب " . وقد عد الصحابة الكرام موت النبي عليه الصلاة والسلام أعظم المصائب ، إذ بها انقطع وحي السماء عن الأرض .
آثار هذه المصيبة :

ولمصيبة انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم آثار عديدة أهمها :
أولا : الحزن الذي يصيب المسلم بعدم تشرفه برؤية الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولهذا وصف بعض الصحابة يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسود يوم مر عليهم .
ثانيا : اكتمال الدين ، فقد أكمل الله الدين قبل وفاته عليه الصلاة والسلام ، وهذه نعمة أتمها الله على المسلمين ، فقال سبحانه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) سورة المائدة :3
ثالثا : فتح باب الاجتهاد لمن قدر عليه من المسلمين ، ليؤكد صلاحية الإسلام لكل عصر وجيل ، وزمان وقبيل ، فما من نازلة إلا ولها حكم شرعي عند مجتهدي هذه الأمة .
رابعا : وبانقطاع الوحي كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد اكتمل بناؤها ، واشتد عودها ، فأكملت بعده مسيرة الجهاد والدعوة إلى الحق والخير والعدل والسلام ، ففتحت البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا
خامسا : بقاء القدوة الحسنة للمسلمين ، والسيرة العطرة لسيد المرسلين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، ليقتدي به المقتدون ، ويسير على نهجه السائرون ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) سورة الأحزاب :21
سادسا : فتح أبواب الفتن بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وقد أخبر حذيفة بن اليمان عمر بن الخطاب ، أن باب الفتن يكسر في عهده ، ولا يغلق إلى يوم القيامة .
واجبنا تجاه مصيبة انقطاع الوحي :
1 حمل لواء الدعوة والجهاد بعده صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
2 المحافظة على الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة في واقعنا ، على جميع المستويات ، الفردية ، والمجتمعية ، والدولية .
3 التخلق بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو القرآن ، فقد أثنى الله عليه سبحانه بقوله ( وإنك لعلى خلق عظيم ) سورة القلم :4 ، ووصفته السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا )متفق عليه.
ونحن في هذا الزمان بأشد الحاجة إلى " القدوة الحسنة " ونموذج " الرجل المؤمن " و " المرأة المؤمنة " .
4 أن نتعلم علوم الشريعة لنصل إلى مرتبة الاجتهاد ، بعد طلبها للفقه في الدين ، والإتباع بدل الابتداع .
5 أن نحذر من الفتن بالاعتصام بالدين ، والعض عليه بالنواجذ ، مهما ادلهمت الخطوب ، واشتدت المصائب ، وليكن شعار المسلم وقت الفتنة : آمنت بالله ، واستقمت على دينه وشرعه .


المصيبة الثانية : المصيبة في الدين
وهي أعظم المصائب بعد مصيبة انقطاع الوحي ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيد منها ، ففي دعائه كان يقول : " ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا " رواه الترمذي والنسائي
آثار هذه المصيبة :
أولا : اتباع الأهواء
ثانيا : التراكض وراء الشهوات .
ومن أمثلة ذلك اتباع العقائد الفاسدة ، واتخاذ الروابط القبلية وغيرها بدل رابطة الدين والعقيدة ، وإهمال الفرائض ، والجرأة على محارم الله ، والغفلة عن الطاعات ومواسمها ، والانشغال عن التوبة قبل الخروج من الدنيا فجأة وكل ذلك من اتباع الشهوات ،واتخاذ الهوى إلها من دون الله ، وقد ذم الله من يفعل ذلك ، فقال سبحانه " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله ، أفلا تذكرون " سورة الجاثية : 23
واجبنا تجاه المصيبة في الدين :
1 تذكر الموت وأنه أول منازل الآخرة ،قال الله تعالى ( وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب ، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كنتم تعلمون ) سورة العنكبوت :64
2 الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية الغراء في كل المواطن والأحوال ، فشقاء البشرية يكمن في استنكافها عن شريعة الإسلام ،وقد قال الله سبحانه (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ، وأولئك هم المفلحون ) سورة النور :51
3 الحرص على الخاتمة الحسنة باستمرار التوبة ،فالتوبة والمبادرة إليها واجبة ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )سورة النور :31
4 أداء الفرائض كما أمر الله وشرع ما دامت الإنسان حيّا يرزق ، فالله يأمر قائلا : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) سورة الحجر :99
5 اجتناب المعاصي والفرار منها ، والتعامل معها كما يتعامل أحدنا مع الوباء ، أليس أحدنا يفرّ من المرض خشية أن يصاب به ؟ ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) سورة الذاريات 50
6 الحذر من الغفلة ، فإنها أصل المصيبة في الدين ، فمن غفل أهمل الواجبات ، ومن أهمل الواجبات إ رتكس في الضلال ، وحلّ به سوء المآل .
وقد كان منهج الصحابة في حياتهم أنهم إذا بلغ أحدهم سنه الأربعين ، اعتزل الدنيا ، وتفرغ للعبادة . وهذا لا يعني أن يهمل المسلم شؤون نفسه وأهله ودنياه بل يتفاعل مع الدنيا من أجل إعمارها وفق منهج الله تعالى ، كما قال الله عز وجل : " وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين " سورة القصص : 76 ـ 77
المصيبة الثالثة : مصيبة الموت
وقد سمى الله الموت مصيبة ، فقال عز وجل " فأصابتكم مصيبة الموت " سورة المائدة : 106
وهي أهون المصائب الثلاثة بالنسبة للمسلم ، وأعظمها بالنسبة للكافر :
أما المسلم ، فلأنها مصيبة يفارق المسلم فيها أهله في الدنيا ، ثم يجتمع بهم في جنات النعيم ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ) سورة الطور :21
فالموت بالنسبة للمسلم ، فراق مؤقت بينه وبين أهله وأحبابه ..
وأما الموت بالنسبة للكافر فهو خسارة الدنيا والآخرة ، فلا مصيبة أعظم من دخول النار والخلود فيها .. قال الله تعالى : ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ) .سورة طه :74
آثار مصيبة الموت :
1 فراق الأهل والأحبة والحزن لفراقهم ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وابنه إبراهيم يجود بنفسه ( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
2 انقطاع الإنسان عن الدنيا، وتركه أمواله لغيره من بعده ، فلا ينتفع منها إلاّ بما أنفقه في حياته يبتغي به رضوان الله ، أو بما أوصى به في وجوه الخير ، ففي الحديث المتفق عليه ( يتبع الميت ثلاثة : أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يرجع أهله وماله ، ويبقى عمله ).
3 دخوله القبر ، وهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم
4 انقطاع العمل وبقاء أثره من الحسنات أو السيئات ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) سورة الزلزلة :7-8
5 المحاسبة على ما قدم الإنسان وأخر من قول وعمل يوم القيامة ( فأما من ثقلت موازينه ، فهو في عيشة راضية ، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ) سورة القارعة :6-9
واجبنا تجاه مصيبة الموت :
1 تذكر الموت في كل لحظة ، ومع كل نفس ، فإن الإنسان لا يدري متى يموت ، وعلى أي حال يموت .
2 الحرص على العمل الصالح دائما ، حتى يختم له به حين يموت .
3 وجوب توبة المسلم العاصي من الذنوب ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا )سورة التحريم :8
4 وجوب توبة الكافر من الشرك والكفر ، حتى لا يقابل الله يوم القيامة بأعظم المصائب التي تخلّده في عذاب الجحيم .
5 الصبر عند فراق الأحبة بالموت ، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثمّ احتسبه إلاّ الجنة ).
وفي مصيبة الموت عبر وعظات منها ما رواه البيهقي في شعب الإيمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم ما أكلتم منها سمينا " . فكيف ينسى الإنسان العاقل الموت وما بعده وقد قال الله تعالى أنه ( خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )سورة تبارك :2
وكان القاضي شريح يقول : " إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى عليها أربع مرات :
: إ ذ لم تكن أعظم مما هي .
: وإذ رزقني الصبر عليها
: وإذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب .
: وإذ لم يجعلها في ديني .
وعلى كل حال فالموت ليس هو الرزية الكبرى ، والمصيبة العظمى ، بل الرزية كل الرزية ، لمن أصيب في دينه ، ولاقى ربه بعد الموت عاصيا له ، مغضبا لجلاله عز وجل ..
كل المصيبات إن جلت وإن عظمت إلا المصيبات في دين الفتى جلل

فاللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها والحمد لله رب العالمين