المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبة الجمعة للشيخ يوسف أبو سنينة من المسجد الأقصى بتاريخ 19/12/2003م وفق 25 شوال 1424 هجري


admin
05-12-2009, 06:46 PM
تاريخ الخطبة: 25 شوال 1424 وفق 19/12/2003م
عنوان الخطبة: هدي السلف
الموضوع الرئيسي: الرقاق والأخلاق والآداب
الموضوع الفرعي: مكارم الأخلاق
اسم الخطيب: يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه

ملخص الخطبة
1- فضل الصبر على البلاء. 2- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم. 3- موقف رسول الله من المتزلفين. 4- موقف لعمر بن عبد العزيز مع المداحين. 5- موقف لعمر بن الخطاب قبيل وفاته.

الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، خمسة أمور يثقل ميزان العبد يوم القيامة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح إذا مات واحتسبه والداه عند الله، والولد إذا مات في حياة والديه، فقال والداه: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتدرون ماذا يحدث يا عباد الله؟ يجمع الله الملائكة التي قبضت روحه، ويقول لهم: ((أقبضتم روح ولد عبدي؟ فتقول الملائكة: نعم يا ربنا، فيقول الله تعالى: فماذا قال عبدي عندما مات ولده؟ فتقول الملائكة: حمدك واسترجع أي قال: "الحمد لله، وإنا لله، وإنا إليه راجعون"، فيقول الله عز وجل: "يا ملائكتي ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد))<SUP><SUP>[1]</SUP></SUP> (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftn1).
سيدي يا رسول الله مات أبناؤك جميعاً أمام عينيك، وبقي لك إبراهيم، وبعد ما بلغ سنة وأربعة أشهر نام على فراش الموت، فكان الحبيب صلى اله عليه وسلم ينظر إليه ويقول: ((يا إبراهيم، أنا لا أملك لك من الله شيئاً)).
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى في وصف أصحاب رسول الله: http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifمُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [الفتح:29]، فلماذا أصبح بعض المسلمين في هذه الأيام قساة القلوب غلاظ الأكباد جفاة الطباع؟ ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس بالمساكين، وكان أرحم الناس بابن السبيل، وكان أرحم الناس بالأرامل والمصابين، وكان أرحم الناس بالناس أجمعين.
دخل الصلاة صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فصلى وراءه أعرابي، وقبل أن يكبر الأعرابي تكبيرة الإحرام دعا الله قائلاً: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
وظن أنه بذلك يجامل الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يحب التزلف، وكان أبعد الناس عن المتزلفين، كان لا يحب المجاملات الزائفة ولا الكلمات الرخيصة، لم يكن كهؤلاء الذين يطربون ويمرحون ويفرحون إذا قيلت فيهم العبارات الرنانة، إذا وصل الناس إلى هذا الأمر وأثنوا على الحكام، وصار النفاق طريق النجاة، وصار الكذب سلم المرقاة، وصار الكذاب صدوقاً، والكذاب صدوقاً، وقربنا الأعداء، وبعدنا الأصدقاء، فقل على الدنيا العفاء.
عباد الله، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال ارحمني ومحمداً، ولا ترحم أحداً سوانا، بعدما فرغ من صلاته، نظر إلى الأعرابي وهو غاضب وقال: ((يا أعرابي، كيف تضيق رحمة الله التي وسعت كل شيء))[2] (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftn2).
لو قيلت هذه العبارة أمام حاكم من حكام اليوم لمنح قائلها وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وبوأه أرفع المناصب، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة المهداة الذي خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله: http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifوَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [الأنبياء:107].
عباد الله، رجل يدخل على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ويطريه ويمدحه ويقول له: ما أعدلك ما أعظمك، وعمر يضع يديك بين كفيه مطرقاً إلى أن فرغ من كلامه، فقال له أمير المؤمنين: أفرغت من كلامك يا هذا؟ قال: نعم، قال له: إن هذا الجسد الذي تمدحه، لو أنك زرته بعد ثلاثة أيام من دفنه لوليتَ فراراً، لملئت منه رعباً، جسد فانٍ من التراب، وإلى التراب، ولذلك لما عرفوا هذه الحقيقة العليا أغلقوا الأبواب في وجه المنافقين والكذابين، لأن النفاق إذا نبت في الأرض أذهب خيرها، وأضاع قيمتها، وزالت أخلاقها، وذهب كرامتها، وولت عزتها وأصبحت الحياة بلا قيمة.
عباد الله، ما قيمة الحياة إذا كانت نفاقاً، أمير المؤمنين عمر رضي الله وهو على فراش الموت دعا ابنه عبد الله وقال له: "ارفع رأسي عن الوسادة، وضعها على الأرض، لعل الله ينظر إلي، ورأسي على الأرض، فيرحمني".
سبحان الله، عمر أحد المبشرين بالجنة، الذي وقف الرسول معه ومعهما أبو بكر وعثمان على جبل أحد ذات يوم، فارتج الجبل بهم، فقال صلى الله عليه وسلم للجبل: اسكن أُحد فإن فوقك نبياً وصديقاً وشهيدين، عمر الذي قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((عمر رجل جعل الله الحق على قلبه ولسانه، ولو كان فيكم محدَّثون ـ أي ملهمون ـ لكان عمر))<SUP><SUP>[3]</SUP></SUP> (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftn3).
ومع ذلك ينام على فراش الموت، ويجد وهو يضع رأسه على الوسادة أن فيه شيئاً من الكبرياء، وهو في مقام التواضع في سكرات الموت، وهو الذي لقيه صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال له: يا عمر، لقد رأيت الليلة قصراً من قصور الجنة، ورأيت أمامه حورية تتوضأ، فسألته: قصر من هذا؟ فقالت: قصر عمر، وأنا إحدى نساء عمر، قال الحبيب لعمر: ((فلما علمت أنها زوجتك صرفت وجهي عنها، ولم أنظر إليها خشية أن تغار يا عمر))، فقال له عمر رضي الله عنه: وعليك أغار يا رسول الله؟[4] (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftn4)
عباد الله، إن عمر طعن في الخنجر وهو يصلي الفجر بالمسلمين إماماً، طعن ثلاثة طعنات بخنجر مسموم، ونزف دماً، ولما لم يستطع إتمام الصلاة استخلف عبد الرحمن بن عوف ليكمل بالمسلمين الصلاة، وحُمل العملاق إلى داره، حُمل الأسد على أعناق الرجال، فلما أفاق من إغماءته كان أول سؤال سأله لمن حوله: (هل صلى المسلمون الفجر؟) بالله عليكم أي حاكم على وجه الأرض في هذه الشدة الشديدة وفي ساعة العسرة عندما تبلغ القلوب الحناجر يقول: أصلى المسلمون الفجر؟
إن ثمة أناساً لا يسألون عن المسلمين ولا عن صلاتهم، إنما يسألون: أين فلان ولماذا ربى لحيته؟ ولماذا تحجبت فلانة؟ وتكتب التقارير وترفع، إلى أين؟ هل ترفع إلى رافع السماء بلا عمد؟ لا، إنما ترفع إلى من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ترفع من أجل محاربة الإسلام والمسلمين، لماذا كل ذلك؟ ألا تخافون من الله تبارك وتعالى؟ ألا تعلمون أن الله يعلم السر وأخفى؟ ألا تعلمون أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ فما لحاكم يسأل: أصلى المسلمون الفجر في هذه الأيام؟ سؤال خطير، وإذا قاله الحاكم فإنما يخشى عليه، ولكن إذا علمت أن السائل عمر فلا عجب، فإن عبقريته كوّنها الله ذرة ذرة، فعمَر هو عمر الرجل الذي لم يستطع الغرور أن يقتحم عليه أسوار نفسه المنيعة.
ثم ماذا يا أمير المؤمنين؟ يقول لابنه: يا عبد الله أغمض عيني قبل أن تصعد الروح إلى خالقها، وجهني إلى القبلة، ابسطوا كفني في ثياب بيض، لا إسراف فيها، فإن يكن لي عند الله خير أبدلني ثياباً من سندس وإستبرق، وإن يكن لي عند الله غير ذلك سلب الثياب عني.
ثم قال: اقتصدوا في قبري، لا توسعوا قبري، لا تسرفوا في قبري، إن يكن لي عند الله خير وسّعه علي، جنة عرضها السماوات والأرض، وإن يكن لي عند الله غير ذلك ضيّقه علي، حتى أشعر كأن أضلاعي قد اختلفت بعضها ببعض، أسرعوا في السير بي، فإن يكن لي عند الله خير قدموني إليه، وإن يكن عند الله غير ذلك فإنما هو شر تلقونه عن أكتافكم.
يا عبد الله، لا تذكروني بما ليس بي، فإن الله أعلم بحالي منكم، ولا تُخرجوا ورائي نائحة ولا ناراً.
ثم يسأل رضي الله عنه: من الذي قتلني؟ فقالوا له: غلام مجوسي، اسمه أبو لؤلؤة، فيخر ساجداً لله، وبعد السجود يرفع رأسه، ويقول: الحمد الله الذي جعل مصرعي على يد رجل كافر لم يسجد لله سجدة يحتج بها علي أمام الله، ثم قال لولده: اذهب إلى أم المؤمنين السيدة عائشة، وقل لها: عمر يستأذنك أن يدفن بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، قل لها: عمر، ولا تقل لها: أمير المؤمنين، فلست اليوم أميراً للمؤمنين، كان رضي الله عنه حساساً، حتى في استعمال الألفاظ، وكان دقيقاً حتى في اختيار الكلمات.
ويذهب ابنه إلى أُمنا السيدة عائشة، ويستأذنها، فتقول: يا عبد الله، لقد كنت أود أن أدفن أنا في هذا المكان مع زوجي ومع أبي، مع والدي أبي بكر رضي الله عنه، أمَا وقد طلبه أمير المؤمنين فأنا أفضِّل أمير المؤمنين على نفسي.
ويرجع عبد الله إلى عمر ويقول له: لقد أذِنت يا أبتاه، فيقول رضي الله عنه: ارجع إليها واستأذنها مرة أخرى، فربما رضيت في حياتي حياء مني، ورجعت عنه بعد وفاتي.
أين هذا يا عباد الله من الذين يغتصبون الأراضي في هذه الأيام؟ أين الذين يغتصبون العقارات؟ أين الذين يغتصبون القصور؟ أين الذين يغتصبون الأموال؟ عمر رضي الله عنه إنما يستأذن في أمتار، لا ليبني عليها عمارات شاهقة، ولا ليقيم عليها برجاً عالياً، وإنما ليدفن فيها، ويدفن مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: بعد أن دفن أمير المؤمنين في حجرتي مع رسول الله ومع أبي، كنت أدخل عليهما بقميص نومي، فلما دفن عمر استحييت أن أدخل عليهما بقميص النوم، حياء من عمر، كيف لا وهي الخبيرة العالمة بقوله تبارك وتعالى: http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifوَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوٰتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [آل عمران:169]، كان رضي الله عنه تحت أطباق التراب في حجرة السيدة عائشة، إلا أنه حي، ولذلك استحيت أن تدخل عليه، وهو تحت أطباق التراب.
هؤلاء رجال رباهم خير الرجل، كان عمر بين الناس رجلاً، وكان بين الرجال بطلاً، وكان من الأبطال مثلاً، هؤلاء الذين قال الله تبارك وتعالى في وصفهم: http://www.alminbar.net/images/start-icon.gifتَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِhttp://www.alminbar.net/images/end-icon.gif [الفتح:29].
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وتذكروا أنكم بين يديه وفي رحاب مسجده الأقصى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.



<HR align=right width=33 SIZE=1>[1] (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftnref1) أخرجه أحمد (4/415)، والترمذي في الجنائز، باب: فضل المصيبة إذا احتسب (1021) وقال: حسن غريب عن أبي موسى رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (2948 ـ الإحسان ـ)، وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (814)، وصحيح الجامع (795)، وصحيح الترغيب (2012).

[2] (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftnref2) أخرجه بمعناه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (6010) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

[3] (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftnref3) أخرجه بنحوه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (3469) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2398) عن عائشة رضي الله عنها.

[4] (http://www.al-msjd-alaqsa.com/Khotb_Eljoma'a/2003-12-19.htm#_ftnref4) أخرجه البخاري في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب (3679)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2394) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.




الخطبة الثانية
الحمد الله الذي يعلم السر وأخفى، وإليه المرجع والمآب، وأحاط بكل شيء علماً، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله فرد صمد، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أكمل البرية خَلْقا وخُلُقا وسؤدداً، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك النبي المجتبى والحبيب المصطفى، وآله المستكملين الشرفا، والتابعين لهم على الهدى.
أما بعد: يا عباد الله، اتقوا الله وتذكروا أن الدنيا دار بلاء، ومنزل قلق وعناء، وقد نزعت عنها نفوس السعداء، وانتزعت في الكره من أيدي الأتقياء، فأسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم بها، أرغبهم فيها، طوبى لعبد اتقى فيها ربه، وناصح نفسه، وقدم توبته، وأخّر شهوته، قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة، فيصبح في بطن موحشة غبراء، لا يستطيع أن يزيد في حسنة، ثم ينشر، فيحشر، ثم إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفذ عذابها، فاتقوا الله يا عباد الله، واشكروه على ما منّ عليكم به من بركات السماء، وتوجهوا إلى تبارك وتعالى ليجعله غيث رحمة ونعمة.