المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طلب بحث ودراسة ...


نائل أبو محمد
09-05-2009, 08:21 AM
لا حاجة لبيان الدافع وراء هذا الطلب ..
إلا أني أبدأ متوكلاً على الله
وأكتب مذكراً نفسي في كيفية الوصول للفكرة ..
دار حديث بيني وبين مدرس عن القراءة وزهدالناس فيها اليوم ..
ومسألة العلم من خلال الشبكة العنكبوتية .. الحاسوب .. الخ .
قائلاً ملخصاً أن الكتاب هو الأصل ...........
ورغم هذا طلب مني أن أبحث عن
مسألة
الـسـنـن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية
وبصيغة أخرى :
الـسـنـن الإلهية في علم الإجتماع وفي الكون ـ بحث ـ ..

نائل أبو محمد
09-05-2009, 08:30 AM
مؤقت : *
نقلاً عن منتديات لواء الشريعة .
السنن الإلهية في تفسير الأحداث التاريخية
عبدالله بن ناصر الحديب
المتأمل في تعاقب الليل والنهار، ومعجزات الأنبياء والرسل، ووقوع الزلازل، والبراكين، والفيضانات، والكوارث، وتفشي الأمراض الفتاكة، وتسلط الأعداء، والصراع بين الحق والباطل، وسوء عاقبة الظالمين، ثم انتصار الحق والإيمان على أهل الضلال والطغيان يتيقن ويؤمن بأن وراء كل ذلك سنن إلهيه، وحكم ربانية عظيمة، يدركها البعض وقد تغيب أحياناً عن البعض الآخر.
وفي هذا المقال نلقي الضوء على "السنن الإلهية" التعريف بها، أنواعها، أهميتها، خصائصها، مميزاتها، أمثلة ونماذج عليها، ثم الدروس المستفادة منها.


أولاً : التعريف بالسنن:
للسنن عدّة معان منها : سن الماء على وجهه أي صبه عليه صباً سهلاً، والسنن: القصد، ويقال : بنى القوم بيوتهم على سنن واحد: أي على مثال واحد(1) .
وجاء في مختار الصحاح : السَّننُ الطريقة، يقال: استقام فلان على سنن واحد، ويقال: امض على (سَننَك) و(سُننك): أي على وجهك، وتنحّ عن (سنن): الطريق، و(السُنّة): السيرة، و(سَنّ) السكين: أحدّه، و(المِسَنّ): حجر يحدد به، وكذلك (السِنان): وهي سنان الرمح وجمعه أسِنَّة(2).
والسنن من الله : أحكامه وأمره ونهيه، والسنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة، قال الله تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى" ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين( 55 ) {الكهف: 55}،سنة الأولين : أنهم عاينوا العذاب .
ويقصد بالسنة: الاتباع، ففي الحديث : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" (3)، وكل من ابتدأ أمراً عمل به قوم بعده قيل هو الذي سنه .
وقد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها، والأصل منه الطريقة والسيرة، وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ماأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه، وندب إليه قولاً وفعلاً مما لم ينطق به الكتاب العزيز؛ ولهذا يقال في أدلة الشرع : الكتاب والسنة أي القرآن والحديث .
ومنه سن الطين: طين به فخار أو اتخذه منه، والمسنون: المصور، والمسنون :المنتن (4) ، قال تعالى: من حمأ مسنون 26 {الحجر: 26}.
ثانياً : أنواعها:
إن من أول مايلحظه دارس السنن الربانية في الكتاب والسنة يجد أن هناك سنناً عامة، وسنناً خاصة:
أ) السنن العامة: وهي الأكثر عدداً والأوسع مساحة في التاريخ البشري، تشمل الإنسان كله مؤمنه وكافره، وإن كانت تحدد للمؤمنين طريقهم، وعاقبة أمرهم إذا استقاموا على الإيمان، كما تحدد للكافرين طريقهم وعاقبة أمرهم وتبين الفارق الواسع بين حياة هؤلاء وحياة أولئك في الدنيا والآخرة جميعاً، من ذلك: أن الله تعالى أعطى عطاءه لجميع البشر مؤمنهم وكافرهم، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً،كما قال سبحانه: كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا 20 {الإسراء: 20}،فهو سبحانه لم يخص فريقاً منهم بالعطاء دون فريق؛ لأن سنة الابتلاء حينئذ تنتفي، بينما هي من الغايات الرئيسية في خلق الإنسان، كما قال تعالى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا 2 {الإنسان: 2}.
ب) السنن الخاصة: وهي الأقل، تقع للمؤمنين وحدهم أو للكافرين وحدهم، ولكنها رغم خصوصيتها سنن جارية، أي: أنها تتكرر للمؤمنين، ولا تقع للكفار، مثل: عدم تحقيق التمكين للمؤمنين إلا وهم مستقيمون على الإسلام، أو تتكرر للكفار ولاتقع للمؤمنين مثل: تحقق التمكين للكفار وهم عصاة (5).
والسنن الربانية نوعان: سنن خارقة،وسنن جارية:
أ - السنن الخارقة: هي التي يجريها الله على خلاف المألوف،على يد رسول من رسله، تأييداً من الله له بتلك المعجزة، كما حوّل العصا حية في يدّ موسى عليه السلام، وكما أنبع الماء من الصخرة عندما ضربها موسى بعصاه، وكما فلق البحر إلى اثني عشر طوداً عظيماً بتلك العصا لنبي الله موسى عليه السلام، وكما شق القمر نصفين معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (6).
ب - السنة الجارية: وهي نوعان:
سنة متعلقة بالأمور الطبيعية، كسنة الله في تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، فهي تجري وفق ناموس محدد قدره الله لها.
وسنة متعلقة بدين الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فهي ثابتة لاتتبدل، مثل: نصره لأوليائه، وإهانته لأعدائه، كما أنه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم، فإن ذلك لا ينتقض ولا يتبدل ولا يتحول، فهو سبحانه وتعالى لايفرق بين المتماثلين وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل، كما أن من سنته التفريق بين المختلفين كما دلّ على ذلك القرآن (7)، قال تعالى: أفنجعل المسلمين كالمجرمين 35 {القلم: 35} .
والسنن الكونية منها مايخص الكون، ومنها مايخص الإنسان كفرد من أفراد هذا الكون، فالكون مخلوق لله تعالى مسخر للإنسان، ليس له إرادة، وهو مضبوط بسنن ونواميس، يطلق عليها اليوم اسم " قوانين الطبيعة" (8).
ثالثاً: أهميتها :
إن التفسير الإسلامي للتاريخ يضع نصب أعيننا مراعاة السنن الرباينة التي تحكم هذا التفسير وتحكم الحياة البشرية، ومن خلالها يجري قدر الله تعالى، قال تعالى: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 137 {آل عمران: 137}،فعاقبة المكذبين هنا من السنن التي يُجري بها الله الحياة البشرية، والتي يطلب من الناس التدبر والاعتبار بها حتى لايقعوا فيها، فلا بد من دراسة التاريخ من خلال السنن وهي واردة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية (9).
إن الإضاءة تحصل لدارس التاريخ بمقدار اعتباره بسنن الله تعالى في البشرية جمعاء، وبمدى قيامه بما تقتضيه هذه السنن من تكاليف في عالم الواقع، فتشتد الإضاءة حتى تتوهج حين يكون اعتبارهم بالسنن على أتمه، وتخبو حين يضعف اعتبارهم بهذه السنن، وتظلم الصفحة تماماً حين تنقطع صلة الناس بمصدر النور.. وإن رؤية تاريخ الأمة على هذا النحو ليصحح كثيراً من المفاهيم المغلوطة التي تتداول في التاريخ (10).
تتجلى خصوصية التاريخ الإسلامي في كونه منهجاً يوضح دور الإنسان ومسؤوليته عن التغير الاجتماعي والتاريخي في إطار المشيئة الإلهية، فالتفسير الإسلامي للتاريخ ينبثق من تصور الإسلام للكون ولحياة الإنسان، فهو يقوم على الإيمان بالله تعالى، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فلا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية، كما أنه مبني على دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الأول، مما جعل حركة التاريخ الإسلامي ذات طابع متميز عن التاريخ العالمي لأثر الوحي الإلهي فيه (11).
ويتحدث الشيخ محمد عبده عن هذه السنن داعياً إلى دراستها بعناية فيقول : فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وقد بينها العلماء بالتفصيل، عملاً بإرشاده كالتوحيد،والأصول، والفقه.
ويعقب د. نعمان السامرائي بقوله: وأعتقد أن ذلك واجب كل من يدرس علم الاجتماع والحضارة، فكل أمة لابد أن تدرس هذه السنن، حتى تعلم موقعها وماحل بها، وطريق نهضتها، والقرآن الكريم مشحون بهذه السنن(12).
وعندما رصد د. محمد السلمي القواعد في منهج تفسير الحوادث والحكم عليها جعل في مقدمة ذلك "اعتماد المصادر الشرعية وتقدمها على كل مصدر"، وذلك بالرجوع إلى اعتبارين اثنين :
الأول: لأنها أصدق من كل وثيقة تاريخية.
والثاني: لما تدل عليه من القوانين التاريخية.
والسنة الربانية، والنظرة الشمولية لتاريخ البشرية كله على مدار الزمان في الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ مما يعطي الباحث سعة وشمولاً في النظرة التاريخية، وعمقاً في تحصيل الأحداث، ومقدرة على تشخيص الداء ووصف الدواء، إن هذا الكون بما فيه الإنسان هو خلق الله تعالى، فلا بد من الرجوع إلى الخالق لفهم هذا الخلق، وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق لهداية البشرية، سنجد السنن واضحة، والاتجاهات محددة (13) .
ومن المعلوم أن الوحي (الكتاب والسنة) وضح لنا السنن - أي: القوانين الطبيعية والاجتماعية المبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات- التي تسير في إطارها الأحداث، وتحكم من خلالها الأمم، والدول، والأشخاص.
ومن خلال السنن الربانية في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نفهم التاريخ: ونفسر أحداثه، ونعرف عوامل البناء، والأمن، والاستقرار، والبقاء، وعوامل الهدم، والخوف، والسقوط، والتدمير، وأن هذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك (14) .
ومن أهم ثمرات دراسة التاريخ: التعرف على السنن الربانية في الكون، فإن لله سنناً في خلقه أرشدنا إليها، وطلب منا التعامل معها، قال الله تعالى: فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا 43 {فاطر: 43}، وقال تعالى: سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون 85 {غافر: 85}.
فالمطلوب من المسلم هو التعرف على هذه السنن الربانية، والتاريخ بما يحوي من الحوادث المتشابهة والمواقف المتماثلة، يساعد على كشف هذه السنن، التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة،حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها، والنجاة منها، حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابة الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث، فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق (15).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن"، فهذه السنن الشرعية إنما تدرك من خلال النظر في التاريخ، وملاحظة مصائر الأمم، وقيام الحضارات، وسقوطها، وأسباب ذلك.
والسنن الربانية تجيء في القرآن غير محددة؛ لكي تشمل أكبر قدر من الوقائع، وتلامس أكبر عدد من التفاصيل والجزئيات.
كما أن معرفة السنن الربانية تفرض على الجماعة الواعية المدركة والملتزمة أن تتجاوز مواقع الخطأ، التي قادت الجماعات البشرية السابقة إلى الدمار والهلاك، وأن تحسن التعامل مع تلك السنن، ومع قوى الكون مستمدة ذلك من منهج الله سبحانه الذي سار عليه أنبياؤه ورسله عليهم السلام (16).
وحول هذا الموضوع الذي سمّاه د.عبدالكريم بكار "فقه الحركة بالمنهج الرباني" يقول : يجب أن يكون فقه الحركة بالمنهج الرباني واقعاً في حياتنا، أي: أن نحول المنهج الرباني من شيء مكتوب إلى شيء ملموس يتم من خلال الاطلاع على عدد من العلوم كعلم النفس والاجتماع، مع إعمال العقل وإجراء التفكير على مانقرأه..(17) .
إن المؤرخ، أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العامي إذا اطلع على آثار صنع الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله تعالى، وكيف مضت عليها سنته على غير مايترقب الناس، وعلى غير مايتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالاً وتعظيماً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لايموت سبحانه وتعالى (18).
إن تفسير التاريخ علمٌ إسلامي .. قصّر فيه المسلمون، وإن تقصيرهم فيه كان من أسباب إخفاقهم في معركتهم الحضارية المعاصرة .. إن فقهنا للحضارة أمر ضروري، والانسجام مع السنن الكونية والاجتماعية هو الطريق الوحيد للتقدم وتجنب المنزلقات (19) .
والسنة الربانية قد تستغرق وقتاً طويلاً، لكي ترى متحققة، في حين أن عمر الفرد محدود؛ ولذلك فلا يمكنه رؤية السنة متحققة، بل قد يرى الإنسان جانباً من السنة الربانية ثم لاتحقق نهايتها في حياته؛ مما قد يدفعه إلى عدم إدراك السنة أو التكذيب بها، وهنا يكون دور التاريخ في معرفة أن السنة الربانية لابد أن تقع، ولكن لما كان عمرها أطول من عمر الفرد بل ربما أطول من أعمار أجيال، فإنها ترى متحققة من خلال التاريخ، الذي يثبت أن سنة الله ثابتة لا تتبدل (20)، كما قال تعالى: سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا 62 {الأحزاب: 62}.
فمن خلال دراسة التاريخ يعلم الإنسان أن الحاضر الذي يعيشه - إذا كان في مايتصور أنه مخالف لسنة الله الشرعية - غير مستثنى من السنة الربانية، بل هو جزء منها، ولكن للسنة الربانية أجل ووقت محدد، قال تعالى: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين 6 {الأنعام: 6}.
قال سيد قطب في تفسير هذه الآية: ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة، وقد مكنهم الله في الأرض، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان مالم يعط مثله - وذلك للمخاطبين في هذه الآية - وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض، وينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ليبلوهم فيه، أيقومون عليه بعهد الله وشرطه، من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده - بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه - أم يجعلون من أنفسهم طواغيت تدعيّ حقوق الألوهية وخصائصها، ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف، إنها حقيقة ينساها البشر إلا من عصم الله وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شروط الاستخلاف، ويمضون على غير سنة الله، ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويداً رويداً، وهم ينزلقون ولا يشعرون، حتى يستوفي الكتاب أجله، ويحق وعد الله .. ثم تختلف أشكال النهاية، مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم؛ كما وقع لكثير من الأقوام، ومرة بالسنين ونقص الأنفس والثمرات، كما حدث لأقوام آخرين، ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض، فيعذب بعضهم بعضاً، ويدمر بعضهم بعضاً، فتضعف شوكتهم في النهاية، ويسلط الله عليهم عباداً له - طائعين أو عصاة - يحصدون شوكتهم ويقتلعونهم مما مكنوا فيه (21)، ثم يستخلف الله العباد الجدد؛ ليبتليهم بما مكنهم، وهكذا تمضي دورة السنة، فالسعيد من وعى أنها السنة، والشقي من غفل عن هذه الحقيقة، وإنه لمما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر ممكناً له في الأرض، غير مأخوذ من الله تعالى، ولكن الناس إنما يستعجلون، إنهم يرون أول الطريق أو وسطه، ولايرون نهاية الطريق(22)؛ وذلك لأن السنة قد تستغرق وقتاً طويلاً، ولكنها تلاحظ من خلال أحداث التاريخ.
وهذا المعنى جاء مصرحاً به في قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى" إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون 44 {الأنعام: 44}، فقد فتح الله عليهم أبواب كل شيء، عندما نسوا ماذكروا به من أوامر الله ونواهيه، فلما فرحوا بهذا الفتح وهذا الرزق أخذهم الله بغتة، فإدرار الرزق عليهم كان من باب الاستدراج،قال الله تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا 17 {الطارق: 17}، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى الأشعري "إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته"، (23) ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى" وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد 102 {هود: 102}.
وهذه الأبواب التي تفتح للكافرين هي من تمام عدل الله، الذي يقضي بأن يعطي كل عامل جزاء عمله من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد 18 {الإسراء: 18}، فإنهم لما عرفوا القوانين المادية للتقدم نالوا ثمرة جهدهم في الحياة الدنيا، مع أنه لن يكون مثل رخاء المؤمنين المستقيمين على منهج الله تعالى، وطمأنينة نفوسهم، بل هو رخاء موبوء كله آفات، اختلال اجتماعي، وانحدار خلقي، وإهدار لكرامة الإنسان وقيمه المعنوية في مقابل المادة، ونظرة فاحصة في أحوال المجتمعات الجاهلية في عالمنا المعاصر ترينا ذلك واضحاً، ومن الملاحظ أن ثبات السنن الربانية يقابله ثبات في طبيعة الإنسان وخلقته(24).
فالحوافز الإنسانية لن تتغير منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، كما أن دوافع الإنسان الفطرية - وهي منطلق نشاطه - لم تزل قائمة كما كانت في الماضي، ومايصلح البشر في الماضي هو الذي يصلحهم في الحاضر (25).
رابعاً: السنن في القرآن و السنة :
(أ) السنن في القرآن الكريم:
لقد تضمن القرآن الكريم في آياته أسرار السنن والنواميس التي تسير حركة التاريخ وفق منعطفها الذي لايخطئ، وعبر مسالكها المتفننة التي ليس إلى الخروج عليها سبيل؛ لأنها تتسم بالثبات والنفاذ وعدم التحول والتغير، ولأنها موجودة أساساً في صميم التركيب الكوني، وفي قلب العلاقات المتبادلة بين الإنسان والعالم .. لقد كشف القرآن الكريم عن هذه السنن وتلك النواميس، وأكّد وجودها وثقلها في حركة التاريخ .. هذا في وقت ظل فيه المؤرخون والمفكرون عامة يتخبطون في دراساتهم ومعطياتهم التاريخية؛ لأنهم - حتى القرن الماضي وما قبله - لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه السنن التي تحكم حركة التاريخ، ويطمئنوا إليها، ويجروا تحليلاتهم وتفاسيرهم وفق مؤشراتها ودلالاتها.. ولم يحدث أخيراً، أن اكتشف مفكرو أوروبا ناموس الحركة التاريخية ولكنهم سلطوا عليها معاييرهم (النسبية) ومقاييسهم (الجزئية) فأخذ طابع مذاهبهم الفكرية المهزوزة (26).
إن التفسير الإسلامي للتاريخ ينفرد عن سائر التفاسير بأنه يخصص للبعد الغيبي - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً - مساحات واسعة ويجعله أحد الشروط الأساسية للإيمان بالله الذي لاتدركه الأبصار، وبوحيه الذي ينقل للبشرية التعاليم الربانية بواسطة أنبياء الله ورسله عليهم السلام، ومعطيات هذا الوحي من إيمان بالبعث والحساب والجزاء.
إن الله سبحانه وتعالى يمنح نعمه التي تنزل وفق النواميس الطبيعية بالقسطاس المستقيم على الأمم والشعوب، إلا أن الجماعة التي تسيئ التصرف، وتطغى وتتجبر، ويسوقها الطغيان والجبروت إلى الكفر والمروق والتمرد على النظام الكوني، ومبدعه، فإن العقاب في الانتظار، وفي آيات القرآن الكريم تأكيد دائم على استمرارية الجزاء على الفعل، وتواصله في الأرض والسماء.
وفي كل المواقف، وإزاء سائر القضايا الأساسية، يصدر القرآن عن قاعدته الشمولية المتوازنة المحيطة، التي لاتغفل، ولا تتطرف، ولاتهمل، ولا تتوتر، كما هو الحال في المناهج الوضعية (27).
لقد اشتمل القرآن العظيم على آيات متعددة تقرر السنن الإلهية، وردت في الكثير من الآيات القرآنية التالية:
قال الله تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على" قوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم 53 {الأنفال: 53}.
وقال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم 11 {الرعد: 11}.
وقال تعالى: وتلك القرى" أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا 59 {الكهف: 59}.
وقال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة 25 {الأنفال: 25}.
وقال تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون 105 {الأنبياء: 105}.
وقال تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى" يقول الرسول والذين آمنوا معه متى" نصر الله 214 {البقرة: 214} .
وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها 10 {محمد: 10}.
وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن \عبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 36 {النحل: 36}.
وقال تعالى: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على" عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد 45 أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور 46 {الحج: 45، 46}.
وقال تعالى: أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 9 {الروم: 9}.
وقال تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى" ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا 55 {الكهف: 55}.
وقال تعالى: أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين 37 {الدخان: 37}.
وقال تعالى: ولو أن أهل القرى" آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون 96 {الأعراف: 96}.
وقال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى" إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون 44 فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين 45 {الأنعام: 44، 45}.
وقال تعالى: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون 123 {الأنعام: 123}.
وقوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى" بظلم وأهلها غافلون 131 {الأنعام: 131}.
وقال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما \كتسبت286 {البقرة: 286} .
وقال تعالى: ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين 145 {آل عمران: 145}.
وقال تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب 20 {الشورى: 20}.
وقال تعالى: من \هتدى" فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى" وما كنا معذبين حتى" نبعث رسولا 15 {الإسراء: 15}.
ب) السنّة في الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنة من كان قبلكم باعاً بباع وذراعاً بذراع وشبراً بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه، قالوا: يارسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن إذاً" (28).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لاينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"(29) .
وعن عبدالله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يامعشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أمولهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" (30).
وقال عليه الصلاة والسلام : "إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته" (31) .
خامساً: خصائص ومميزات السنن الإلهية :
يمكن بيان خصائص السنن الإلهية الربانية وما تتميز به في النقاط التالية:
1- الثبات: أنها ثابتة مطردة إلى أن يشاء الله تعالى، ولا يعارض ذلك وجود الخوارق والمعجزات والكرامات؛ فإن هذه الأمور هي نفسها سنة إلهية أخرى، والله تعالى يقول: ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا 22 سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا 23 {الفتح: 22، 23}، فهذا يدل على أن من سنن الله تعالى أنه إذا التقى المسلمون مع الكافرين، وبذل المسلمون جهدهم فإن الله تعالى يسدد نقصهم برحمة من عنده، ويعينهم بجنوده التي لايعلمها إلا هو، ويسلط على عدوهم الريح أو الخسف أو الزلزال.. ألخ؛ حتى تضعف قوته، فيولي صاغراً ذليلاً منهزماً، وهذه سنة الله الثابتة التي لن تجد لها تبديلاً، ولن تجد لها تحويلاً(32).
2- الشمول: أنها شاملة لجميع الأمة بلا استثناء، فكون الإنسان مثلاً يعيش في رقعة إسلامية، أو له تاريخ معين، أو انتماء معين، هذا كله لايغير من واقع السنن الإلهية شيئاً، والله تعالى يقول: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا 123 {النساء: 123}.
أي: ليست القضية مجرد تمنيات، أو أحلام، أو أقوال، أو ادعاءات، بل القضية عمل وجزاء، والذي مثلاً يعمل السوء فإنه يجزى به في الدنيا والآخرة، والله تعالى لايحابي أحداً ولا يجامله، وقد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين 65 بل الله فاعبد وكن من الشاكرين 66 {الزمر: 65، 66}.
3- الواقعية: أنها سنن واقعية، تتحقق من خلال تسخير الله تعالى الناس لفعلها، فالظالم مثلاً عندما يعاقب، يعاقب على أيدي بشر آخرين، ممن هم أقوى منه يداً، وأشد منه بطشاً فينتقم الله تعالى من الظالم بظالم مثله، وكذلك الكفار، يعاقبهم الله تعالى بتسليط المؤمنين عليهم (33)، قال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين 14 {التوبة: 14}.
وفي الجزء الثاني سنعرض لبعض الأمثلة والنماذج على السنن الإلهية.

الحواشي:
1- ابن منظور، لسان العرب، ص (222) .
2- الرازي، مختار الصحاح، ص (317) .
3- أخرجه ابن ماجه برقم (168)، وقال عنه الألباني: (صحيح)، وأخرجه مسلم باب "من سن سنة حسنة أو سيئة".
4- ابن منظور، لسان العرب، ص (222) و (224) .
5- عبدالحميد بن عبدالرحمن السحيباني، فقه التاريخ، ص (25) .
6- د.محمد بن صامل السلمي، منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص(62) .
7- د.محمد السلمي، مرجع سبق ذكره، ص(63) .
8- د. نعمان السامرائي، مباحث في التفسير الإسلامي للتاريخ، ص(26) .
9- عبدالرحمن بن عبدالله التركي،لمحات في التفسير الإسلامي للتاريخ، ص(52) و(53) .
10 - عبدالحميد السحيباني، مرجع سبق ذكره، ص 15 و16 .
11- د. محمد أمحزون،منهج دراسة التاريخ الإسلامي، ص (19) و (20) .
12- د. نعمان السامرائي، مرجع سبق ذكره، ص(26) .
13- د. محمد أمحزون، مرجع سبق ذكره، ص(59) و(60) .
14- المرجع السابق،ص(60) و(61) .
15- د. محمد السلمي، مرجع سابق الذكر، ص(62).
16- المرجع السابق، ص(63) و(64) .
17- جزء مختصر بتصرف يسير من لقاء مع د . عبدالكريم بكار عبر أثير إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية يوم الأحد 11-2-1423 الساعة الخامسة والنصف.
18- عبدالحميد السحيباني، مرجع سبق ذكره، ص(19) .
19- د. عبدالحليم عويس، تفسير التاريخ علم إسلامي، ص (6) .
20- د.محمد السلمي، مرجع سبق ذكره،ص64 .
21- سيد قطب، في ظلال القرآن، (7-1037) .
22- المرجع السابق،(1038/7) .
23- رواه ابن ماجه برقم (3245)، وقال عنه الإمام الألباني: (صحيح)، وأخرجه البخاري ومسلم.
24- د. محمد السلمي، مرجع سابق الذكر، ص (65) و(66) .
25- المرجع السابق، ص (67) .
26- د.عبدالعليم عبدالرحمن خضر، المسلمون وكتابة التاريخ، ص(276) .
27- المرجع السابق، ص (276) .
28-رواه ابن ماجه برقم: (3228)، وقال عنه الألباني: (حسن صحيح).
29- أخرجه أبو داود برقم: (160)، وقال عنه الألباني: (صحيح).
30- أخرجه ابن ماجه برقم: (3246)، وقال عنه الألباني: (حسن) .
31- رواه ابن ماجه برقم: (3245)، وقال عنه الألباني: (صحيح )، وأخرجه البخاري ومسلم.
32- عبدالحميد السحيباني، مرجع سبق ذكره، ص(23) .
33- المرجع السابق، ص (24) .


* لماذا مؤقت : أي الى حين العودة للمتابعة .

نائل أبو محمد
09-05-2009, 01:03 PM
السنن الإلهية وتقدم الانسان مادياً ومعنوياً

*جعفر ضياء الدين
المتأمل في تكوين هذا العالم، وما فيه من مخلوقات، وما يجرى فيه من أحداث وتطورات، من لحظة نشوئه والى أجل غير معلوم، يكتشف بدلالة واضحة على أن الخالق العظيم قد أبدع هذا العالم على نهج من السنن و القوانين التي لا تتبدَّل ولا تتحوَّل، وليست العلوم المكتشفة وخطوات التقدم التي طواها الانسان وتبني المفاهيم والقيم المعنوية، سوى اكتشاف لهذه السنن و وضعها في صيغة معادلات وقوانين رياضية يمكن استخدامها في تسخير الامكانات والقدرات الموجودة في الحياة .
وقد انتهى العلماء أخيراً إلى أن أعظم ما في هذا العالم وأكثر ما يدل فيه على وجود الخالق العظيم هي هذه السنن التي تنظم حركة الوجود، ونذكر من هؤلاء العلماء الفيزيائي البريطاني المعاصر (ستيفن هوكنغ) الذي يعد من أبرز علماء العصر الحاضر، فقد صرح قائلاً: لقد كشف العلم أخيراً مجموعة من القوانين التي تدلنا ضمن الحدود التي رسمها (مبدأ الارتياب) و كيف سيتطور الكون مع الزمن لو عرفنا وضعه في زمن معين، وهذه القوانين مرسومة من قبل الله الذي اختار هذه الصورة الأولية للكون لأسباب لا يمكن أن نأمل في فهمها، فذلك ولاشك، في مقدور صاحب القدرة المطلقة، أي إن الله عزَّ وجلَّ هو وحده الذي يعلم أسرار صياغة هذه القوانين، ولكن حسبنا أن ندرك وجودها ونفهم آليات عملها، لكي نتمكن من تسخيرها للقيام بأمانة الاستخلاف في هذا العالم .
وترجع أهمية البحث في سنن التاريخ إلى أن كشف هذه السنن ومعرفة شروط عملها يجعلنا أقدر على فهم مسيرة التاريخ والتعامل الإيجابي مع الأحداث، وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلاً عملياً من خلال قصة الفاتح العسكري الشهير (ذي القرنين) لكي ندرك من خلا ل هذه القصة كيف يمكن أن تُذلِّل معرفتنا بالسنن العقبات التي قد تعترضنا في هذا العالم، فقد استطاع ذو القرنين أن يحقِّق في حقبة قصيرة من عمر الزمان فتوحات عسكرية واسعة، في مشارق الأرض ومغاربها، لم يحققها قبله أي فاتح آخر في التاريخ، وذلك بفضل ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ من علم بالأسباب كما جاء في التعبير القرآني البليغ: "وَيَسْألونَكَ عن ذي القَرْنين قُلْ سَأَتْلو عليكُم منهُ ذِكْراً، إنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرضِ وآتيناهُ من كُلِّ شَيْء سَبَبَاً، فَأَتْبَعَ سَبَبَاً" (الكهف 83- 85)، ونستشف من قوله تعالى: "وآتيناهُ من كلِّ شيءٍ سَبَبَاً" أن من جملة هذا العطاء الرباني الكريم تفهيم ذي القرنين بعض السنن الإلهية التي أتاحت له تحقيق تلك الانتصارات العظيمة .
ونظراً لما في معرفة السنن الإلهية من دور في القيام بعمارة الأرض فإن القرآن الكريم يحضُّنا مراراً وتكراراً على السير في الأرض، والتفكر بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود، حتى يلفت عقولنا إلى النظام السنني البديع الذي ينظم حركة كل شيء فيه، لكي نعمل على كشف هذه السنن ونسخرها في عمارة الأرض، وقد هتف الكتاب المجيد في الآية الكريمة: "سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً" (الفتح/23).
وقد حقق البشر من خلال كشفهم لبعض السنن الكونية فتوحات علمية عظيمة كان لها تأثير كبير في تطوير الحياة البشرية، نذكر منها على سبيل المثال تلك السنة التي تنبه لها العالم الرياضي الإنكليزي إسحق نيوتن (1642 - 1727) وصاغها في (قانون الفعل ورد الفعل) فقد تمكن الإنسان بعد أن يسَّر الله له الظروف والإمكانيات المواتية أن يستفيد من خصائص هذه السنة في مجالات عديدة، من أبرزها اختراع المحركات النفاثة التي تعتمد هذه القانون في عملها والتي أسهمت إسهاماً أساسياً بتقدم علوم الطيران وصناعة الطائرات والصواريخ، وأوصلت الإنسان آخر المطاف إلى سطح القمر عام 1969 بعد أن ظل لأحقاب طويلة يتغزل به عن بعد... وهكذا نرى أن المعرفة الصحيحة بسنن الله في هذا العالم تمنحنا قدرات باهرة تعيننا على عمارة الأرض وتحقيق أهدافنا القريبة والبعيدة
شمولية السنن الإلهية
تدل الشواهد والوقائع على مر التاريخ بأن السنن الإلهية لا تحكم العالم المادي وحده، بل تحكم كل ما في الوجود، سواء أ كانت مادية كالذرة أو الكهرباء أو الحرارة أو الضوء أو غيرها، أم كانت معنوية كالعواطف الإنسانية والسلوك الاجتماعي وقيام الحضارات واندثارها، ومصداق ذلك قوله تعالى: "أَفَغَيْرَ دينِ اللهِ يَبْغونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وإليهِ يُرْجَعون" (آل عمران/ 83)، فإن كل ما في هذا الوجود خاضع لسنن الله دون استثناء، وكما أن الماء يطفئ النار، والحديد يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة، ورَمْيَ الحَجَر في الفضاء يجعله يسقط إلى الأرض بفعل الجاذبية، والتقاء النطفة بالبيضة يولد الجنين و.... وكل هذه سنن مادية معروفة، أيضاً هنالك ما تشمله السنن الإلهية مثل انفعالات النفس البشرية، وحياة المجتمعات، ومسيرة الحضارات، وتاريخ الوجود، وغيرها من الظواهر المحكومة بسنن إلهية دون استثناء، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تشير إلى بعض السنن التي تحكم تفاعلات النفس البشرية، منها قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد/ 7)، فالسنّة تقتضي جزماً أن يكون نصر الله وعونه مقابل نصر الانسان الله تعالى، وقد أسهب المفسرون في كيفية أن ننصر الباري عزوجلّ، وأن يكون عملنا خالصاً لوجه تعالى، حينها تنزل الرحمة والنصرة، كما وردت العديد من القصص والحكايات عن الأقوام والحضارات التي سبقتنا وهي تشير بوضوح الى السنن الألهية الثابتة، التي تحكم مسيرة المجتمعات وقيام الحضارات واندثارها،
يقول تعالى: "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ" (الأنفال/ 38). ويبدي البعض شكوكهم تجاه شمولية السنن، إذ يعتقدون أن المادة وحدها تخضع لسنن صارمة يمكن أن تصاغ صياغة علمية دقيقة، أما لواعج النفس البشرية وسلوك الأفراد وحياة المجتمعات والأمم وقيام الحضارات وسقوطها فلا يخضع ـ في ظن هؤلاء الباحثين ـ لمثل هذه الصرامة، بل يذهب بعضهم إلى ما هو أغرب فيزعمون أن التغيرات النفسية والاجتماعية والتاريخية تجري في حياة البشر بطريقة غيبية غامضة الأسباب !
وقد عمَّق هذا الظنَّ الخاطئ في الأذهان ما هو حاصل من فارق كبير بين تقدم العلوم المادية والطبيعية وتخلف العلوم الانسانية، فقد قطعت العلوم المادية حتى الآن شوطاً بعيد المدى، وقدمت إنجازات علمية هائلة، وأثبتت جدارتها ومصداقيتها في معظم الأحوال، وطردت إلى غير رجعة كل الأساطير والأوهام والخيالات التي كان الناس يظنونها من العلم وهي في الحقيقة ليست من العلم في شيء، أما علم النفس وعلم الاجتماع وبقية العلوم الإنسانية فمازالت تعاني من بعض هذه الآفات، ومازالت دراساتها العلمية عند البدايات، ولم يعطها الانسان الاهتمام الكافي الذي أعطاه للعلوم المادية، وهذا ما جعل معظم العلوم الإنسانية متخلفة بمراحل عن العلوم المادية، وهذا بحد ذاته يفسر لنا الظن الخاطئ بأن النفس والمجتمع والتاريخ والحضارات لا تخضع للسنن الإلهية الصارمة كما تخضع المادة .
ونورد فيما يلي مثالاً نظرياً لتوضيح هذه المفارقة، فلو أننا استحضرنا إلى عصرنا الراهن اثنين من عباقرة الإغريق القدامى، ولنفترض أن أحدهما هو أبو الفلسفة أفلاطون (427 ـ 347 ق.م) والآخر أبو الرياضيات فيثاغورث (582 ـ 507 ق.م )، ثم أدخلنا أفلاطون إلى كلية من كليات العلوم الإنسانية في واحدة من جامعتنا المعاصرة، وأدخلنا فيثاغورث إلى كلية من كليات العلوم الرياضية، فما الذي نتوقع أن يحدث؟ من المؤكد أن النتيجة سوف تدهشنا كثيراً لما فيها من مفارقات، لأننا سنجد أفلاطون كما عهدناه في الماضي أستاذاً متمرساً يناقش مختلف القضايا المطروحة على بساط البحث بجدارة وعمق، أما فيثاغورث فسوف يجلس في القاعة مثل (الأطرش في الزفة) غير قادر على فهم شيء مما يقال عن النظريات الرياضية الحديثة، والمصطلحات الجديدة، وأنَّى له مثلاً أن يفهم ما هي نظرية النسبية؟ أو الثقوب السوداء؟ أو نظرية الكَم؟ أو الليزر؟ أو غير ذلك من النظريات والمفاهيم العلمية الحديثة التي نسفت معظم النظريات والمفاهيم القديمة؟!
يطرح الباحثون أسباب كثيرة لتخلف العلوم الانسانية في مسيرة التقدم الحضاري، لكن أبرز هذه الاسباب استناداً للواقع الذي يعيشه انسان اليوم، هو عدم خضوع العلوم الانسانية للتجربة كما هو حال العلوم الطبيعية والمادية، والسبب واضح، هو إن المادة بالأساس بيد الانسان نفسه، هو الذي يجري عليها تجاربه محمولاً بالاصرار والتحدي والتضحية، ولا ننسى هنا ملاحظة أن هذه المفاهيم المذكورة آنفاً إنما هي مقتصرة على أشخاص بعينهم ولم تكن ظاهرة انسانية عامة، والأهم من ذلك بكثير في هذا السياق إن الانسان الطامح للفتوحات العلمية، لا يسمح لنفسه بأن تجرى التجارب على نفسه هو ليتحقق من خطئها أو صوابها، كما يفعل مع الجاذبية أو المصباح الكهربائي أو ما أشبه من العلوم الاكتشافات العلمية، وهذا ما أوقع العالم برمته في إشكالات فكرية عميقة ساقت البشرية الى اتجاهات مختلفة ابتعدت عن طريق العلم الذي نجده اليوم يخدم البشرية ويوفر لها الراحة والمزيد من التطور.
ومن أولئك العلماء الذي حاولوا أن يوجدوا لأنفسهم موطئ قدم في ساحة العلوم الانسانية هو سيغموند فرويد ونظريته ذات الطابع الجنسي التي يقول فيها إن الانسان محكوماً بالغرائز ولا قدرة له أزائها، وله تفصيلات وشروحات في هذا الجانب لا مجال لذكرها، أهمها ربط العلاقة العاطفية بين الأم وابنها الذكر الى التمايز الجنسي بين الإثنين...! والعجيب ما يقال بان الكثير من فقرات علم النفس الحديث حالياً مشتقٌ من نظريات فرويد.
ولنسأل فرويد وكل اتباعه والمعجبين به؛ هل وضع هذه النظرية على محك التجربة ليجد ما إذا كانت فعلاً مصيبة ومجدية للإنسان، وإنها هي التي ستحقق له السعادة أم لا؟ إن نظرة خاطفة على السلوك الفردي والنظام الاجتماعي في الغرب الذي تسيره نظريات فرويد، تجيبنا على هذا السؤال، فقد بات الغرب حائراً عاجزاً عن حلّ المشاكل والأزمات الناجمة من التخبط الجنسي وفقدان القيم والمعايير التي تنظم العلاقة الصحيحة بين الرجل والمرأة، وبالنتيجة أضحت جميع النظريات الاجتماعية والنفسية والفلسفية عرضة للتغيير والمناقشة الحادّة وقد تراجع علماء اليوم عن كثير منها.
وما نريد التأكيد عليه هو وجود الحقيقة التالية: أن السنن الإلهية كما إنها تشمل الجوانب المادية في الحياة، وتمكّن الانسان من التوصل الى مراتب عليا في مسيرة التطور والتقدم العلمي وتجعله قادراً على تغيير نمط حياته بشكل سريع، فانها تشمل أيضاً الجوانب المعنوية أو لنقل العلوم الانسانية، ولا يصح عقلاً ولا منطقاً أن يثبت الانسان قبضة يده على التطور التكنولوجي الهائل والتقدم في مجال الطبّ والهندسة والطاقة وغيرها، ويبسط اليد الأخرى أمام السلوك الاجتماعي والنفسي وكل ما يتعلق بالجانب المعنوي للانسان، بحيث بات مسموعاً من يقول: بان الحياة فوضى، أو عبث يحكمها اللانظام، وكلها مفاهيم سلبية سوداوية تقعد الانسان عن أن يغير نفسه وسلوكه، في حين الاسلام يقول ويؤكد بان (الحياة مزرعة الآخرة)، وياله من تعبير جميل يدعو الى النشاط والحيوية والأمل، وفي غير ذلك فقد حذرنا القرآن الكريم من العاقبة والمآل السيئ، "اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً" (فاطر/43).

http://www.al-hodaonline.com/np/18-8-2009/hadsh/q51bt00o.htm

نائل أبو محمد
05-01-2010, 04:22 PM
السبت 18 جمادى الأولى 1431

http://www.saowt.com/forum/showthread.php?t=27952#top

طنجرة مقلوبة