المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في الواقع الإسلامي المعاصر!!!


مجوووووده
03-16-2010, 07:23 PM
مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].

والفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من هؤلاء الَّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فعندما استعرض أهمَّ الأحداث التي مرَّت على الأمَّة الإسلاميَّة بهدف التَّأريخ للحضارة الإسلاميَّة بها، اختار حدث هجْرة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتكون بداية التَّاريخ العربيّ محسوبًا على الشُّهور القمريَّة؛ ذلك لما لهذا الحدَث من آثار اعتبرها الفاروق عمر أكثرَ دلالة على خصوصيَّة الأمَّة الإسلاميَّة وتميُّزها، ومن ثَمَّ على حضارتها وتاريخها، بالإضافة إلى المقدّمات العظيمة الَّتي مهَّدت لها، والتَّوابع التي لحقت بها في المجال نفسه، ولم يتوقَّف الفاروق عند يومِ مولِد المصطفى، ولا يوم بعثتِه، ولا يوم انتِقاله إلى الرفيق الأعلى.

وبذلك وضع سيّدنا عمر - رضي الله عنه - حدَثَ الهجْرة وأهمّيَّتها ودلالاتِها في إطارها الصَّحيح، بحيث لا تَغيب مقدِّماتها ولا توابعُها عن أذهان المسلمين مع مرور السنين، خاصَّة بعد حديث المصْطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - الَّذي قال فيه: ((لا هِجْرَة بعد الفتْح ولكن جهاد ونيَّة))، وهذا الحديث لو قرأْناه بِجوار قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10، 11]، لو قرأْنا الآية والحديثَ معًا نجِد تلك العلاقة الوثيقة بين الهجرة ومقدّماتها وتوابعها، وأقصد بمقدّمات الهجرة قولَه تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وأقصد بالتَّوابع قولَه تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}؛ لأنَّ الإيمان والجهاد سيكون لهما استمراريَّة بعد الفتح الَّذي أنعم الله به على المسلمين، حين أُوقفتِ الهجرةُ البدنيَّة من مكَّة إلى المدينة بنصِّ الحديث الشَّريف.

وفي الوقت نفسِه لو قمنا بقراءة للواقع الإسلامي المعاصِر، سنجِد الآثار التي ترتَّبت على انصِراف المسلمين عن حقيقة الإيمان وعن الجهاد واضحة للعيان؛ لأنَّ ما وصل إليه حال الأمَّة الإسلاميَّة في هذه الفترة الأخيرة لا يُعدُّ مفاجأة غير متوقَّعة، بل هي توابع حتميَّة لمجموعة من العوامل تراكمتْ مع مرور السِّنين، وخلَّفت وراءها رواسب كثيفة على وجدان وفكر كثير من النَّاس، وكست قلوبهم بِما كان يحذِّرنا منه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو "حبّ الدّنيا".

وهذه الزَّلزلة التي يعاني منها المسلمون الآن - ولا أقول: الإسلام - نتيجة طبيعيَّة لزلزلة فكريَّة نزلت بساحتهم من قبل، فاستكانوا لها وكأنَّهم تقبَّلوها، ولقد كانت هذه الزَّلزلة الفكرية بمثابة الرِّدَّة عن ثوابت إيمانيَّة ما كان ينبغي أن نتركها للمدّ والجزْر، أو المزايدات الرَّخيصة، فالواقع الإسلامي المعاصر فيه من الألَم بقدر ما فيه من الحسرة، وفيه من الحيرة ما يُماثل تلك التي واجهت الَّذين خلَوا من قبلنا؛ {مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214].

وما دام ختام الآية السَّابقة هو قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، فوجب عليْنا استِدْعاء آية أخرى في سورة الحجّ، هي قوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، ويبقى من أطراف هذه المعادلة أن نحدِّد المعنَيِّين بقوله تعالى: {مَن يَنصُرُهُ}، وهم كما بيَّنتها الآية التَّالية لها: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} [الحج: 41].

معنى ذلك أنَّ النَّصر الذي وعد الله به له أسباب يجب استيفاؤها، وتكاليف وأعباء يجب القيام بها مسبقًا، وكما يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في كتابه القيّم "في ظلال القرآن": "قد يبطئ النَّصر لأسباب تتعلَّق بالمجتمع الإسلامي واستعداداته لاستِقْبال الحقِّ والخير".

ومن أهمِّ الأسباب الَّتي يستحقُّ بها أهل الإيمان نصْر الله، ويدْخُلون بها في حمايته - سبحانه وتعالى -: "الهجرة إلى الله"، فالبِناء الصَّحيح لا يقوم إلاَّ على أساس مَتين، ولو استعْرضنا بدايات المجتمع الإسلامي ثمَّ الدَّولة الإسلاميَّة أو الحضارة الإسلاميَّة - بهذا التتابع - نجد أنَّها كلَّها بنيت على الهجرة إلى الله، وإذا كان كثيرٌ من النَّاس ينظرون إلى هجرة المصطفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وأصحابه من مكَّة إلى المدينة على أنَّها الهجرة الأولى للرَّسول وصحبه، فإنَّ هذه النَّظرة غير دقيقة بصرْف النَّظر عن هجرة فئةٍ من المسلمين إلى إفريقيا في بداية الدَّعوة؛ لأنَّ تلك الهجرة إلى المدينة فعلاً هي الأولى بدنيًّا، ولكن سبقتها هجرة من نوع آخَر لهؤلاء المسلمين الأوائل حين هاجروا عن معْتقدات قديمة وسلوكيَّات متوارثة وتوجُّهات بالية، واتَّجهوا بقلوبِهم إلى الله تاركين خلْفَهم مباهج الدُّنيا وزينتها، متوجِّهين إلى تِجارة مع الله تنجي من عذاب أليم، وهذه الهجرة الفكريَّة هي التي أسَّست بناء المجتمع الإسلامي بقناعاته وتوجُّهاته المقنعة، وكان هذا الأساس متينًا لَم تعصف به ويلات التَّعذيب التي سقاها الكفَّار للمسلمين في مكَّة قبل أن يغادروها.

وبعد ذلك بسنوات، كانت الهجْرة الثَّانية بالأبدان، وكما سبق أن فارق المسلِمون عادات وتقاليد كانت لها مكانة في نفوسهم، هاجروا أيضًا إلى موطن جديد تاركين خلفهم أحبَّ أرض الله إليهم، وكانت هذه الهجرة من مكَّة إلى المدينة هي اللَّبنة الأولى التي وضَعها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بناء الدَّولة الإسلاميَّة على أساس متين، وإذا كانت الهجرة الأولى عن المعتقدات والثَّانية عن الأوطان، فإن الهجرة الثَّالثة كانت عن الأنفس، فقد تجرَّد المسلمون عن أنفُسهم وباعوها لله - سبحانه وتعالى - بالجهاد في سبيل الله بالنَّفس والمال؛ كما يقول الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، وهذه الهجْرة هي الَّتي أسَّست لبناء الحضارة الإسلاميَّة.

خلاصة القول:
أنَّ الهجرة الأولى بالقلوب والعقول عن المعتقدات بُني عليْها المجتمع الإسلامي، والهجرة الثانية بالأبْدان عن الأوطان بُنِيت عليها الدَّولة الإسلاميَّة، والهجرة الثَّالثة بالجهاد في سبيل الله عن الأنفس بُنِيت عليها الحضارة الإسلاميَّة وتأْصيل عالميَّة الإسلام وتثْبيت أركانه ودعائمه.

ولقراءة الواقع الإسلامي المعاصر قراءة صحيحة، كان لا بدَّ من هذه الرؤية المتأنِّية للواقع الإسلامي في موْلده ومهده - مجتمعًا ثمَّ دولة ثم حضارة - مع مقارنة ضروريَّة بين العصر الأوَّل في عهد رسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم - وبين العصْر الأخير في القرن الخامس عشر الهجري، وقد حدث ارتِداد شبه جماعي عن الهجرات الثَّلاث، فأصبحت عبادة العقْل والهوى من سِمات بعض المثقَّفين الَّتي يتفاخرون بها تحت أسماء كثيرة، إلاَّ أنَّ هذه الفئة تسيْطِر على كثيرٍ من مقدّرات ومقوّمات ومعطيات الحركة الثقافيَّة الإسلاميَّة، وتوجّهها نحو هاوية التَّفريق بين الالتزام الديني والخُلقي وبين الإرث الثقافي، كما سبق أن قام بعْض ضعاف النفوس بعد انتِقال الرَّسول – صلى الله عليه وسلم - إلى الرَّفيق الأعْلى بالتَّفريق بين الصَّلاة والزَّكاة.

كما أنَّنا في حاجة ماسَّة إلى توحيد الأوْطان وتجاوُز الصِّراعات المكثَّفة البادية بين البلاد الإسلاميَّة في أشكال متعدِّدة، من حدود سياسيَّة مقدَّسة وجوازات وجمارك وأنواع متعدِّدة من الإجراءات الأمنيَّة.

أمَّا الجهاد الذي صار فريضة غائبة كما يسمِّيها بعض المفكِّرين، أو ذروة السنام كما سمَّاها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد أصبح في دائرة الممنوعات في هذا العصْر الَّذي يسمِّيه بالإرهاب.

ولن نتجاوز الحقيقة إذا قُلْنا: إنَّ المجتمع الإسلامي في حاجة إلى هجرة جماعيَّة جديدة، في بُعْديها الأوَّل والثَّالث، أمَّا البعد الثَّاني وهو الهجرة بالأبْدان، فهي موقوفة بنصِّ الحديث: ((لا هجرةَ بعد الفتْح ولكن جهاد ونية))، إلاَّ إذا كان المسلم يعيش فى بلد لا يتمكَّن فيه من القيام بشعائر دينه، فعليه الهجرة إلى بلد آخر يتمكَّن فيه من ذلك.

فإن كانت أرضُ الله واسعة أمام المستضْعفين في الأرض، وأهمِّيَّة هذه الهجرة بِمفهومها الشَّامل تتَّضح أكثر إذا فكَّرت الأمَّة الإسلاميَّة في مخرج لها من واقعها المرير؛ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

ولا شكَّ أنَّ للهجرة فضلاً كبيرًا على الإنسانيَّة كلِّها، وليس على الأمَّة الإسلاميَّة فقط، فلولا الهجرات الثَّلاث عن العقيدة الخاطِئة ثمَّ عن الوطن ثمَّ عن النفس، ولولا الحضارة الإسلاميَّة - لما خرجت الإنسانيَّة من عصور الظلام والانحِطاط إلى نور الهداية والعِلْم والمعرفة، والنظم والحقوق والأمن، وستظلُّ الهجرة - حدثًا ومعنى - تمدُّ الأمَّة الإسلاميَّة بالكثير من العظات والعبر، وينهل منها أولو العِلْم ويسير على دربِها السَّالكون لسبل الهداية، ويقتفي آثارَها خيرُ خلف لخير سلف.

بقي أن نعِي قراءة نشأة الحضارة الإسلاميَّة بكلِّ مفرداتِها، لنتمكَّن من قراءة الواقع الإسلامي المعاصر قراءة صحيحة؛ وذلك للخروج من هذا التِّيه المفروض عليْنا بشكل أو بآخَر، وإلاَّ كان البديل الصَّعب الذي وضَّحه الله - سبحانه وتعالى - في محْكم التنزيل: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

محى الدين صآلح
مآآآآآجده