المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسائل الكاتب أحمد العمري . *


نائل أبو محمد
05-19-2009, 09:47 PM
مافيا الشذوذ الجنسي في أمريكا: “العالم في الخزانة”

د.أحمد خيري العمري- القدس العربي

من الواضح جدا لكل مراقب لوسائل الإعلام هنا في الولايات المتحدة أن الناشطين في مجال حقوق الشواذ جنسيا قد انتقلوا من مرحلة الدفاع إلى الهجوم وعلى نطاق واسع جدا، بحيث صار من الصعب التفوه بكلمة واحدة تدين الشواذ أو سلوكهم دون التعرض بالمقابل لهجوم أشد بما لا يقارن.. حدث ذلك على سبيل المثال مؤخرا مع ملكة جمال إحدى الولايات عندما صعدت إلى التصفيات النهائية لسوق النخاسة المعاصر المسمى بمسابقة ملكة جمال الولايات المتحدة، فعندما وجه لها سؤال يتعلق بموقفها من السماح بزواج الشواذ، قالت إنها تحترمهم (!) ولكنها تعتقد أن الزواج يجب أن يبقى بين رجل و امرأة.. الفتاة خسرت المسابقة وتعرضت في اليوم التالي لهجوم مقذع من بعض أعضاء لجنة التحكيم “وفيهم من هو شاذ علنا” ومن ثم تم البحث في ماضيها عما يشين (وهو متوفر بكثرة!) والآن هي مهددة بفقدان لقب الوصيفة الأولى وفقدان حتى لقب ملكة جمال ولايتها أي ستتم معاقبتها بأثر رجعي..

قبلها بأشهر وعندما اقترب موعد توزيع جوائز الأوسكار كانت وسائل الإعلام تهدد لجنة الأوسكار صراحة بأنه إذا لم يفز الفلم الذي يتحدث عن حياة أحد الناشطين في مجال حقوق الشواذ فإن ذلك سيعني تحيزا ضد قضيتهم، الفلم فاز فعلا بجائزة أحسن ممثل وقد وجدها الممثل فرصة ليلقي بخطبة يقول فيها لمن صوّت ضد قانون إقرار زواج الشواذ في إحدى الولايات:”عار عليكم! سينظر لكم أحفادكم ذات يوم بسخرية!!”..وسط تصفيق حاد من علية القوم من النجوم الذين يعدون مثلا أعلى هنا بكل المقاييس.

بل إن الأمر وصل – وفي حادثتين منفصلتين على الأقل – إلى قيام المتظاهرين الشواذ بمحاصرة كنيسة في بوسطون تجرأت على عقد مؤتمر استضافت فيه بعض “الشواذ سابقا”.. أي أولئك الذين تخلصوا من شذوذهم، الحصار استمر لساعات وعلقت فيه لافتات في منتهى البذاءة ضد الكنيسة، وحملت التوابيت على أبواب الكنيسة في تهديد مبطن.. كل ذلك لأن الكنيسة تجرأت على استضافة” شاذين متعافين “والاحتفاء بهم !

“الناشطون الشواذ” هؤلاء تحولوا فعلا وبلا أدنى مبالغة إلى جماعة ضغط (لوبي) تمارس ضغوطها على رجال الإعلام والفكر والاقتصاد والسياسة والدين، بالضبط كما يفعل اللوبي الصهيوني، وقد تمكنوا فعلا من جني ثمار هذا الضغط في العقدين الأخيرين، بعد أن مروا بنكسة عابرة إبان ظهور الأيدز…

جمعيات حقوق الشواذ (المثليين بلغتهم الخاصة) شكلت هذا اللوبي فعلا ( يعرف أحيانا بمافيا الشذوذ Gay mafia أو المافيا المخملية Velvet mafia) وكل من يجرؤ على فتح فمه ضدهم ولو بملاحظة عابرة سيتعرض للاتهام بالنازية(بأعتبار أن النازيين كانوا ضد الشواذ) وسط سيل من السباب والشتم التي لا يرغب بسماعها أي محترم (!).. بل إنه سيتعرض لعملية نبش في ماضيه الشخصي للبحث عن كل صغيرة وكبيرة مما يعتبرها المجتمع الغربي أمورا عادية لكنها ستصبح هنا أمورا مستهجنة ومعيبة..

إحدى جماعات المافيا هذه – على سبيل المثال- قامت بنشر قائمة على النت تضم أسماء وعناوين كل من تجرأ ووقع بالموافقة على قانون الزواج الذي يحافظ على تعريفه بصفته بين رجل وامرأة حصرا، القائمة ضمها موقع على النت خصص لهذا الهدف وعنوانه التحريضي “اعرف جارك”.. والمقصود أن يحاول كل الناشطين معرفة من وقع مع القانون ممن يسكنون قربهم ولغرض واضح : التحرش بهم، إزعاجهم .. بعبارة أخرى: إرهابهم..!

كيف وصلت الأمور إلى هنا؟ كيف انتقل الامر من مطالبة ببعض الحقوق في اوائل السبعينات من القرن الماضي وسط استهجان و مقاومة شديدة من المجتمع الى ان صار ما صاره اليوم من اخطبوط هائل الحجم يصول و يجول و يرهب كل من يتفوه بعبارة انتقاد للظاهرة ؟

شخصيا لا أستبعد إطلاقا وجود نوع من المؤامرة في ذلك أو على الاقل تواطؤ، لا أعني أن الموضوع مفتعل برمته، أو أنه هجين عن المنظومة الليبرالية التي تعتبر “الحرية الفردية “حجرها الأساسي.. لكن هذا التضخيم للأمر وتحويله إلى مادة يتناولها الإعلام والرأي العام والاستطلاعات له ما له..

ففي النهاية هذا موضوع “آخر” يمكن إلهاء الجماهير عبره عن المواضيع الأساسية، ومن مصلحة الملأ المسـتحوذ على الثـروات أن تسير مظاهرات ما يعرف “الفخر بالشــذوذ” “ gay pride ” والمطالبة بإقرار زواجهم ، فهذا أفضل بكثير من مظاهرات تطالب بالعدالة الاجتماعية “المتراجعة أكثر فأكثر” أو تطالب بالضمان الصحي للملايين الذين لا يملكون أي فرصة في الحصول عليه..ناهيك عن اي حركة تشكك في أساسات المجتمع الرأسمالي و نظمه..

مع هذا الدعم المفترض، فإن مافيا الشذوذ استخدمت في دعم نفوذها والترويج لمصالحها وغسل أدمغة الناس أكذوبتين أساسيتين ظلت تكررهما على أنهما حقيقتان لا جدال فيهما حتى تحول التشكيك فيها إلى جريمة ( كما التشكيك بأعداد ضحايا الهولوكوست مثلا)..

الأكذوبة الأولى تتعلق بنسبة هؤلاء في المجتمع، فقد كان لا بد لمافيا الشذوذ أن تضخم عدد المبتلين بالشذوذ الجنسي لكي تجعل منهم “أقلية” لها كيانها ومشاكلها وقضاياها ومظالمها.. بالضبط حاولت أن تستفيد من مبدأ التسامح tolerance الذي استثمر مع اليهود والسود.. ولذلك صارت تقول وتكرر إنهم يشكلون 10% من أي مجتمع، وفي هذا كذبة مزدوجة، ذلك أنها اعتمدت على تضخيم متعمد لنتائج دراسة كينزي في مطلع الخمسينات، والتي أثبتت لاحقا أنها كانت متحيزة تماما ومضخمة أصلا في استحصال النتائج فضلا عن أن نماذجه الإحصائية تم اختيارها مسبقا بحيث تصل لنتائج مزيفة (اختار السجناء مثلا ليمثلوا بنتائجهم المجتمع رغم أنه من المعروف تماما انتشار الظواهر الشاذة في السجون) وانتهى كينزي إلى نتيجة هي أن 4% من الذكور هم شاذون حصريا وأن عشرة بالمائة منهم يمرون بمرحلة في أعمارهم يكون لديهم فيه نشاط شاذ جنسيا.. لكن مافيا الشذوذ الإعلامية تحذف الـ 4% تماما وتركز على الـ10% باعتبارها أقلية مظلومة لها ثقلها السكاني والاجتماعي ولا ينبغي تجاهلها.. الجزء الثاني من الأكذوبة المزدوجة يتعلق بتعميم هذه العشرة بالمائة-على فرض صحتها- على كل المجتمعات وهكذا صار يقال ويكرر “إنهم يمثلون عشرة بالمائة من أي مجتمع !”.

والحقيقة التي كشفتها الكثير من الدراسات العلمية أن نسبة الشذوذ الجنسي لا تزيد عن الـ2% في أكثر الأرقام ارتفاعا، وأنها غالبا لا تزيد عن الـ 1% الا بقليل و أن نسبة السحاقيات أقل من ذلك بكثير.. لكن هذه الأرقام تضيع في بوق مافيا الشذوذ التي تتخذ من شعار مستشار هتلر “غوبلز” أسلوبا لها: “اكذب و اكذب حتى يصدقك الجميع!” ثم بعد ذلك تتهم من لا يصدقها او يجروء على قول شئ مختلف بأنه “نازي”..!

ولعل من أطرف ما عرض مؤخرا في الإعلام الأمريكي (دون أن يهتم أحد بمدلولاته العميقة) ما كشفته الإعلامية “تايرا بانكس” عن أن معظم ممثلي أفلام الجنس الشاذ هم من “أسوياء الميول” الذين عملوا أصلا في أفلام جنس عادية ثم انتقلوا الى أفلام الشذوذ التي يدفع لهم فيها ستة أضعاف الأجر! تايرا، تعاملت على طريقة الإعلام الأمريكي مع هذه الحقيقة فاستضافت ممثل يقول إنه “سوي” لكنه يمثل الشذوذ ( الظاهرة صار اسمها gay for pay “شاذ من أجل النقود”).. ولأن هذا الممثل متزوج ولديه أولاد فقد كانت الاسئلة من النوع الذي يثير الجمهور ويزيد فضوله.. لكن الأمر المهم الذي تم تجاهله هنا هو أن الـ 10 % المزعومة (بكل ما معروف عنها من فلتان وإباحية) عجزت عن توفير ممثلين شاذين فعلا وصارت تدفع أضعاف المبلغ لتستوردهم من الخانة الأخرى.. (الطبيعية)..الا يعني ذلك ان نسبتهم الحقيقة أقل من ذلك بكثير؟

الأكذوبة الثانية التي تزيد خطورة عن الأولى هي أن المبتلين بالشذوذ ولدوا هكذا.. أي إن حالتهم “طبيعية” وناتجة عن “جينات” حملت لهم شذوذهم !

والحقيقة أن هناك بعض الدراسات العلمية التي تذهب هذا المنحى في تفسير أصول ظاهرة الشذوذ ولكن الأمر غير محسوم لأن هناك دراسات أخرى ترجح أمر البيئة والظروف الاجتماعية في التنشئة وأخرى ترجح العوامل الكيميائية وأخرى ترجح التفاعل بين كل ذلك.. ( بل إن نفس النتائج التي دعمت التفسير الجيني للشذوذ وجدت من يقرؤها قراءة معاكسة، فقد اعتمدت الدراسة على التوائم المتماثلة ووجدت أنه إذا كان للشاذ أخ توءم فإن هناك احتمالية بنسبة 52% أن يكون هذا الشقيق شاذا أيضا.. اعتبرت هذه النتائج داعمة لنظرية الأصل الوراثي لظاهرة الشذوذ، لكن قراءة أخرى لنفس النتائج تقدم نظرة مغايرة، فتقول: لو أن الشذوذ كان محتما وراثيا لكان يجب أن تكون النسبة 100% ما دامت الدراسة تتحدث عن توائم متماثلة تماما!)..

الخطر في هذه النظرية ورواجها يتأتى من أنها تستلب من الفرد المبتلى بالشذوذ أي إحساس بالجدوى من مقاومة ابتلائه.. سيؤمن ببساطة أن هناك جينات غامضة تحكمت به قبل أن يولد وبالتالي لا معنى ولا جدوى في محاولة الإصلاح..

وحتى لو افترضنا جدلا أن الدراسات حسمت الأمر لصالح الوراثة (وهي بعيدة عن ذلك قطعا) فهل يعني ذلك أنه يجب التسليم بها؟ الدراسات التي تثبت أن الميل للعنف يمتلك جينات واستعدادات وراثية تمتلك مصداقية ووثوقا أكثر بكثير من تلك التي تدرس الشذوذ وترجعها للوراثة، ورغم ذلك فلا أحد يقول إنه يمكن لأصحاب الميول العنيفة أن يمارسوا ميولهم، على العكس، فهم عندما يفعلون يسجنون وربما يعدمون، رغم أن ميولهم لها أصول وراثية، فلم يكون الأمر مع الشذوذ الجنسي مختلفا؟

في نفس السياق، أخطر الأمراض وأشدها فتكا تمتلك في بعض الأحيان أسبابا وراثية، لكن لا أحد يقول إن علينا أن نستسلم للمرض ولا نحاربه ، على العكس: تنفق الأموال بسخاء على مراكز الأبحاث من أجل قهر المرض، لكن ليس الشذوذ، هذا إذا افترضنا أصلا أنه نتج عن سبب وراثي..

مافيا الشذوذ الجنسي لا تسمح أصلا بطرح احتمالات كهذه.. فقد سبق لها أن أقصت مجموعة أطباء نفسيين حاولوا إيجاد علاج للشذوذ الجنسي “reparative therapy” وهو العلاج الذي أنتج من يعرفون “بالشواذ سابقا ex-gays” لكن ذلك اعتبر من قبل المافيا إهانة لمجرد اعتبار الشذوذ مرضا ينبغي علاجه.. وهكذا تم وصم التجربة كلها بالدجل والشعوذة وأقصيت تماما من البحث العلمي ولم تنشر هذه البحوث في المجلات الأكاديمية المعروفة في مجال الطب النفسي..

شيء مماثل حدث مع بداية ظهور العلاج الجيني للأجنة التي تمتلك عيوبا وراثية، فقد دعا

أحد قادة الكنيسة إلى محاولة الكشف عن الأجنة البشرية المصابة بالشذوذ و علاجها من شذوذها (على فرض صحة النظرية مرة أخرى).. عندها قامت المافيا بإرهابه واتهامه بمحاولة إبادة الشواذ وتطهيرهم عرقيا و اعتبرت كنيسته من “بقايا النازية” وانتهى الأمر بتراجعه عن دعواه.. ويبقى التراجع أقل خطورة من سماح بعض الكنائس بفتح أبوابها واحتضانها الشواذ و الترحيب بهم عبر لافتات على ابواب الكنيسة كما هو شائع في الكثير من الكنائس..

لكن الضغط الذي تمارسه المافيا لم يقتصر فقط على رجال الدين أو العلم أو الإعلام، بل تعداهم الى رجال التشريع والسياسة، فالإقرار الأخير لزواج الشواذ الذي صوت عليه في الهيئة التشريعية في ولاية فرمونت (وليس عبر التصويت المباشر للسكان) رُوِج له أصلا من قبل مافيا الشذوذ عبر استغلال الكساد الاقتصادي، وحقيقة فإن ولاية فرمونت هي من أفقر الولايات أصلا .. الدراسات المدعومة من قبل المافيا زينت أمر الإقرار قبل حدوث الإقرار: فتمرير المشروع سيضيف للولاية 30 مليون دولار على الأقل بالإضافة إلى 400 فرصة عمل جديدة.. بالإضافة إلى كل الاحتمالات المفتوحة لتنشيط السياحة حيث سيأتي الشواذ من كل الولايات المتحدة أو على الأقل من ساحلها الشرقي ليعقدوا قِرانهم في فرمونت التي كانت مهجورة حتى لحظتها..

هكذا تتنوع أساليب المافيا بين الترغيب والترهيب وغسل الأدمغة إعلاميا والنتيجة واحدة: تمييع الحدود بين ما هو طبيعي وشاذ، والتعود على الشذوذ دون أي تحسس منه حتى يصير طبيعيا بالتدريج..

“الخروج من الخزانة” ” getting out of the closet” هو مصطلح المافيا المفضل للتعبير عن إعلان الفرد ميوله الشاذة والخروج بها من السرية إلى العلن، أي إنه كان في “الخزانة” بمشاعره وممارساته السرية، ثم خرج إلى العلن “من الخزانة..”

و الذي حدث مع مافيا الشذوذ الجنسي في أمريكا أنها لم تكتف بالخروج من الخزانة، بل صارت تحاول وضع المجتمع كله في الخزانة !..

و لأن أمريكا بالنسبة للكثيرين هي العالم كله، فإن العالم كله يبدو أنه برسم الوضع في هذه الخزانة..

ما دخلنا نحن في الأمر؟..انتظروا المقال القادم.. وستجدون ما لن يسركم بالتأكيد…

نائل أبو محمد
05-19-2009, 09:50 PM
سيرة ذاتية


السيرة الذاتية للدكتور أحمد خيري العمري


د.احمد خيري العمري


* ولد في بغداد عام 1970 لأسرة موصلية الجذور

* تخرج من كلية طب الاسنان جامعة بغداد عام 1993

* اصدر كتابه الاول “البوصلة القرآنية” في عام 2003

* باحث مهتم بفكر النهضة المستمدة من الثوابت القرآنية

* متزوج و له من الاولاد “زين العابدين ” ، “آمنة” و “أروى”

* له الان خمسة عشر عنوانا مطبوعا غير المقالات المنشورة وهي :

1- البوصلة القرآنية

2- سلسلة ضوء في المجرة بست عناوين

3- ليلة سقوط بغداد

4- الفردوس المستعار و الفردوس المستعاد

5- أبي اسمه ابراهيم

6- سلسلة كيمياء الصلاة بخمس عناوين

مصدر النقل :
http://www.quran4nahda.com/?page_id=2

القرآن من أجل النهضة .

نائل أبو محمد
06-25-2009, 12:49 PM
النص الديني : اللقاح قبل العلاج دائماً..

د.أحمد خيري العمري القدس العربي

http://www.quran4nahda.com/?p=666



على الرغم من أن "أدعياء التجديد الديني" قد قدموا ما لا يصدق من جهود في شرعنة التفلت وصولا إلى إباحة الزنا نفسه (تحت مسميات مختلفة) إلا أني لا أعتقد أن الأمر سيصل بهم إلى حد شرعنة الشذوذ الجنسي أو اللواط.. لا أقول ذلك من باب حسن الظن بهم ( لن يصدق أحد ذلك حتى لو ادعيته!) لكني أعتقد أنهم ببساطة أذكى من التورط في الأمر بشكل مباشر.. الجزء الأصعب من الأمر سيتم إيكاله إلى طرف آخر.. قد يبدو لكثيرين جديدا على القضية..

من بالضبط؟ إنهم بعض مسلمي الغرب الذين لا يجب الاستهانة بتأثيراتهم على الإطلاق ليس في مجتمعاتهم فحسب، بل حتى في داخل مجتمعاتنا.. فالعالم صار متداخلا بطريقة لم تعد تجدي معه التقسيمات التقليدية.. وحتى لو لم يكن هناك "ماكنة إعلامية" تروج لهؤلاء وتمهد لمقولاتهم بالتدريج، فإن "عقيدة النقص" تجاه الغرب قد تعمل أيضا لصالحهم بطريقة ما، فهم في النهاية جزء من هذا الغرب الذي ينظر له البعض بانبهار ساحق، ومن الممكن جدا أن ينظر هذا البعض بنفس النظرة نحو هؤلاء ونحو كونهم "مسلمين متحضرين" نجحوا في التوفيق بين دينهم وبين الحياة الحديثة!

لا أتحدث هنا عن "شواذ" منفلتين يعيشون في الغرب وهم من أصول مسلمة، فهذا الأمر قد يكون محزنا ولكنه أقل خطورة بكثير مما أريد توضيحه هنا، كما أنني لا أتحدث عن مسلمين "عصاة" سقطوا في معصية "ممارسة الشذوذ".. فهذا أمر يشبه السقوط في أية معصية أخرى: يمكن الإقلاع عنها أو التوبة منها بما أنك "مقتنع" أنها معصية..
أتحدث عن نموذج آخر: نموذج هجين أزعم أنه لم يوجد من قبل: إنهم شواذ يدعون أن الشذوذ ليس معصية ويصرون أنهم يمارسون "إسلامهم" وشعائره ويمارسون في الوقت نفسه "اللواط" دون إخفاء لذلك، ولِم التستر أصلا وهم يعدون أن الأمر ليس معصية؟ ولديهم فوق ذلك اليوم المادة الأولية اللازمة للتنظير لذلك ولتبريره وجعل الحرام البين حلالا لا شئ فيه..

سيبدو الأمر مستحيلا للوهلة الأولى، وقد يقول البعض: إنه من الضروري تجاهل هؤلاء لأنهم فقاعة عابرة وزبد لا مفر من زواله "تلقائيا".. لكن الحقيقة هي أن السنن الإلهية تحتم أن يكون للإنسان دور في إزالة الزبد.. لا أن يكون مجرد متفرج سلبي ينتظر ما لن يأتي قط ما دام تخلى عن دوره في جعله يأتي.. هل أذكركم ببعض مقولات أدعياء التجديد التي قيل عنها إنها لا تستحق الرد لضحالتها ثم إذا بها بعد مرور عشر سنوات مثلا (وبقدرة قادر نعرف جيدا دوافعه في ذلك) أصبحت رأيا وجيها له مريدوه ومروجوه ومهرجوه..

توجد بوادر مبكرة لهذا الأمر أيضا مع الجمع المستحيل بين اللواط والإسلام.. أذكر أني سمعت "التبرير" الذي يدلون به للمرة الأولى منذ بضع سنوات في حلقة نقاشية في إذاعة البي بي سي، يومها قال المتحدث إن النص القرآني لم يقصد أن اللواط محرم في الآيات التي تحدثت عن قوم لوط.. ما الذي قصدته إذن؟.. قصدت أن اللواط القسري وحده المحرم.. أما اللواط الطوعي فلا شئ فيه..!!.. من أين جاؤوا بهذا؟ من أهوائهم طبعا.. من رغبتهم الملحة في شرعنة الأمر وتحليل الحرام ( الخطة هي كما يلي: علينا أن نجعل اللواط حلالا.. علينا إذن أن نبحث عن أي تفسير للنص القرآني حتى لو كانت تعارض النص كله وكل النصوص وكل اللغة وكل شيء.. المهم أن نقول بعد هذا إنه تفسير جديد ورؤية معاصرة!!)

يومها تصورت أن الأمر لا يستحق الرد لتفاهته البينة ولم أعر الأمر كبير اهتمام من قريب أو بعيد.. لكن اليوم وبعد أن رأيت شخصا يقول عن نفسه "إنه رجل دين!" ويقول الشيء ذاته وهو يضع ساقا على ساق.. لا يمكن أن يكون رد فعلي نفسه..

في الحقيقة لم أشاهد هذا الشيء شخصيا، بل شاهدته في فلم يصنف على أنه فلم وثائقي ويمكن القول إنه فلم رعب أيضا (على الأقل بالنسبة للبعض!).. الفلم يدنس لفظ الجهاد بدسه في هذه القذارة (كما لو لم يكف ما حدث بالمصطلح في السنوات الأخيرة) وعنوان الفلم هو: "جهاد من أجل الحب!" Jihad for love A والحب هنا ليس حب الله عز وجل وتعالى عن هذر هؤلاء ولا حب الوطن ولا حب الأم ولا حتى الحب العادي الذي يتحدثون عنه عادة في الأغاني والأفلام بل هو حب "شاذ" سواء كان بين الرجال أو النساء (كل منهم على حدة طبعا!) وهم في الفيلم ليسوا مسلمين فقط بل مصرين على عدم تعارض الإسلام مع شذوذهم.. الفلم أخرجه أمريكي من أصل هندي و مولود لأبوين مسلمين ولا داعي للقول إنه شاذ أيضا، الفلم الذي أنتج عام 2007 تعاونت على إنتاجه خمس شركات وقنوات عالمية (من ضمنها القناة الرابعة البريطانية التي أنتجت فيلما آخر عام 2006 بعنوان "مسلمون شواذ "Gay Muslims) .

تلقى الفلم ومخرجه دعما إعلاميا ونقديا (رغم عدم استحقاقه ذلك حتى من الناحية الفنية المجردة) ونال خمس جوائز دولية وشاهده مليون مشاهد في السنة الأولى لعرضه (وهو رقم كبير جدا بالنسبة للأفلام الوثائقية).. ولا غرابة في كل ذلك فالفلم مدعوم لأنه جزء من مشروع كبير يلعب فيه الإعلام دورا أساسيا، وتصوير مسلمين يقولون عن أنفسهم إنهم شواذ وإنهم متدينون في الوقت نفسه مهم جدا للمشروع.. هؤلاء هم "نتيجة" مبكرة لمشروع كبير جرى إعداده بدقة ولا بد أن يتم الاحتفاء بتوثيق وجودهم لأن هذا بدوره سيشجع آخرين على الوجود في هذه المنطقة المستحيلة: منطقة التوفيق بين الإسلام والفاحشة.. ولا يأخذكم حسن الظن بالتصور أن هؤلاء شواذ مع وقف التنفيذ وأن جهادهم هو في كبح جماح شهواتهم نحو جنسهم (كما كنت ساذجا بما فيه الكفاية في بداية مشاهدتي للفلم!).. لا.."الجماعة" لا إشكال عندهم في هذا وهم يذهبون إلى المدى الأبعد من الأمر!!..

يبدأ الفلم بعبارة مكتوبة تؤكد عدم وجود أي نص في القرآن الكريم مضاد "للمثلية الجنسية" أو نشاطاتها.. ثم تظهر عبارة أخرى تؤكد أن كل ما جاء في الحديث بهذا الخصوص تم وضعه من قبل رجال دين في وقت لاحق.. وهاتان العبارتان تعاملان كما لو كانتا نصا مقدسا لا يجوز المساس به وتتكرر على لسان أبطال الفلم بكل اللغات التي ينتمون لها.."اكذب، اكذب.. اكذب حتى يصدقك الجميع"..

من أكثر مشاهد الفيلم رعبا: شاب من دولة عربية يعيش في فرنسا، يحكي قصة اعتقاله من قبل الشرطة عندما كان في "الديسكو" مع صديق له، ومن ثم محاكمته وسجنه (نرى جزءا من المحاكمة أيضا ولكن الشاب يكون ملثم الوجه أمام الكاميرات).. بطريقة ما الشاب هرب أو خرج من السجن وها هو في فرنسا، نراه يضع المصحف في جيبه ويقول إنه لا يفارقه للحظة واحدة، ثم نسمعه يتحدث مع والده في الهاتف ويهنئه بالمولد النبوي ويقول له إنه "ببركة المولد حصل على ايجار الشقة"، وينهي المكالمة بطريقة: لا إله إلا الله، و يرد والده من الطرف الآخر: محمد رسول الله..

سيأتي في بال أي مشاهد أن الشاب ربما كان بريئا من التهمة، فوجوده في الديسكو ليس مرادفا للواط من قريب أو بعيد.. تتابعه الكاميرا وهو يمارس حياته العادية: يتسوق، يتجول في الشوارع.. ثم نراه يدخل مطعما أو مقصفا ويتسلل إلى غرفة خلفية: فجأة نراه يضع ماكياجا نسائيا كاملا.. ويلبس ملابس "رقص شرقي" نسائية.. ثم يخرج لأداء رقصته بين الموائد في مطعم يحتاج كل زبائنه إلى علاج طويل الأمد.. والفكرة الأساسية هنا الإيحاء للمشاهد أن هذا الشخص متدين ويحمل القرآن معه في كل مكان ومع ذلك لا يرى تعارضاً بين ما يفعل و بين تدينه.

سيكون هذا أوضح عندما نرى شخصاً يقول عن نفسه إنه رجل دين (وقد لا يعني ذلك أكثر من كونه قد حاز على شهادة من مدرسة دينية ما) وهو يناقش رجل دين آخر ( رجل دين عادي يعني!) ويطالبه بنص ديني يقول إن اللواط حرام في الإسلام!!.. رجل الدين المبهوت من الطلب يذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام لكن رجل الدين "المزعوم" يقاطعه فورا فالحديث مكذوب حسب رأيه (هكذا بلا جهد ولا شرح لبيان الزعم) وعندما يسرع مناقشه بذكر الآيات التي تتحدث عن قوم لوط، ينتعش المزعوم ويضع ساقا على ساق وعلى وجهه ابتسامة المنتصر ليعلن: أن هذه الآيات تتحدث عن لواط قسري، العقوبة نزلت على قوم لوط لأنهم حاولوا اغتصاب ضيوف لوط (الملائكة) وليس قبل ذلك..!!

قد يقول أي مشاهد إن القول سخيف لدرجة لا يمكن أن يكون مقنعا لأحد (الملائكة أصلا جاؤوا لإخبار لوط بالعقوبة!) وهذا صحيح لمن يقرأ القرآن مباشرة، لكن المسلمين ليسوا عربا فقط، بل إن نسبة المسلمين غير العرب تفوق نسبة العرب بكثير.. وهذا يعطل التفاعل المباشر للكثيرين منهم مع النص القرآني.. فإذا كنا نتحدث عن مسلمين في الغرب فالأمر يصبح أكثر صعوبة حتى بالنسبة للعرب، لأن نسبة كبيرة الأجيال الجديدة التي نشأت في الغرب قد فقدت صلتها بلغة القرآن.. وصارت تضطر إلى اللجوء إلى "رجل دين" ليشرح لها.. وهنا تكمن خطورة المرحلة الجديدة إذ أن رجلاً مثل هذا يقول عن نفسه إنه رجل دين ويرتدي الزي المعتاد لرجال الدين.. ولكنه يقول عن الآخرين إنهم يدعون احتكار الدين ويروجون لتفسيرات لا علاقة لها بالنص بحسب رأيه.. أما هو فيقدم قراءة معاصرة "جديدة" توفق بين الإسلام والدعاوى الجديدة.. وهذا هو، مرة أخرى، بالضبط ما حدث مع الكنيسة التي ظلت تقاوم الشذوذ: ظهر من يقول إن هناك قراءة جديدة للإنجيل وبالتدريج ظهرت كنائس ترحب بالشواذ.. هل نحن بعيدون من هذا كله؟.. أتمنى ذلك، لكن توجد الآن أكثر من جماعة في أمريكا وكندا تتبنى هذا الجمع بين الإسلام واللواط.. إحدى أكثر هذه الجماعات نشاطا اسمها "الفاتحة" (ربما المقصود فاتحة أبواب جهنم؟) ويقول أعضاؤها إن لديهم مساجدهم في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، وهم يروجون لترجمة جديدة للقرآن حذفوا منها لفظ الكفار مثلا ( يكاد المريب يقول خذوني !).. و كانت هذه الترجمة على وشك الصدور فعلا إلا أن ضغوطا مارستها إحدى الدول على دار النشر أوقفت صدورها، لكنها متوفرة مجانا على الشبكة كنسخة إلكترونية وغني عن القول إن هذه الترجمة هي في حقيقتها إعادة كتابة تفتقر إلى أبسط شروط الأمانة وإنها تقدم قصة لوط مع قومه على أنه كان ينهاهم عن الاغتصاب القسري وكل هذا تحت ستار التجديد ..!!

أليست هذه الدعاوى هي أكبر حرب على التجديد الحقيقي أصلا؟ ألا يشعر أغلبنا أن رجل الدين التقليدي مهما كانت مآخذنا على بعض مقولاته هو أفضل بكثير من تجديد يصل بنا إلى هذا الدرك؟

لكن النص القرآني الصالح لكل زمان ومكان يحمل كل الأجوبة التي تثيرها هذه القضية، فلنتنبه هنا إلى أن النص القرآني يتحدث على لسان لوط عن "فاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين" الأعراف-80 وهذا يعني فورا، وبلا نقاش، أن الأمر ليس وراثيا.. بل هو مكتسب.. وهكذا يسقط الادعاء الأساسي للشواذ وأنصارهم "الله خلقنا هكذا !".. حاشا لله عز وجل، بل هو المجتمع الذي يصيغ الإنسان على أسس ظالمة ومخالفة لفطرته..

الأمر الثاني الذي يأتي على لسان لوط في النص القرآني هو مخاطبته لهم "بل أنتم قوم مسرفون".. ربما القراءة التقليدية جعلت المعنى مرتبطاً بتجاوز الحلال إلى الحرام ولا خلاف أن هذا المعنى سيبقى قائما، لكن ما لا يمكن تجاوزه هنا أن حضارة الإسراف والاستهلاك المعاصرة هي ذاتها الحضارة التي قامت بشرعنة الشذوذ وأخرجته من "الخزانة" كما أخرجته من قائمة الأمراض النفسية وجعلته سببا لمسيرات الفخر.. أليس الاستهلاك والإسراف علامة مميزة لهذه الحضارة (وللمجتمعات السائرة في ركبها)؟ أليس الاستهلاك مرتبطا دوما بالنزوع إلى تجربة ما هو جديد دوما..؟ ألا ينطبق ذلك أيضا على العلاقات بين البشر في تلك المجتمعات..؟ أليست تلك المجتمعات هي صاحبة أعلى معدل لشركاء جنسيين للفرد الواحد على الإطلاق؟ ألا يصل منطق الاستهلاك( عندما يصبح نمطا للحياة كما هو حاصل ) إلى ما هو أبعد من عدد الشركاء.. بل إلى التنويع في الطرق نفسها.. ثم.. إلى ما هو أبعد من ذلك.. إلى التجريب مع الجنس نفسه..؟؟ الى اختراق كل ما هو مألوف من أجل تجريب ما هو غير مألوف..؟

القرآن إذن يربط الأمر بقضية حضارية لا بد من علاجها من جذورها، بنمط حياة "غير طبيعي" يغرس هذه الميول غرسا حتى تكاد تبدو أنها طبيعية ..النص الديني هنا ، كما مع كل شئ ، لا يتعامل مع الامور منفصلة، بل بتكاملها و تداخلها ، و لذا فأن كل اسباب الشذوذ الجنسي الاجتماعية (التفكك الأسري ، غياب دور الأب أو غيابه أصلا ، هدم الحواجز الطبيعية بين الجنسين و هي الحواجز الضرورية للنشوء السوي..الخ) كل هذه الاسباب تمثل المستنقع الاساسي الذي تنبت فيه بذرة الشذوذ الجنسي ، وهو المستنقع الذي تعمل النصوص الدينية على منع نشوئه أصلا كلقاح أجتماعي يستبق المرض بقتل أسبابه..و انا أتحدث هنا عن نص ديني" مفعل" بطبيعة الحال ..أي قام المؤمنون به بتفعيله أجتماعيا و تحويله الى واقع معاش و لم يكتفوا بوضعه خلف زجاج الاعجاب و الدراسة و البحث اللغوي.. هذا اللقاح الجذري الذي تقدمه النصوص الدينية لا يعني أن علينا أن نترك المصابين بالمرض "ينتظرون" بناء عالم جديد.. علينا أن نشجع على علاجهم لكي يتخلصوا من المرض بل ويساهموا في بناء ذلك العالم، وليس العلاج الذي يساعدهم على تقبل المرض وتقبل "أنفسهم كما هم" مثلما يهدف العلاج الغربي السائد حاليا، علينا أن نستلهم من العلاج الحقيقي reparative therapy كل ما يمكن للمساهمة في ذلك( و هو العلاج المرفوض أكاديميا في الغرب بسبب مافيا الشواذ و لكن الموجود رغم كل محاولات التعتيم عليه و محاربته ) .

فلنتذكر هنا، أن كل معصية، مهما عظمت، هي معصية يمكن التوبة منها، ولا تخرج حتما من الملة.. لكن ما يخرج من الملة هو تحليل الحرام وشرعنته وإلباسه لبوس المعروف.. أليس هذا ما يحدث الآن من قبل هؤلاء؟ هل صرنا نخاف أن نقول ذلك حتى لا يقال عنا إننا "تكفيريون" ونرفض "الآخر" والعياذ بالله..؟!!

ولنتذكر أيضا ما قاله لنا القرآن الكريم المعجز الصالح لكل زمان و كل مكان "وما قوم لوط منكم ببعيد" هود 89، الحديث هنا ليس عن قرب جغرافي أو زماني... إنه منزلق يمكن أن تسقط فيه أية حضارة عندما تدخل ترفها و اسرافها و تتفكك منظومتها الاسرية..و تتعدى حدودا معينة فرضها من خلق صانع هذه الحضارة.. مهما تخيلنا أننا محصنون من هذا، علينا أن نعلم أن المسافة بيننا وبين قوم لوط ليست ببعيدة جدا وأن ما كان لا يمكن تخيل سماعه قبل عقد صرنا نسمعه اليوم..

أقول أيضا: إن أي حديث عن "نهضة" يتجاوز هذه المشاكل القائمة بدعوى أنها تفصيلية، لا يكون في حقيقته إلا هراء يصلح للبرج العاجي ليس إلا.. النهضة وشرارتها لا تقدح عند الناس الحقيقيين الذين يواجهون مشاكل مجتمعهم وعالمهم.. بل إني أزعم أن زرع فكرة النهضة في رؤوس الناس هو جزء من العلاج لمثل هذه المشاكل.. أو على الأقل اللقاح الذي يمنح الحصانة ضد أمراض كهذه..

مسألة الشذوذ برمتها هي مثال على جزء من مواجهة حضارية شاملة ، و كل ما يستخدم في هذا المثال يستخدم أيضا في جوانب أخرى لا تقل أهمية ، و لو اننا تتبعنا الوسائل المستخدمة في هذه الجزئية لوجدناها ذاتها في كل القضايا الرئيسية..

فلنتذكر دوما أن النص الديني لا يتضمن اللقاح الذي يمنح المناعة فحسب ، و لا العلاج الذي يمنح الشفاء فقط ، بل يتضمن بذرة ذلك "المجتمع البديل " و الحضارة البديلة التي هي ليست مدينة فاضلة بلا أخطاء..و لكنها حضارة متوازنة تتمسك بثوابت الحلال و الحرام...
أصل الرسالة بواسطة البريد .

نائل أبو محمد
10-15-2009, 07:32 PM
من رسائل البريد بـ الخميس 26 شوال 1430هـ
الموضوع: درس الصين العظيم : ليس بالتغريب وحده تنمو الأمم


درس الصين العظيم: ليس بالتغريب وحده تنمو الأمم


د.أحمد خيري العمري

الاسلام اون لاين- http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1254573493442&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout

http://www.quran4nahda.com/?p=1031

ما فتئ دعاة التغريب، بمختلف أطيافهم واتجاهاتهم، لا يتركون فرصة تفوتهم دون أن يذكرونا بأن الحل الوحيد للخروج من تخلفنا وسباتنا هو المضي خلف الغرب خطوة خطوة.. حذو القذة بالقذة..

الدعوة ليست جديدة، ومنذ أكثر من قرن وهي تمر بمراحل وأطوار مختلفة، مدفوعة أولا بواقع متخلف لا جدال في انحطاطه، وثانياً بوجود تجربة غربية لا جدال في نجاحها.. أي مقارنة بين الواقع المتخلف والتجربة الغربية (المتقدمة) كانت حتما لصالح الدعوة إلى التغريب..

بعض هذه الدعاوى كانت يسارية – ماركسية، بعضها كانت ليبرالية إلى الحد الأقصى، وبعضها كانت أقل تطرفا، وهناك اليوم "أجنحة تغريبية" واضحة حتى داخل الإسلاميين، تدعو إلى أسلمة التجربة الغربية بشكل صريح، والأسلمة أحيانا لا تكون أكثر من تحفظ هنا أو هناك على بعض المظاهر الغربية دون الانتباه إلى جذور هذه المظاهر وأصولها..

والحقيقة أن نجاح التجربة الغربية يسهم في دخول مقاييس نجاحها كجزء من منظومة التفكير والحكم ولو على نحو غير واع، أي تصبح جزءا من طريقة الحكم على الأشياء ومن "رؤية العالم" بطريقة تجعل من محاولة التوفيق ( ولو كان تلفيقا ) بين الإسلام والغرب مجرد تحصيل حاصل.. مجرد محاولة لجعل "التغريب" أيسر.. لا يعني هذا قط اتهام هؤلاء بالعمالة كما جرى الفهم السطحي لأي انتقاد، بل يعني أنهم ببساطة لا يرون حلا آخر لمشاكل أمتنا غير استيراد المناهج الغربية ووضع شعارات إسلامية عليها هنا أو هناك.. دون أن ننكر أنهم يتحفظون على مظاهر الانحلال الموجودة في هذه التجربة..

أمران يتعرضان كثيرا للتركيز في إطار الدعوة للتغريب، ضمن أشياء أخرى، مناهج التعليم، والديمقراطية، وغالبا ما يتم طرح التغيير في مناهج التعليم، والديمقراطية، باعتبارها جزءا من الحل لمشاكل التنمية المستعصية في بلداننا ( الديمقراطية هي الحل، إصلاح مناهج التعليم هو الحل.. الخ).. ومما لا شك فيه أن مناهج التعليم في معظم بلداننا تعاني من مشاكل خطيرة، كما أن النظم السياسية ليست في وضع أفضل، لكن الإصلاح المؤدي للتنمية لا يمر بالضرورة بالوصفة الغربية وبقواعدها المقدسة.. رغم سهولة الانزلاق إلى ذلك باعتبار أن التجربة الغربية هي الأكثر وضوحا وهيمنة..

لكن التجربة الصينية تقدم نموذجا شديد الاختلاف والنجاح في الوقت نفسه: الصين أصبحت في ظرف عقود قليلة واحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم، منتقلة من اقتصاد زراعي متخلف ومثقلة بمشاكل ورثتها من تطبيق صارم للثورة الثقافية في عهد ماوتسي تونغ.. دخلت الصين اقتصاد السوق لكنها دخلته بمعاييرها هي، ولم تتخلَّ عن سياسة سيطرة الحكومة المطلقة على السوق الداخلي ومختلف آليات الإنتاج ..

كل ما في التجربة الصينية، لو قرأناه بعيون التجربة الغربية ووصفة التنمية التي تم تعميمها علينا، يؤدي إلى أن الصين ستكون منافسا لنا في الفشل والتخلف، لكن الصين، بدلا من ذلك، زاحمت كبرى الدول في أرقام نموها، وبدت كما لو أنها عاملا أساسيا في إنقاذ العالم من هاوية الإفلاس التي سقط فيها عقب الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وما تقدم شركة صينية لشراء مصانع سيارة الهمر Hummer من شركة جنرال موتورز (ضمن خطة الإنقاذ من الإفلاس) إلا صفقة ذات دلالة مغزوية كبيرة، حيث تقوم الصين بشراء رمز أمريكي مثل الهمر وجنرال موتورز.

الصين، على سبيل المثال، ليست ديمقراطية، بل تعاني من حكم الحزب الواحد منذ أكثر من سبعين عاما، وأحوال الحرية فيها ليست أفضل منها في بلداننا، ومجزرة تيانمين عام 1989 التي سحقت فيها الدبابات مئات الطلاب وكذلك مجزرة الأيغور مؤخرا ليستا سوى أدلة إعلامية كبيرة على طبيعة الحكم في الصين، وهي طبيعة قمعية نعرفها جيدا في بلادنا وتآلفت معها شعوبنا حتى صارت جزءا من ذاكرة جمعية..

الإعلام في الصين في أغلبه حكومي يسبح بحمد الحزب والقائد، وحتى الإعلام الخاص خاضع لرقابة حكومية صارمة تحرم الدخول مطلقا في بعض الموضوعات ( من ضمنها شرعية الحزب الشيوعي ).. ومنظمة "مراسلون بلا حدود" تصنف جمهورية الصين الشعبية ضمن أسوأ الدول فيما يتعلق بحرية الصحافة (تسلسلها 167 من أصل 172، وكل الدول العربية أفضل منها حسب هذا التسلسل، وإن كانت بعض هذه الدول قريبة جدا منها!!).. حتى الانترنت خاضع لرقابة شديدة، وعندما تضع كلمة "تيانانمن " في محرك البحث في الانترنت في الصين، فإن أجهزة الرقابة الحكومية تأخذك إلى صور لزهور ومناظر طبيعية ساحرة بدلا من صور أشلاء الضحايا المدهوسين بالدبابات. ( يذكرني هذا بحقيقة أن برامج اختراق الحجبPROXY التي يستخدمها الكثيرون في بلداننا لاختراق الحجب الحكومي المفروض على بعض المواقع، هي برامج صينية صممها شبان صينيون لاختراق المنع الذي تفرضه حكومتهم، ونستوردها نحن طبعا كما كل شيء، لكن بفارق أن الشباب هناك يضطرون لتحديث البرامج دوما لأن حكوماتهم تحدّث المنع باستمرار، أما عندنا فيمكن استخدام نسخ قديمة لأن حكوماتنا غير متابعة جدا لحسن الحظ!)

إذن لا ديمقراطية ولا حرية في الصين، وحسب مسطرة المفاهيم الغربية كان يجب أن يكون ذلك كله مقدمة لاقتصاد سيئ ونمو متدهور، فالازدهار والتقدم والرفاهية كلها أمور مترادفة (إعلاميا وحسب نفس المسطرة) مع الديمقراطية والحرية بمفهومها الغربي حصرا..

لكن هذه المعادلة لا تعمل في الصين على ما يبدو، بل إن نتائجها تشير إلى نتائج ليست مختلفة فحسب بل ومضادة، وهو الأمر الذي لا مفر من مقارنته مع إخفاق آخر لنفس المعادلة يتم دوما تجاهله أثناء الترويج لشعار "الديمقراطية هي الحل".. فالهند توصف بكونها "أكبر ديمقراطية في العالم"، والانتخابات الديمقراطية تجري فيها منذ أكثر من خمسين عاما وبمقاييس "بريطانية"، ومعدل حرية الصحافة فيها يتفوق على مثيله في الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ذلك فالديمقراطية العريقة لم تجلب الرفاهية لشعب هو الأول في عدد الفقراء بالمطلق والثالث في عدد الفقراء نسبيا ( أي بالمقارنة بنسبتهم من عدد السكان الأصليين)، ولا يزال 70% من سكانه يعيشون اقتصاداً زراعياً لم يتغير إلا قليلا منذ عشرات العقود، كما أن معدل الفرق بين الأثرياء والفقراء فيها من أعلى المعدلات عالميا..

من ناحية أخرى، فإن نظام التعليم في الصين يكاد يكون نموذجا لكل ما يجب أن ينتج التخلف والسلبية حسب نفس المسطرة الغربية للمفاهيم، التعليم في الصين لا يزال قائما على الحفظ والاستظهار وإرهاق الطالب بالفروض والواجبات المنزلية (معدلات انتحار الطلاب في الصين هي الأعلى عالميا) والمواد الدراسية تكون غالبا خالية من التحفيز على التساؤل والنقاش، وبالتالي لا تؤدي إلى الإبداع..(أو هكذا نتصور ..)

بالإضافة إلى ذلك، فان القيم التعليمية في الصين لا تزال قائمة على الطاعة والمبالغة في مظاهر الاحترام مثلما هو الأمر في الموروث الصيني التقليدي، كما شهدت برامج الدراسة الحكومية في الصين في العقود الأخيرة عودة قوية لمبادئ كونفوشيوس (حكيم الصين الأشهر والمؤسس للديانة الكونفوشيوسية الأكثر انتشارا في الصين ) بعدما كانت هذه المبادئ مبعدة أثناء الثورة الثقافية (1966-1976) باعتبار كونفوشيوس ممثلا للنظام الاقطاعي! اليوم تلاقي نفس المبادئ القبول والدعم حتى من الحزب الشيوعي الحاكم (الذي لا يزال يرفض الدين عموما ويتحايل على الأمر باعتبار الكونفوشيوسية فلسفة أكثر منها ديناً ).. بل إن المدارس الخاصة في الصين التي سمح بها مؤخرا صارت تستخدم القيم الكونفوشوسية كوسيلة لجذب الزبائن، فكلما كان التركيز على هذه القيم أكثر في البرامج الدراسية زاد إقبال أولياء الأمور على تسجيل أبنائهم فيها ( هل يذكركم هذا بشيء معاكس يحدث عندنا ؟؟؟)..

القيم الصينية – التقليدية التي يركز عليها في هذه البرامج تركز على القيم الجماعية حيث الكل والمجتمع مقدم على الفرد في الفلسفة الصينية (قارن مع القيم الغربية التي تركز على الفرد والفردية ) القيم الصينية تركز على الانسجام والتناسق بين مختلف العناصر والأشياء المتضادة ونبذ الجدل والمناظرة ( قارن مع القيم الغربية التي تركز على مفهوم التنافس والبقاء للأصلح واستخدام الجدل عريق جدا وله جذوره الإغريقية الراسخة في الحضارة الغربية ككل)..

بالتأكيد هذا المقال ليس محاولة للترويج لنموذج صيني في التنمية مقابل النموذج الغربي الأكثر انتشارا، بل هو مجرد تذكير بحقائق تبدو منسية في غمرة سيطرة الإعلام (الغربي عموما) على عقول وطرق تفكير الكثيرين..

وبالتأكيد أيضا، سبب نجاح التجربة الصينية لا علاقة له بحكم الحزب الواحد أو بالقمع والاستبداد ولا باعتماد الدراسة على الحفظ والاستظهار ( وإلا لكنا – في الحالتين- الشعوب الأكثر نموا وبلا منافس !)..

درس الصين العظيم هو في إمكانية النمو والانتهاج والفاعلية باستخدام الموروث الحضاري كمنصة انطلاق لهذا النمو والنهوض..درس الصين العظيم يتلخص في ان تجد كل امة شرارة إلهامها و انطلاقتها من عمق موروثها نفسه دون ان تتحكم بها (عقيدة نقص) تجاه التجارب السابقة ودون أن تحاول محاكاة هذه التجارب باعتبار (أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان).. في النهاية: مناهج التعليم وأنظمة الحكم هي محض وسائل وليست أهدافا بحد ذاتها، وإذا ضاع الهدف عن أمة ما، فلا وسيلة حقا - مهما كانت متقنة - يمكنها أن تقود هذه الأمة الي نهضتها..

هل هناك من يعتقد حقا أن الموروث الصيني يضم عناصر للنهضة والانطلاق أكثر مما يضمه كتاب الله وسنة رسوله ؟ هل هناك من يعتقد حقا أن بإمكان الصينيين أن يبنوا نهضتهم دون المرور بالتغريب ولا نستطيع نحن ؟..لا أشك أن البعض سيرد حتما على هذين السؤالين بالإيجاب ( نعم يستطيعون ولا نستطيع نحن !) ولكن هذه هي بعض أعراض النقص التي لا شك أنها ستقل وتضمحل تدريجيا عندما تقدح الأمة زناد نموها ونهضتها.. عندها لن تكون الوسائل ( مناهج التعليم، أنظمة الحكم ) مستوردة بالضرورة، بل ستكون منسجمة أولا مع روح هذه الأمة وأهدافها...

سيكون الدرب صعبا ولا بد، لكن كذلك هي الدروب إلى كل ما هو جدير بالحياة..

نائل أبو محمد
10-16-2009, 10:43 PM
عن الخروج من "عصورنا" الوسطى ..

د. أحمد خيري العمري



القدس العربي -16/10/2009

http://www.quran4nahda.com/?p=1038





الإنصاف والتفهم لا يكفيان بالضرورة للفهم الكامل ، وبالتالي لا يكفيان لتقديم الحلول .

و روبرت فيسك ، الصحفي البريطاني المعروف ، لا يعوزه الإنصاف ولا التفهم لقضايانا ، وهو لا يحتاج إلى ثناء مني ولا من سواي ، فهو من القلة النادرة التي وقفت بثبات مع قضايانا : احتلال العراق ، وغزة ، ولبنان ... إلخ ؛ بينما كان بعض المثقفين الليبراليين العرب يشيدون بالتدخل العسكري وبشبهونه بأثر الغزو النابليوني على أوروبا ونهضتها .

مقاله الذي نشر بتاريخ 29 يوليو في الإندبنت البريطانية يستحق أكثر من وقفة ، وأكثر من تأمل .

عنوان المقال يطرح تساؤلا جارحا : "لماذا الحياة في الشرق الأوسط متجذرة في العصور الوسطى ؟"

Why life in the Middle East remains rooted in the middle ages?

من حق روبرت فيسك أن يسأل ، ومن حقه أن يجيب أيضا ، لكن الإنصاف والتفهم ليسا بالضرورة كافيان للتشخيص ولتقديم الدواء .

يقر فيسك أولا بأن التدخل الغربي والمؤامرات الاستعمارية لها دور في الوضع المأساوي الذي تعيشه غالبية المجتمعات العربية وفي إبقائها على ما هو عليه ، لكنه يقر أيضا بأن ذلك لا يكفي لتفسير استمرارية التدهور .

وهذا صحيح ، وهي نقطة ستحسب لصالح فيسك عندما نرى كيف أن البعض من كتابنا قد تخلوا تماما عن أي اتهام أو إشارة للغرب ، لصالح إدانة كاملة وشاملة لكل ما هو "نحن" ، فقد انتقلنا من خطابات "نظرية المؤامرة" الحماسية التي لا ترى مشكلة إلا في الغرب إلى خطابات "نظرية اللا مؤامرة" التقريعية التي لا ترى فينا إلا كل ما يستحق النبذ ولا ترى في الغرب غير ملائكة وجمعيات خيرية .

يضع فيسك ملاحظات هامة وجديرة بالاهتمام ، لكن إطار رؤيته العام سيبقى أسيرا للرؤية الغربية ، وهذا ما لا يمكن لومه عليه .

يبدو ذلك واضحا من العنوان : فهو ، للدلالة على التخلف الذي نعيشه ، يستخدم مصطلح "العصور الوسطى" ، وهي الفترة الأسوء أوروبيا والتي تمتد لعشرة قرون منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي الى القرن السادس عشر الميلادي حيث بدأت بوادر النهضة الأوروبية والاصلاح اللوثري .

لكن ماذا كنا نفعل خلال ذلك ؟ كان ذلك هو عهد نهضتنا وازهارنا ، كان ذلك هو بالضبط عصرنا الذهبي : عصر الفتوحات الإسلامية ، عصر الرشيد والغيمة التي أينما حملت مطرها فسيعود خراجها للمركز ؛ مهما كانت لدينا تحفظات على بعض ما حصل في تأريخنا فإنه يبقى التأريخ الأنصع الذي لم تحدث فيه مجزرة كبيرة واحدة أثناء بناء الدولة وانتشارها . (لا يدخل المسلمون قائمة المجازر التأريخية إلا في فترة متأخرة جدا وفي اطار المجازر المتبادلة مع الصليبين والتي ابتدأها الصليبيون أصلا ، على فرض صحة وجود هذه المجازر وحيادية المصادر التي ذكرتها ، بينما كل الإمبراطوريات التي سبقت وتلت الدولة الإسلامية كانت ترتكب المجازر أثناء انتشارها وتوسعها).

خروج الأوروبيين من عصورهم المظلمة تزامن مع تدهور تدريجي مرت به الأمة ، ومن ثم ولوجنا في عصور مظلمة تخصنا ، واستمرارنا فيها رغم كل صيحات النهوض ومشاريع النهضة المجهضة وفرصها المهدرة .

قروننا الوسطى تملك بعض التشابه مع قرونهم الوسطى ، لكن هناك أيضا اختلافات جذرية : الكنيسة كانت تمتلك القوة والسيطرة إبان هذه العصور ، كانت تحكم بيد من حديد على كل شيء حرفيا ، الأمر كان أكبر بكثير من مجرد تحالف بين الإقطاعيين والنبلاء ورجال الكنيسة ، بل كان هناك سيطرة مباشرة على الحكم ، كانت الكنيسة هي المؤسسة الأقوى في تلك الفترة ، كان ملوك أوروبا يطلبون رضا البابوات والكرادلة ويتملقونهم بل ويخشونهم ، وقصة الملك هنري الرابع معروفة ،فقد ارتحل لأشهر من مكان إلى آخر طالبا المغفرة من البابا جريجوري السابع إلى أن وصل إلى منتجع صيفي حيث كان البابا يقضي الصيف ، وهناك "ركع" للبابا أمام الناس طالبا السماح منه .

لا يمكن إنكار وجود نوع من التحالف التأريخي بين بعض رجال الدين عندنا وبين السلطات ، كما لا يمكن إنكار أن هذا التحالف ساهم في أحيان كثيرة في تكريس الظلم والاستبداد ومنح الشرعية له ، لكن هذا التحالف كان دوما من باب "التحصيل الحاصل" لا أكثر ولا أقل ، ورجال الدين الذين انخرطوا في هذا الأمر لم يكونوا أكثر من "وعاظ" و "ندماء" مقربين للحكام ، ولم يكن لديهم قوة فعلية خارج هذا القرب وبالتالي لم يكن هناك إمكانية كامنة للسيطرة التي مثلتها الكنيسة بصفتها المؤسسة الأقوى في أوروبا القرون الوسطى ؛ لا يمكن أصلا تخيل موقف مماثل لذلك الذي حدث بين البابا وهنري الرابع من قريب أو بعيد ، كان هناك رجال دين نأوا بأنفسهم عن الأمر كله – وهم الغالبية للإنصاف – وآخرون قاموا بدور المعارضة ، ولكنها بعيدة جدا عن أن تكون معارضة أنداد ، فضلا عن أن يكون لرجل الدين فيها السطوة والانتصار . (الحوادث التي انتصر فيها رجال الدين كلها لا تعود لهذه الفترة بل لفترة النهوض ، مثل إبن حنبل ، و العز إبن عبد السلام) .

إذن المقارنة تمتلك تشابهات ولكن المؤسسات التي سيطرت على الوضع في الحالتين مختلفة تماما .

يقول فيسك إن العرب لا يمتلكون انتماءا حقيقيا لأوطانهم بالمفهوم الغربي للكلمة ، لا يشعرون أن أوطانهم لهم ، كل ما هو في الشارع ليس لهم ، كل ما هو خارج إطار ممتلكاتهم الفردية الشخصية لا يعنيهم ؛ وهذه حقيقة لا مناص من الإقرار بها ؛ وهو يلاحظ أيضا أن بيوت العرب نظيفة بشكل عجيب "spotlessly clean" ولكن شوارعهم تعج بالأزبال والقمامة ؛ وهي ملاحظة صحيحة أيضا ، وهناك مقابل معاكس لها في الدول الغربية ، حيث لا توجد طقوس وتقاليد نظافة شخصية كالموجودة عندنا وفي بيوتنا ، و لكن توجد شوارع نظيفة (ليس في نيويورك !) ، والملاحظتان وإن وردتا في سياقين مختلفين في كلام فيسك إلا إنهما مرتبطتان جدا : إنه عدم الانتماء الذي نشعر به ، أو يشعر به أغلبنا على الأقل ، والذي يجعل الكثيرين غير مكترثين لما يجري خارج سور البيت ، "حوالينا ولا علينا" .

قد يكون رد الكثيرين على الأمر مرتبطا بسؤال : وماذا قدمت لنا أوطاننا كي ننتمي لها ؟ والسؤال وجيه ، ولكنه يرتبط بمنظومة فكرية كاملة هي في الحقيقة منتجة وناتجة عن هذه الأوضاع في الوقت نفسه .

يذكر فيسك أوضاعا محبطة يعيشها العرب ، ونعرفها جيدا (ويزايد قليلا في بعض الأمور التي صارت جزءا من بديهيات الإعلام الغربي والعربي أيضا رغم عدم وجود إحصاءات توثقها ، مثل ما يسميه العنف المنزلي ، وجرائم الشرف والاغتصاب ، وهو أمر تتعمد وسائل الإعلام تضخيمه لأغراض واضحة إلا إنها في الحقيقة لا تملك حجما مؤثرا أو حتى قريبا من التأثير) . يذكر عن الفساد والرشوة والدكتاتورية والمحسوبية والشباب الذين يحملون شهادة الدكتوراة ويعملون سائقين لسيارات الأجرة ، ويقول شيئا جارحا عن الشباب المتعلم الذكي الذي كل طموحه السفر إلى الخارج ، يقول بالحرف : القرآن بالنسبة لهم غال جدا ، ولكن كذلك الغرين كارد Green card !!!

يعتبر فيسك إن هذه الأوضاع هي التي جعلت من العقل العربي غير منتمي للوطن ، وقد يكون في قوله وجاهة لا يمكن تجاهلها ، لكني أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، وأزعم أن العربي كان دوما هكذا ، كان دوما لا منتميا لشيء إلا لنفسه ، ومن ثم عشيرته ؛ لم يكن له وطن أصلا ما دامت الخيمة عنوانه الدائم ، ومادام الترحال هاجسه وواقعه ؛ كيف يمكن للانتماء أن ينشأ عند من يرتحل دوما ؟

لا أتحدث هنا عن البدو والأعراب فقط ، بل عن "ثقافة جمعية" سكنت حتى المدن وجعلت من سكانها بدوا رحلا أدركو ذلك أو لم يدركوه ، ثقافة تجعل منهم غير منتمين ، غير مساهمين ، غير منتجين ، غير فاعلين ، حتى لو كانوا يستخدمون أحدث التقنيات المستوردة .

أقول ذلك كله وأكمل : إن العربي لم يخرج من ذلك كله إلا مرة واحدة فقط ، ألا وهي عندما صار مسلما ، وحده الإسلام نجح في أن يحول ذلك النكرة الهائم على وجهه إلى إنسان فاعل ، وحدها القيم الدينية التي حملها الإسلام والقرآن إلى عقله ووجدانه جعلت منه إنسانا غير العالم في عقود قليلة ، قيم ربطت الإيمان بالعمل الصالح ، وجعلت "الأنا" تذوب في "النحن" ، وجعلت من المجتمع سفينة واحدة إما أن تنجو وينجو ركابها أو تغرق و يغرقون جميعا . كانت هذه هي معجزة الإسلام الحقيقية : أنه نجح مع أمة هي الأدنى حضاريا في مقاييس زمانها ، وجعلها – في فترة قياسية – الأمة الأفضل ؛ وهذا يجعله محتويا دوما على قيم فاعلة كامنة يمكن أن تنفع أي أمة في أي مرتبة حضارية .

فمالذي حدث بالضبط ؟ كيف تركنا عصور نهضتنا إلى عصورنا الوسطى ؟

حدث الإنفصام التدريجي بين القيم الدينية وبين الواقع ، ممثلا في نظم الحكم أولا ، لكن القيم الاجتماعية ظلت مسيرة عبر القيم الدينية ، ومع الوقت زاد الشرخ اتساعا ، وزاد من حدة الشرخ تفتت الدولة المركزية إلى دويلات متناحرة ، وصارت القيم الدينية بالتدريج قيما فردية ، يسيطر عليها الطابع الشعائري المفرغ من الفاعلية الاجتماعية ، واختفى مفهوم "فتح العالم" الذي سكن هاجس الجيل الأول وحل محله مفهوم يركز على "الآخرة" كما لو كانت منفصلة عن العمل في الدنيا .

وكل هذا كان سمادا خصبا للاستبداد والفساد والتفكك ، وعادت الدولة لتكون مجرد نسخة حديثة من العشيرة الجاهلية ، يأتي ريعها من الرعي (صار اسمه اليوم استثمارا هنا وهناك) أو من السلب والنهب (صار اسمه اليوم رشوة ومحسوبية ونسبة وعمولة ... إلخ) ، وكل فرد داخل العشيرة الحديثة لا ينتمي لشيء إلا لنفسه ولعائلته الأقرب ، وكل شيء "حوالينا ولا علينا" ، ولا يعود يهم حقا إلا إذا صار "علينا" .

كلما انسحبت القيم الدينية من فاعليتها عاد ذلك الأعرابي الساكن في أعماقنا ليطل برأسه ويستبدل به رؤوسنا جميعا ، مهما كانت الشهادات الجامعية والألقاب التي نحملها ، بل مهما كانت الادعاءات والشعارات "تقدمية" و"علمانية" و"ليبرالية" ، فإن الواقع سيسيطر عليه ذلك البدوي الذي يتحكم بالعقل واللاوعي الجمعي .

وحدها القيم الدينية ، التي عندما خرجت منا خرجنا نحن من نهضتنا ، وحدها قادرة على تفعيل هذا الفرد ، وتحويله الى إنسان فاعل ، إلى جزء من جماعة ، ووحدها قادرة على الخروج بنا من عصورنا الوسطى والتي تختلف عن "عصورهم الوسطى" .

خروجهم لم يحدث إلا عبر الخروج من الكنيسة .

أما خروجنا ، و يا للعجب ، فلا يمكن إلا عبر العودة إلى القيم الدينية ...

نائل أبو محمد
12-21-2009, 10:51 AM
لمن يملكون الوقت للقراءة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.quran4nahda.com/?p=1139

رسالة في قنينة..

د. أحمد خيري العمري

أحلام الطفولة تموت بصعوبة..و ربما لا تموت قط ، قد تغير أشكالها ، تعدل من مضامينها..لكنها بطريقة ما تبقى فاعلة في ركن ما خفي و عميق في اعماقنا..

عندما كنت صغيرا، وكالكثير من أقراني، كنت مغرما بقراءة القصص والمغامرات البوليسية، وكان “المغامرون الخمسة” من أبطالي الأكيدين ( إلى جانب عمر بن الخطاب، ويا للعجب!)..

لا أدري إن كانت فكرة رسائل طلب النجدة المرسلة في قناني والملقاة في البحر قد جاءت من المغامرين الخمسة أو من آرسين لوبين أو من فلم بوليسي، لكني أدري أني أبليت بلاءً حسنا في ملء دجلة، بإلحاح الأطفال بقنانٍ مختلفة الأحجام، كتبت فيها رسائل عن “جزيرة الكنز” وخريطتها، وعن عصابة مزعومة تختطف الأطفال وتنوي السيطرة على العالم، بل كتبت أحيانا بلغة اخترعتها أنا بخيال الأطفال تجمع بين الكتابة الصورية وحروف وهمية..

كان دجلة يومذاك كريما، يرتفع منسوبه في الخريف والشتاء حتى يصل الماء إلى حافة المسناية في بيت جدي، ثم ينسحب في الربيع والصيف ويترك المجال لممر على شاطئ النهر يسمونه “الجرف”..(المسناية : اصلها في العربية المسناة ، و هي بمثابة سد يبنى في البيوت المطلة على النهر لمنع مياه الفيضان ، و تصير مع الوقت جزءا من البيت يقضى فيها اهل البيت أوقاتهم).

مع الوقت، تغير كل شيء، مات جدي، وكبرت، وقلَّت زياراتي لبيت جدي، وتغير دجلة أيضا، فلم يعد يصل إلى الحافة، أتسع الجرف بالتدريج في كل الفصول، ربما بسبب سدود بنيت في دولة المنبع، وربما أيضا بسبب سوء خدمات “الكري” بعد الحصار، المهم أن دجلة، ومنذ أواسط الثمانينات، لم يعد يصل إلى “المسناية”، وحافة الجرف ازدادت عرضا… ورغم أني تركت عادة رمي الرسائل تلك، إلا أن ذلك لم يعد ممكنا حتى لو لم أتركها ..لأن دجلة صار أبعد مع الوقت..

كنت أنظر إلى الجرف بحسرة، وآمل أن يأتي يوم ويعود فيه الشط إلى معانقة المسناية كمن يتمسك بحلم طفولي يدرك ضمنا استحالة تحقيقه…

و في أواخر التسعينات، جاءت الجرافات لتجهز نهائيا على ذلك الطفل الذي كان يتربص بدجلة والقنينة بيديه، لقد تم تبليط “الجرف” بالإسفلت وصار شارعا رسميا يرمز لموت عالم قديم..

**************

لكن يبدو أن عادات الطفولة و أحلامها القديمة لا تموت بسهولة، بل تغير أشكالها وربما الكثير من مضامينها، لكن شيئا ما منها - غامضا وسريا - يبقى كامنا في أعماقنا، حتى لو لم ندرك ذلك ( بل بالذات عندما لا ندرك ذلك..).

لم أتذكر أمر القناني لسنين طويلة، بقى مخزونا في دهاليز ذاكرتي دون أن يحدث ما يظهره على السطح، حتى عندما كتبت في مقدمة كيمياء الصلاة، عن كيمياء الصلاة ..”..أني أعي تماما أن انتشار هذه الأفكار يتطلب دعما مؤسسيا وإعلاميا، وأنها لكي تنتشر يجب أن تأخذ أشكالا مختلفة ومنابر مختلفة، وليس عندي أية فكرة عن “الكيف” هنا لكني أؤمن تماما أن الله يسخر سننه بطريقة نجهلها أحيانا وأن كلاً ميسر لما خلق له. إن دوري هنا أن اكتب، وإن آخرين- ربما لا أعرفهم وربما يعيشون في قارات أخرى، ستكون لهم أدوار أخرى…
أضع نتاج الأشهر المضيئة تلك في قنينة زجاجية وأرمي بها في بحر الظلمات.. وكلي ثقة أنها ستعين بطريقة ما في الوصول إلى بر النور..”..

حتى عندما كتبت ذلك، لم أتذكر إطلاقا تلك القناني التي كنت أضع رسائلي فيها وأرميها في دجلة.. ولم يكن موضوع سفري واردا آنذاك، لم أدرك أني سأضع نفسي في قنينة و القي بها فيي بحر الظلمات بعدها بأشهر فقط..

لذلك كانت دهشتي كبيرة عندما وصلني فجأة و دون مقدمات واضحة رسالة تقول : “لقد وجدنا القنينة..”..

على الاقل لم يحدث ذلك معي في طفولتي !

في أسبوع واحد فقط، جاءني ذلك من ثلاثة مصادر متباعدة ولم ألتق بأصحابها قط، بل بالنسبة لاثنين منهم: لم أسمع بهم أصلا من قبل.. دون أن يكون ذلك استصغارا من شأنهم على الإطلاق..

وصلتتني الرسالة الأولى من الجزائر، بلد المليون شهيد، حيث وصلتني رسالة مقتضبة وثرية، من الاخ و الاستاذ الدكتور محمد بابا عمي ، تقول لي ما لم أتوقعه إطلاقا: “كيمياء الصلاة ” أدخلت كمنهج تعليمي، في مدرسة خاصة للتطوير العلمي للناشئة في الجزائر الحبيبة..

هل كنت أعني ذلك أو أتخيله حتى عندما كتبت عن “دعم مؤسسي وإعلامي” ؟..لا ، ربما كنت أقصد شكلاً من أشكال التبني الإعلامي للمشروع، أو ترويجا من طرف جهة إعلامية ما ( ولا أزال أقصد ذلك، ولا يزال الأمر مبكرا جدا..).. لكن هذه الرسالة، أفهمتني وبشكل لا لبس فيه، أن السنن الإلهية تسير بشكل حثيث وبطرق غامضة أحيانا وغير متوقعة على الإطلاق..” كيمياء الصلاة ” تدرس مع الرياضيات والفيزياء والكيمياء “الأخرى” العضوية وغير العضوية ؟..جدول للمواد والحصص يضم مادة كيمياء الصلاة..؟؟

لم يخطر ذلك في بالي إطلاقا وأنا أخط الكيمياء، ولم يخطر في بالي وأنا أكتب خاتمة السلسلة، عن ما أسميته “حجر النهضة الذي لا بد أن يمر بكيمياء الصلاة“، لم أكن أدري أني ربما كنت أكتب عن رؤوس أولئك الصغار التي ستنقش فيها معاني النهضة مرتبطة بالركن الثاني من اركان الدين :الصلاة.. ولم يخطر في بالي إطلاقا أن تتكفل السنن الإلهية بالقنينة بهذه السرعة وهذا الوضوح وعن طريق أشخاص لم أتشرف بلقائهم أو معرفتهم، لكني لا أشك أن هَمَّ النهضة يسري في عروقهم، وأنهم وجدوا في” كيمياء الصلاة” ما يمكن أن يقرب النظرية إلى التطبيق، فاستلموا القنينة وما فيها وتكفلوا بتحويلها إلى مادة دراسية صالحة للناشئة..

أقول: لم يخطر ذلك في بالي، ليس لقلة إيمان بالسنن، بل لأنها أحيانا تسير ببطء، ولا أهمية هنا في أن نراها وهي تنجز ما أراد الله أن تنجزه، بل المهم أن ننجز ما خُلقنا من أجله بأن نكون جزءا من هذه السنن، مثل ترس أو مسمار صغير في عجلة صغيرة ضمن عجلة كبيرة داخل دائرة انتاج متكاملة، الترس الصغير قد لا يشرف على النتيجة النهائية، على المنتج- الهدف، دوره قد ينتهي في مرحلة مبكرة جدا.. لكن هذا لا يقلل من أهمية دوره وتأثيره المتراكم على النتيجة النهائية..

في هذه الحالة كنت مسمارا صغيرا ، لكن ، من الجزائر الحبيبة، جاء هذا المسمار ما يفيده أن “القنينة” وصلت إلى مكانها الصحيح. ..

لكن ذلك لم يكن كل شيء.. ففي نفس الأسبوع، جاءني من بيروت- التي تخرج دوما من رمادها- جاءني ما يقول: لقد استلمنا القنينة..أيضا..

كان ذلك عبر رسالة من الاخت الفاضلة كاتيا بركات و هي آنسة بيروتية تمسح مع أخوة وأخوات لها صورة الميوعة والسطحية التي رسخت في أذهاننا عن الشباب والشابات اللبنانيات، وبدلا عن هذه الصورة: ترسم صورة مغايرة عن شابات وشباب ملتزمين بقضية وملتزمين بهدف وبنهضة يرونها لا بد أن تكون من القرآن وبالقرآن..تتأبط كاتيا جهازها المحمول و تقوم بعرض مشروعها الذي يلخص كيمياء الصلاة في “الباور بوينت” على شباب و شابات شكلت ذهنيتهم على تفاعلها مع الكلمة أكثر عندما عندما تكون ممتزجة مع الصورة…

كاتيا و أخواتها و اخوانها مجموعة شباب طالع يعملون في الإعلام “عكس التيار”، ربما ليس في الإعلام “الرئيسي” المسيطر بكل ما فيه ، لكن هل يمكن أن نتصور أصلا أن الإعلام “الحالي” يمكن أن يروج لنهضة “قرآنية” مغايرة لكل ما هو سائد، إذا كانت كوادره قد نشأت على فكر آخر ليس مناهض للنهضة فحسب بل لا يؤمن إلا بمعيار مستورد من الإعلام الغربي حيث كل شيء يخضع لصناعة التسلية والترفيه..

أستميح هؤلاء الشباب والشابات عذراً في كشف سرهم، أنهم يسربون “كيمياء النهضة” إلى معادلات أخرى في مجالات أخرى في الإعلام الالكتروني والمرئي، مجالات قد لا نَعُدُّها مهمة كثيرا ولكنها تملك تأثيرا لا يمكن إنكاره على وعي جيل جديد لا مفر من التحدث إليه بلغته..

دربهم طويل وشاق بالتأكيد، لكن كذلك هي الدروب الموصلة إلى كل ما يستحق العناء في هذه الحياة، وهم أيضا سيضعون “رسالتهم” في قنينة ويلقونها في البحر، وهناك ستتكفل السنن الإلهية بأشخاص آخرين يؤدون دورهم في هذه السنن ويجدون القنينة ويحملونها إلى أفق آخر..

و طور بعد آخر، تخرج القنينة من بحر إلى آخر، كما طائرالاسطورة يخرج من رمـــاده ( كما بيروت تتحدى موتها )، تخرج القنينة وتتحد بقنانٍ أخرى، ألقاها آخرون ووجدها آخرون، ورعاها آخرون، ويتراكم ذلك كله، ليكون جزءا مما نؤمن بلا شك أنه قادم لا محالة، لأنه أصلا السبب في وجودنا هنا على هذا الكوكب..

تلك الأخت الفاضلة التي أرسلت لي تخبرني، قالت لي بالحرف “أردت أن أخبرك أن هناك من استلم القنينة..”.

و عندها فقط، طاف على سطح ذاكرتي كل ذلك..

*******************

لكن ذلك لم يكن كل شيء..

و بدلا من رسالة إلكترونية جاءني هذه المرة صوت صديق غال معبأ بلطف شامي معتق منذ عصور، هو الصديق العزيز معاذ حبش الذي لم يكن لديه رقمي لكنه تكبد عناء البحث عنه والاتصال بي عبر القارات فقط ليخبرني، بطريقة ما، عن استلام القنينة في معهد ديني عالٍ ومعروف لعله واحداً من أهم معهدين دينيين في عاصمة الأمويين، فقد شرفني هذا المعهد باختيار “كيمياء الصلاة” لتكون مادة تدرس ضمن مواده في الصف المنتهي..

هذا المرة، التسريب يتسلل لأهم وسيلة إعلامية، ولأعرق وسيلة إعلامية، ولأكثر وسيلة إعلامية تعرضت للإهمال والتشويه: إلى المنبر.. فهذا المعهد يخرج شبابا سيعتلون المنابر يوما ما، ومن المنبر يمكن لهم أن ينقلوا أفكارا إلى كل الجماهير التي لا تزال تنظر باحترام إلى المنبر بأعتباراحترامها واتباعها لأول من اعتلاه –عليه الصلاة والسلام..

لا شك أن المنبر يعاني من مشاكل، بعضها بسبب أسلوب من اعتلاه، وبعضها بسبب مضمون أفكارهم، وبعضها بسبب هجوم البعض من أدعياء التجديد على الإسلام بحجة التجديد وبحجة الهجوم على المشايخ..

لكن ذلك كله يجب ألا يبعد أنظارنا وأفهامنا عن حقيقة لن تتغير: أن المنبر باق، وأن خلافنا مع بعض الطروحات التي تطرح من قبل “المؤسسة الدينية” على هذا المنبر لا يجب أن يكون أكبر من حرصنا على التجديد المنضبط بالثوابت التي تستطيع المؤسسة دعمه وشرعنته أكثر من أي طرف آخر ، وبالتأكيد أكثر من مؤسسات مشبوهة هنا أو هناك..

علينا أن نواجه “سنة إلهية” في التجديد نراها في تجارب الأمم الأخرى.. وهي أن كل المصلحين الدينيين الذين أحدثوا أثرا تنويريا وتثويريا في أممهم انتموا مبدئيا – شئنا أم أبينا- إلى المؤسسة الدينية حتى لو انشقوا عنها لاحقا.. ( ولم يكن أي واحد منهم طبيب أسنان مثلا..!!)، أقول ذلك ولا أضمر غير الصدق الذي تفرضه المسؤولية، ولعل شيئا في أعماقي يتمنى أن يكون الواقع غير ما قلته للتو، لكن فلنتذكر: التجديد و النهضة و الاصلاح ليست أوسمة نضعها على صدورنا و لا ألقابا تسبق اسماءنا و لا جوائز أو حفلات تكريم : إنها مسئولية علينا أن نتحملها و نتحمل اعباءها دون أن ننتظر من يصفق لنا في نهاية السباق..


فلتأخذ القناني التي نرميها أيادٍ لم تعرفنا قط، لا بأس إن سقطت أسماؤنا سهوا أو عمدا، ولا بأس أيضا إن لم تسقط، كل ذلك لا يهم أمام ما يهم حقا.. أمام ما يستحق أن نغضب و نثور ونبدع ونحب ونكره ونموت ونحيا من أجله..

أمام ما خلقنا من أجله..

ثلاث رسائل في أسبوع واحد من ثلاثة أشخاص مختلفين، وكل منهم كان يمكن أن لا يخبرني، ولن يضيره شيئا –و لن يضيرني و لن يضير ما يفعلون..

لكن سبحان الله، رحمته بنا أوسع.. يرسل لنا الرسائل بين الحين والآخر ، وتقول لنا بعضها: إن الدرب طويل وشاق .. ولكن الاتجاه صحيح.. فلتستمر..

أدرك طبعا أن “المرجفين في المدينة” سيتصيدون كل ما قلته وسيفسرون ويحللون كما يريدون من منطلقات مختلفة، سيقولون شيئا عن الغرور والعجب والتيه والفخر والأولين والآخرين..

أدرك ذلك كله وأدرك أيضا بعضا من دوافعهم فيما سيقولون ( وأتفهمها أيضا !).. لكنني أدرك أيضا أنه كلما كانت رسالتك التي تضعها في القنينة مهمة فإنه سيقل اكتراثك لما يقولون، الأمر في النهاية أن كلا منا يقوم بدوره، سيكون دوما هناك من يحاول أن يضع حياته كرسالة في قنينة ويلقيها في الاتجاه الصحيح ، وهناك أيضا من سيحاول أن يحبط ذلك ويكسر المجاذيف، بل سيكون هناك من يحاول أن يحطم القناني ويفرش الدرب بزجاجها المطحون، إنها طبيعة الأشياء فحسب.. وكل منا يختار دوره في ذلك..

تستطيع أن تكون حياتك ملحمة وتضعها في قنينة، وتستطيع أيضا أن تكون رسالة في البريد المهملJunk mail ..، تحذف تلقائيا بعد مرور مدة معينة من الوقت..

فلينظر كل منا خياره..



( ملاحظة لا علاقة لها بما سبق لكني قد أجن إن لم أكتبها..

هاتف العيد، بعد منتصف الليل في بغداد، و سؤال عن كل شيء بصيغة “الشكو ماكو” العراقية.. وجواب لا ينسى الحمد لله على كل حال..

قال بعد صمت قصير: تفتح ورد الداوودي هذا الأسبوع..

و سكت. وسكتُّ أنا، طغت على الصوت رائحة ذلك الورد البغدادي الأصيل الذي يتفتح دوما في الأسبوع الأخير من تشرين..

خبر صغير كهذا كان كفيلا بتفجير أشواق مكبوتة تحت شعار الصبر والتجمل الاجتماعي ..آه يا ورد الداوودي ،…،أه يا بيتي الذي أتهرب من الاعتراف لنفسي بمقدار شوقي له.. آه يا بغداد التي أضحيت غريبا من بعد “عينها”..

في لحظة كهذه :أضع نفسي في قنينة يا بغداد، وألقي بها في بحر الظلمات ، و آمل أن أنتهي قطرة تسقى ورد الداوودي..في حديقة بيتي، في بغداد… )




ممكن
من
خلال
الرابط
قراءة التعليق
على المقال

نائل أبو محمد
03-01-2010, 11:19 AM
الموضوع: دار الفكر تختار العمري
---
http://www.quran4nahda.com/?p=1290

دأبت دار الفكر ضمن فعالياتها في اسبوعها الثقافي السنوي على اختيارها لشخصية فكرية و ثقافية لتكريمها بما ينسجم مع عنوان الاسبوع الثقافي و محوره الأساسي....و قد سبق لها في السنوات الماضية ان كرمت أسماء لا تحتاج الى تعريف مثل البوطي و الزحيلي و المسيري و جودت سعيد و هاني رزق .

و قد وقع اختيارها هذا العام على العمري بما ينسجم مع شعارها لهذه السنة "شباب لعصر المعرفة"..و قد جاء في رسالة التكريم المرسلة من قبل الاستاذ عدنان سالم –حفظه الله "..كنت على وشك أن أكتب إليك بقرار دار الفكر أن تكون مكرمَها لعام 2010 الذي اتخذت فيه عبارة (شباب لعصر المعرفة) شعاراً لها، ورأت فيك شيخاً لهؤلاء الشباب.

كنت على وشك أن أكتب إليك بذلك عندما حمل لي مقالة الدكتور محمد عباس الذي حرمك من جائزة نوبل ، لتحظى دار الفكر بشرف تكريمك، في موسمها الثقافي السنوي؛ كاتباً واعداً ينتظره مستقبل الأمة التي أنهكها العجز والتخلف، فأقعدها عن أداء رسالتها الإنسانية السامية، في وقت لم تكن الإنسانية يوماً أحوج إليها منها اليوم.

مقالة صادقة؛ تستحثنا على متابعة السير على درب النهوض، واستكمال عدتنا لنكون أكثر تأثيراً وفاعلية وعطاءً!!

أجدني أكثر ثقة وتفاؤلاً بتحول الغثاء إلى غيث مدرار يحيي به الله الأرض الموات، ويدرك به الإنسانية قبل أن تنهار...."

و بهذا يكون العمري هو الاصغر سنا من بين كل المكرمين ، و هي مسئولية و تكليف تحمله إياها دار الفكر ، و نرجو أن يثبت العمري أنه اهل لثقة دار الفكر و قرائه الكرام ..

مع تحيات إدارة موقع القرآن من أجل النهضة

http://www.fikr.com/?Prog=article&Page=details&linkid=633