المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تأملات في سورة العصر


نائل أبو محمد
05-27-2009, 09:43 PM
تأملات في سورة العصر

بقلم الأستاذ محمد راتب النابلسي

في القرآن الكريم سورة قصيرة ، كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا التقيا لن يتفرقا حتى يتلو أحدهما على الآخر هذه السورة ، وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول : لو فكر الناس في هذه السورة لكفتهم .

هذه السورة : ترسم حدود منهج كامل للحياة البشرية ، كما يريدها خالق البشرية ، فعلى امتداد الزمان في جميع العصور ، وعلى امتداد المكان في جميع الدهور ، ليس أمام الإنسان إلا منهجٌ واحدٌ رابح وطريق واحد سالك ، إلى جنة الخلد ، وكل ما وراء ذلك ، ضياعٌ وخسارٌ وشقاء .

لقد أقسم الله جل جلاله بمطلق الزمن : العصر، للإنسان الذي هو في حقيقته ، زمن ، فهو بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، وما من يوم ينشق فجره ، إلا وينادي يا ابن آدم ، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد ، فتزود مني ، فإني لا أعود إلى يوم القيامة .

لقد أقسم الله بالزمن ، للإنسان ، أنه في خسر بمعنى أن مضي الزمن وحده ، يستهلك عمر الإنسان ، الذي هو رأس ماله ، ووعاء عمله الصالح ، الذي هو ثمن الجنة التي وعد بها.

وهل الخسارة في العرف التجاري ، إلا تضيع رأس المال من دون تحقيق الربح المطلوب ، لكن الإنسان إذا استثمر الوقت فيما خلق له، يستطيع أن يتلافى هذه الخسارة ، وذلك بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .

قال تعالى :


أولاً :

" إلا الذين آمنوا "

الإيمان هو اتصال هذا الكائن الإنساني ، الصغير ، الضعيف الفاني ، المحدود ، بالأصل المطلق الأزلي الباقي ، الذي صدر عنه هذا الوجود وعندئذٍ ينطلق هذا الإنسان من حدود ذاته الصغيرة ، إلى راحبة الكون الكبير ، ومن حدود قوته الهزلية ، إلى عظمة الطاقات الكونية المخبوءة ، ومن حدود عمره القصير ، إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله ، هذا الاتصال فضلاً على أنه يمنح الإنسان القوة ، والامتداد والانطلاق ، فإنه يمنحه السعادة الحقيقية التي يلهث وراءها الإنسان وهي سعادة رفيعة ، وفرح نفيس ، وأُنس بالحياة ، كأنس الحبيب لحبيبه وهو كسب لا يعدله كسب ، وفقدانه خسران لا يعدله خسران ، وعبادة إله واحد يرفع الإنسان عن العبودية لسواه ، فلا يذل لأحد ، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار ، فليس هناك إلا قوة واحدة ، ومعبودٌ واحد وعندئذ تنتفي من حياة الإنسان المصلحة ، والهوى ، ليحل محلها الشريعة والعدل والاعتقاد بكرامة الإنسان وهو من لوازم الإيمان ، الاعتقاد بكرامة الإنسان عند الله يرفع من قيمته في نظر نفسه ، ويثير في نفسه الحياء ، من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها .

ثانياً :

" وعملوا الصالحات " ، ولأن الإيمان حقيقة إيجابية متحركة كان العمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان ، فما إن تستقر حقيقة الإيمان في ضمير المؤمن حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها ، في صورة عمل صالح ، فلا يمكن أن يظل الإيمان في نفس المؤمن خامداً لا يتحرك ، كامناً لا يتبدى ، فإن لم يتحرك الإيمان هذه الحركة الطبيعية ؛ فهو مزيف ، أو ميت ، شأنه شأن الزهرة ينبعث أريجها منها ، انبعاثاً طبيعياً ، فإن لم ينبعث منها أريج ، فهو غير موجود ، والزهرة غير طبيعية 0

والعمل الصالح ليس فلتةً عارضة ، ولا نزوةً طارئة ، ولا حادثةً منقطعة ، إنما ينبعث عن دوافع ، ويتجه إلى هدف ، ويتعاون عليه المؤمنون .

فالإيمان ليس انكماشاً ، ولا سلبيةً ، ولا انزواءً ، ولا تقوقعاً بل هو حركةٌ خيرةٌ ، نظيفة، وعمل إيجابي ، هادف ، وإعمار متوازنٌ للأرض ، وبناء شامخ للأجيال ، يتجه إلى الله ، ويليق بمنهج يصدر عن الله .

ثالثاً :

" وتواصوا بالحق " ، ولأن النهوض بالحق عسير ، والمعوقات كثيرة ، والصوارف عديدة ، فهناك هوى النفس ، ومنطق المصلحة وظروف البيئة ، وضغوط العمل ، والتقاليد ، والعادات ، والحرص والطمع ، عندئذٍ يأتي " التواصي بالحق " ، ليكون مذكراً ، ومشجعاً ومحصناً للمؤمن الذي يجد أخاه معه يوصيه ، ويشجعه ، ويقف معه ويحرص على سلامته ، وسعادته ، ولا يخذله ، ولا يسلبه ، وفضلاً عن ذلك ، فإن " التواصي بالحق " ينقي الاتجاهات الفردية ويوقيها ، فالحق لا يستقر ، ولا يستمر إلا في مجتمع مؤمن ، متواص ، متعاونٍ ، متكافل ، متضامن .

فالمرء بالإيمان ، والعمل الصالح يكمل نفسه ، وبالتواصي بالحق يكمل غيره ، وبما أن كيان الأمة مبني على الدين الحق الذي جاءنا بالنقل الصحيح ، وأكده العقل ، وأقره الواقع ، وتطابق مع الفطرة ، فلابد من أن يستمر هذا الحق ويستقر ، حتى تشعر الأمة بكيانها ، ورسالتها ، فالتواصي بالحق ، قضية مصيرية فما لم تتنام دوائر الحق في الأرض ، تنامت دوائر الباطل وحاصرته ، فالتواصي بالحق : يعني الحفاظ على وجوده ، والأداء لرسالته .

رابعاً :

" وتواصوا بالصبر " ، وقد شاءت حكمة الله ، جل جلاله أن تكون الدنيا دار ابتلاء بالشر والخير ، ودار صراع بين الحق والباطل لذلك كان التواصي بالصبر ضرورةً للفوز بالابتلاء ، والغلبة في الصراع إذاً لابد من التواصي بالصبر ، على مغالبة هوى النفس وعناد الباطل ، وتحمل الأذى ، وتكبد المشقة ، لذلك يعد الصبر وسيلةً فعالةً لتذليل العقبات ، ومضاعفة القدرات ، وبلوغ الغايات ، إن تكونوا تألمون ، فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون .



محمد راتب النابلسي

دمشق في 30/3/1998

نائل أبو محمد
06-15-2009, 10:49 PM
الاثنين 22 جمادى الثانية 1430
بناء على قاعدة الرفع الأسبوعي