عرض مشاركة واحدة
 
  #74  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 11-13 من 13

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 11-13 من 13

{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

وأن الفعل منه سمَّيْت، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي. وبأنه يقال سُمىً كهدى؛ لأنهم صاغوه على فُعَل كرُطَب فتنقلب الواو المتحركة ألفاً إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القَنَاني الراجز:

واللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبارَكاً
آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكا


وقال ابن يعيش: لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سُم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك. وعندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصوراً، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقاً لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. ورَأْيُ البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. وذهب الكوفيون إلى أن أصله وِسْم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العَلامة، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل، وكأنهم رأوا أن لا وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمتَ وجه الجواب، ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم، ثم نقلت الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاماً ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة. وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره. وزعم ابن حزم في كتاب «الملل والنحل» أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة، وقد قال تعالى:

{ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل16: 43].

وإنما أقحم لفظ اسم مضافاً إلى علم الجلالة إذ قيل: (بسم الله) ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإلٰه الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى:

{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام6: 118] وقال:
{ وَمَا لَكُم أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام6: 119]

وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل:

-11-

{ اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق96: 1]

فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذٍ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيراً وتصرفاً من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع، فقوله تعالى:

{ فَسَبِّح بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة56: 74]

أَمْرٌ بأن يقول سبحان الله، وقوله:

{ وَسَبِّحْهُ } [الإنسان76: 26]

أمْرٌ بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه. والخلاصة أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله:

{ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَاهَا } [هود11: 41]

وفي الحديث في دعاء الاضطجاع: " باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه " وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى: { فسبح باسم ربك العظيم } أي قل سبحان الله:

{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى87: 1]

وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسؤول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى:

{ فَاسْجُد لَهُ } [الإنسان76: 26]

وقوله في الحديث: " اللهم بك نصبح وبك نمسي " أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى: { فاسجد له } { وسبحه } أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص. فمعنى (بسم الله الرحمٰن الرحيم) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك.

هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة:

نبئتُ زُرعة والسفاهةُ كاسمهايُهدى إليَّ غرائبَ الأَشعار


يعني أن السفاهة هي لا تُعرَّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى:

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة2: 143].

أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحماً زائداً كما في قول لبيد:

إلى الحولِ ثم اسم السلام عليكُما


يعني ثم السلام عليكما وليس هذا خاصاً بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى:

{ وَأَلْزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقْوَى } [الفتح48: 26]

وكذلك «لفظ» في قول بشار هاجياً:

وكذاك، كان أبوك يؤثر بالهُنَىويظل في لَفْظِ النَّدى يتَرَدَّد


وقد يطلق الاسم وما في معناه كنايةً عن وجود المسمى، ومنه قوله تعالى:

{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُم } [الرعد13: 33]

والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضعَ أسماء لهم. فهذه اطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة، ذكرتها هنا توضيحاً ليكون نظركم فيها فسيحاً فشدوا بها يداً ولا تتبعوا طرائق قدداً.

وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.

-12-

والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي في تفسير قوله تعالى:

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة1: 2، 3].

ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمٰن الرحيم، قال البيضاوي إن المُسمِّي إذا قصَد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مُولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر عَلَم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات، ثم يذكر وصف الرحمٰن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمٰن.

وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتابِ الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإلٰه الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد. وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك - إذ الناقل أمين - فهي نكتة لطيفة.

وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه:

{ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَـنِ } [مريم19: 45]، وقال:
{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم19: 47]

ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم. وحُكِي عنه قوله:

{ وَتُب عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة2: 128].

وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ *أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [النمل27: 30، 31].

والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته، وأن الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى:

{ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } [الحج22: 78].

-13-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-11-2010 الساعة 03:21 PM
رد مع اقتباس