عرض مشاركة واحدة
 
  #76  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 11-20 من 29

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 11-20 من 29



{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

وأما إذا قال " يا هو " وانّه يعرف انّه تعالى هويّة صرْفة لا يشوبه عموم ولا خصوص، ولا تكثّر وتعدد، ولا تناه وحدّ، فهذا الذكر لا يدلّ على شيء ألبتّة، إلا محض الإنيّة التامّة التي لا يشوبه معنى يغايره، فحينئذ يحصل في قلبه نورُ ذكرِه، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولّدة عن ذكر غير الله، وهنالك النور التامّ والكشف الكامل.

نكتة اخرى

[الاسم " هو " ]

انّ جميع صفات الله المعلومة عند الخلق، إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام. أما الأولى: فكقولنا: إنّه ليس بجسمٍ ولا جوهرٍ ولا عرَضٍ، ولا في مكان، وهذا فيه وقيعة، كمن خاطَب السلطان بأنك لستَ أعمى ولا أصمّ ولا كذا وكذا وصار يعدّ أنواع المعائب والنقائص، فإنّه يُنسب إلى إساءَة الأدب، ويستوجب الزجْر والتأديب.

وأما صفات الإكرام: فككونه خالقاً للخلائق، رازقاً للعباد، وهذا ايضاً فيه وقيعة من وجهين.

الأول: إنّ كمال الصانع أجلّ وأعلى من أن يوصف بصنعه، وخصوصاً الفيّاض الذي ليس فعله إلاّ على سبيل الرشح والفيض.

والثاني: إن الرجل إذا أخذ يمدح سلطاناً قاهراً يملك وجه الأرض برّاً وبحراً بأنّه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز وقطرة ماء، فإنّه يستوجب المقْت والزجْر والحَجْر، ومعلوم انّ نسبة جميع المخلوقات - من الفْرش إلى العرش - إلى ما في خزائن الله - لكونها نسبة متناهٍ إلى غير متناهٍ - أقلّ من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب، فهذا بالطريق الأولى، إلا انّ هنا سبباً يرخّص في ذكر هذه المدائح، وهو انّ النفس صارت مستغرقة في عالَم الحسّ والخيال، وإذا اريد جذبها إلى عتبة عالَم القدس، احتيج إلى أن يتنبّه على كمال الحضرة المقدّسة، ولا سبيل إلى معرفة كمال الله وجلاله إلاّ بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام.

ثمّ إذا واظَب الإنسان على هذين النوعين من الأذكار حتى يعرض عن عالَم الحسّ، ويستأنس الوقوف على عتبة القُدس، فبعد ذلك تنبّه لما في هذين النوعين من الاعتراضات المذكورة والحجُب الظلمانيّة، فعند ذلك يترك الأذكار ويقول: يَا هُو، يَا مَنْ لا هُو إلاّ هُو.

كأنّه يقول: حضرتُك أجلّ من أن أمدحكَ بشيء غيرك، فلا اثني عليك إلا بهويّتك من حيث هي، ولا اخاطبك بلفظ أنتَ، لأنّه يفيد الفخْر والكِبر، حيث تقول الروح: إنّي قد بلغت مبلغاً صرتُ كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكنّي لا ازيد على قولي: هو، ليكون إقراراً بأنّه هو الممدوح لذاته في ذاته، وإقراراً بأنّ حضرته أعلى وأجلّ من أن يناسبه حضور المخلوقات، ولو فرض عند حضرته حضور عبدٍ أو مَلَك مقرّب أو نبيّ مرسَل، فحيث يمتنع له الإحاطة والإكتناه به تعالى إذ بقدر قوّة وجوده يشاهد ذاته تعالى، وذاته في شدة النوريّة فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، فما غاب عنه من ذاته أكثر بما لا يتناهى ممّا هو مشهودٌ له، فهو سبحانه غائب بحقيقته التامّة البسيطة عن الكلّ، مع فرض شهودها إيّاه، فلهذا يكون هذا الذكر أشرف الأذكار، لاحتوائه على هذه الأسرار لكن بشرط التنبّه لها.

-11-

نكتة اخرى

يا مَنْ هُوَ الاّ هُوَ

إنّ المواظبة على هذا الذكر، يفيد العبدَ شوقاً إلى الله تعالى، والشوق إليه تعالى أجلّ الأحوال لذّة وأعظمها سبباً للبهجة والسعادة، فإنّ الشوق إكسير الانجذاب والوصول، فالأشدّ شوقاً أشدّ انجذاباً، وذلك لأنّ كلمة " هو " ضمير الغائبين، فالعقل اذا ذكر هذه الكلمة، علِم أنّه غائب عن الحق سبحانه، ثمّ يعلم أنّ هذه الغيبة ليست من قِبَل الله تعالى بسبب المكان والزمان، وإنّما كانت بسبب انّه موصوف بصفات النقصان ومَثالب الحدْثان، فإذا تنبّه لهذه الدقيقة، علِم أنّ هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدَثاتِ على حسَب تضاعُف امكاناتها، وترادف نقائصها وأعدامها الحاصلة لها بحسب مراتب بُعدها عن عالَم الوحدة الخالصة، ونزولها عن ساحَة الحقّ المحض، وعِلم أنّ ما هو أقرب إلى الحضرة الواجبة كان النقائص والأعدام فيه أقلّ، فأخذ في طلب القُرب إليه تعالى.

وكلّما وصَل العبدُ إلى مقام أعلى، كان شوقه إلى الترقّى عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، كما تحكم به كلّ فطرة سليمة، وإذ لا نهاية لتلك المراتب والدرجات - كما سبق - فكذا لا نهاية لمراتب هذا الشوق، فثبَت أنّ المواظبة على ذكر كلمة " هو " تورث شوقاً إلى الله، وأنّ الشوق إليه تعالى أجلّ الأحوال والمقامات بهجة وسعادة، لأنّه ملزوم الوصول إليه تعالى.

وممّا يدلّ على أنّ الشوق يستلزم الوصول، أن الشوق عبارة عن الحركة إلى تتميم الكمال، وما من موجود إلاّ وله ضرب من الخيريّة والكمال، إذ له حظٌّ من الوجود، والوجود قد ثبت أنّه خير ومؤثَر، ففي كل موجود عشق إلى ذاته، وما من موجود في عالم الإمكان إلاّ ولوجوده غاية كماليّة، وشوق إلى تحصيل تلك الغاية، كما بيّن في مباحث الغايات في العِلم الإلهي.

وقد ثبَت أيضاً هناك أنّ الله لا يودع في غريزة موجود من الموجودات وجِبَلّته شيئاً فيكون عبثاً معطّلاً، فكلّ موجود وُجِدَ له شوق إلى كمالٍ بالقياس إليه، فلا بدّ من أن يكون ممكن الحصول له، وكلّ ممكن الحصول لشيء بالإمكان العامّ، يجب حصوله له ووصوله إليه عند عدم الموانع ورفع العوائق والقواسر.

وثبت أيضاً في مقامه، انّ وجود الموانع والقواسر للأشياء الجِبلِّية غير دائم ولا أكثريّ في هذا العالَم الذي يوجَد فيه بعض الشرور، وأمّا في العالِم الأعلى وما فوق الكون، فالأشياء كلّها على مقتضى دواعيها وأشواقها الأصلية، فكلّ مشتاق إلى شيء شوقاً غريزياً سواء كان في فطرته الأولى أو في فطرته الثانية التي قد صار متجوهراً بها متصوّراً بصورتها الجوهريّة، كالنبات إذا صار حيواناً، أو الحيوان إذا صار إنساناً، فهو واصل أو سيصل إليه وقتاماً.

-12-

فثبت أن من أحبّ الله واشتاق إليه، فهو مما يصل إلى حضرته يوماً، كما دلّ عليه قوله (عليه السلام): من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقائه، ومن كَره لقاءَ الله كره الله لقاءَه.
نكتة أخرى

[في أن الذكر أشرف المقامات للسالك]


قال (صلّى الله عليه وآله) [حكاية عن الله تعالى]: " إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ من ملأه " فإذا ثبت هذا، فأفضل الأذكار ذكر الله الخالي عن ملاحظة الأغيار.

ثمّ إنّ العبد فقيرٌ كثير الحاجة، والمحتاجُ إذا نادى مخدومَه المنعم بنداءٍ يناسب الطلبَ والسؤال، كان ذلك محمولاً على الطلب مُشعراً بالسؤال، فإذا قال: " يا كريم " كان معناه: أَكْرِم وإذا قال " يا رجيم " كان معناه: " إرْحَم ". وإذا قال " يا غفور، يا عفوّ " كان معناه: اغفِرْ واعْفُ. فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، فيجول في خاطره غير الله، وتتمثّل له صوَر حاجاته فيكون مشغول السرّ بغير الله ولم يكن في خلاء، بل في ملأ، إذ الشاغل له عن ذكر الله عند المعاشرة مع الخلق أيضاً الصورُ الحاضرة في نفسه، وهي الحاضرة بالذات، دون الصور الخارجيّة إلا بالعَرَض.

فمن حضَرتْ عنده صوَر الأشياء والتفت إليها، فهو في صحبة الأغيار، سواء كان في بيته الخالي، أو في محتَشدٍ من الخلْق. وقد بيّن انّ الذكر إنّما يعظم شرفه إذا كان خالياً من السؤال، ومن تصور الصوَر والأمثال، وذلك يتحقق عندما قال " هو ".

ومن نوادر الأذكار الشريفة الممدوحة في كتب أصحاب القلوب: يا هو يا من لا هو إلاّ هو. يا من لا إله إلاّ هو. يا أزلُ يا أبدُ. يا دهْر يا ديهار. يا ديهور. يا من هو الحي الذي لا يموت.

قال النيسابوري في تفسيره: ولقد لقّنني بعض المشائخ من الذكر: يا هو، يا من هو، يا من لا هو إلاّ هو، يا من لا هو بلا هو إلا هو. وقال:

فالأول فناء عمّا سوى الله.

والثاني فناء في الله.

والثالث فناء عمّا سوى الذات.

والرابع فناء عن الفناء عمّا سوى الذات.

وقال صاحب التفسير الكبير: ومن لطائف هذا انّ الشيخ الغزالي رحمه الله كان يقول: " لا إله إلاّ الله " توحيد العوام، و " لا إله إلاّ هو " توحيد الخواصّ، و " لا هو إلاّ هو " توحيد أخصّ الخواصّ ولقد استحسنتُ هذا الكلام وقرّرته بالقرآن والبرهان.

-13-

أمّا القرآن فإنّه تعالى قال:

{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [القصص28: 88]. ثمّ قال بعد ذلك
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } [القصص28: 88] معناه " لا هو " ، وقوله
{ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

" الا هو " فقد ذكر " لا هو إلاّ هو " بعد قوله: لا إله إلاّ هو، يدلّ على أنّ غاية التوحيد هي هذه الكلمة.


وأما البرهان: فهو أنّ من الناس مَن قال: تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلاّ في إعطاء صفة الوجود لها. فقلت: فالوجود أيضاً ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعاً بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفيّة الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفيّة إن لم تكن مفهوماً مغايراً للماهية والوجود امتنع إسنادها إلىالفاعل. وإن كان مفهوماً مغايراً فذلك المفهوم لا بدّ وأن يكون له ماهية، وحينئذ يعود الكلام، فثبت انّ المؤثر مؤثّر في الماهيّة وكلّ ما بالغير فإنّه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثّر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيّات ماهيّات وصارت الحقائق حقائق. وقيل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجو ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: لا هو إلا هو. أي لا تقرّر لشيء من الحقائق إلاّ بتقريره وتحقيقه، فثبت أنّه لا هو إلاّ هو.

أقول وبالله التوفيق:

اعلم أنّ مقام التوحيد الخاصّ الذي عليه الأولياء الكاملون والعرفاء المحقّقون، أعلى درجةً وأشمخ شهوقاً من أن ينالَه أربابُ الأنظار الجزئيّة بقوّة أنظارهم، وأصحاب المباحث الكلاميّة بدقّة أفكارهم، ومَن زعم أنّه بقوّة مهارته في تحرير المقالات، وتقرير الاشكالات والأجوبة عن بعض الايرادات، وبيان بعض المسائل والشُبهات، يمكنه الوصولُ إلى فهم مسائل هذا التوحيد، ومكاشفات إخوان التجريد، فقد استسمَن ذاوَرَم، ومثلُه كالزَمِن إذا أراد أن يطيرَ في الجوّ، ومثَلُ مَن أراد أن يثبت هذا المقصد الغالي، ويصل إلى هذا المصعَد العالي بمثْل هذا القياس المرتب في زاوية قلبه من هذه المقدّمات الواهية الواهنة الأساس، كمثل العنكبوت إذا أراد أن يصيدَ العنقاءَ بشبكة ينسجها في زوايا البيوت.

ولولا مخافة التطويل والاطناب، لاستقصينا الكلام في هذا الباب، فأخذنا أولاً في إقامة البراهين القطعيّة على أنّ شيئاً من الماهيات لا يمكن أن يكون أثراً للجاعل ومجعولة له، ثمّ على إثبات أن أثرَ الجاعل وما يترتب عليه في الخارج، هو نحو من أنحاء الوجودات الخاصّة. ثم على أن ما ذكره هذا القائل، يناقض ويخالف عقلاً ولفظاً لما هو بصدده من إثبات هذا التوحيد، وأنّ كلمة " لا هو إلاّ هو " تدل عليه. ثم بعد ذلك نشير إلى لمعة من لوامع مسألة التوحيد الخاصّي، وإلى كيفيّة استنباطها من هذه الكلمة ولكن جاء في المثل: " ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه " فلنذكر هذه المقاصد ها هنا على طريقة الاختصار، وطيّ بعض مباديها ومقدماتها البعيدة، ليكون الناظر في هذا المقام على بصيرة في طلب ما ادّعيناه من غير تعَب وكَلال.

-14-

ويكون الاستقصاء البالغ مرجوعاً الى مواضع اخرى من مسفوراتنا المطوّلة.

وهي مشتملة على فصول خمسة.

فصل

في أنّ الوجود هو المجعول بالذات

اعلم إنّ للوجود صورة في الخارج، وليس مجرد معنى مصدري انتزاعي - كما يقول الظالِمون - إذ لا شكّ في أنّ للأشياء حقائق. وحقيقة كلّ شيء هي خصوص وجوده الذي تترتب عليه أحكامه المخصوصة وآثاره المطلوبة منه.

وكون الشيء ذا حقيقة، معناه انّه ذا وجود، فحينئذ لا بدّ أن يكون في الأعيان ما يصدق عليه هذا المعنى، أي معنى الحقيقة، وليس مصداقه نفس الماهية من حيث هي، سواء كان بعد الصدور أو قبل الصدور، بل مصداقها إمّا نفس الوجود للشيء، أو الماهية الموجودة بما هي موجودة لا بما هي ماهية، فالوجود أَوْلى بأن يكون حقيقة أو ذا حقيقة من غيره، إذ غيره به يكون ذا حقيقة. لست أريد من هذا أن مفهوم الحقيقة يجب أن يصدق عليه هذا العنوان، بل إنّ هنا شيئاً يصدق عليه بحسب الخارج مفهوم الحقيقة وليس هو نفس الماهية الموجودة، بل وجودها.

فالوجود يجب أن يكون بنفسه موجوداً في الواقع، لأنّه يصدق عليه هذا المفهوم، فله لا محالة صورة عينيّة مع قطع النظر عن اعتبار العقل، وهو المعنيُّ بكون الوجود موجوداً، لا أنّ له وجوداً زائداً كما توهمه العبارة، حتّى تلزمَ منه المحذورات المشهورة، فإذا كان الوجود موجوداً، فهو إمّا واجبٌ - إن كان غير متعلق بغيره - أو ممكن إن كان متعلقاً بغيره، وهو المعنيُّ بكون الوجود مجعولاً أو صادراً. هذا هو المطلوب.

حجة اخرى

لو لم يكن الوجود للاشياء موجوداً أي واقعاً في الأعيان، لم يوجد شيء من الأشياء، والتالي باطل فكذا المقدّم.

بيان الشرطيّة: أن الماهيّة قبل انضمام الوجود إليها، أو اعتباره معها، أو ما شئتَ فسمّه، غير موجود، وهو ظاهر، وكذلك أيضاً إذا اعتبرت الماهيّة من حيث هي لا مع اعتبار الوجود، فهي غير موجودة ولا معدومة، فإذن لو لم يكن الوجود موجوداً، لم يمكن ثبوت مفهوم أحدهما للآخر، فإنّ ثبوت شيء لشيء، أو إنضمامه إليه، أو اعتباره معه، أو انتزاعه منه، فرع لثبوت المثبَت له، أو مستلزم له لا أقلّ، للمغايرة بينهما في الثبوت، وليس للماهيّة من حيث هي هي - مع قطع النظر عن الوجود - وجود وثبوت أصلاً، فكيف يتحقّق هناك اتّصاف بالوجود وليست الماهيّة في نفسها موجودة، ولا الوجود في نفسه موجوداً، فلا تكون الماهيّة معروضة للوجود - كما اشتهر وذهب إليه جمهور الحكماء - ولا عارضة له - كما ذهب إليه طائفة من العرفاء - إذ كل من راجع وجدانَه وأنصَف من نفسه، أدرك انّ انضمام معدومٍ لمعدومٍ في الخارج، أو انضمام مفهومٍ لمفهومٍ من غير وجود أحدهما للآخر، أو قيامه به، أو قيامهما بموجود آخر، غير صحيح، ولا مما يجوّزه العقل، بل يقضي بامتناعه، ولهذا قال بعض العلماء: إنّ الفطرةَ شاهدة بأنّ الماهيّة إذا كانت موجودةً بنفس وجودها لا قبله، كان الموجود بالذات ها هنا هو نفس الوجود لا الماهيّة.

-15-

كما انّ المضاف بالحقيقة نفس الإضافة لا ما هو المضاف المشهوري، فعلم انّ المجعول الصادر من الفاعل هو الوجود، وما قيل من انّ الماهيّة موجوديّتها باعتبار انتسابها الى الجاعل التامّ، فهو هوس محض، فإنّ غير المنتسب الى شيء إذا انتسَب فهو لا محالة بشيء يلحقه انتسب، فلا محالة يتغيّر عما كان ويستحيل إلى حالةٍ وصفةٍ لم تكن حاصلةً له من قبل، فهو بذلك الشيء صار منتسباً، فيكون المنتسب بالحقيقة ذلك الشيء دونه، فعلى هذا يلزم أن يكون المنتسب إلى الجاعل التامّ هو وجود الماهيّةِ دونها.

برهان آخر

إنّ موجوديّة الأشياء، إمّا بانضمام الوجود الى الماهيّة، أو بصيرورتها موجودة، أو باتّصافها به أو ما يجرى هذا المجرى كما هو المشهور من الحكماء المشّائين، وإما بمجعوليّة نفس الماهيّات جعلاً بسيطاً كما عليه أتباعُ الرِواقيّين، وتبعهم هذا القائل، والشيخ المقتول وجماعة من المتأخّرين، وإما بنفس الوجودات الخاصّة الفائضة عن الباري الحيّ القيّوم كما ذهب هذه الفقراء، والأول مقدوحٌ مردودٌ بوجوه مذكورة في موضعها، والثاني أيضاً؛ والإلزام أن لا يتحقّق موجود ما في الخارج، والا لزم ظاهر البطلان، فكذا الملزوم، فبقي المذهب الثالث حقاً.

وأما بيان الملازمة في هذه الشرطيّة، فبأنّ الوجود على هذا الرأي، إن كان نفس الماهيّة من غير اعتبار قيد زائد وشرط، فيكون كلّ من تصوَّرَ الإنسان مثلاً تصوّر أنّه موجود، ولم يكن فرقٌ بين كون الإنسان إنساناً وبين كونه موجوداً، ولكان قولُنا: الإنسان معدوم تناقضاً، والتالي باطل فالمقدّم مثلُه، وإن كان الوجود عبارةً عن انتساب الماهيّة الى الجاعل، والنسبة لا تتحقّق إلا بعد تحقّق الطرفين فننقل الكلام في وجود معروضه، فيعود المحذور جذعاً.

فإن قيل: موجوديّة الماهيّة ليست بانتسابها الى الجاعل، بل بكونها بحيث تنتسب اليه وترتبط به.

قلنا: فيكون المجعول وما هو أثرُ الجاعل هو كونها على هذه الحيثيّة لانفس الماهيّة بما هي هي، وهو خلاف المفروض، على أن المجعول ها هنا هو الكون المذكور. ونحن لا نعني بالوجود الا هذا الكون، فثبت المطلوب بالخلف والاستقامة معاً.

الفصل الثاني

في أن الماهيّة يستحيل أن تكون أثراً للجاعل ومجعولة له، وعليه براهين:

الأول: أن أثر الفاعل لو كان ماهيّة شيء كماهية الإنسان من حيث هي دون وجودها، لَما أمكن لأحد أن يتصوّر تلك الماهيّة قبل صدورها عن الفاعل، لِما تقرّر أنّ العلْم بذي السبب لا يحصل إلاّ من جهة العلم بسببه، والمقدر خلافُه إذ كثيراً ما نتصوّر الماهيّات ولا يخطر ببالنا جاعلُها أصلاً، بل للعقل أن يتصوّر ماهيّة كلّ شيء من حيث هي هي، أو مجرّدة عن ما عداها، حتّى عن هذه الملاحظة، فليست هي من هذه الحيثيّة - أي بما هي هي - موجودة ولا مجعولة، ولا لا موجودة ولا لا مجعولة.

-16-

وأيضاً، فلو كانت هي بما هي هي مجعولة، لكان مفهوم المجعوليّة ذاتيّاً لها، ولكانت الماهيّات كلّها من مقولة المضاف، والتوالي بأسرها ظاهرة البطلان، فالمقدم مثلُه، والملازمة تظهر بالتأمّل الصادق.

فإن قلت: هذا يلزمك على القول بمجعوليّة الوجود.

قلت: إنّ وجود كل شيء نفس هويّته العينيّة وحقيقته الخارجيّة، فلا يمكن العلم بها إلاّ بالمشاهدة الحضوريّة والانكشاف النوريّ، إذ كلّ ما حصلت صورته في الذهن فهو أمرٌ كلّي، وإن تخصّصت بمخصّصات كثيرة. والوجود هويّةٌ عينيّة متشخصّة بذاتها صادرة عن هويّة جاعله إيّاها جعلاً بسيطاً، فلا يمكن انكشافه وحضوره إلاّ من جهة حضور هويّة جاعله، وهذا المفهوم العامّ المشترك الانتزاعي الاثباتي، وجهٌ من وجوهه، وهو بمعزل عن الهويّة الخارجية، وهذه الهويات الوجوديّة مجعولات بأنفسها ومنتسبات بذواتها الى مفيضها التامّ، ومع ذلك، ليست واقعة تحت مقولة المضاف، لأنّ مقولة المضاف قسمٌ من أقسام الماهيّات التي هي زائدة على الوجود، أَوَلاَ ترى أنّ الهويّة الإلهيّة مع كونها مبدأ جميع الأشياء، ليست واقعةٌ تحت مقولة المضاف؟ فكذا ساير الهويّات الوجوديّة.

برهان آخر

لو كانت الجاعليّة والمجعوليّة متحققتين بين الماهيّات لا بين الوجودات، يلزم التشكيك بالأقدميّة وعدمها بين أفراد مقولة الجوهر عند سببيّة جوهرٍ لجوهر آخر، وهذا باطلٌ عند محصّلي الحكماء، حيث بيّنوا أن لا أولويّة ولا تقدّم لماهيّة جوهر على ماهيّة جوهر آخر، لا في تجوهره، ولا في جوهريّته، أي في كونه محمولاً عليه معنى الجوهر الجنسيّ، فلا يتقدّم الإنسان الذي هو الأب على الإنسان الابن في حدّه ومعناه، ولا في صدق الإنسانية عليه، بل تقدّمه عليه إمّا بالوجود أو بالزمان.

برهان آخر عرشي

إنّ الصادر الأول مثلاً له ماهيّة نوعيّة محتملة الصدق على كثيرين، وليس الصادر من الباري عندهم إلاّ شخصاً واحداً من أعداد نوعه المشتركة فيه، فكون الصادر هذا الشخص الواحد دون غيره، لو كان بمجرّد صدور ماهيّته النوعيّة، يوجب الترجيح من غير مرجّح؛ إذ الجاعل واحد والماهيّة واحدةٌ، والنسبة بينها وبين اشخاصها متماثلة، فكونها هذا الفرد دون غيره، مما يتساوى نسبته، غير صحيحة، وكذا موجوديّة هذا الشخص دون سائر الأسخاص، بمجرد ابداع الباري نفس الماهيّة النوعيّة المتواطئة مع اشتراكها بين الجميع، غير صحيح.

-17-

فالحقّ الحريّ بالتحقيق والتصديق أنّ أول الصوادر هو هويّة الصادر الأول المتشخّصة بذاته، المتميّزة بنفسه عن ما عداها، دون ماهيّته، فهذه الهويّة الوجودية هي المجعولة بالذات، والماهيّة تابعةٌ لها اتّباع الظلّ للشخص.

وهنا استبصارات كثيرةٌ ذكرناها في كتبنا وجمعناها في رسالة مفردة:

منها: كون الوجود هو الخير بالذات، والعدم هو الشرّ، والصادر عن الخير الأول هو الخيرات، وهي وجودات الأشياء دون ماهيّاتها الكليّة، إذ لا خيريّة ولا كمال في مفهوم العلْم والقدرة والصحّة والجمال واللذائذ والشهوات الدنيويّة والأخرويّة، بل في حقائقها الوجوديّة، وليس كل من تصوَّر ماهيّة السعادة سعيداً، ولا كلّ من تصور ماهيّة البَهجة مبتهجاً، بل من نال وجود السعادةِ ووجود البَهجة.

ومنها: أنّ الجاعليّة والمجعوليّة لو كانتا بين المهيّات، لكانت جميع الموجودات - ما سوى المعلول الأول - من لوازم الماهيّات، وهي أمور اعتباريّة كما حقّق في مقامه؛ والتالي باطل بديهةً واتّفاقاً، فإنّ أحداً لم يقل بأنّ السماء والأرض وما بينهما أمورٌ اعتباريّة، ونسبة هذا الأمر الشنيع الى العرفاء، افتراءٌ محضٌ تتحاشى عنه أسرارهم.

ومنها: أنّه قد تقرّر في علم الميزان، انّ مطلب " ما " الشارحة، غير مطلب " ما " الحقيقية، وليست المغايرة بينهما في مفهوم الجواب، لأنه الحدّ التامّ عند المحقّقين، بل باعتبار الوجود في أحدهما وعدمه في الآخر، فلو لم يكن للوجود صورةٌ في الخارج، لم يكن بين المطلبين والجوابين فرقٌ يعتدّ به كما لا يخفى.

أوهام وتنبيهات

ثمّ إن للقائلين باعتباريّة الوجود ومجعوليّة الماهيّات شُبهاً قويّة فككنا عقدتَها بحمد الله، وطردنا ظلماتِ هذه الأوهام بنور الهداية والإلهام، فلنُشر الى أجوبة بعض منها، وهي هذه.

الأول: إن الوجود لو كان موجوداً لكان له وجودٌ، ولوجوده وجود. وهكذا الى غير نهاية.

والجواب: إنّ الماهيّة لمّا لم تكن في نفسها موجودة، فموجوديّتها لا بد وأن تكون بأمر زائد عليها، وأما الوجود، فهو بنفسه موجودٌ لا بأمر زائد عليه إلا بحسب الاعتبار العقلي، رعايةً لمفهوم الاشتقاق، والتسلسل في الاعتباريات منقطعٌ بانقطاع الاعتبار منها، ولهذا المعنى نظائر كثيرة، كالإضافة، فإنّها بنفسها مضافةٌ وغيرها بها مضافٌ، وكالنور، فإنّه منيرٌ بذاته، وكاجزاء الزمان فإنّها بذواتها متقدّمة ومتأخّرة.

والثاني: إن الوجود لو كان موجوداً بذاته، لكان واجب الوجود بذاته، إذ لا معنى للواجب بالذات إلا ما يكون وجوده ضروريّاً لذاته، وأيّ ضرورة أشدّ من كون الشيء عين نفسه؟

والجواب: إنّ الوجود الإمكاني بحسب هويّته متقوّمٌ بغيره، واجبٌ به، وإذا قطع النظر عن موجِده يكون باطلاً محضاً، ومعنى كونه ضروريّ الوجود، انّه بعدما صدر ذاتُه عن العلّة، لا يفتقر الى وجود زائد عليه في كونه موجوداً، بخلاف الماهيّة، فإنّها في حدّ ذاتها غير موجودة ولو في وقت صدورها عن الفاعل، ومعنى الإمكان في الوجودات، انّها بأنفسها متعلّقة الذوات بغيرها، وليست الماهيّات متعلقة الذوات بغيرها، فإمكانُها عبارةٌ عن تساوي نسبتها الى الوجود والعدم، وبالجملة، هذه الشُبهة إنّما نشأت من الخَلط بين معنى الضرورة الأزلية والضرورة الذاتيّة.

-18-

الثالث: إنّه إن كان الوجود في الأعيان صفة للماهيّة وهي قابلة، فهي إمّا أن تكون موجودة بعد الوجود، فحصَل الوجود مستقلاً دونها، فلا قابليّة ولا صفتية، أو قبله؛ فهي قبل الوجود موجودةٌ؛ أو معه، فالماهية موجودة مع الوجود لا بالوجود، ولها وجودٌ آخر، وأقسام التالي باطلةٌ كلّها، فالمقدّم كذلك.

والجواب: إنّا نختارُ أن الماهيّة موجودةٌ معه في الأعيان، وما به المعيّة نفس الوجود الذي هي به موجودة، فلا يلزم الإحتياج الى وجود آخر، كما انّ المعيّة الزمانيّة حاصلةٌ بين الحركة والزمان الذي حصلت فيه بنفس ذلك الزمان بلا زمان آخر، حتّى يكونَ للزمان زمانٌ آخر على أنّ الحقّ انّ اتّصاف الماهيّة بالوجود أمرٌ عقليّ، كاتّصاف الموضوع بما يقوم به فلا قابلية في الحقيقة ولا اتصاف، بل ما في الواقع أمرٌ واحدٌ بلا تقدّم بينها ولا معيّة بالمعنى المذكور، وتفصيل هذا الكلام مما يطلب في مقامه.

الرابع: إنّ الوجود لو كان في الأعيان، لكان قائماً بالماهيّة، فقيامه إمّا بالماهية الموجودة، فيلزم وجودُها قبل وجودِها، أو بالمعدومةِ، فيلزم اجتماعُ النقيضين، أو بالماهيّة المجرّدة عن الوجود والعدم، فيلزم ارتفاع النقيضين.

والجواب: إنّه إن أريد بالماهيّة الموجودة ما هي موجودةٌ بحسب نفس الأمر، وبالمعدومة ما يقابلها، فنختار انّ الوجود قائمٌ بالماهية الموجودة بهذا الوجود، لا بوجود سابق عليه، كما انّ البياضَ قائمٌ بالجسم الأبيض بهذا البياض القائم به لا ببياضٍ آخر، وإن أُريد بالموجودة ما يكون الوجودُ مأخوذاً في مرتبة الماهيّة من حيث هي، فنختارُ انّه قائمٌ بالماهيّة من حيث هي هي، بلا اعتبار شيء من الوجود والعدَم، وهذا ليس بارتفاع النقيضين عن الواقع، بل عن تلك المرتبة. إذ الواقعُ أوسعُ من تلك المرتبة.

ولهذا الكلام زيادةُ تحقيق مذكورٌ في حواشي التجريد، إذ الإشكال مشترك الورود، سواء كان الوجود حقيقياً أو انتزاعياً، ولهذا حكموا بأن لا اتّصاف للماهية بالوجود، ولا قيام له بها في الخارج ولا في العقل، إذ لا بدّ في اتّصاف شيء بشيء من المغايرة بينهما في ظرف الاتّصاف، وإن لم يكن ثبوت الثابت فرع ثبوت المثبَت له، وليس بين الماهيّة والوجود مغايرة، إلا انّ للعقل أنّ يأخذ الماهيّة ويعتبرها وحدها مجرّدة عن جميع أنحاء الوجود، حتّى عن هذا التجريد الذي هو أيضاً نحوٌ من أنحاء الوجود، فيصفها بالوجود، ففي هذا الظرف العقليّ هي موصوفةٌ بالوجود ومخلوطةٌ به أيضاً، رعايةٌ لجانبيَ الخلط والتعرية على أنّا نحن في متّسعٍ من هذا البحث إذ الموجودُ عندنا في الأعيان هو الوجود دون الماهيّة إلاّ بالعرَض، وهي أمر انتزاعي متحدةٌ بالوجود وليست متّصفةً به.

-19-

والخامس: إنّ الوجود لو كان حاصلاً في الأعيان وليس بجوهر، فيكون هيئةً قائمةً بجوهر، فيكون كيفاً لأنه هيئة قارّة لا يوجب قسمة ولا نسبة الى امر خارج، وقد حكموا انّ المحلّ متقدم على العرَض، فيتقدم الموجود على الوجود، فيلزم تقدّم الوجود. وأيضاً يلزم أن لا يكون الوجودُ أعمّ الأشياء مطلقاً، بل الكيفية والعرَضيّة أعمّ منه من وجه. وأيضاً إذا كان عرَضاً فهو قائمٌ بالمحلّ، ومعنى أنّه قائمٌ بالمحلّ، أنّه موجودٌ فيه، مفتقرٌ في تحقّقه إليه، ولا شكّ انّ المحلّ موجود بالوجود، فدارَ القيامُ وهو محالٌ.

والجواب: انّهم حيث أخذوا في عنوانات المقولات كونها ماهيّاتٍ كليّة حقّ وجودها العيني كذا وكذا، فسقط كون الوجود في ذاته جوهراً أو كيفاً أو غيرها، لعدَم كونه كلّياً، بل الوجودات - كما سبق - هويّات عينيّة متشخّصة بأنفسها غير مندرجة تحت مفهوم ذاتي، فليس الوجود جوهراً في ذاته، ولا عرَضاً بمعنى كونه قائماً بالماهيّة، وعلى تقدير كونه عرَضاً، لا يلزم كونُه كيفيّة، لعدم كلّيته وعمومه، وما هو من الأعراض العامّة والمفهومات الشاملة للموجودات، إنّما هو الوجود الانتزاعي العقلي، ولمخالفته أيضاً سائر الأعراض بأنّ وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها، ووجود الوجود عين وجود الماهيّة الموضوعة لها، لا وجود غيرها، ظهر عدمُ افتقاره في تحقّقه الى الموضوع، فلا يلزم الدورُ المذكور.

على أنّ المختارَ عندنا انّ وجودَ الجوهر جوهرٌ بجوهريّة ذلك الجوهر، لا بجوهريّة أخرى، وكذا وجود العرَض، عرَضٌ بعرَضيّة ذلك العرَض لا بعَرَضيّة أخرى.

الفصل الثالث

في أنّ ما ذكره هذا القائل ينافي مذهب العارفين القائلين بهذا التوحيد عقلاً ولفظاً

أما الأول: فلأنّ مَنْ ذَهب الى أنّ الماهيّات مجعولة وحاصلة بالجعل، ولا شبهة في أن الماهيّات أمور متخالفة المعاني، فتكون الموجودات عنده أموراً متكثّرة متخالفة بالحقائق متمايزة بالذوات، إذ موجوديّة الماهيّة - على هذا المذهِب - عبارةٌ عن صدورها عن الفاعل أو انتسابها إليه، فيكون الوجود معنى مصدريّاً، والموجود أمراً حقيقيّاً متعدداً حسب تعدّد أفراد الماهيّات الصادرة عن الفاعل، فأين هذا المذهب من مذهب التوحيد الذي عليه العرفاء.

وقريب من هذا ما ذهب اليه بعض المغترّين بلامع السراب الوهميّ عن مشرب التوحيد الأتمّي، انّ الوجود الحقيقيّ شخصٌ واحدٌ وهو ذات الباري، والموجود كلّي له أفرادٌ متعدّدة هي الموجودات، ونَسب هذا المذهب الى أذواق المتألّهين وزعم أنّ هذا هو مقصودُهم في وحدة الوجود، وهو فاسدٌ من وجوه:

الأول: إنّ أفراد الموجودات قد تكون متكثّرة متقدّمة بعضُها على بعض في الوجود مع اتّحادها في الماهيّة النوعيّة، فإذا كانت الماهيّة واحدة والوجود واحداً شخصيّاً، فكيف يتعدّد الموجود ويتقدّم بعضه على بعض؟!

والثاني: إنّه يلزم على هذا القول أن يكون قولُنا: وجود زيدٍ ووجود عمرٍو، بمنزلة قولنا: إله زيدٍ واله عمرٍو، وهذا لا يتفوّه به عاقل.

-20-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس