عرض مشاركة واحدة
 
  #38  
قديم 01-05-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 21

تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 21


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


قولُه تَعَالَى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

" صِرَاطَ الذِيْنَ " بدل منه، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ.

والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها:

بدلُ كُلّ من كُلّ، وبدل بَعْضٍ من كُلّ، وبدلُ اشْتِمَالٍ، وبدلُ غَلَطٍ، وبدل نِسْيَان، وبدل بَدَاء، وبدل كُلّ من بعض.

أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ، فلا خلافَ فِيها.

وأما بدلُ البدَاء، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاًّ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: " وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُهَا إلى العُشُرِ " ولا يَرِدُ هذا في القرآن الكريمِ.

وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ، فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ: [البسيط]

75- لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌوَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ


قال: لأنَّ " الحُوّة " السّوادُ الخالِصُ، و " اللَّعَسُ " سواد يشوبه حُمْرَة، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ.

وأما بدل الكُلّ من البعض، فأثبته بعضهُم، مُسْتَدِلاًّ بظاهِر قوله: [الخفيف]

76- نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَابِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ


في رواية مَنْ نَصَبَ " طَلْحَةَ " ، قال: لأنَّ " الأَعْظُمَ " بعضُ " طَلْحَةَ " ، و " طَلْحَةَ " كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرىء القيس [الطويل]

77- كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوالَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ


فـ " غَدَاةَ " بعضُ " اليوم " ، وقد أُبْدِلَ " اليوم " منها.

ولا حُجَّةَ في البيتيْنِ، أما الأولُ: فإنَّ الأَصْلَ " أعظماً دفنوها أَعْظُمَ طلحة " ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيم المُضَافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ " طَلْحَةَ " على أنَّ الأصل: " أعظم طلحة " ولم يُقَم المضاف إليه مقامَ المضاف.

وأما الثاني: فإنَّ " اليَوْمَ " يُطلقُ على القطعةِ من الزمان، كما تقدّم، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن.

وقيل: " الصراط " الثاني غير الأول، والمرادُ به: العلمُ بالله تعالى. قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رحمه الله تعالى: وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ.

والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى:

بدل مَعرفةٍ، ونكرةٍ منْ نكرةٍ، ومعرفةٍ منْ نكرةٍ، ونكرةٍ مِنْ معرفةٍ.

ويَنْقَسمُ أيضاً إلى:

بدل ظاهِر من ظاهرٍ: ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، وظاهرٍ مِنْ مضمر، ومضمرٍ من ظاهر.

وفائدةُ البَدلِ: الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل.

و " الذين " في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صِلَةٍ وعائدٍ، وهو جمع " الذي " في المعنى، والمشهور فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرًّا؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه: [الرجز]
-1-

78- نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَايَوْمَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا


وقد تُحْذَفُ نُونُه اسْتِطَالةً بصلته؛ كقوله: [الطويل]

79- وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْهُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ


ولا يقع إلاَّ على أُولي العلمِ، [ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم] وغيرهم.

و " أَنْعَمْتَ ": فِعْلٌ، وفاعلٌ، صِلَة المَوْصُولِ.

والتاء في " أنعمتَ " ضميرُ مرفوعٍ مُتَّصل. و " عليهم " جار ومجرور متعلّق بـ " أنعمتَ " ، والضميرُ هو العائدُ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِه ومُنْفَصِلِهِ.

والهمزةُ في " أنعمتَ "؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه، ولكن ضُمِّنَ معنى " تَفَضَّلَ " فَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ.

وقرأ عمر بنُ الخَطّابِ، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - " صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ ".

ولـ " أَفْعَلَ " أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى، تقدّمَ وَاحِدٌ.

والتعدِيَةُ؛ نحو: " أَخْرَجتُه ".

والكثرةُ؛ نحو: " أَظْبَى المَكَانُ " أَيْ: " كَثُرَ ظِبَاؤُه ".

والصَّيرورةُ؛ نحو: " أَغَدَّ البَعِيرُ " صار ذا غُدّة.

والإعانة؛ نحو: " أَحْلَبْتُ فُلاَناً " أي: أعنتُه على الحَلْبِ.

والتَّشْكِيَةُ؛ نحو: " أَشكيتُه " أي: أزلتُ شِكَايَتَهُ.

والتَّعرِيضُ؛ نحو: " أبعتُ المبتاعَ " ، أي: عرضتُه للبيع.

وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو: " أحمدتُه " أي: وجدتُه محموداً.

وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو: " أعْشَرتِ الدَّرَاهِمُ " ، أي: بلغتِ العَشَرَة.

أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو " أصبح " ، أو مَكَانٍ؛ نحو " أَشْأَمَ ".

وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو: " أحزتُ المكانَ " بمعنى: حُزْتُهُ.

أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو: " أَرْقَلَ البعيرُ ".

ومطاوعةُ " فَعَلَ "؛ نحو قَشَع الريح، فَأَقْشَع السّحابُ.

ومطاوعَةُ " فَعَّلَ "؛ نحو: " فَطَّرْتُه، فَأَفْطَرَ ".

ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو: " أسرع ".

والتَّسميةُ؛ نحو: " أخطأتهُ " ، أَيْ: سَمَّيْتُه مخْطِئاً.

والدعاءُ؛ نحو: " أسقيتُه " ، أَي: قلتُ له: سَقَاكَ الله تعالى.

والاستحقاقُ؛ نحو " أَحْصَدَ الزرعُ " ، أَيْ: استحقَّ الحصادَ.

والوصولُ؛ نحوه: " أَعْقَلْتُهُ " ، أَيْ: وَصَّلْتُ عقلي إليه.

والاستقبالُ نحو: " أَفَفْتُه " ، أَي: استقبلتُه بقول: أُفٍّ.

والمجيءُ بالشيء؛ نحو: " أكثرتُ " أَيْ: جئتُ بالكثير.

والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَل، نحو: أَشْرَقَتِ الشَّمسُ: أضاءتْ، وشَرَقَتْ: طَلَعَتْ.

والهجومُ؛ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم، أيْ: اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ.

و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَيْنٌ: ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المُجَاوزة؛ كقوله: [الوافر]

80- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍلَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

أيْ: عَنِّي.

وبمعنى " الباءِ "

{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ } [الأعراف7: 105]،

أي: بأَنْ، وبمعنى " فِي "؛

-2-

{ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ } [البقرة2: 102]

أيْ: فِي [مُلْكِ]،


والتعليلُ:

{ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } [البقرة2: 185]؛

أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم.


وبمعنى " مِن ":

{ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } [المؤمنون23: 5، 6]،

أيْ: إلاّ مِنْ أَزواجهم.


والزيادة كقوله: [الطويل]

81- أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍعَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ


لأنَّ " تُروقُ " يتعدى بنفسِه، ولكل موضع من هذه المواضعِ مَجَالٌ للنظر.

وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكون اسماً في موضعين:

أحدهُما: أن يدخلَ عليها حَرْفُ الجَرّ؛ كقول الشاعر: [الطويل]

82- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَاتَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ


ومعناها " فَوْق " ، أيْ: من فوقه.

والثاني: أنْ يؤدي جعلُه حرفاً، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المُتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله: [المتقارب]

83- هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَبِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا


ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيْن " عَنْ " ، وستأتي إنْ شاء الله تعالى.

وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددةٌ بين الاسم، والفِعْلِ، والحرفِ.

أما الاسمُ والحرفُ، فقد تقدما.

وأما الفعلُ: قال: فإنك تقولُ: " عَلاَ زيدٌ " أي: ارتفع. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن " عَلاَ " إذا كان فِعْلاً، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً، فلا اشتقاقَ له، فليس هو ذَاكَ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلَ يَرُدُّ هذا النظرَ، [بقولهم: إنَّ " خَلاَ " ، " وَعَدا " مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر].

والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإنْ تقدمها ياءٌ ساكنة، أو كسرةٌ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو: عَلَيْهِم وفِيهِمْ وَبِهِمْ.

والمشهورُ في مِيمِهَا السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبلَ ساكن، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء، أما إذا ضممتَ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله: " وفِيهُمِ الحكام " بِكَسْرِ المِيمِ.

وفي " عَلَيْهِمْ " عشرُ لُغاتٍ:

قُرِىءَ بِبَعْضِها: " عَلَيْهُِمْ " بكسر الهاء وضمها، مع سُكُون الميم.

" عَلَيْهِمِي " ، بكسر الهاء، وزيادة الياء، وبكسر الميم فقط.

" عليهُمُو " بضم الميم، وزيادة واو، أو الضم فقط.

" عليهِمُو " بِكَسْرِ الهاءِ، وضم الميمِ، بزيادة الواو.

" عليهُمِي " بِضَمِّ الهاء، وزيادة ياء بعد الميم.

أو الكسر فقط " عليهِمُ " بكسر الهاء، وضم الميم، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَارِي.

والتفسيرُ، قال البَغَويُّ - رحمه الله تعالى -: صراط الذين أنعمت عليهم أي: مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق، وقال عِكْرَمة - رضي الله تعالى عنه -: مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَة وعلى الأنبياء عليهم السلام.

وقِيل: على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيِّين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تَعَالَى - في قوله:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ } [النساء4: 69]

-3-

وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام، قبل أن غيروا دينهم.

وقال أَبُو العَالِيَةَ: هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.

وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ - رضي الله عنه -: هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بَيْتِهِ.

وقرأ حَمْزَةُ " عَلَيْهُمْ " ، و " إلَيْهُمْ " ، و " لَدَيْهُمْ " بضم الهاء.

ويضم يَعْقُوب كُلَّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً، إلاّ قولَه تعالى:

{ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [الممتحنة60: 12].

والآخرُونَ: بكسرها. فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الانفراد.

ومَنْ كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة.

وضم ابنُ كَثِير، وأَبُو جَعْفَر كُلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصْلِ، إذا لم يلقها ساكن، فإنْ لقيها ساكِنٌ فلا يُشْبِع.

ونَافِعٌ يُخَيِّرُ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع.

وإذا تلقته ألفُ الوصلِ، وقبل الهاء كسرٌ، أو ياءٌ ساكنةٌ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكسرَهُما أَبُو عَمْرو، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله.

والآخرون: بضمّ الميم، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها، وضمّ الميم على الأصل، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: " صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ".

قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى -: اخْتُلِفَ في حَدّ النّعْمَةِ:

فقال بعضُهم: إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ.

[ومنهم مَنْ يقولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلى الغير].

قالوا: وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان]، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ الشكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ أَلاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ، والذَّمَّ بمعصيةِ الله تعالى، فلا يجوزُ أنْ يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك.

ولنرجع إلى تفسير الحَدّ: فنقول: أما قَولُنا: " المنفعة "؛ فلأن المَضَرّةَ المحضةَ لا تكون نِعْمَةً.

وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان؛ لأنه لو كان نفعاً حقًّا وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه، نَفْعَ المفعولِ به، فلا يكون نِعْمَةً، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ، ليربَحَ عليها.

وها هنا فوائدُ:

الفائِدَةُ الأُوْلَى: أَنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع، ودفع الضَّرر، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى:

{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]،

ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ:


أحدُها: نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا، نحو: أنْ خَلَق ورَزَقَ.

وثانيها: نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غير الله - تعالى - في ظاهرِ الأَمْرِ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلتْ من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ، كان ذلك العبدُ مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى:
-4-

{ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان31: 14]

فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى.

وثالثها: نِعمٌ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإِلاَّ لَمَا وَصَلْنَا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة من الله تَعَالى.

الفائدةُ الثَّانيةُ: اختلفوا [في أنه] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا: ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة.

وقالت المعتزلةُ: لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية.

واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [الكريم]، والمعقول.

أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }؛ وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلِينَ تحت قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ.

فإن قَالُوا: إنَّ قَوْله: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } يدفعُ ذَلكَ.

قلنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِه: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }؛ فكان التَّقْدِير: " اهْدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم " ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوفُ المذكورُ.

وقوله تبارك وتعالى:


وأما المَعْقُولُ: فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مُقَابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، بدليل أنَّ مَنْ جعل السُّمَّ في الحَلْوَى لم يَعُدِ النفعُ الحاصلُ منه نعمةً؛ لأجل أن ذلك النفع حقيرٌ في مُقابلةِ ذلك الضَّرر الكبير، فكذا ههُنا.

وأما الَّذِين قالوا: إن لله على الكافر نعمةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى:

{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً } [البقرة2: 21، 22]،

على أنه يَجبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة2: 28]،

ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم.


وقولِه تعالى:


وقولِه تعالى:


وقول إبليس:


ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاَّ عند حصول النعمة.
-5-

الفائدة الثالثةُ: قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله -: قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر - رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية: " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم؛ بقوله تعالى:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ } [النساء4: 69]

ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمامٍ، لما جَازَ الاقتداء به]، فثبت [بما ذكرناه دلالة هذه الآية على] إمامة أبي بكر رضي الله عنه.


الفائدة الرابعة: قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كُلّ من كان لله - تعالى - عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين.

فنقول: كل نعمة ديِنِيّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى: { 1649;هْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام:

الأول: أنه لما ثبت أن المُرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدلّ على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.

الحكم الثاني: يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعْظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التَّعْظيم.

الحكم الثالث: دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [الصلاح والأصلح] في الدين؛ لأنه لو كان الإرْشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً، وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب.

الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حَقّ الكفار، فلما خص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع.
-6-

قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

" غير " بدل من " الذين " بدل نكرة من معرفة.

وقيل: نعت لـ " الذين " ، وهو مشكل؛ لأن " غير " نكرة و " الذين " معرفة، وأجابوا عنه بجوابين:

أحدهما: أن " غير " إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف " غير " حينئذ بالإضافة، تقول: " مررت بالحركة غير السكون " والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح.

والثاني: أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات.

وقيل: إن " غير " بدل من المضمر المجرور في " عليهم " ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد، ألا ترى أن التقدير يصير: " صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم ".

و " المغضوب " خفض بالإضافة، وهو اسم مفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، فـ " عليهم " الأولى منصوبة المَحَلّ، والثانية مرفوعته، و " أل " فيه موصولة، والتقدير: " غير الذين غُضِب عليهم ".

والصحيح في " أل " الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ.

واعلم أن لفظ " غير " مفرد مذكر أبداً، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول: " قامت غيرك " ، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها، أعني نحو: " مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِدْن وتِرْب ".

وقد يستثنى بها حملاً على " إلاّ " كما يوصف بـ " إلاّ " حملاً عليها، وقد يراد بها النفي كـ " لا " ، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها، كما يجوز في " لا " تقول: " أنا زيداً غَيْرُ ضارب " أي: غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]

84- إِنَّ امْرَءًا خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُعَلَى التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ


تقديره: غير مكفور عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي.

لو قلت: " جاء القوم زيداً غير ضارب " ، تزيد: غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في " لا ".
-7-

وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً.

وقول ثالث: يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ، فيمتنع فيها ذلك، وبين ألاّ يكون فيجوز.

وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدْخَال الألف واللام عليها خَطَأ.

واختلفوا هل يجوز دخول " أل " على " غير وبعض وكل " والصحيح جوازه.

قال البغوي - رحمه الله تعالى -: " غير " ها هنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها، كما يقال: " فلان غير مُحْسن ولا مجمل " ، فإذا كان " غير " بمعنى " لا " ، فلا يجوز العَطْفُ عليها بـ " لا "؛ لا يجوز في الكلام: " عندي سوى عبد الله ولا زيد ".

وقرىء: " غَيْرَ " نصباً، فقيل: حال من " الَّذِين " وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى: وقيل: من الضمير في " عليهم ".

وقيل على الاستثناء المنقطع، ومنعه الفَرَّاء؛ قال: لأن " لا " لا تُزَادُ إلاَّ إذا تقدمها نفي، كقول الشاعر: [البسيط]

85- مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَاوَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ


وأجابوا بأن " لا " صلة زائدة مثلها في قوله تعالى:

{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف7: 12]؛

وقول الشَّاعر: [الرجز]

86- فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا


وقول الآخر: [الطويل]

87- وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ


وقول الآخر: [الطويل]

88- أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِنَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ


فـ " لا " في هذه المواضع كلها صلةٌ.

وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل: إنها غير زائدة، وقولهم: إن " لا " زائدة في الآية، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا: وجدت " لا " زائدةً من غير تقدّم نفي، كهذه المواضع المتقدمة.

ويحتمل أن تكون " لا " في قوله: " لا البُخْلَ " مفعولاً به لـ " أَبَى " ، ويكون نصب " البُخْلَ " على أنه بدل من " لا " أي: أبى جُودُهُ قَوْلَ لا، وقول: لا هو البخل، ويؤيد هذا قوله: " واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ " فجعل " نَعَمْ " فاعل " اسْتَعْجَلَتْ " ، فهو من الإِسْنَادِ اللَّفْظي، أي: إلى جود هذا اللَّفظ، واستعجل به هذا اللفظ.

وقيل: إن نصب " غير " بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل، وقدّر بعضهم بعد " غير " محذوفاً قال: التقدير: " غير صِرَاط المَغْضُوب " ، وأطلق هذا التَّقدير، فلم يقيده بِجَرّ " غير " ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها، وتكون صفةً لقوله تعالى: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف، فالأولى أن تكون صفةً لـ " صراط الذين " ، ويجوز أن تكون بدلاً من " الصراط المستقيم " ، أو من " صراط الذين " إلا أنه يلزم منه تكرار البدل، وفي جوازه نَظَر، وليس في المَسْألة نقل، إلاّ أنهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني.
-8-

واعلم أنّه حيث جعلنا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " ، أو إبهام الموصوف، وجريانه مجرى النكرة، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ " غير ".

و " لا " في قوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من " غير " لئلا يتوهّم عطف " الضَّالين " على " الذين أنعمت ".

وقال الكوفيون: هي بمعنى " غير " وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح بـ " غير " كانت للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيٌّ رضي الله عنهما.

و " الضَّالين " مجرور عطفاً على " المغضوب " ، وقرىء شاذاً " الضَّأَلِّينَ " ، بهمز الألف؛ وأنشدوا: [الطويل]

89- وَلِلأَرْضِ أَمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلََتْبَيَاضاً، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ


قال الزَّمَخْشَرِي: " وفعلوا ذلك، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين ".

وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر: [الرجز]


90- وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ


بهمز " العألم ".

وقال آخر: [البسيط]

91- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً..................


بهمز ألف " زَوْرَأَة " ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في قراءة ابن ذَكْوَان: " مِنْسَأَتَهُ " بهمز ساكنة: إنّ أصلها ألف، فقلبت همزة ساكنة.

فإن قيل: لم أتى بصلة " الذين " فعلاً ماضياً؟

قيل: ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة " أل " اسماً ليشمل سائر الأزمان، وجاء مبنيًّا للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطُّف، وترفّق لطلب الإحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.

والإنعام: إيصال الإحسان إلَى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاَء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره.

والغضب: ثَورَان دم القلب إرادة الانتقام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه ".

وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره.

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات.
-9-

ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ] له أول وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.

ويقال: فُلاَن غُضبَّة: إذا كان سريع الغَضَبِ.

ويقال: غضبت لفلان إذا كان حيًّا وغضبت به إذا كان ميتاً.

وقيل: الغضب تغيُّر القلب لمكروه.

وقيل: إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذاتٍ.

والضلال: الخَفَاء والغيبوبة.

وقيل: الهلاك، فمن الأول قولهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن.

[وقال القائل]: [الوافر]

92- أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُعَن الحَيِّ المُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا؟


" والضَّلضلَة ": حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي.

ومن الثاني:

{ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة32: 10]،

وقيل: الضّلال: العُدُول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسْيان كقوله تعالى:

{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [البقرة2: 282]

بدليل قوله:

{ فَتُذَكِّرَ } [البقرة2: 282].


التفسير: قيل: " المغضوب عليهم " هم اليهود.

وقيل: " الضالون " هم النصارى؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى:

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]،

وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى:


وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز من دينهم أولى.

وقيل: " المغضوب عليهم ": هم: الكُفّار، و " الضّالون ": هم المنافقون.

وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما: " غير المغضوب عليهم " بالبِدْعَةِ، " والضّالين " عن السُّنَّة.

والأَوْلَى أن يحمل " المغضوب عليهم " على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل.

فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: " غير المغضوب عليهم " يدلُّ على أن أحداً من الملائكة، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلّ عن الحق، لقوله تعالى:

{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس10: 32]،

ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.


فَصْلٌ في إضافة الغضب لله

قالت المعتزلة: غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم، وإلاَّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم.
-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس