عرض مشاركة واحدة
 
  #10  
قديم 12-27-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 41-50 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 41-50 من 259



{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


عامل النصب في المفاعيل:

المسألة الثالثة والثلاثون:

اختلفوا في العامل في نصب المفعول على أربعة أقوال: الأول: وهو قول البصريين ـ أن الفعل وحده يقتضي رفع الفاعل ونصب المفعول: والثاني: وهو قول الكوفيين ـ أن مجموع الفعل والفاعل يقتضي نصب المفعول، والثالث: وهو قول هشام بن معاوية من الكوفيين ـ أن العامل هو الفاعل فقط، والرابع: وهو قول خلف الأحمر من الكوفيين ـ أن العامل في الفاعل معنى الفاعلية، وفي المفعول معنى المفعولية.

حجة البصريين أن العامل لا بدّ وأن يكون له تعلق بالمعمول، وأحد الإسمين لا تعلق له بالآخر، فلا يكون له فيه عمل ألبتة، وإذا سقط لم يبق العمل إلا للفعل.

حجة المخالف أن العامل الواحد لا يصدر عنه أثران لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد. قلنا: ذاك في الموجبات، أما في المعرفات فممنوع.

واحتج خلف بأن الفاعلية صفة قائمة بالفاعل، والمفعولية صفة قائمة بالمفعول، ولفظ الفعل مباين لهما، وتعليل الحكم بما يكون حاصلاً في محل الحكم أولى من تعليله بما يكون مبايناً له، وأجيب عنه بأنه معارض بوجه آخر: وهو أن الفعل أمر ظاهر، وصفة الفاعلية والمفعولية أمر خفي، وتعليل الحكم الظاهر بالمعنى الظاهر أولى من تعليله بالصفة الخفية والله أعلم.

الباب السابع

في إعراب الفعل

إعراب الفعل:

اعلم أن قوله: (أعوذ) يقتضي إسناد الفعل إلى الفاعل، فوجب علينا أن نبحث عن هذه المسائل.

المسألة الأولى: إذا قلنا في النحو فعل وفاعل، فلا نريد به ما يذكره علماء الأصول لأنا نقول: «مات زيد» وهو لم يفعل، ونقول من طريق النحو: مات فعل، وزيد فاعله، بل المراد أن الفعل لفظة مفردة دالة على حصول المصدر لشيء غير معين في زمان غير معين، فإذا صرحنا بذلك الشيء الذي حصل المصدر له فذاك هو الفاعل، ومعلوم أن قولنا حصل المصدر له أعم من قولنا حصل بإيجاده واختياره كقولنا قام، أولاً باختياره كقولنا مات، فإن قالوا: الفعل كما يحصل في الفاعل فقد يحصل في المفعول، قلنا: إن صيغة الفعل من حيث هي تقتضي حصول ذلك المصدر لشيء ما هو الفاعل، ولا تقتضي حصوله للمفعول، بدليل أن الأفعال اللازمة غنية عن المفعول.

وجوب تقديم الفعل:

المسألة الثانية: الفعل يجب تقديمه على الفاعل، لأن الفعل ـ إثباتاً كان أو نفياً يقتضي أمراً ما يكون هو مسنداً إليه، فحصول ماهية الفعل في الذهن يستلزم حصول شيء يسند الذهن ذلك الفعل إليه، والمنتقل إليه متأخر بالرتبة عن المنتقل عنه، فلما وجب كون الفعل مقدماً على الفاعل في الذهن وجب تقدمه عليه في الذكر، فإن قالوا: لا نجد في العقل فرقاً بين قولنا: «ضرب زيد» وبين قولنا: «زيد ضرب» قلنا: الفرق ظاهر، لأنا إذا قلنا زيد لم يلزم من وقوف الذهن على معنى هذا اللفظ أن يحكم بإسناد معنى آخر إليه، أما إذا فهمنا معنى لفظ ضرب لزم منه حكم الذهن بإسناد هذا المفهوم إلى شيء ما، إذا عرفت هذا فنقول: إذا قلنا: «ضرب زيد» فقد حكم الذهن بإسناد مفهوم ضرب إلى شيء، ثم يحكم الذهن بأن ذلك الشيء هو زيد الذي تقدم ذكره، فحينئذٍ قد أخبر عن زيد بأنه هو ذلك الشيء الذي أسند الذهن مفهوم ضرب إليه، وحينئذٍ يصير قولنا: زيد مخبراً عنه وقولنا ضرب جملة من فعل وفاعل وقعت خبراً عن ذلك المبتدأ.

-41-

ارتباط الفعل بالفاعل:

المسألة الثالثة: قالوا: الفاعل كالجزء من الفعل، والمفعول ليس كذلك، وفي تقريره وجوه: الأول: أنهم قالوا ضربت فاسكنوا لام الفعل لئلا يجتمع أربع متحركات، وهم يحترزون عن تواليها في كلمة واحدة، وأما بقرة فإنما احتملوا ذلك فيها لأن التاء زائدة، واحتملوا ذلك في المفعول كقولهم ضربك، وذلك يدل على أنهم اعتقدوا أن الفاعل جزء من الفعل، وأن المفعول منفصل عنه، الثاني: أنك تقول: الزيدان قاما أظهرت الضمير للفاعل، وكذلك إذا قلت زيد ضرب وجب أن يكون الفعل مسند إلى الضمير المستكن طرداً للباب، والثالث: وهو الوجه العقلي ـ أن مفهوم قولك ضرب هو أنه حصل الضرب لشيء ما في زمان مضى، فذلك الشيء الذي حصل له الضرب جزء من مفهوم قولك ضرب، فثبت أن الفاعل جزء من الفعل.

الإضمار قبل الذكر:

المسألة الرابعة: الإضمار قبل الذكر على وجوه: أحدها: أن يحصل صورة ومعنى، كقولك ضرب غلامه زيداً والمشهور أنه لا يجوز لأنك رفعت غلامه بضرب فكان واقعاً موقعه والشيء إذا وقع موقعه لم تجز إزالته عنه، وإذا كان كذلك كانت الهاء في قولك غلامه ضميراً قبل الذكر، وأما قول النابغة: ـ

جزى ربه عني عدي بن حاتمجزاء الكلاب العاويات وقد فعل

فجوابه: أن الهاء عائدة إلى مذكور متقدم، وقال ابن جني: وأنا أجيز أن تكون الهاء في قوله ربه عائدة على عدي خلافاً للجماعة، ثم ذكر كلاماً طويلاً غير ملخص، وأقول: الأولى في تقريره أن يقال: الفعل من حيث أنه فعل كان غنياً عن المفعول لكن الفعل المتعدي لا يستغنى عن المفعول، وذلك لأن الفاعل هو المؤثر، والمفعول هو القابل، والفعل مفتقر إليهما ولا تقدم لأحدهما على الآخر، أقصى ما في الباب أن يقال إن الفاعل مؤثر، والمؤثر أشرف من القابل، فالفاعل متقدم على المفعول من هذا الوجه، لأنا بينا أن الفعل المتعدي مفتقر إلى المؤثر وإلى القابل معاً وإذا ثبت هذا فكما جاز تقديم الفاعل على المفعول وجب أيضاً جواز تقديم المفعول على الفاعل.

-42-

القسم الثاني: وهو أن يتقدم المفعول على الفاعل في الصورة لا في المعنى؛ وهو كقولك ضرب غلامه زيد: فغلامه مفعول، وزيد فاعل، ومرتبه، المفعول بعد مرتبة الفاعل، إلا أنه وأن تقدم في اللفظ لكنه متأخر في المعنى.

والقسم الثالث: وهو أن يقع في المعنى لا في الصورة، كقوله تعالى:


فههنا الإضمار قبل الذكر غير حاصل في الصورة، لكنه حاصل في المعنى، لأن الفاعل مقدم في المعنى، ومتى صرح بتقديمه لزم الإضمار قبل الذكر.

إظهار الفاعل وإضماره:

المسألة الخامسة: الفاعل قد يكون مظهراً كقولك ضرب زيد، وقد يكون مضمراً بارزاً كقولك ضربت وضربنا، ومضمراً مستكناً كقولك زيد ضرب، فتنوي في ضرب فاعلاً وتجعل الجملة خبراً عن زيد، ومن إضمار الفاعل قولك إذا كان غداً فأتني، أي: إذا كان ما نحن عليه غداً.

قد يحذف الفعل:

المسألة السادسة: الفعل قد يكون مضمراً، يقال: من فعل؟ فتقول: زيد، والتقدير فعل زيد، ومنه قوله تعالى:


والتقدير وإن استجارك أحد من المشركين.

التنازع في العمل:

المسألة السابعة: إذا جاء فعلان معطوفاً أحدهما على الآخر وجاء بعدهما اسم صالح لأن يكون معمولاً لهما فهذا على قسمين، لأن الفعلين: أما أن يقتضيا عملين متشابهين، أو مختلفين وعلى التقديرين فأما أن يكون الاسم المذكور بعدهما واحداً، أو أكثر فهذه أقسام أربعة.

القسم الأول: أن يذكر فعلان يقتضيان عملاً واحدأ، ويكون المذكور بعدهما اسماً واحداً، كقولك: قام وقعد زيد، فزعم الفراء أن الفعلين جميعاً عاملان في زيد، والمشهور أنه لا يجوز؛ لأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين، والأقرب راجح بسبب القرب، فوجب إحالة الحكم عليه، وأجاب الفراء بأن تعليل الحكم الواحد بعلتين ممتنع في المؤثرات، أما في المعرفات فجائز، وأجيب عنه بأن المعرف يوجب المعرفة، فيعود الأمر إلى اجتماع المؤثرين في الأثر الواحد.

القسم الثاني: إذا كان الاسم غير مفرد، وهو كقولك، قام وقعد أخواك، فههنا إما أن ترفعه بالفعل الأول، أو بالفعل الثاني، فإن رفعته بالأول قلت: قام وقعدا أخواك، لأن التقدير قام أخواك وقعدا، أما إذا أعملت الثاني جعلت في الفعل الأول ضمير الفاعل، لأن الفعل لا يخلوا من فاعل مضمر أو مظهر، تقول: قاما وقعد أخواك، وعند البصريين إعمال الثاني أولى، وعند الكوفيين إعمال الأول أولى، حجة البصريين أن أعمالهما معاً ممتنع، فلا بدّ من إعمال أحدهما، والقرب مرجح، فإعمال الأقرب أولى، وحجة الكوفيين أنا إذا أعملنا الأقرب وجب إسناد الفعل المتقدم إلى الضمير، ويلزم حصول الإضمار قبل الذكر، وذلك أولى بوجوب الاحتراز عنه.

-43-

القسم الثالث: ما إذا اقتضى الفعلان تأثيرين متناقضين، وكان الاسم المذكور بعدهما مفرداً، فيقول البصريون إن إعمال الأقرب أولى، خلافاً للكوفيين، حجة البصريين وجوه؛ الأول: قوله تعالى:


فحصل ههنا فعلان كل واحد منهما يقتضي مفعولاً: فأما أن يكون الناصب لقوله قطراً هو قوله آتوني أو أفرغ، والأول باطل، وإلا صار التقدير آتوني قطراً، وحينئذٍ كان يجب أن يقال أفرغه عليه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الناصب لقوله قطراً هو قوله أفرغ؛ الثاني: قوله تعالى:


فلو كان العامل هو الأبعد لقيل هاؤم اقرؤه، وأجاب الكوفيون عن هذين الدليلين بأنهما يدلان على جواز أعمال الأقرب، وذلك لا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنا نجوز أعمال الأبعد، وأنتم تمنعونه وليس في الآية ما يدل على المنع. الحجة الثالثة: للبصريين أنه يقال: ما جاءني من أحد، فالفعل رافع، والحرف جار، ثم يرجح الجار لأنه هو الأقرب. الحجة الرابعة: أن إهمالهما وإعمالهما لا يجوز، ولا بدّ من الترجيح، والقرب مرجح، فأعمال الأقرب أولى.

واحتج الكوفيون بوجوه: الأول: أنا بينا أن الاسم المذكور بعد الفعلين إذا كان مثنى أو مجموعاً فأعمال الثاني يوجب في الأول الإضمار قبل الذكر وأنه لا يجوز، فوجب القول بأعمال الأول هناك، فإذا كان الاسم مفرداً وجب أن يكون الأمر كذلك طرداً للباب. الثاني: أن الفعل الأول وجد معمولاً خالياً عن العائق، لأن الفعل لا بدّ له من مفعول، والفعل الثاني وجد المعمول بعد أن عمل الأول فيه، وعمل الأول فيه عائق عن عمل الثاني فيه ومعلوم أن أعمال الخالي عن العائق أولى من أعمال العامل المقرون بالعائق.

القسم الرابع: إذا كان الاسم المذكور بعد الفعلين مثنى أو مجموعاً فإن أعملت الفعل الثاني قلت ضربت وضربني الزيدان وضربت وضربني الزيدون، وإن أعملت الأول قلت ضربت وضرباني الزيدين وضربت وضربوني الزيدين.

المسألة الثامنة: قول امرىء القيس: ـ

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشةكفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلوقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

فقوله كفاني ولم أطلب ليسا متوجهين إلى شيء واحد، لأن قوله كفاني موجه إلى قليل من المال، وقوله ولم أطلب غير موجه إلى قليل من المال، وإلا لصار التقدير فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيلزم حينئذٍ أنه ما سعى لأدنى معيشة ومع ذلك فقد طلب قليلاً من المال، وهذا متناقض، فثبت أن المعنى ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك، وعلى هذا التقدير فالفعلان غير موجهين إلى شيء واحد، ولنكتف بهذا القدر من علم العربية قبل الخوض في التفسير.

-44-

القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية والعقلية، وفيه أبواب: ـ

الباب الأول

في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

وقت قراءة الاستعاذة:

المسألة الأولى: اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة، وعن النخعي أنه بعدها، وهو قول داود الأصفهاني، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين، وهؤلاء قالوا: الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال: (آمين) فبعد ذلك يقول: أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال: الله أكبر كبيراً ثلاث مرات، والحمد لله كثيراً ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.

واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه:


دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط، وذكر الاستعاذة جزاء، والجزاء متأخر عن الشرط، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن قراءة القرآن، ثم قالوا: وهذا موافق لما في العقل، لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم، فلو دخله العجب في أداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب، لقوله عليه السلام والسلام «ثلاث مهلكات» وذكر منها إعجاب المرء بنفسه؛ فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان، لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة.

قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن المراد من قوله تعالى:


أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كما في قوله تعالى:


والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، لأنه يقال: ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل.

أما جمهور الفقهاء فقالوا: لا شك أن قوله:


يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت، وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقاً بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه، ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال تعالى:


وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب.

وأقول: ههنا قول ثالث: وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن، جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان.

-45-

حكم الاستعاذة:

المسألة الثانية: قال عطاء: الاستعاذة واجبة لكل قراءة، سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، وقال ابن سيرين: إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون: إنها غير واجبة.

حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول: إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها.

واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه: الأول: أنه عليه السلام واظب عليه، فيكون واجباً لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ }.

الثاني: أن قوله تعالى: { فَٱسْتَعِذْ } أمر، وهو للوجوب، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات، لأنه تعالى قال: { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل، والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة.

الثالث: أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم، لأن قوله:


مشعر بذلك، ودفع شر الشيطان واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة.

الرابع: أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة، فهذا ما لخصناه في هذه المسألة.

التعوذ في الصلاة:

المسألة الثالثة: التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين، وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان، لنا الآية التي تلوناها، والخبر الذي رويناه، وكلاهما يفيد الوجوب، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب.

هل يسر بالتعوذ أو يجهر:

المسألة الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم»: روي أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ وعن أبي هريرة أنه جهر به، ثم قال: فإن جهر به جاز، وإن أسر به أيضاً جاز وقال في «الإملاء»: ويجهر بالتعوذ، فإن أسر لم يضر، بين أن الجهر عنده أولى، وأقول: الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة، فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار، وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر، إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم، لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء، ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية، والأصل هو العدم.

هل يتعوذ في كل ركعة:

المسألة الخامسة: قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم»: قيل إنه يتعوذ في كل ركعة، ثم قال: والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى، وأقول: له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم، وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله:


وكلمة إذا لا تفيد العموم، ولقائل أن يقول: قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية، فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة، والله أعلم.

-46-

صيغ الاستعاذة:

المسألة السادسة: أنه تعالى قال في سورة النحل:


وقال في سورة أخرى


وفي سورة ثالثة


فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي: واجب أن يقول، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة، قالوا: لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى:


وموافق أيضاً لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم، وقال أحمد: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعاً بين الآيتين، وقال بعض أصحابنا، الأولى أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لأن هذا أيضاً جمع بين الآيتين، وروى البيهقي في «كتاب السنن» بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثلاثاً وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال: قل يا محمد: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم


وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعاً من الاستغراق في الله، والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال الله والله الهادي.

هل التعوذ للقراءة أو للصلاة:

المسألة السابعة: التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة؟ عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة، وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة، ويتفرع على هذا الأصل فرعان: الفرع الأول: أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا؟ عندهما لا يتعوذ، لأنه لا يقرأ، وعنده يتعوذ، وجه قولهما قوله تعالى:


علق الاستعاذة على القراءة، ولا قراءة على المقتدي، فلا يتعوذ، ووجه قول أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة، ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة، الفرع الثاني: إذا افتتح صلاة العيد فقال: سبحانك اللهم وبحمدك هل يقول: أعوذ بالله ثم يكبر أم لا؟ عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات.

وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها ههنا: ـ

السنة في القراءة:

المسألة الثامنة: السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل، لقوله تعالى:


والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ، وأفهم غيره تلك المعاني، وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم، فكان الترتيل أولى، فقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

-47-

" يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا " قال أبو سليمان الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة، يقال للقارىء: إقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن، فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة.

المسألة التاسعة: إذا قرأ القرآن جهراً فالسنة أن يجيد في القراءة، روى أبو داود عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم "

المسألة العاشرة: المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة، ويدل على أن المشابهة حاصلة بينهما جداً والتمييز عسر، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق، بيان المشابهة من وجوه: الأول: أنهما من الحروف المجهورة، والثاني: أنهما من الحروف الرخوة، والثالث: أنهما من الحروف المطبقة، والرابع: أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها وبهذا السبب يقرب مخرجه من مخرج الظاء، والخامس: أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب قال عليه الصلاة والسلام: " أنا أفصح من نطق بالضاد " فثبت بما ذكرنا أن المشابهة بين الضاد والظاء شديدة وأن التمييز عسر، وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان هذا الفرق معتبراً لوقع السؤال عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أزمنة الصحابة، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذه المسألة البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف.

المسألة الحادية عشرة: اختلفوا في أن اللام المغلظة هل هي من اللغات الفصيحة أم لا؟ وبتقدير أن يثبت كونها من اللغات الفصيحة لكنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تغليظها حال كونها مكسورة لأن الانتقال من الكسرة إلى التلفظ باللام المغلظة ثقيل على اللسان، فوجب نفيه عن هذه اللغة.

لا تجوز الصلاة بالشاذة:

المسألة الثانية عشرة: اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة مثل قولهم «الحمدِ لله» بكسر الدال من الحمد أو بضم اللام من لله، لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقاً، لأنها لو كانت من القرآن لوجب بلوغها في الشهرة إلى حد التواتر، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها ليست من القرآن، إلا أنا عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.

-48-

المسألة الثالثة عشرة: اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال: وذلك لأنا نقول: هذه القراءات المشهورة إما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون، فإن كان الأول فحينئذٍ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعاً على خلاف الحكم الثابت بالتواتر، فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير، لكنا نرى أن كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة، ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه، وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذٍ يخرج القرآن عن كونه مفيداً للجزم والقطع واليقين، وذلك باطل بالإجماع، ولقائل أن يجيب عنه فيقول: بعضها متواتر، ولا خلاف بين الأمة فيه، وتجويز القراءة بكل واحد منها، وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعياً، والله أعلم.

الباب الثاني

في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة: الاستعاذة، والمستعيذ، والمستعاذ به، والمستعاذ منه، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة.

الركن الأول: في الاستعاذة، وفيه مسائل: ـ

تفسير الاستعاذة:

المسألة الأولى: في تفسير قولنا: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بحسب اللغة فنقول: قوله: «أعوذ» مشتق من العوذ، وله معنيان: أحدهما: الالتجاء والاستجارة، والثاني: الالتصاق يقال: «أطيب اللحم عوذه» وهو ما التصق منه بالعظم، فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي: ألتجىء إلى رحمة الله تعالى وعصمته، وعلى الوجه الثاني معناه التصق نفسي بفضل الله وبرحمته.

وأما الشيطان ففيه قولان: الأول: أنه مشتق من الشطن، وهو البعد، يقال: شطن دارك أي بعد، فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطاناً لبعده من الرشاد والسداد، قال الله تعالى:


فجعل من الإنس شياطين، وركب عمر برذوناً فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان. والقول الثاني: أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلاً لوجوه مصالح نفسه سمي شيطاناً.

وأما الرجيم فمعناه المرجوم، فهو فعيل بمعنى مفعول. كقولهم: كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين، أي ملعون، ثم في كونه مرجوماً وجهان: الأول: أن كونه مرجوماً كونه ملعوناً من قبل الله تعالى، قال الله تعالى:

-49-


واللعن يسمى رجماً، وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له:


قيل عنى به الرجم بالقول، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا:


وفي سورة يۤس


والوجه الثاني: أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوماً لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طرداً لهم من السموات، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد.

وأما قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } ففيه وجهان: الأول: أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع، ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار،: الثاني: أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن، وهو قوله تعالى:


وقال في حم السجدة:


المسألة الثانية: في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة: اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل، أما العلم فهو كون العبد عالماً بكونه عاجزاً عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية، وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه. فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب، وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له، ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان، أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريداً لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالباً لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى، وذلك الطلب هو الاستعاذة، وهو قوله: «أعوذ بالله» إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله، وعلمه بنفسه، أما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع المعلومات، فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالماً به ولا بأحواله، فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثاً، ولا بدّ وأن يعلم كونه قادراً على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزاً عن تحصيل مراد البعد، ولا بدّ أن يعلم أيضاً كونه جواداً مطلقاً، إذ لو كان البخل عليه جائزاً لما كان في الاستعاذة فائدة، ولا بدّ أيضاً وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده، إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله، وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد، وأن يعلم أيضاً أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه، إذ لو كان مستقلاً بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة، فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ومن الناس من يقول: لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات، بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول: أعوذ بالله على سبيل الإجمال، وهذا ضعيف جداً لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله:

-50-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس