عرض مشاركة واحدة
 
  #21  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 151-160 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 151-160 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

السبب الرابع: أن العلوم البشرية إما علم ذات الله وصفاته وأفعاله، وهو علم الأصول وإما علم أحكام الله تعالى وتكاليفه، وهو علم الفروع، وإما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية. والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة، وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه: فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } إشارة إلى علم الأصول: لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه رباً للعالمين، وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد، ولا يكون مستحقاً للحمد إلا إذا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات، ثم وصفه بنهاية الرحمة ـ وهو كونه رحماناً رحيماً ـ ثم وصفه بكمال القدرة ـ وهو قوله مالك يوم الدين ـ حيث لا يهمل أمر المظلومين، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين، وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول، ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع، وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية، وهو قول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ثم مزجه أيضاً بعلم الأصول مرة أخرى، وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية، ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة: أولها: حصول هداية النور في القلب، وهو المراد من قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وثانيها: أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية، حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى، وهو قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وثالثها: أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات، وهو قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وعن أوزار الشبهات، وهو قوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب، فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع.

السبب الخامس: قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب، قال: سمعت أبا بكر القفال قال: سمعت أبا بكر بن دريد يقول: الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر، قال قيس بن الحطيم:

نصبنا أمنا حتى ابذعرواوصاروا بعد ألفتهم سلالا

فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية، والعرب تسمى الأرض أماً؛ لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم، ولأنه يقال: أم فلان فلاناً إذا قصده.

-151-

الاسم الرابع: من أسماء هذه السورة «السبع الثاني» قال الله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15: 87]

وفي سبب تسميتها بالمثاني وجوه:

الأول: أنها مثنى: نصفها ثناء العبد للرب، ونصفها عطاء الرب للعبد.

الثاني: سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة.

الثالث: سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب، قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم.

الرابع: سميت مثاني لأنها سبع آيات، كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن، فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن.

الخامس: آياتها سبع، وأبواب النيران سبعة، فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة، والدليل عليه ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، كنت أخشى العذاب على أمتك. فلما نزلت الفاتحة أمنت، قال: لم يا جبريل؟ قال: لأن الله تعالى قال:

{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُم أَجْمَعِينَ *لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُم جُزْءٌ مَقْسُومٌ } [الحجر15: 43، 44]

وآياتها سبع فمن قرأها صارت كل آية طبقاً على باب من أبواب جهنم، فتمر أمتك عليها منها سالمين.


السادس: سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى.

السابع: سميت مثاني لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له.

الثامن: سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين، واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى: { سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } في سورة الحجر.

الاسم الخامس: الوافية، كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم، قال الثعلبي، وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز، وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة.

الاسم السادس: الكافية، سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها، وأما غيرها فلا يكفي عنها، روى محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضاً عنها "

الاسم السابع: الأساس، وفيه وجوه:

الأول: أنها أول سورة من القرآن، فهي كالأساس.

الثاني: أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه، وذلك هو الأساس.

الثالث: أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة، وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بدّ منه في الإيمان والصلاة لا تتم إلا بها.

الاسم الثامن: الشفاء، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

-152-

" فاتحة الكتاب شفاء من كل سم " ومر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرىء فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هي أم القرآن، وهي شفاء من كل داء. " وأقول: الأمراض منها روحانية، ومنها جسمانية، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضاً فقال تعالى:

{ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [البقرة2: 10]

وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات، فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة.


الاسم التاسع: الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد هذه السورة "

الاسم العاشر: السؤال، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال: " من شغله ذكرى عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال:

{ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء26: 78]

إلى أن قال:

{ رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ } [الشعراء26: 83]

ففي هذه السورة أيضاً وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله: { الحمد لله } إلى قوله { مالك يوم الدين } ثم ذكر العبودية وهو قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين، وهو أيضاً يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله { ٱهْدِنَا } ولم يقل أرزقنا الجنة.


الاسم الحادي عشر: سورة الشكر، وذلك لأنها ثناء على الله بالفضل والكرم والإحسان.

الاسم الثاني عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها على قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء،والله أعلم.

الباب الثاني

في فضائل هذه السورة، وفيه مسائل:

كيفية نزولها:

المسألة الأولى: ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال: الأول: أنها مكية، روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش، ثم قال الثعلبي: وعليه أكثر العلماء، وروي أيضاً بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال: أول ما نزل من القرآن { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى خديجة فقال: " لقد خشيت أن يكون خالطني شيء " ، فقالت: وما ذاك؟ قال: " إني إذا خلوت سمعت النداء بإقرأ " ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل وسأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة: إذا أتاك النداء فاثبت له، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

-153-

" بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقالت قريش: دق الله فاك.

والقول الثاني: أنها نزلت بالمدينة، روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال: فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة وهذه هفوة مجاهد، لأن العلماء على خلافه، ويدل عليه وجهان: الأول: أن سورة الحجر مكية بالاتفاق، ومنها قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15: 87]

وهي فاتحة الكتاب، وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم، الثاني: أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب.


القول الثالث: قال بعض العلماء: هذه السورة نزلت بمكة مرة، وبالمدينة مرة أخرى، فهي مكية مدنية، ولهذا السبب سماها الله بالمثاني؛ لأنه ثنى إنزالها، وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها.

المسألة الثانية: في بيان فضلها، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم، وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة، وعن الحسين قال: أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة، وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.

قلت: والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة، فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية.

المسألة الثالثة: قالوا: هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهي الثاء، والجيم والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل والثبور، قال تعالى:

{ لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [الفرقان25: 14]

والجيم أول حروف اسم جهنم، قال تعالى:

{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر15: 43] وقال تعالى:
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ } [الأعراف7: 179]

وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى:

{ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } [التحريم66: 8] وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱلْخِزْىَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوء عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } [النحل16: 27]

وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق، قال تعالى:

{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [هود11: 106]

وأيضاً الزاي تدل على الزقوم، قال تعالى:


-154-

{ إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأثِيمِ } [الدخان44: 43]

والشين تدل على الشقاوة، قال تعالى:

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ٱلنَّارِ } [هود11: 106]

وأسقط الظاء لقوله:

{ ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ ظِلّ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ *لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ } [المرسلات: 30، 31]

وأيضاً يدل على لظى، قال تعالى:

{ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ *نَزَّاعَةً لّلشَّوَىٰ } [المعارج70: 15، 16]

وأسقط الفاء؛ لأنه يدل على الفراق، قال تعالى:

{ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم30: 14] وأيضاً قال:
{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } [طه20: 61].


فإن قالوا: لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعاً من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة، فنقول: الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم

{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } [الحجر15: 44]

والله تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة، وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب، تنبيهاً على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمناً من الدركات السبع في جهنم، والله أعلم.


الباب الثالث

في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة، وفيه مسائل:

أسرار الفاتحة:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فكأن سائلاً يقول: الحمد لله منبي عن أمرين: أحدهما: وجود الإله، والثاني: كونه مستحقاً للحمد، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق الحمد؟ ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين، فأجاب عن السؤال الأول بقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل: ـ

المسألة الأولى: إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً، لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري، لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظرياً، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه، فكان قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم.

ثم فيه لطائف: اللطيفة الأولى: أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده، وفي بقائه إلى إبقائه، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر القديم، كما قال تعالى:

{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء17: 44].


-155-


اللطيفة الثانية: أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين، بل قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا؟ فقال قوم: الشيء حال بقائه يستغني عن السبب، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه، أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيهاً على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه.

اللطيفة الثالثة: أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.

ثم إنه تعالى افتتح سوراً أربعة بعد هذه السورة بقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فأولها: سورة الأنعام وهو قوله:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام6: 1]

واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله، والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة، وأيضاً فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السموات والأرض؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه رباً للعالمين، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة.


وثانيها: سورة الكهف، وهو قوله:

{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ } [الكهف18: 1]

والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط، وقوله في أول سورة الفاتحة: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السموات والأرضين، فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعاً من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة.


وثالثها: سورة سبأ، وهو قوله:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } [سبأ: 1]

فبين في أول سورة الأنعام أن السموات والأرض له، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السموات والأرض له، وهذا أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.


-156-

ورابعها: قوله:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [فاطر35: 1]

والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقاً لها، والخلق هو التقدير، والمذكور في هذه السورة كونة فاطراً لها ومحدثاً لذواتها، وهذا غير الأول إلا أنه أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.


ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقاً للسموات والأرض ذكر كونه جاعلاً للظلمات والنور، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السموات والأرض ذكر كونه جاعلاً الملائكة رسلاً، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السموات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السموات والأرض جعل الروحانيات، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهذا هو التنبيه على أن قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم.

المسألة الثانية: أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضاً مشتملة على الدلالة على كونه متعالياً في ذاته عن المكان والحيز والجهة، لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان، فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد، والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على كونه رباً للمكان والزمان وخالقًا لهما وموجداً لهما، ثم من المعلوم أن الخالق لا بدّ وأن يكون سابقاً وجوده على وجود المخلوق، ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز، متعالية عن الجهة والحيز، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته، وذلك محال، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار.

المسألة الثالثة: هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية؛ لأنه لما كان رباً للعالمين كان خالقاً لكل ما سواه، والخالق سابق على المخلوق، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل، فكانت ذاته غنية عن كل محل، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل.

المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجباً بالذات، بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع، فلما حكم بكونه مستحقاً للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار، وإنما عرفنا كونه فاعلاً مختاراً؛ لأنه لو كان موجباً لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب، ولامتنع وقوع التغير فيها، وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات، ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقاً للحمد.

-157-

المسألة الخامسة: لما خلق الله العالم مطابقاً لمصالح العباد موافقاً لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل، وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالماً فثبت بما ذكرنا أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزهاً عن الحيز والمكان، ويدل على كونه منزهاً عن الحلول في المحل، ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة.

وأما السؤال الثاني ـ وهو قوله: هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء؟ والجواب هو قوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين: إما أن يكون في السلامة والسعادة، وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره، فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده، فكان رحماناً رحيماً، وإن كان في المكاره والآفات، فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد، أو من الله، فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين من الظالمين في يوم الدين، وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بدّ وأن يكون مستحقاً للحمد الذي لا نهاية له، والثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } مرتب ترتيباً لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه.

واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية، واعلم أن الإنسان مركب من جسد، ومن روح، والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية، وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتياً بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته، وتلك الأعمال هي العبادة، فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظباً على العبادات، وهذه أول درجات سعادة الإنسان، وهو المراد بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب، وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات، وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات، وهو المراد من قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله، وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله وهو المراد من قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وفيه لطائف:

اللطيفة الأولى: أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم، أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه: الأول: أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات، ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان، فهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل، والثاني: أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر، ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله، وأما في الأعمال فنقول: من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو العفة، وأيضاً من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو الشجاعة.

-158-

اللطيفة الثانية: أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية، والأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم، وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية.

اللطيفة الثالثة: قال بعضهم: إنه لما قال: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } لم يقتصر عليه، بل قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل، وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط، فلا بدّ من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل؛ فحينئذٍ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات.

وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى:

-159-

{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40].

المسألة الثانية: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة:

اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر، والمحبوب والمكروه، وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها، إلا أنا نقول: الشر وإن كان كثيراً إلا أن الخير أكثر، والمرض وإن كان كثيراً إلا أن الصحة أكثر منه والجوع وإن كان كثيراً إلا أن الشبع أكثر منه، وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائماً في التغيرات والانتقال من حال إلى حال، ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة، أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة، إذا عرفت هذا فنقول أن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر، ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم، أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بدّ له من سبب، ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتاً حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بدّ له من فاعل تولى بناء ذلك البيت، ولو أن إنساناً شككنا فيه لم نتشكك، فإنه لا بدّ وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادراً، إذ لو كان موجباً بالذات لدام الأثر بدوامه، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر، وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيماً محسناً؛ فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة و الخير والبهجة والسلامة، ومن كان غالب أفعاله راحة وخيراً وكرامة وسلامة كان رحيماً محسناً، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد، ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضراً في عقل كل أحد؛ فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول، وكأنه قيل: لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط، بل هو إله كل العالمين، وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان وهذه المعاني قائمة في كل العالمين، فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها، وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول، فهذا يقتضي كونه ربًا للعالمين، وإلهًا للسموات والأرضين، ومدبراً لكل الخلائق أجمعين، ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ويقدر على خلق العرش والكرسي والسموات والكواكب لا بدّ وأن يكون قادراً على إهلاكها، ولا بدّ وأن يكون غنياً عنها، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال، وحينئذٍ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه، وبأي طريق أتوسل إليه، فعند هذا ذكر اللّه ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض، فكأنه قال: أيها العبد الضعيف، أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة، فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي وإذا مت فأنا مالك يوم الدين، لا أضيع عملاً من أعمالك، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات، وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة.

-160-


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس