عرض مشاركة واحدة
 
  #28  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 221-230 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 221-230 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الوجه الثاني: أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد، والمراد منه ذلك الجمع، وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة. فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله.

الوجه الثالث: أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره، أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام: " من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته ". الوجه الرابع: كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا، فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك، ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل " إياك نعبد وإياك نستعين ".

الوجه الخامس: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها؛ لأنها ممزوجة بجهات التقصير، ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد.

وههنا مسألة شرعية، وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فللمشتري إما أن يقبل الكل، أو لا يقبل واحداً منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين، فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض، فأما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء، وإما أن يقبل الكل، وحينئذٍ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره، والتقدير كأن العبد يقول: إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني.

الفائدة الخامسة: اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها؛ وثقل عليه الاشتغال بغيرها، وبيانه من وجوه: الأول: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان وأقواها في كونها سعادة اشتغاله بعبادة الله، فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة، وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة الله، وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية والدرجات البشرية، فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال، وهي موجبة أيضاً لأكمل السعادات في الزمان المستقبل، فمن وقف على هذه الأحوال زال عنه ثقل الطاعات وعظمت حلاوتها في قلبه.

-221-

الثاني: أن العبادة أمانة بدليل قوله تعالى:

{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [الأحزاب33: 72] ـ الآية

وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً، بدليل قوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء4: 58]

وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات؛ ولأن الأداء الأمانة أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني؛ قال بعض الصحابة: رأيت أعرابياً أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء، فتعجبنا، فلما خرج لم يجد ناقته فقال: إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الراوي فزدنا تعجباً، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه، والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته، وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس: " يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات ". الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة: يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف، وتفرق الناس، وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها، ووقعت الآكلة في بعض أعضاء عروة بن الزبير، واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو، فلما شرع في الصلاة قطعوا منه ذلك العضو فلم يشعر عروة بذلك القطع، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره، أزيزاً كأزيز المرجل، ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى:

{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف12: 31]

فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف عليه السلام وصلت تلك الغلبة إلى حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك، فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى، ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك الملك تمنع القلب عن الشعور بهم، فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازى فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى.


ثم قال أهل التحقيق: العبادة لها ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب أو هرباً من العقاب، وهذا هو المسمى بالعبادة، وهذه الدرجة نازلة ساقطة جداً، لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل المطلوب، ومن جعل المطلوب بالذات شيئاً من أحوال الخلق وجعل الحق وسيلة إليه فهو خسيس جداً.

والدرجة الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو يتشرف بالانتساب إليه، وهذه الدرجة أعلى من الأولى، إلا أنها أيضاً ليست كاملة، لأن المقصود بالذات غير الله.

-222-

والدرجة الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذا أعلى المقامات وأشرف الدرجات، وهذا هو المسمى بالعبودية، وإليه الإشارة بقول المصلي في أول الصلاة أصلي لله، فإنه لو قال أصلي لثواب الله، أو للهرب من عقابه فسدت صلاته.

واعلم أن العبادة والعبودية مقام عالٍ شريف، ويدل عليه آيات: الأولى: قوله تعالى في آخر سورة الحجر:

{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ * وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر15: 97 ـ 99]

والاستدلال بها وجهين: أحدهما: أنه قال: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } فأمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالمواظبة على العبادة إلى أنه يأتيه الموت، ومعناه أنه لا يجوز الإخلال بالعبادة في شيء من الأوقات، وذلك يدل على غاية جلالة أمر العبادة، وثانيهما: أنه قال: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } ثم إنه تعالى أمره بأربعة أشياء: التسبيح: وهو قوله فسبح؛ والتحميد: وهو قوله بحمد ربك؛ والسجود: وهو قوله: { وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } والعبادة؛ وهي قوله: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ }؛ وهذا يدل على أن العبادة تزيل ضيق القلب، وتفيد انشراح الصدر، وما ذاك إلا لأن العبادة توجب الرجوع من الخلق إلى الحق، وذلك يوجب زوال ضيق القلب.


الآية الثانية: في شرف العبودية: قوله تعالى:

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء17: 1]

ولولا أن العبودية أشرف المقامات، وإلا لما وصفه الله بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج، ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وأيضاً بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات، وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات، واللائق بالعبد والانعزال عن التصرفات، وأيضاً العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته، والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة، وشتان ما بينهما.


الآية الثالثة: في شرف العبودية: أن عيسى أول ما نطق قال:

{ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم19: 30]

وصار ذكره لهذه الكلمة سبباً لطهارة أمه، ولبراءة وجوده عن الطعن، وصار مفتاحاً لكل الخيرات، ودافعاً لكل الآفات، وأيضاً لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة، كما قال تعالى:

{ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } [آل عمران3: 55]

والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة، والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة كيف يبقى محروماً عن الجنة.


الآية الرابعة: قوله تعالى لموسى عليه السلام:

{ إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى } [طه20: 14]

أمره بعد التوحيد بالعبودية، لأن التوحيد أصل، والعبودية فرع، والتوحيد شجرة؛ والعبودية ثمرة، ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر، فهذه الآيات دالة على شرف العبودية.


-223-

وأما المعقول فظاهر، وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته، فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلاً عن كمالات الوجود، فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ولونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية، فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد فإنما حصلت بسبب العبودية، فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات، وعنوان السعادات، ومطلع الدرجات، وينبوع الكرامات، فلهذا السبب قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، وكان علي كرم الله وجهه يقول: (كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً، وكفى بي شرفاً أن تكون لي رباً، اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت فاجعلني عبداً كما أردت).

الفائدة السادسة: اعلم أن المقامات محصورة في مقامين: معرفة الربوبية، ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله:

{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40]

أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فكون العبد منتقلاً من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً، وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً، وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين، وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات، وبعدها جاءت معرفة العبودية، ولها مبدأ وكمال، وأول وآخر، أما مبدؤها وأولها فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد، بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وأما كمالها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل كل المطالب، وذلك هو المراد بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة، وهو قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ترتيب شريف رفيع عالٍ يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه.


الفائدة السابعة: لقائل أن يقول: قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة، وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، فما الفائدة فيه؟ قلنا فيه وجوه: الأول: أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين، ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني واقررت بكوني إلهاً رباً رحماناً رحيماً مالكاً ليوم الدين، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد. الوجه الثاني: أن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا:

-224-

{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [الأعراف7: 23]، و
{ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [آل عمران3: 147]، و
{ رَبّ هَبْ لِى } [آل عمران3: 38]، و
{ رَبّ أَرِنِى } [الأعراف7: 143]


والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضاً العبادة خدمة، والخدمة في الحضور أولى. الوجه الثالث: أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء، والدعاء في الحضور أولى. الوجه الرابع: العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقرباً إلى الله فينوي حصول القربة، ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعاً من الثناء على الله، فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، فقال: إياك نعبد وإياك نستعين.

الفصل السادس

في قوله { وإياك نستعين }

معنى قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }:

اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ويدل عليه وجوه من العقل والنقل، أما العقل فمن وجوه: الأول: أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية، فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان، وذلك المرجح ليس من العبد، وإلا لعاد في الطلب، فهو من الله تعالى، فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانة الله. الثاني: أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين، وما ذاك المعين إلا الله تعالى، لأن ذلك المعين لو كان بشراً أو ملكاً لعاد الطلب فيه. الثالث: أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به، ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه، ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل، فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى، ولا معنى للإعانة إلا ذلك.

وأما النقل فيدل عليه آيات: أولاها: قوله وإياك نستعين، وثانيتها: قوله:

{ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ } [الأعراف7: 128]

وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية: أما الجبرية فقالوا: لو كان العبد مستقلاً بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكناً من أصل الفعل، فتبطل الإعانة من الغير، أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة.


وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة، فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة، وإزالة الداعية الصارفة ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد:

الفائدة الأولى: لقائل أن يقول: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين، فما الحكمة فيه؟ الجواب من وجوه: الأول: كأن المصلي يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها.

-225-
الثاني: كأن الإنسان يقول: يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلباً يفر مني، فأستعين بك في إحضاره، وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن " فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله. الثالث: لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا مكائيل، بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمرود رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: سله، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب، وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير، وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير، ويدي فلا أحركهما، وعيني فلا أنظر بهما، وأذني فلا أسمع بهما، ولساني فلا أتكلم به، وكان الخليل مشرفاً على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم، فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معيناً فكذلك لا أريد معيناً غيرك، فإياك نعبد وإياك نستعين، فكأنه تعالى يقول: أتيت بفعل الخليل وزدت عليه، فنحن نزيد أيضاً في الجزاء لأنا ثمت قلنا:

{ يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } [الأنبياء21: 69]

وأما أنت فقد نجيناك من النار، وأوصلناك إلى الجنة، وزدناك سماع الكلام القديم، ورؤية الموجود القديم، وكما أنا قلنا لنار نمروذ { يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } فكذلك تقول لك نار جهنم: جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي. الرابع: إياك نستعين: أي: لا أستعين بغيرك، وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة، فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك. الوجه الخامس: قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى، وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد، بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر.


الفصل السابع

في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } ، وفيه فوائد:

معنى قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }:

الفائدة الأولى: لقائل أن يقول: المصلي لا بدّ وأن يكون مؤمناً، وكل مؤمن مهتد، فالمصلي مهتد، فإذا قال: اهدنا كان جارياً مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلباً لتحصيل الحاصل، وأنه محال، والعلماء أجابوا عنه من وجوه:

الأول: المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى.

-226-

يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه، وكان يقول في كل مرة: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فإن قيل: إن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة، وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحاً عليه السلام كان أفضل منه، والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من الله تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها.

الوجه الثاني في الجواب: أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان، والحق هو الوسط، ويتأكد ذلك بقوله تعالى:

{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة2: 143]

وذلك الوسط هو العدل والصواب، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمناً مهتدياً، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بدّ من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال، وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل.


الوجه الثالث: أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته، وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.

الوجه الرابع: أنه تعالى قال:

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ *صِرٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } [الشورى42: 52، 53]

وقال أيضاً لمحمد عليه السلام:

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ } [الأنعام6: 153]

وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة، مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام، ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسمعيل عليه السلام؛ ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام، ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام، ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيـى وزكريا عليهما السلام، فالمراد بقوله إهدنا الصراط المستقيم هو الاقتداء بأنبياء الله في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء؛ ولا شك أن هذا مقام شديد هائل؛ لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به، إلا أنا نقول: أيها الناس، لا تخافوا ولا تحزنوا، فإنه لا يضيق أمر في دين الله إلا اتسع؛ لأن في هذه الآية ما يدل على اليسر والسهولة؛ لأنه تعالى لم يقل صراط الذين ضربوا وقتلوا بل قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فلتكن نيتك عند قراءة هذه الآية أن تقول: يا إلهي، إن والدي رأيته ارتكب الكبائر، كما ارتكبتها وأقدم على المعاصي كما أقدمت عليها، ثم رأيته لما قرب موته تاب وأناب فحكمت له بالنجاة من النار والفوز بالجنة فهو ممن أنعمت عليه بأن وفقته للتوبة، ثم أنعمت عليه بأن قبلت توبته.


-227-

فأنا أقول: إهدنا إلى مثل ذلك الصراط المستقيم طلباً لمرتبة التائبين، فإذا وجدتها فاطلب الاقتداء بدرجات الأنبياء عليهم السلام، فهذا تفسير قوله اهدنا الصراط المستقيم.

الوجه الخامس: كأن الإنسان يقول في الطريق: كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثانٍ، والشيطان إلى طريق ثالث، وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد، وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد والرفض والخروج، والعقل ضعيف، والعمر قصير، والصناعة طويلة، والتجربة خطرة، والقضاء عسير، وقد تحيرت في الكل فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة. والمستقيم: السوي الذي لا غلظ فيه.

يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابي على ناقة له فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال إبراهيم إلى بيت الله، قال كأنك مجنون لا أرى لك مركباً؛ ولا زاداً، والسفر طويل، فقال إبراهيم: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها، قال: وما هي؟ قال: إذا نزلت على بلية ركبت مركب الصبر، وإذا نزل على نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل.

الوجه السادس: قال بعضهم: الصراط المستقيم: الإسلام، وقال بعضهم: القرآن، وهذا لا يصح؛ لأن قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وإذا كان كذلك كان التقدير إهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين، ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام، وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد إهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة، وإنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحداً ليكون لفظ الصراط مذكراً لصراط جهنم فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية.

-228-

القول الثاني في تفسير إهدنا: أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا، ونظيره قوله تعالى:

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران3: 8]

أي ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم.


الفائدة الثانية: لقائل أن يقول: لم قال إهدنا ولم يقل إهدني؟ والجواب من وجهين: الأول أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب. كان بعض العلماء يقول لتلامذته: إذ قرأتم في خطبة السابق «ورضي الله عنك وعن جماعة المسلمين» إن نويتني في قولك «رضي الله عنك» فحسن، وإلا فلا حرج، ولكن إياك وأن تنساني في قولك «وعن جماعة المسلمين» لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل، وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بدّ وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي، ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولاً على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً؛ لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه.

الثاني: قال عليه الصلاة والسلام: " ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها، قالوا: يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة، قال يدعو بعضكم لبعض؛ لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك. " والثالث: كأنه يقول: أيها البعد، ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولاً حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل إهدنا.

الرابع: كان العبد يقول: سمعت رسولك يقول: الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد لله، ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت إياك نعبد، ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت وإياك نستعين، فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت إهدنا الصراط المستقيم، ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت صراط الذين أنعمت عليهم، ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فلما لم أفارق الأنبياء والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة، قال تعالى:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ } [النساء4: 69] الآية.


الفائدة الثالثة: اعلم أن أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين، فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة، فكان العبد يقول: إهدنا الصراط المستقيم لوجوه: الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.

-229-

الثاني: أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضاً في الإعوجاج فيشتبه الطريق على، أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان. الثالث: الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود، والمعوج لا يوصل إليه. الرابع: المستقيم لا يتغير، والمعوج يتغير، فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم، والله أعلم.

الفصل الثامن

في تفسير قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } ، وفيه فوائد:

معنى قوله (صراط الذين أنعمت عليهم):

الفائدة الأولى: في حد النعمة، وقد اختلف فيها، فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذنب والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر، والذم بمعصية الله، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك.

ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول: أما قولنا «المنفعة» فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، وقولنا «المفعولة على جهة الإحسان» لأنه لو كان نفعاً حقاً وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها.

إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع: الفرع الأول: اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى:

{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]

ثم أن النعمة على ثلاثة أقسام: أحدها: نعمة تفرد لله بإيجادها، نحو أن خلق ورزق. وثانيها: نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة فهي أيضاً إنما وصلت من الله تعالى، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة، والخالق لذلك المنعم، والخالق لداعية الأنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال:

{ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان31: 14]

فبدأ بنفسه تنبيهاً على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله، وثالثها: نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى.


-230-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس