عرض مشاركة واحدة
 
  #29  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 231-240 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 231-240 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الفرع الثاني: أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء، ويدل عليه العقل والنقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به، ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة، فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة، وأما النقل فهو أنه تعالى قال:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } [البقرة2: 28] ثم قال عقيبه:
{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً } [البقرة2: 29]

فبدأ بذكر الحياة، وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها، وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة.


الفرع الثالث: اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس لله تعالى على الكافر نعمة، وقالت المعتزلة: لله على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول: أما القرآن فآيات. إحداها: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولو كان كذلك لكان قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } طلباً لصراط الكفار، وذلك باطل، فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار، فإن قالوا: إن قوله الصراط يدفع ذلك، قلنا: إن قولنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من قوله: { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكان التقدير إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، وحينئذٍ يعود المحذور المذكور. والآية الثانية: قوله تعالى:

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌلأِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [آل عمران3: 178]

وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نعمة، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير، فكذا ههنا.


وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعماً كثيرة فقد احتجوا بآيات: إحداها: قوله تعالى:

{يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاء } [البقرة2: 21، 22]

فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة. وثانيها: قوله:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } [البقرة2: 28]

ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وثالثها: قوله تعالى:

{ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة2: 40]

ورابعها: قوله تعالى:

{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ34: 13]

وقول إبليس:

{ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ } [الأعراف7: 17]

ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر.


-231-

ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة.

الفائدة الثانية: قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ } [النساء4: 69]؛ الآية

ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين، ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه.


الفائدة الثالثة: قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كل من كان لله عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين، فنقول: كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدل على أن المراد من قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيمان، فرجع حاصل القول في قوله: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: يتفرع عليه أحكام:

الحكم الأول: أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، ولأن الإيمان أعظم النعم، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.

الحكم الثاني: يجب أن لا يبقى المؤمن مخلداً في النار، لأن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم.

الحكم الثالث: دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين، لأنه لو كان الإرشاد واجباً على الله لم يكن ذلك إنعاماً؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعاماً، وحيث سماه الله تعالى إنعاماً علمنا أنه غير واجب.

الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الأنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه.

-232-

الفصل التاسع

في قوله تعالى { غير المغضوب عليهم ولاالضالين }

وفيه فوائد:

معنى قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ـ الخ:

الفائدة الأولى: المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى:

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]

والضالين: هم النصارى لقوله تعالى:

{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } [المائدة5: 77]

وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، ويحتمل أن يقال: المغضوب عليهم هم الكفار، والضالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [البقرة2: 6]

ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله:

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا } [البقرة2: 8]

فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ }.


الفائدة الثانية: لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.

الفائدة الثالثة: قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } يدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق، لقوله تعالى:

{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس10: 32]

ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم، ولا الاهتداء بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام.

الفائدة الرابعة: الغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، واعلم أن هذا على الله تعالى محال، لكن ههنا قاعدة كلية، وهي أن جميع الأعراض النفسانية ـ أعني الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والغيرة، والمكر والخداع، والتكبر، والاستهزاء ـ لها أوائل، ولها غايات، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الأضرار، وأيضاً، الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.

-233-

الفائدة الخامسة: قالت المعتزلة: غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلماً من الله تعالى، وقال أصحابنا: لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين، وحينئذٍ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد، أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك محال.

الفائدة السادسة: أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له، وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته، وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى، ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.

الفائدة السابعة: دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق: أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله: أنعمت عليهم، وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم، وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين.

فإن قيل: لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة؟ قلنا: لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم.

الفائدة الثامنة: في الآية سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم، أو محدث، فإن كان هذا العلم قديماً فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم، ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه؟ وأما إن كان ذلك العلم حادثاً كان الباري تعالى محلاً للحوادث، ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر، ويتسلسل، وهو محال، وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.

الفائدة التاسعة: في الآية سؤال آخر، وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه وأن يكون من الضالين، فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين؟ والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، كما قال عليه السلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " فقوله: صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل، وقوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حد الكمال.

الفائدة العاشرة: في الآية سؤال آخر، ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضالين؟ والجواب أن أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المرادون بقوله: أنعمت عليهم، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى:

-234-

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [النساء4: 93]

وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى:

{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس10: 32]

وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل، والله أعلم.


القسم الثاني

الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، وفيه فصول

الفصل الأول

في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة

اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة، وعالم الآخرة عالم الصفاء، فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع، وكالجسم بالنسبة إلى الظل، فكل ما في الدنيا فلا بدّ له في الآخرة من أصل، وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل، وكل ما في الآخرة فلا بدّ له في الدنيا من مثال، وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل، فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور، ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بدّ وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها، ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه، كما قال:

{ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ *مُّطَـٰعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير81: 20، 21]

وأيضاً فلا بدّ في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها، ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره، فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات، فذاك مطاع العالم الأعلى، وهذا مطاع العالم الأسفل ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة، فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي، والمظهر هو الرسول البشري، وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا.


وإذا عرفت هذا فنقول: كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى الله، وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها الله تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ } ـ الآية ويندرج في أحكام الرسل قوله:

{ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [البقرة2: 285]

فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ، وهي معرفة الربوبية، ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية وهو مبني على أمرين: أحدهما: المبدأ، والثاني: الكمال. فالمبدأ هو قوله تعالى:

{ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة2: 285]

لأن هذا المعنى لا بدّ منه لمن يريد الذهاب إلى الله، وأما الكمال فهو التوكل على الله والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى الله تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة، ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد، وهو المراد من قوله: { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة: المبدأ والوسط، والمعاد، أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة: وهي معرفة الله، والملائكة، والكتب، والرسل، وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين: «سمعنا وأطعنا» نصيب عالم الأجساد، و «غفرانك ربنا» نصيب عالم الأرواح، وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد، وهو قوله:


-235-

{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة2: 285]

فابتداء الأمر أربعة، وفي الوسط صار اثنين، وفي النهاية صار واحداً.

ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع:

فأولها: قوله:

{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة2: 286]

وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب33: 41] وقوله:
{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف18: 24] وقوله:
{ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف7: 201] وقوله:
{ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ } [الإنسان76: 25]

وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم الله الرحن الرحيم.


وثانيها: قوله:

{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة2: 286]

ودفع الأصر ـ والأصر هو الثقل ـ يوجب الحمد، وذلك إنما يحصل بقوله الحمد لله رب العالمين.


وثالثها: قوله:

{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة2: 286]

وذلك إشارة إلى كمال رحمته، وذلك هو قوله الرحمن الرحيم.


ورابعها: قوله: { وَٱعْفُ عَنَّا } لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين، وهو قوله مالك يوم الدين.

وخامسها: قوله تعالى: { وَٱغْفِرْ لَنَا } لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات، وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين.

وسادسها: قوله: { وَٱرْحَمْنَا } لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا: اهدنا الصراط المستقيم.

وسابعها: قوله:

{ أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [البقرة2: 286]

وهو المراد من قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.


فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب قال عليه السلام: " الصلاة معراج المؤمن ".

-236-

الفصل الثاني: في مداخل الشيطان

مداخل الشيطان:

اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة، والغضب، والهوى، فالشهوة بهيمية، والغضب سبعية، والهوى شيطانية: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه، فقوله تعالى:

{ إن ٱلصلاة تنهى عن الفحشاء } [العنكبوت29: 45]

المراد آثار الشهوة، وقوله: { وَٱلْمُنْكَرِ } المراد منه آثار الغضب، وقوله: { وَٱلْبَغْىَ } المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب يصير ظالماً لغيره، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى، ولهذا قال عليه السلام: " الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه " فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى. ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب، ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة، ثم لها نتائج؛ فالحرص والبخل نتيجة الشهوة، والعجب والكبر نتيجة الغضب، والكفر والبدعة نتيجة الهوى، فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع ـ وهو الحسد ـ وهو نهاية الأخلاق الذميمة. كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد، وهو قوله:

{ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق113: 5]

كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله:

{ يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ *مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [الناس114: 5، 6]

فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس، بل قيل: الحاسد أشر من إبليس، لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا؟ فقال إبليس: لو كنت إلهاً لما جهلتني، فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شراً مني ومنك، قال: نعم، الحاسد، وبالحسد وقعت في هذه المحنة.


إذا عرفت هذا فنقول: أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة، والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل الله تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضاً أصل سورة الفاتحة هو التسمية، وفيها الأسماء الثلاثة، وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة، فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع (التي هي الفاتحة) في مقابلة الأخلاق السبعة، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة، وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة.

أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول: إن من عرف الله وعرف أنه لا إله إلا الله تباعد عنه الشيطان والهوى؛ لأن الهوى إله سوى الله يعبد، بدليل قوله تعالى:

-237-

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية45: 23]

وقال تعالى لموسى: يا موسى، خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا الهوى، ومن عرف أنه رحمن لا يغضب، لأن منشأ الغضب طلب الولاية، والولاية للرحمن لقوله تعالى:

{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان25: 26]

ومن عرف أنه رحيم وجب أنه يتشبه به في كونه رحيماً وإذا صار رحيماً لم يظلم نفسه، ولم يلطخها بالأفعال البهيمية.

وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع، وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى، وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة، وذكر معها اسمين آخرين: وهما الرب، والمالك؛ فالرب قريب من الرحيم، لقوله:

{ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [يۤس: 58]

والمالك قريب من الرحمن، لقوله تعالى: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } فحصلت هذه الأسماء الثلاثة: الرب والملك، والإله، فلهذا السبب ختم الله آخر سورة القرآن عليها، والتقدير كأنه قيل: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل:

{ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 1]

وإن أتاك من قبل الغضب فقل:

{ مَلِكِ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 2]

وإن أتاك من قبل الهوى فقل:

{ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 3].


ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول: من قال الحمد لله فقد شكر الله، واكتفى بالحاصل، فزالت شهوته، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد، وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها، ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن الرحيم زال غضبه، ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني، فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته، وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته، فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة.

الفصل الثالث:

في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد.

جمع الفاتحة لكل ما يحتاج إليه:

اعلم أن قوله الحمد لله إشارة إلى إثبات الصانع المختار، وتقريره: أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال:

{ رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } [البقرة2: 258]،

وقال في موضع آخر:

{ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء26: 78]،

وقال موسى عليه السلام:

{ رَبُّنَا ٱلَّذِى أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه20: 50]،

وقال في موضع آخر:

{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلأوَّلِينَ } [الشعراء26: 26]،

وقال تعالى في أول سورة البقرة:

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة2: 21]

وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام:

{ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ *خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق96: 1، 2]

-238-

فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى، وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيراً جداً.

واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل، ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام، فلا جرم هو دليل من وجه، وإنعام من وجه، والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاماً كان يستحق هو الحمد، وحدوث بدن الإنسان أيضاً كذلك، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والإشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقدورات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا، ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقاً للحمد والثناء، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الصانع، وعلى علمه، وقدرته، ورحمته، وكمال حكمته وعلى كونه مستحقاً للحمد والثناء والتعظيم، فكان قوله الحمد لله دالاً على جملة هذه المعاني، وأما قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهو يدل على أن ذلك الإله واحد، وأن كل العالمين ملكه وملكه، وليس في العالم إله سواه، ولا معبود غيره، وأما قوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت، وأما قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحماناً رحيماً، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الصانع المختار، وقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على وحدانتيه، وقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } يدل على رحمته في الدنيا والآخرة، وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة. وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية. أما قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ـ إلى آخر السورة فهو إشارة إلى الأمور التي لا بدّ من معرفتها في تقرير العبودية، وهي محصورة في نوعين: الأعمال التي يأتي بها العبد، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال: أما الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان: أحدهما: إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }. والثاني: علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر، وأما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي، وإليه الإشارة بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الكاملون المحقون المخلصون، وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإليهم الإشارة بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

-239-

والطائفة الثانية: الذين أخلوا بالأعمال الصالحة، وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }. والطائفة الثالثة: الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة، وهم أهل البدع والكفر، وإليهم الإشارة بقوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ }.

إذا عرفت هذا فنقول: استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين: أحدهما: أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال، والثاني: أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه، وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إشارة إلى القسم الأول، وقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إشارة إلى القسم الثاني، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة، وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة، وهم المغضوب عليهم، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة، وهم الضالون، وهذا آخر السورة، وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية.

الفصل الرابع:

قسمة الله للصلاة بينه وبين عباده.

قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي، وإذا قال الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي، وفي رواية أخرى فوض إليّ عبدي، وإذا قال إياك نعبد يقول الله عبدني عبدي، وإذا قال وإياك نستعين يقول الله تعالى توكل علي عبدي، وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " فوائد هذا الحديث:

الفائدة الأولى: قوله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق، كما قال تعالى:

{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء17: 7]

وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، كما قال:

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56] وقال:
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان76: 2] وقال:
{ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40]

ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل الله هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية، والنصف الثاني منها في معرفة العبودية، حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد.


-240-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس