عرض مشاركة واحدة
 
  #30  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 9-15 من 15

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 9-15 من 15


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


والنبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أمته على هذه العقيدة القرآنية لتتحول إلى واقع ملموس في أحوال المؤمنين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين " إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ".

وهنا سؤال يفرض نفسه وهو أن الإِنسان كائن اجتماعي يشترك مع غيره في المصالح والمنافع ولا يمكنه الاستقلال عن سائر بني جنسه فهو بحاجة دائما إلى من يعينه فإذا مرض احتاج إلى الطبيب، وإذا أفلس احتاج إلى من يقرضه أو يتصدق عليه، وإذا اضطر إلى حمل شيء لا يطيقه احتاج إلى من يعينه عليه، وهكذا فكيف يمنع من الاستعاة بالناس؟ على أن القرآن نفسه يرشدنا إلى التعاون في قوله:

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة5: 2]

وأترك الإِجابة عن هذا السئوال لفيلسوف الإِسلام الإِمام محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا.


أما الإِمام محمد عبده فيجيب بما معناه: أن أعمال الناس تتوقف ثمراتها ونجاحها على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإِلهية أن تكون مؤدية اليها وانتفاء الموانع التي جعلها الله بمقتضى حكمته حائلة دونها، والإِنسان بما اوتي من علم وقوة مكن الله له من كسب بعض الأسباب ودفع بعض الموانع ولكن حجب عنه البعض الآخر فيجب على الناس أن يقوموا بما فيه استطاعتهم من ذلك ويتقنوا أعمالهم بما في وسعهم وأن يتعاونوا ويساعد بعضهم بعضا ويفوضوا الأمر فيما وراء الكسب إلى القادر على كل شيء ويلجأوا إليه وحده طالبين منه المعونة المتممة للعمل والمؤدية إلى جناء ثمرته وليس لهم أن يتعلقوا بما وراء الاسباب إلا بمسببها سبحانه، ويتضح بهذا أن قوله تعالى: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } متمم لمعنى قوله { إِيَّاكَ نَعْبُد } لأن هذه الاستعانة هي فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه بها العبد إلى غير الله كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي انتشرت في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجاهلون أن الاستعانة بالذين اتخذوهم أولياء من دون الله واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة للناس هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة فأراد الله سبحانه أن يزيل هذا اللبس ببيان أن الاستعانة بالناس في حدود استطاعتهم ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما مثلها إلا كمثل الآلات المستعملة فيما خصت به بخلاف الاستعانة بهم فيما وراء طاقاتهم البشرية كالاستعانة في شفاء المريض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدد فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون إلا بالله تعالى الذي بيده الأسباب والمسببات وهو على كل شيء قدير، وضرب الإِمام محمد عبده مثلا لذلك: الزارع عندما يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها فهو يمارس الوسائل المؤدية مع التوفيق إلى حصول المطلوب، ويستعين بالله تعالى على النجاح طالبا منه منع الآفات والجوائح السماوية والأرضية، ومثل بالتاجر الذي يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في فن الترويج، ويتوكل على الله فيما وراء ذلك، وخلص الأستاذ الإِمام من هذا إلى تفنيد حالة الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من الأمور التي ليست في استطاعة الأحياء بله الأموات، وقال عنهم: إنهم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون، واستخرج الأستاذ الإِمام من قول الله سبحانه: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فائدتين جليلتين قال فيهما: (هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة):

أولاهما: أن الإِنسان مطالب بالأعمال النافعة والاجتهاد في إتقانها ما استطاع، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه أو يخشى أن لا ينجح فيه فيطلب المعونة على إتمامه وكماله.

-9-

فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، أما من وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده فهو جدير بطلب المعونة من غيره على رفعه ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، ثم قال الأستاذ بعد هذا التحرير: وهذا الأمر هو مرقاه السعادة الدنيوية وركن من أركان السعادة الأخروية.

ثانيتهما: ما يفيده الحصر المستفاد من تقديم المعمول على العامل من وجوب تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك، قال: وهو روح التوحيد وكمال الدين الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكذّابين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا

{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب33: 71].


وأما السيد محمد رشيد رضا فيقول " إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإِله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية المعنوية، قال: ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم واسم الرب الأكرم إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى:

{ وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود11: 123]

فهذه الاستعانة هى ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفاً على قرن العبادة بالتوكل فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقيق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبى وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.


-10-

قال: وبهذا البيان تعلم أن لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا وجعلهم خدما يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشاها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، وهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته فالعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه حيث جعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل، قال: هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه لا يجد من يتوجه إليه سواه إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد، وأتبع ذلك قوله أن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإِعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام، به وفي هذا تكريم للإِنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإِتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة، ولا من هدي الشريعة فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وتذكير له من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم بأنه مستغن بكسبه عن عناية ربه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره، هذا كلامه وهو ككلام أستاذه في إثبات كون الاستعانة بالله وعدم إشراك غيره فيها من لوازم الإِيمان ومقتضيات التوحيد، وإنما بين كلاميهما خلاف لفظي، فالأستاذ الإِمام يرى أن الاستعانة فيما كان داخلا في إطار الأسباب التي منحها الله عباده جائزة أن تكون بأولئك الذين أجرى الله الأسباب على أيديهم وعلى ذلك يحمل نحو قوله تعالى:

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة5: 2]

أما تلميذه السيد محمد رشيد رضا فهو ينظر إلى أن أولئك ليسوا مستقلين بالأسباب وإنما وهبهم الله تعالى من فضله التفوق فيها وسخرهم بحكمته لإِعانة المحتاجين إليها فالمستعين بهم إنما يستعين في الحقيقة بالله واهب الأسباب ومقدرها فيجب على المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة عندما يطلب من غيره قضاء حاجته.


-11-

هذا وقد يفهم من كلامه في الأسباب العَامة وقوله إنها موهوبة للناس كافة أنه يرى تكافؤ جميع الناس فيها، وهو أمر ترده المشاهدة فإن الناس متباينون في المواهب منهم من وهب حصافة الرأي، ومنهم من وهب قوة البدن ومنهم من وهب الحذق في أعمال خاصة وهذا لتكون حياة الناس قائمة على أسس الاجتماع ولو تساوى الناس في مواهبهم لاستغنى كل أحد بنفسه واستكفى بموهبته ولكن الله سبحانه يريد بذلك تذكير الناس بفقرهم واحتياجهم، لئلا يغتر إنسان بما أوتي فيدعي أنه أوتيه باستحقاق، فتجد الملك بحاجة إلى الحجام والقين والحداد والطباخ كحاجته إلى المستشارين والوزراء فسبحان الغني الذي تفرد بالعزة والكبرياء.

وبهذا الذي حررناه تدرك خطورة ما يصنعه كثير من الناس من التعلق بغير الله سبحانه في طلب الحاجات التي لم يجعل الله قضاءها بيد الناس والأعجب من ذلك أن يأتي أحدهم إلى ضريح طالبا من صاحبه الميت البالي أن يعينه على ما لا يستعان عليه إلا بالله، أو يأتي إلى صخرة صماء أو شجرة أو نهر أو أي شيء من هذا القبيل طالبا منه ذلك مع أن هذه الأشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تعقل وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق منزلة وأعظمهم شأنا يقول له سبحانه في حياته:

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعراف7: 188]

فما بالك بغيره صلى الله عليه وسلم بل ما بالك بالأموات والجمادات والنباتات هل من المعقول أن تلبي هذه الأشياء لأحد طلبا أو تسمع له دعاء أو تستجيب له نداء؟ وإنما ذلك شأن العقول إذا ضلت والأفكار إذا زاغت.


ولعمري ليس تفشي مثل هذه الضلالات في هذه الأمة إلا تصديقا لنبوة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم حيث يقول كما ثبت في الصحيحين " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " وفي حديث أبي واقد الليثي عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها " ذات أنواط " يعلقون عليها أسلحتهم، فقيل له: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي: " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ".

هذا وفي المقام مباحث:

-12-

الأول:- في تقديم العبادة على الاستعانة، ولأفكار العلماء تزاحم في استخراج حكمة ذلك وقد استظهروا وجوها:

أولها: أن العبادة أمانة كما قال تعالى:

{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب33: 72]

لذلك كانت أجدر بالعناية، فقدمت.


ثانيها: أن إسناد المتكلم العبادة إلى نفسه يوهم التبجح والاعتداد بما صدرعنه، فكان جديرا بأن يُتْبع ما يدل على أن العبادة لا تتم إلا بمعونة وتوفيق من الله وهذا يستفاد من جملة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.

ثالثها: أن العبادة قربة محضة إلى الله تعالى، أما الاستعانة فقد تكون لمنفعة عاجلة.

رابعها: أن العبادة مطلوبة لله تعالى من العباد، والاستعانة مطلوبة للعباد من الله، وتقديم ما كان لله أولى مما كان للعباد.

خامسها: أن العبادة في جملتها واجبة لله تعالى على العبد، ولذلك كانت هي الغاية من خلق الإِنس والجن، قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56]

أما الاستعانة فيختلف حكمها باختلاف حال المستعان عليه.


سادسها: أن العبادة أظهر مناسبة بذكر الجزاء فجيء بها بعده، والاستعانة أكثر التئاما مع طلب الهداية فجيء بها قبله.

سابعها: أن الاستعانة ثمرة للعبادة، فإن إخلاصَ العبادة لله يستلزم إفراده بالاستعانة، قال صاحب المنار: " ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإِتيان بها على الوجه المرضي له عز وجل، لا منافاة بين الأمرين لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى، فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشيء الأعمال، فكل منها سبب ومسبّب، وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة ".

ويرى ابن جرير أن الترابط الذي بين العبادة والاستعانة يقتضي جواز تقديم أي منهما على الآخر كما يجوز أن يُقال: قضيت حقي فأحسنت إليّ، أو أحسنت إليّ فقضيت حقي، ويُستفاد مما قاله أنه لا يرى ما يسوغ البحث في تقديم العبادة على الاستعانة.

الثاني:- في تقديم المعمول وهو { إياك } على العامل وهو { نعبد } و { نستعين } ، وذكروا له وجوها:-

أولها: الدلالة على الحصر والاختصاص، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلا نعبدُ غيرك، ويراد به التبرؤ عن الشرك والتعريض بالمشركين.

ثانيها: أن المتقدم في الوجود أحق بالتقدم في الذكر، فالله تعالى كان قبل كل موجود، ولذلك كان الأنسب تقديم ذكره عن ذكر عبادته.

ثالثها: أن في تقديم ذكره تعالى تنبيها للعابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله، فيوقظ ذلك الهمة في نفسه ويقضي على الكسل والتواني.

الثالث:- في المجيء بصيغة الجمع دون الإِفراد في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفيه أقوال:

أولها: أن العبد يحتقر نفسه في مقام الخطاب لله عز وجل، ويستقل عبادته بجانب ما لله تعالى من منة أسبغها عليه وحق يجب له تعالى على العبد، فيجدر به أن يخاطبه مع غيره وأن يوجه عبادته إليه مختلطة بعبادة العابدين.

-13-

ثانيها: أن الإِنسان مع خضوعه لأهل الدنيا وطلبه منهم ما يجدر طلبه من الله إن قال بمفرده إياك أعبد وإياك أستعين كان كاذبا، أما إن وجه الخطاب بصيغة الجمع الدالة على اشتراكه مع العابدين والمستعينين كان أبعد عن الكذب، لوجود من أخلص له العبادة وقصر الاستعانة عليه من بينهم.

ثالثها: أن صيغة الجمع أدعى إلى القبول والاستجابة من صيغة الإِفراد لأن المخاطب يحشر نفسه في زمرة المخاطبين، ولا يعتد بخطابه بنفسه، وذكروا أنّه مما يرشد إلى ذلك ما حكاه الله عن الذبيح إسماعيل عليه السلام من قوله:

{ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [الصافات37: 102]

وما حكاه عن الكليم عليه السلام من قوله:

{ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } [الكهف18: 69]

وقد صبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحداً من جمع، ولم يصبر الكليم لإِفراده نفسه مع أنهما قالا جميعا " إن شاء الله ".


رابعها: أن الإِسلام دين وحدة واجتماع، وليس بدين تشتت وافتراق، ولأجل ذلك شرعت بعض العبادات تؤدي بطريقة جماعية لا على الانفراد، وفي المجيء بصيغة الجمع هنا في هذه السورة التي يجب على المسلم أن يكررها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أهم عبادة في الإِسلام تذكير بواجب الترابط بين المسلمين وإيقاظ لمشاعر الأخوة والمودة بينهم.

الرابع:- في تكرار { إِيَّاكَ } وفيه آراء:-

أولها: أنه للتنصيص على أن طلب العون منه تعالى فإنه لو قال: { إياك نعبد ونستعين } لاحتمل أن يكون إخبارا عن طلب العون من غير تعيين للجهة المطلوب منها.

ثانيها: أن العبادة هي قربة إلى الله تعالى ولو لم تكن مقرونة بالاستعانة، والاستعانة كذلك ولو لم تكن في حال العبادة، ولو أفرد ذكر الضمير لأوهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بينهما.

ثالثها: أن في التكرار تعليما للناس بأن يجددوا ذكر الله عند كل حاجة تعن.

الخامس: في إطلاق الاستعانة وعدم تقييدها بمستعان فيه معين، وقد ذكروا لذلك نكته وهي قصد العموم لاحتمال دخول كل ما يستعان عليه، والفعل المثبت وإن كان له حكم الإِطلاق المخالف لحكم العموم في عدم احتوائه جميع أفراد مدلولات لفظه دفعة واحدة، فإنه بعدم تقييده يقضي باحتمال قصد أي فرد من أفراد تلك المدلولات، ومن جهابذة المفسرين من يرى أن الاستعانة هنا ليست على إطلاقها وإنما هي محصورة في العبادة، وممن جنح إلى هذه العلامة الزمخشري في كشافه حيث جعل الاستعانة مبهمة أوضحها قول الله تعالى فيما بعد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكأنما المستعينون سُئلوا من قبل العلي الأعلى: كيف أعينكم؟ فقالوا: إهدنا الصراط المستقيم.

-14-

واللائق بعقيدة التوحيد عموم الاستعانة في كل ما يطلب العون فيه وهذا لا يمنع أن تكون العبادات داخلة من باب الأولوية فيما يستعان فيه، وقد أسلفنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الدال على الاستعانة بالله شاملة لكل ما يُطلب فيه العون، وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العون من الله في أداء العبادة، فقد أخذ يوما بيد معاذ رضى الله عنه وقال: " والله إني لأحبك أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".

-15-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس