عرض مشاركة واحدة
 
  #29  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-8 من 15

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-8 من 15


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


في هذه الآية الكريمة يعلم الله عبادة أن يفردوه بالعبادة وبالإِستعانة، وهذه ثمرة التوحيد وجوهر الإِيمان والآيات المتقدمة في السورة جاءت توطئة لها ومقدمة لما فيها فإن الإله الحق الذي هو رب العالمين والمتصف بالرحمة والمالك للأمر في الدنيا والآخرة جدير بأن لا تتجه العبادة إلى غيره وأن لا يتعلق القلب بسواه، ويرى الزمخشري أن الآية الكريمة جاءت لتبين الحمد المقصود في قول الله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ويتقدمها سؤال مقدر تقديره كيف تحمدونه؟ فأُجيب: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وسوغ السيد الجرجاني ذلك لأن السؤال عن كيفية الحمد لا عن ماهيته، فصح أن يجاب عنه بالإِجابة المشتملة على الحمد وعلى غيره لأن ضم غيره إليه نوع بيان لكيفيته، أي حال حمدنا أن نجمعه بسائر عبادات الجوارح والإِستعانة في المهمات، ونخص مجموعها بك، وأورد السيد الجرجاني أيضا أنه صح كون العبادة بيانا للحمد من حيث أن اقصى غاية الخضوع يقتضي اعترافا تاما بالإِنعام، ووصفا للمنعم بصفات الجلال والإِكرام، وهذا لأن الحمد اصل العبادة ورأسها كما مر أنه رأس الشكر، إِذ حقيقة العبادة شكر المنعم الحقيقي، أي اظهار الإِنقياد له بقدر الإِمكان غاية ما في الباب أن الجواب يشتمل على زيادة في البيان، ورجح السيد الجرجاني أن يكون قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } استئنافا جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها أزلا وأبدا، كأن سائلا يقول: ما شأنكم مع هذا الموصوف؟ وكيف توجهكم إليه؟.

فأجيب بحصر العبادة والإِستعانة فيه، واعترض الإِمام أبو السعود ما يقوله الزمخشري " بأنه مع كونه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام، وتنساق إليه الأذهان والأفهام، ولا ريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته، على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العباده حتى يتوهم أنه بيان لكيفية حمدهم، والإِعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالمفهوم المقدر، ثم قال: وبعد اللُّتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فأتت نكته الإِلتفات التي أجمع عليها السلف والخلف، وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لأبتناء الجواب على خطابه تعالى وبهذا هدم أبو السعود ما رجحه الجرجانى من أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، وأضاف (بأن تناسي جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عزّ وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله) ثم قال: (والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذُكرمن النعوت الجليلة الموجبة للإِقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هنالك شيء آخر) وأرى أن أضيف إلى ما يقوله أبو السعود أن السورة الكريمة صُدِّرت بحصر الحمد في ذات الحق تعالى وهو مشعر كما سبق بصدور جميع الآلاء عنه ثم تُلِّي ذلك بوصفه تعالى أنه رب العالمين، وفي هذا تصريح بما يستلزمه حصر الحمد فيه من كونه مصدر جميع الآلاء، كما أن فيه إيقاظا للشعور بعظمته تعالى المستوجبة لملأ القلب بهيبته، ثم أُتبع ذلك وصفه بالرّحمة المستلزمة للإِحسان، واختتمت سلسلة هذه الصفات بكونه مالك يوم الدين وهو اليوم الذي ينقلب جيع الناس إليه ليلقوا جزاء ما قدموا، وإجراء هذه الصفات العظيمة على الله باللسان مع استشعار معانيها بالقلب يجعل النفس تنساق انسياقا تلقائيا إلى منتهى الخضوع لهذا الرب الجليل الموصوف بهذه الصفات، صفات العظمة التي لا تليق بغيره، وليس خضوع أبلغ من خضوع العابد فناسب المقام أن يُفرد الله تعالى هنا بالعبادة وبالإِستعانة بصيغة الخطاب المشعرة بالحضور، والخروج بالكلام من أسلوب الغَيبَة إلى أسلوب الخطاب هو المعروف عند علماء البلاغة بالالتفات ويكون أيضا بالخروج عن التكلم إلى الخطاب أو العكس وبالخروج عن الخطاب إلى الغيبة أو التكلم وهكذا.
-1-

. ولا يعنينا هنا بحث مسائل الالتفات فإن ذلك من اختصاص علم البلاغة وانما يعنينا بحث النكتة التي يجاء به لأجلها، وقد ذكر علماء البلاغة نكتة عامة له وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط السامع والمتكلم، وقد تنضم إليها نكت خاصة بحسب المقامات، وللمفسرين والبلاغيين سباق في إظهار النكت التي تناسب هذا المقام، منهم من قال: لما ذُكر الحقيق بالحمد ووُصف بصفات العظمة التي تميزه عن غيره تعلقت معرفة القلب بمعلوم متميز خوطب بذلك ليكون أدل على الإِختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والإِنتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا، والمعقول مشاهدا، والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده بالإِسلام وأفاض على قلبه نور الإِيمان ترقى بسلم الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى مقام الإِحسان وهو (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وأيضا حقيقة العباده هو الإِنقياد المطلق من النفس لأحكام المعبود، وصورة هذا الإِنقياد وقالبه الإِسلام، ومعناه وروحه الإِيمان، وسره وغايته الإِحسان، وبالإِلتفات في (نعبد) يصل العبد عبر المرحلتين السابقتين إلى المرحلة الثالثة، وذكر الألوسي " بأنه يحتمل أن يكون السر أنّ الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى " ، وقيل غير ذلك.

والعبادة لغة بمعنى الذل، يقال: عبد إذا ذل، وعُبِّد إذا ذُلل، منه قوله تعالى:
-2-

{ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء26: 22]

ويُقال طريق معبد إذا وطئته الأقدام حتى ذللته، ومنه قول طرفة بن العبد:

تبارى عتاقا ناجيات وأتبعتوظيفا وظيفا فوق مور معبد


أما إصطلاحا فللناس فيها مذاهب ترجع إلى المعنى اللغوي، فابن جرير الطبري يفسرها بالخضوع والإِستكانة والذل مع الإِقرار بالربوبية للرب المعبود وحده، وروي عن ترجمان القرآن رضي الله عنه " أن المراد بقوله سبحانه { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } إياك نوحد ونخاف ونرجو " ، ورواه عنه ايضا ابن ابي حاتم، وابن كثير يرى أن العبادة استكمال المحبة مع منتهى الخضوع والخوف، وابن تيميه يرى أن العباده الجمع بين المحبة والخضوع، ولجهابذة العلماء في العصر الحديث أنظار في مدلول لفظ العباده، فالإِمام أبو الأعلى المودودي يرى أن العبادة تتكون من عناصر، منها الإِذعان التام من العابد لعلو المعبود والنزول له عن حريته واستقلاله، وترك كل مقاومة وعصيان إزاءه والإِعتقاد بعلائه، والإِعتراف بعلو شأنه، وأن يكون قلبه مفعما بعواطف الشكر والإِمتنان على نعمه وأياديه بحيث يبالغ في تمجيده وتعظيمه، ويتفنن في إبداء الشكر على آلائه، وفي أداء شعائر العبدية له، ويرى العلامة المودودي أن هذا التصور لا ينضم إلى معاني العبدية إلا إذا كان العبد لا يخضع لسيده رأسه فحسب، بل يخضع معه قلبه أيضا، ويستمد السيد الموردودي نظرته هذه في تفسير العبادة من مدلول الكلمة اللغوي، فإن العربي بمجرد سماعه كلمة العبد والعبادة لا يتصور إلا العبديه والعُبودية، وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي طاعة سيده المطلقة فإن تصور الطاعة بمجرد ذكر العبد والعبادة أمر لا بد منه، وخلاصة رأيه في العبادة أنها خضوع الظاهر والباطن والانقياد المطلق من العابد للمعبود مع غمرة القلب بالشعور العبودي.

أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فيرى أن العبادة شعور خاص في القلب يستلزم الخضوع المطلق والإِنقياد التام من العابد للمعبود وفي ذلك يقول: ما هي العبادة؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون احيانا بالتعريف اللفظي، ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها اجمالا وتساهلا واننا إذا تتبعنا آى القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع واطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي عبد ويحل محلها ويقع موقعها.

ولذلك قالوا: إن لفظ العباد مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ العبيد تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى، ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه.
-3-

يغلو العاشق في تعظيم معشسوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في ارادته ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريمهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة إذاً؟.

تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشىء عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطىء أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء لكرمه المحدود اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن للملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصرا وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإِلحاد فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية.

ويضيف الأستاذ إلى ذلك فيقول: للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإِنسان بذلك الشعور بالسلطان الإِلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع فإذا كانت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة كما أن صورة الإِنسان وتمثاله ليس إنسانا خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإِتيان بها وإقامة الشيء هي الإِتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله:

{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت29: 45] وقوله عز وجل
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً *إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً *وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً *إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } [المعارج70: 19- 22]


وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدى إلى غايتها بقوله:

{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ *ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ *وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } [الماعون107: 4- 7]

فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون.


هذا كلام الأستاذ في العبادة، وهو يفيد أن معنى العبادة لا يتم إلا مع استشعار عظمة المعبود التي لا تكتنه، وقدرته التي لا تُحد، وهو صحيح بالنظر إلى العبادة الصحيحية الواجبة لله تعالى، ولكن لا يمنع أن يطلق اسم العباده على تعظيم أحد لغيره تعظيما يخرج به عن حدود استحقاق البشر، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله مع أنهم لم يكونوا يعتقدون لهؤلاء الأحبار والرهبان القدرة المطلقة التي لا تُحد، والعظمة الباهرة التي لا تكتنه، وروى الإِمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو قوله سبحانه:
-4-

{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة9: 31]

وكان امرأً قد تنصر - فقال له إنهم لم يعبدوهم، قال له: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " فإذا كان اتباع الإِنسان على تحليله الحرام وتحريمه الحلال عبادة فما بالك بما يكون من مخلوق لمخلوق مثله من تعظيم لا يليق إلا بمقام الألوهية.

هذا والعبادة هي الغاية التي لأجلها خلق الإِنسان، قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56]

ومن هنا كانت فطرة كل إنسان داعية إليها لما تستشعره من الفراغ الروحي والخواء النفسي بدونها، ومن ثم كانت العبادة تلبية لنداء الفطرة الذي يجلجل من أعماق النفس الإِنسانية، وإنما الفطرة وحدها لا تستطيع أن تهتدي إلى العبادة الصًّحيحة ولذا فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه لتوجيه هذه الفطرة إلى الصراط المستقيم، وما من رسول إلا وكانت دعوته الأولى في قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء21: 25]

والعبادة الخالصة لله تعالى توائم بين حركتي الإِنسان الاختيارية والاضطرارية، فجسم الإِنسان تُعَد خلاياه بملايين الملايين، وكل هذه الخلايا تتحرك بحسب سنة الله فيها، فإذا انقاد هذا الإِنسان وأذعن لربه العظيم وعبده حق عبادته حصل الانسجام التام ما بين هذه الحركات الطبيعية في جسمه وحركته الاختيارية التي ينساق إليها مختارا طاعة لمولاه، ومن هنا نجد الإِمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله يُعبر في إحدى قصائده النورانية عما يشعر به وهو يسبح لله سبحانه من تجاوب ألسنة لا تحصى فيه مع هذا التسبيح حيث يقول: -

أعاين تسبيحي بنور جنانيفأشهد منى ألف ألف لسان
وكل لسان أجتلي من لغاتهإذا ألف ألف من غريب أغان
ويُهدى إلى سمعي بكل لُغيةهدي ألف ألف من شتيت معان
وفي كل معنى ألف ألف عجيبةيقصر عن إحصائها الثقلان


ولا تقف عبادة الإِنسان عند هذا الحد بل توائم بين حركته وحركة كل شيء في هذا الكون الواسع الذي تسبح كل ذرة منه بحمد الله وتسجد خاضعة لجلاله،
-5-

{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء17: 44]،
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } [الحج22: 18]


ولذلك كانت عبادة الله الخالصة داعية للشعور بالانسجام مع الكون والألفة مع الوجود، فلا ينظر إليه العابد نظرة نفرة وعداء، وإنما ينظر إليه نظرة وئام ووداد.

أما إذا تجلى الإِنسان عن عبادة ربه فإنه يشعر بعداوة الكون وخصومة الطبيعة له، ولذلك تجد الغربيين الذين رانت على قلوبهم الجاهلية الحديثة ينظرون إلى الكون نظرة الخصومة والعداء، ويتجلى ذلك في عباراتهم، فكثيرا ما يرد على ألسنتهم وأقلامهم قهر الطبيعة وقسوتها، فإذا حقق أحدهم شيئا قالوا قهر الطبيعة أو تغلب عليها، وإذا أصيب أحدهم بمكروه قالوا قست الطبيعة عليه، أما المؤمن الذي يسبح بحمد الله ويسجد لكبريائه فهو لا يشعر بأية عداوة بينه وبين الطبيعة، وإنما يشعر بالألفة والمودة بينه وبينها لما يربطهما من الخضوع لله والتسبيح بحمده، ولما يتلوه على صفحاتها من آيات بينات تزيد إيمانه رسوخا ويقينه ثباتا، ومما يؤسف له أن تردد ألسنة تلامذة الغرب المنتسبين إلى الإِسلام هذه العبارات الوقحة بدون شعور بهاجس نفسي يؤنبهم على استعمالها، وهذا إن دل على شيء فهو دليل على ما أصاب قلوبهم من المسخ وبصائرهم من الطمس، وإذا كانت العبادة منشأ الألفة والوئام بين العابد وجميع الكائنات فإن ذلك يقتضي أن تكون العبادة أوسع مدلولا مما يظنه كثير من الناس من أنها منحصرة في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذا هو الذى تدل عليه الآيات والأحاديث. أما الآيات فأرى أن أؤخر الكلام عليها إلى أن أصل إليها إن شاء الله في مواضعها، وأما الأحاديث فبحسبي أن أذكر مثالين منها:

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في كل ذى كبد رطبة أجر " وهو دليل على أن الإِنسان يتقرب إلى الله سبحانه بالإِحسان حتى إلى البهيمة العجماء.

2- يقول عليه أفضل الصلاة والسلام " في بضع أحدكم صدقة " قيل له يا رسول الله أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: " أرأيت إن وضعها في حرام ألم يكن يؤزر " قيل له بلى يا رسول الله قال: " كذلك يؤجر إن وضعها في حلال " فانظر كيف يكون العَمل الفطرى الذي يبلى به الإِنسان داعي الغريزة عبادة يؤجر عليها إن أحسن توجيهه واستصحب معه حسن النية.

وبهذا يتضح أن العبادة تقتضى الخضوع المطلق لمنهاج الله فلا يحكم العابد إلاّ به ولا يحتكم إلا إليه ولذلك حكم الله على من لم يكن يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق حيث قال:
-6-


والعبادة أسمى ما ينتسب إليه الانسان ولذلك وصف الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى مقامات ذكره وهى صِنو العبادة فقد قال في معرض ذكر إنزال الكتاب عليه

{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ.. } [آل عمران3: 7] وقال
{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف18: 1] وقال:
{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان25: 1]


وقال في معرض الحديث عن إبلاغه الرسالة ودعائه الله { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } وقال في الحديث عن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ترتب عليه أن ينال من الإِكرام ما لم ينله أحد قبله:

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [الإسراء17: 1]

وهذا لأن عبادة الإِنسان لربه وعبوديته له تعنيان تحرير رقبته من الذل لسواه وتخليص قلبه من الخضوع لغير عزته، وقد غلا بعضهم فادعى أن العبودية أشرف من الرسالة حكى ذلك الفخر الرازى في تفسيره ولم يتعرض له بشيء، وحاصل ما احتج به هذا القائل أن الرسالة انصراف عن الحق إلى الخلق، والعبودية انصراف عن الخلق إلى الحق، والعبودية أيضا تجرد عن التصرفات، والرسالة تلبس بها، وهذه فلسفة باطلة لا يجوز لمن يؤمن بالله ورسله أن يقرها فالرسالة هى أشرف المقامات وأعلى الدرجات التي يوصل إليها بمحض اصطفاء الله تعالى ولا تنافي العبودية ولذلك وصف الله بهما أحب الناس إليه وأرفعهم عنده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الرسالة - كما قال - انصرافاً من الحق إلى الخلق وإنما هى اضطلاع بواجب أمانة الحق لابلاغها إلى الخلق، وإذا كانت تقتضي اشتغالا بالتصرفات فإن تلك التصرفات هى من أقرب القربات إلى المرسِل سبحانه فهى داخلة في حدود عبادته، وأعظم الدلائل على إخلاص العبودية له.


والفخر والألوسي قسما العبادة إلى ثلاث درجات تمشيا مع آراء كثير من العلماء:

الدرجة الأولى: أن تكون العبادة ابتغاء ثواب الله وخشية عقابه، وهى أضعف الدرجات وسماها الألوسي في تفسيره عبادة.
-7-

الدرجة الثانية: أن تكون لأجل نيل شرف بما فيها من التزلف إلى الله تعالى، وهى درجة متوسطة عندهم، وسماها الألوسي عبودية.

الدرجة الثالثة: أن تكون لذات الله مع غض النظر عن كل ما سواه وسماها الألوسي عبودية.

وفي هذا التصنيف نظر، إذ لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة، وتعظيم الله سبحانه بالعبادة وإخلاصها لوجه لا ينافيان ابتغاء ثوابه والحذر من عقابه كما لا ينافيان الرغبة في نيل شرف عبادته عزَّ وجل، وللإِمام نور الدين السالمي رحمه الله في معارجه بحث نفيس في هذه المسأله، ناقش فيه كلام هؤلاء الذين يقسمون العبادة من تلقاء أنفسهم أقساما، واستدل لرده بما جاء من الآيات التي تصف الأنبياء أنهم كانوا يعبدون الله رغبا ورهبا، كقوله سبحانه:

{ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [الأنبياء21: 90]

وهي في معرض مدحهم والإِبانة عن علو قدرهم، ولا ريب أن الأنبياء أرسخ في العبادة قدما، وأسرع إلى كل خير سبقا من غيرهم، فلو كانت العبادة التي تكون بباعث الخوف والرجاء أضعف من غيرها لكانت عبادات الأنبياء غير مقرونة بهما على أن الخوف والرجاء هما السور المتين الذي يحوط أعمال البر كلها.


وكما تطالب الآية الكريمة الناس أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة تطالبهم بأن يفردوه بالاستعانة لأن القوة المطلقة لله وكل ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وكما أن الله تعالى قد تفرد بخلق الكون فهو متفرد بتدبيره فلا معنى للتعلق بغيره، والقرآن الكريم جاء ليقرر هذه الحقيقة بكثير من الآيات التي تخاطب الناس بالبرهان وتضرب لهم الأمثال، منها قول الله سبحانه

{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [الرعد13: 16] وقوله:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر39: 38]

ويبين لنا القرآن أن كل محاولة من المخلوقين لرد سراء أو ضراء كتبها الله لأحد أو عليه لا بد أن تبوء بالفشل الذريع

{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [فاطر35: 2]
{ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }[يونس10: 107]
-8-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس