عرض مشاركة واحدة
 
  #27  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-7 من 14

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-7 من 14

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }


{ الْحَمْدُ للَّهِ }.

الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسِبق للمخاطب به خطابٌ من نوعه أنْ يُسْتأنَس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيَّأَ لتلقيه، وأن يشوق إلى سماع ذلك وتُراضَ نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنُه أن يكون عائقاً عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعِظات والنذُر، ولا تُشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان، وتخامر رشدها نزغات الشيطان، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أُولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفاً نبه الله تعالى قُراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله: { إياك نعبد } إلى آخر السورة، فإنها تضمنت أصولاً عظيمة: أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه { إياك نعبد }. الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبرىء من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه { وإياك نستعين }. الثالث الرغبة في التحَلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم }. الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه { صراط الذين أنعمت عليهم }. الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه { غير المغضوب عليهم }. السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموَّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه { ولا الضالين }.

وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشِد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيباً. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريباً. وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يُتَوِّجُون مناجاتَهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق، ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر مُنَزَّلَةٌ من القرآن مَنْزلَة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.

وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسَبوا إلى العِي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم.
-1-

وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله.

إن القرآن هدى للناس وتبياناً للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يُهَيَّأَ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة والتخلية عن السفاسف الرذيلة.

فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله: { مالك يوم الدين } ، وعن الإشراك بما تضمنه { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم، ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشُبه وغلط، ومَن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما، وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دَركةٍ أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، وذلك بما تضمنه قوله: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كما أجملناه قريباً، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم.

ولما لُقِّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جُدْعان:

أَأَذْكُرُ حاجتي أَم قَدْ كفانيحَيَاؤُكَ إِنَّ شيمتَك الحَياء
إذا أَثنى عليك المرءُ يوماًكفاه عن تَعَرُّضِه الثَّناءُ


فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مُجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذٍ يُلقِّبُون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " كلُّ أَمْرٍ ذِي بال لا يُبْدَأ فيه بالحمدُ لله أو بالحمد فهو أقطع " وقد لُقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزَّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعون للأَفهام وأدعى لوعيها.
-2-

و(الحمد) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فِعْلاً كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنساً للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقاً وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقاً ولو بَشرَ، ونسبا إلى ابن القطاع وغرَّه في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم " من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار " وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلماً في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدَعْ، فسمَّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيهاً على ذلك. وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل.

وأما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره. وقال صاحب «الكشاف» الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحوجَبذ وجَذب، وإن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أُخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري، لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه؛ ولأنه صريح قوله في «الفائق»: «الحمد هو المدح والوصف بالجميل» ولأنه ذكر الذم نقيضاً للحمد إذ قال في «الكشاف»: «والحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضاً للمدح، وعُرفُ علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير:

ومن يجعل المَعْروف في غير أهلهيَكُنْ حمده ذمّاً عليه ويندم


لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق.

ثم اختلف في مراد صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري، وعلى الأول حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعد الدين. واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى:

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ } [الحجرات49: 7]

إذ قال: «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرضٍ وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها» ا هـ.

-3-

وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قُصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في «حواشي التفسير» فرضاً أو نقلاً لا ترجيحاً بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و«الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين.

وبهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضاً ظاهراً؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلاً بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه اختيارياً.

وعندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلٰهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادةٌ في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلاً على زيادة الكمال وفينا دليلاً على النقص، وما كان نقصاً فينا باعتبار مّا قد يكون كمالاً لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة (حمد) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.

(الحمد) مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية وقوله (لله) خبره فلام (لله) متعلق بالكون والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها وهو هنا من المصادر التي أتت بدلاً عن أفعالها في معنى الإخبار، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله وتقدير الكلام نحمد حمداً لله، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره وذلك قولك سقياً ورعياً وخيبةً وبؤساً، والحذرَ بدلاً عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق وأما قولهم سقياً لك نحو:

-4-

سقْياً وَرعْياً لذاك العاتبِ الزَّارِي


فإنما هو ليبينوا المعنيَّ بالدعاء. ثم قال بعد أبواب: هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، من ذلك قولك حمداً وشُكراً لا كفراً وعَجباً، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد الله حمداً وإنما اختُزِل الفعل هٰهنا لأنهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء وقد جاء بعض هذا رفعاً يُبتدأ به ثم يبنى عليه (أي يخبر عنه) ثم قال بعد باب آخر: هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنياً عليها ما بعدَها، وذلك قولك { الحمد لله } ، والعجبُ لك، والويل له، وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر (أي غير إنشاء) فقوي في الابتداء (أي إنه لما كان خبراً لا دعاء وكان معرفة بأَلْ تهيأت فيه أسباب الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهّيىء جانب المعنى للخبرية وكونه معرفة يصحح أن يكون مبتدأ) بمنزلة عبد الله، والرجل، والذي تَعْلم (من المعارف) لأن الابتداء إنما هو خبر وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام. وليس كل حرف (أي تركيب) يصنع به ذاك، كما أنه ليس كل حرف (أي كلمة من هذه المصادر) يدخل فيه الألف واللام، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز (يعني يقتصر فيه على السماع). واعلم أن { الحمدُ لله } وإن ابتدأْتَه ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك أحمد الله. وسمعنا ناساً من العرب كثيراً يقولون: الترابَ لك والعجبَ لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت حمداً وعجباً، ثم جئت (بِلَك) لتبين من تعني ولم تجعله مبنياً عليه فتبتدئه». انتهى كلام سيبويه باختصار. وإنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم، وهو الذي أشار له صاحب «الكشاف» بقوله: «وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً، وكفراً، وعجباً، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها، ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى» الخ.

ومن شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله، والعدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم الدلالةُ على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية؛ والدلالةُ على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية، والدلالةُ على الاهتمام المستفاد من التقديم. وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوباً إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام.
-5-

ولأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام. ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع النصب كما قرىء بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذٍ لا يكون دالاً على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أَحمدُ بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس، وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة { اهدنا الصراط المستقيم } وبقرينة { إياك نعبد } فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم، كيف وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية. قال أمية بن أبي الصلت:

الحمد لله حمداً لا انقطاعَ لهفليس إحسانُه عنا بمقطوع


أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما سيأتي. فهذا معنى ما نُقل عن سيبويه أنه قال: إن الذي يَرْفع الحمدَ يُخبرُ أنَّ الحمدَ منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يُخبرُ أن الحمد منه وحدَه لله تعالى.

واعلم أن قراءة النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور، وأَن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية المطلقة. فقد بان أن قوله { الحمد لله } أبلغ من { الحمدَ لله } بالنصب، وأنَّ { الحمدَ لله } بالنصب والتعريف أبلغ من حمداً لله بالتنكير. وإنما كان { الحمد لله } بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات. قال في «الكشاف»: «إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى:

{ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ } [الذاريات51: 25]

رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحيّة أحسنَ من تحيّتهم» ا هـ.


فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام، قلت: قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أَوْلى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين، فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكراً بما لمنزِّله تعالى من الصفات الجميلة، وذلك يذكِّر بوجوب حمده وأن لا يُغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام، ثم إن ذلك الاهتمام تأتَّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضاً على ذكر الله تعالى اعتداداً بأهمية الحمد العارضةِ في المقام وإن كان ذكر الله أهمَّ في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقامِ، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره.
-6-

فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذناً بالاهتمام مع أنه الأصل، وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير؟

قلت لو سلم ذلك فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدماً مع إمكان الإتيان به مؤخراً؛ لأن للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد الله تعالى إحداهما { الحمدُ الله } كما في الفاتحة والأخرى

{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ } كما في سورة (الجاثية45: 36).


وأما قصد العموم فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه.

والتعريف فيه بالألف واللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون الدال على الفعل والساد مسده دالاً على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنساً فاللام تدل على تعريفه. ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت: الحمد لله أو العجب لك فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدى مخاطبك لا يلتبس بغيره كما أنك إذا قلت الرجل وأردت معيناً في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظه الدال عليه لغة وهو كاف في عدم الدلالة على غيره، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين بينك وبين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ، فلا يفيد هذا التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع؛ لأنك لما جعلته معهوداً فقد دللت على أنه واضح ظاهر، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه من المعروف المشهور، وهذا معنى قول صاحب «الكشاف»: «وهو نحو التعريف في أُرسلَها العِراكَ ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال» وهو مأخوذ من كلام سيبويه.

وليست لام التعريف هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب «الكشاف»: «والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم» غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله: { الحمد } ولام الاختصاص في قوله: { لله } يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه إذا اختص الجنسُ اختصت الأفراد؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي للمبالغة.
-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس