عرض مشاركة واحدة
 
  #12  
قديم 02-18-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: بعض جوانب التاريخ الاجتماعي للقدس في العهدين الأيوبي والمملوكي د. علي السيد علي محمود

رعاية الأيتام:
مِن الأضواء الجديدة التي تُلقيها الوثائق: أنَّ الرعاية الاجتماعيَّة في ذلك العصْر امتدتْ؛ لتشملَ أموال اليتامى القصَّر بوجه عام، واليتامى بلا وصي بوجه خاص، وكذلك اليتامى الذين هم بلا مورد مالي.

فبعدَ وفاة عائلهم، وبخاصَّة الذين ليس لهم أوصياءُ مِن أقاربهم، فكانتْ توضع ثرواتهم، أو ما يؤول إليهم مِن إرْث تحت نظر القاضي الشافعي في القدس لعِدَّة أغراض، منها: الإنفاق عليهم، وتوفير سُبل الحياة الكريمة لهم، وتعليمهم، وكسوتهم وإطعامهم، والتوسِعة عليهم في المواسم المختلِفة، وإلى غير ذلك مِن الأمور المعيشيَّة، والأهم مِن ذلك هو استثمارُ هذه الأموال وَفْق الشَّرع، إلى حين أن يصلوا سِنَّ الرشد، فيقوم بتسليمهم مستحقَّاتهم.

كذلك كان هذا القاضي يقوم بالإشراف على أوقاف الأيتام التي يُوقِفها بعضُ الآباء على ذُريتهم مِن بعدهم، ويجعل النظر عليهم له، ويحدِّد لهم نصيبًا منها، إذ تتحدَّث الوثائق رقم 134، 148، 139، 149 عن وجود بيْت المال المعمور في القُدس برئاسة ناظر أو مشارِف أو وكيل أو شاد، وتُبيِّن الوثيقة رقم 376 الإجراءاتِ التي تتبع في أملاك بيْت المال.

كما تشير الوثيقة رقم 535 إلى وجود ديوان تابع لبيت المال، يُسمَّى "ديوان المواريث الحشرية" يتولَّى حصْرَ تَرِكات مَن يموت بلا وارث، وتكون تركته بذلك مِن نصيب الدولة، أو مَن يموت ويترك ورثة لا يستحقُّون الإرث كله، فيدخل بيت المال ضمنَ الورثة، سواء كانوا من المسلمين، أم مِن أهل الذِّمَّة، كما كان لبيْت المال مندوبون يمثِّلونه لَدَى حصْر تَرِكات الأشخاص المتوفَّيْن[107].

وتنبغي الإشارة إلى أنَّه منذ عهْد السلطان الظاهِر بيبرس، وفي سنة 662هـ/1263م فقد أصْدر تعليماتِه إلى القضاة ونوابهم، بألاَّ ينفرد أحد من الأوصياء بوصية؛ خوفًا مِن أن "يكبر اليتيم فلا يجد شيئًا ولا تقوم له حُجَّة على موجودِه، أو يموت الوصي فيذهب مال اليتيم في ماله"، وأن يكون هناك مجلسٌ هو أشبه بالمجلس الحَسْبي الموجود في بعض البلاد في عصْرنا الحديث، تُسجَّل فيه أموال اليتامى، ويتكوَّن من نوَّاب القاضي الذين "يُحافظون على المصروف"، واستمرَّ الحال على ذلك[108].

ولقد عُرِف هذا المجلس باسم ديوان المواريث الحشريَّة، وحسبما جاء في القلقشندي، فهي تَرِكات مَن "يموت ولا وارث له، أو له وارث لا يستغرق ميراثَه"[109].

والحقيقة: أنَّ كتب الحِسْبة المعاصرة حَرَصتْ على أموال اليتامى هؤلاء؛ وأنَّه مِن واجب المحتسِب أن يعمل كلَّ ما في وُسعه للمحافظة عليها، وعدم التلاعُب بها، فقد نصَّت على أنَّه من واجب المحتسب أن يُشدِّد على دلالي العقارات، وأنَّه يُحلِّفهم ألاَّ يبيعوا... ولا لصبي ولا يتيم إلا بإذن وصيه... فمَن خالف هذا حُذِف من جملة الدلالين...[110].

كما شدَّدت على التجَّار في التعامل مع اليتامى القصَّر، وأنَّه ينبغي للتاجر ألاَّ يعاملَ في البيع أربعةً: الصبي والمجنون، والعبد والأعمى؛ لأنَّ الصبي غير مكلَّف، وكذا المجنون، وبيعهما باطِل فلا يصحُّ بيْعٌ للصبي[111].

وإذا كانتْ عملية استثمار أموال اليتيم مستحبَّة، فقد وجب الحِرْص فيها أيضًا، حيث أوْصَى بعض الفقهاء المعاصرين الوصيَّ بقولهم: "إنَّ ولي اليتيم لا تجب عليه المبالغة في الاستنماء، وإنما الواجب أن يستنميَ قدرَ ما لا تأكل النفقة والمؤن المالي... ولكن الزيادة من شُكْر النعمة"[112].

وأوَّل ما نُلاحظه على الوثائق الخاصَّة برِعاية الأيتام، هو أنَّه في حالة عدم وجود وصيٍّ على تَرِكة هؤلاء الأيتام، فإنَّ أمَّ الأيتام كان لها الأولويةُ في الوصاية على أولادها القُصَّر؛ لأنَّها أشفقُ عليهم، وأرْفَق ولديها مِن الغَيْرة عليهم، والعناية بأمرهم ما لا يتوافر على الوجه الأكمل عندَ غيرها مِن ذوي الأرحام ما دامتْ أهلاً للوصاية.

• هذا ما تؤكِّده الوثيقة رقم 613 والمؤرَّخة في 19 ذي القَعْدة سَنَة 796هـ، والتي تمَّ فيها إسنادُ الوصية للزَّوْجة بحضور أحدِ أعوان نائب السلطنة بالقُدس، وتمَّ إبرامها بإذن مِن القاضي، وبذلك تكتسب القوَّة القانونيَّة، وعلى الوصية تواقيع ثلاثة شهود[113].

• وممَّا يلاحظ أيضًا ما جاء في الوثيقة رقم 192 بتاريخ 5 محرم سنة 790هـ: أنَّه كان لَدَى قاضي قضاة القدس الشافعي موظَّفٌ يُدْعى "أمين الحكم"، وهو المسؤول عن رِعاية شؤون الأيتام لدى القاضي.

وكان يقوم بالإنفاق عليهم مِن تَرِكة والدهم، سواء أكان لهم وصي أم كانوا بلا وصي، وأنَّ هذا الشخص قام بتسليم أمِّ طفلين يتيمين عن "فرض ولديها محمد وعلي اللذين في حَضانتها عن مدَّة أربعة شهور كوامل آخَر شهر صفر مِن سَنة تاريخه مائة درهم وسبعون درهمًا، نِصفها خمسة وثمانون درهمًا".

• والوثيقة رقم 183 بتاريخ 4 رمضان سنة 790هـ تفيد أنَّ هذه المرأة نفسها قبضتْ من "أمين الحُكم" مبلغًا وقدره 120 درهم "وذلك فرض ولديها محمد وعلي، عن مدة شهرين كاملين، آخِرها سَلْخ رمضان المعظَّم"، وبذلك يتَّضح لنا أن ما كان يخصُّ كلَّ طفل في الوثيقة الأولى كلَّ شهر كان 25، 21 درهمًا بينما زاد هذا المبلغ إلى 30 درهمًا في شهري شعبان ورمضان، بما يُفيد أنَّ "أمين الحكم" قام بالتوسِعة على هؤلاء اليتامى بزيادة الحِصص المخصَّصة لهم في الشهور التي تتطلَّب التوسعة، ومنها شهرَا شعبان ورمضان[114].

ومِن الملاحظ كذلك: أنَّ الأوقاف قامت بدَوْر مهمٍّ في رعاية هؤلاء الأيتام، وبخاصَّة ممَّن ليس لهم أيُّ مورد مالي، فقد جاء في الوثيقة رقم 184 والمؤرخة في 2 رمضان سنة 789هـ: أنَّ إحدى الأرامل قد قبضتْ من "أمين الحكم العزيز"، والجابي على وَقْف المدرسة الصلاحية بالقُدس الشريف من الدراهم الفِضة، معاملة الشام المحروس ثلاثَ مائة درهم وخمسة وسبعون درهمًا، وذلك "ما هو فرض أولادها... وهم عمر وأبي بكر، وسلمى وسارة، عن شهر رجب"[115].

ومن الطبيعي: أن تختلفَ النفقة على مثل هؤلاء الأيتام باختلاف رِيع الأوقاف المخصَّصة للإنفاق على اليتامى ممَّن هم بلا تَرِكة أو مورد مالي آخر.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/1007/29254/#ixzz1mYZGAks3
رد مع اقتباس