إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #21  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 151-160 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 151-160 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

السبب الرابع: أن العلوم البشرية إما علم ذات الله وصفاته وأفعاله، وهو علم الأصول وإما علم أحكام الله تعالى وتكاليفه، وهو علم الفروع، وإما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية. والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة، وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه: فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } إشارة إلى علم الأصول: لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه رباً للعالمين، وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد، ولا يكون مستحقاً للحمد إلا إذا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات، ثم وصفه بنهاية الرحمة ـ وهو كونه رحماناً رحيماً ـ ثم وصفه بكمال القدرة ـ وهو قوله مالك يوم الدين ـ حيث لا يهمل أمر المظلومين، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين، وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول، ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع، وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية، وهو قول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ثم مزجه أيضاً بعلم الأصول مرة أخرى، وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية، ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة: أولها: حصول هداية النور في القلب، وهو المراد من قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وثانيها: أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية، حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى، وهو قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وثالثها: أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات، وهو قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وعن أوزار الشبهات، وهو قوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب، فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع.

السبب الخامس: قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب، قال: سمعت أبا بكر القفال قال: سمعت أبا بكر بن دريد يقول: الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر، قال قيس بن الحطيم:

نصبنا أمنا حتى ابذعرواوصاروا بعد ألفتهم سلالا

فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية، والعرب تسمى الأرض أماً؛ لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم، ولأنه يقال: أم فلان فلاناً إذا قصده.

-151-

الاسم الرابع: من أسماء هذه السورة «السبع الثاني» قال الله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15: 87]

وفي سبب تسميتها بالمثاني وجوه:

الأول: أنها مثنى: نصفها ثناء العبد للرب، ونصفها عطاء الرب للعبد.

الثاني: سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة.

الثالث: سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب، قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم.

الرابع: سميت مثاني لأنها سبع آيات، كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن، فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن.

الخامس: آياتها سبع، وأبواب النيران سبعة، فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة، والدليل عليه ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، كنت أخشى العذاب على أمتك. فلما نزلت الفاتحة أمنت، قال: لم يا جبريل؟ قال: لأن الله تعالى قال:

{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُم أَجْمَعِينَ *لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُم جُزْءٌ مَقْسُومٌ } [الحجر15: 43، 44]

وآياتها سبع فمن قرأها صارت كل آية طبقاً على باب من أبواب جهنم، فتمر أمتك عليها منها سالمين.


السادس: سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى.

السابع: سميت مثاني لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له.

الثامن: سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين، واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى: { سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } في سورة الحجر.

الاسم الخامس: الوافية، كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم، قال الثعلبي، وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز، وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة.

الاسم السادس: الكافية، سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها، وأما غيرها فلا يكفي عنها، روى محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضاً عنها "

الاسم السابع: الأساس، وفيه وجوه:

الأول: أنها أول سورة من القرآن، فهي كالأساس.

الثاني: أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه، وذلك هو الأساس.

الثالث: أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة، وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بدّ منه في الإيمان والصلاة لا تتم إلا بها.

الاسم الثامن: الشفاء، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

-152-

" فاتحة الكتاب شفاء من كل سم " ومر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرىء فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هي أم القرآن، وهي شفاء من كل داء. " وأقول: الأمراض منها روحانية، ومنها جسمانية، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضاً فقال تعالى:

{ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [البقرة2: 10]

وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات، فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة.


الاسم التاسع: الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد هذه السورة "

الاسم العاشر: السؤال، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال: " من شغله ذكرى عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال:

{ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء26: 78]

إلى أن قال:

{ رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ } [الشعراء26: 83]

ففي هذه السورة أيضاً وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله: { الحمد لله } إلى قوله { مالك يوم الدين } ثم ذكر العبودية وهو قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين، وهو أيضاً يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله { ٱهْدِنَا } ولم يقل أرزقنا الجنة.


الاسم الحادي عشر: سورة الشكر، وذلك لأنها ثناء على الله بالفضل والكرم والإحسان.

الاسم الثاني عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها على قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء،والله أعلم.

الباب الثاني

في فضائل هذه السورة، وفيه مسائل:

كيفية نزولها:

المسألة الأولى: ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال: الأول: أنها مكية، روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش، ثم قال الثعلبي: وعليه أكثر العلماء، وروي أيضاً بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال: أول ما نزل من القرآن { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى خديجة فقال: " لقد خشيت أن يكون خالطني شيء " ، فقالت: وما ذاك؟ قال: " إني إذا خلوت سمعت النداء بإقرأ " ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل وسأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة: إذا أتاك النداء فاثبت له، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

-153-

" بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقالت قريش: دق الله فاك.

والقول الثاني: أنها نزلت بالمدينة، روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال: فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة وهذه هفوة مجاهد، لأن العلماء على خلافه، ويدل عليه وجهان: الأول: أن سورة الحجر مكية بالاتفاق، ومنها قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15: 87]

وهي فاتحة الكتاب، وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم، الثاني: أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب.


القول الثالث: قال بعض العلماء: هذه السورة نزلت بمكة مرة، وبالمدينة مرة أخرى، فهي مكية مدنية، ولهذا السبب سماها الله بالمثاني؛ لأنه ثنى إنزالها، وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها.

المسألة الثانية: في بيان فضلها، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم، وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة، وعن الحسين قال: أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة، وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.

قلت: والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة، فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية.

المسألة الثالثة: قالوا: هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهي الثاء، والجيم والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل والثبور، قال تعالى:

{ لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [الفرقان25: 14]

والجيم أول حروف اسم جهنم، قال تعالى:

{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر15: 43] وقال تعالى:
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ } [الأعراف7: 179]

وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى:

{ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } [التحريم66: 8] وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱلْخِزْىَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوء عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } [النحل16: 27]

وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق، قال تعالى:

{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [هود11: 106]

وأيضاً الزاي تدل على الزقوم، قال تعالى:


-154-

{ إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأثِيمِ } [الدخان44: 43]

والشين تدل على الشقاوة، قال تعالى:

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ٱلنَّارِ } [هود11: 106]

وأسقط الظاء لقوله:

{ ٱنطَلِقُواْ إِلَىٰ ظِلّ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ *لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ } [المرسلات: 30، 31]

وأيضاً يدل على لظى، قال تعالى:

{ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ *نَزَّاعَةً لّلشَّوَىٰ } [المعارج70: 15، 16]

وأسقط الفاء؛ لأنه يدل على الفراق، قال تعالى:

{ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم30: 14] وأيضاً قال:
{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } [طه20: 61].


فإن قالوا: لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعاً من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة، فنقول: الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم

{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } [الحجر15: 44]

والله تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة، وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب، تنبيهاً على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمناً من الدركات السبع في جهنم، والله أعلم.


الباب الثالث

في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة، وفيه مسائل:

أسرار الفاتحة:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فكأن سائلاً يقول: الحمد لله منبي عن أمرين: أحدهما: وجود الإله، والثاني: كونه مستحقاً للحمد، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق الحمد؟ ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين، فأجاب عن السؤال الأول بقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل: ـ

المسألة الأولى: إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً، لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري، لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظرياً، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه، فكان قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم.

ثم فيه لطائف: اللطيفة الأولى: أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده، وفي بقائه إلى إبقائه، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر القديم، كما قال تعالى:

{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء17: 44].


-155-


اللطيفة الثانية: أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين، بل قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا؟ فقال قوم: الشيء حال بقائه يستغني عن السبب، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه، أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيهاً على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه.

اللطيفة الثالثة: أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.

ثم إنه تعالى افتتح سوراً أربعة بعد هذه السورة بقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فأولها: سورة الأنعام وهو قوله:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام6: 1]

واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله، والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة، وأيضاً فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السموات والأرض؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه رباً للعالمين، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة.


وثانيها: سورة الكهف، وهو قوله:

{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ } [الكهف18: 1]

والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط، وقوله في أول سورة الفاتحة: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السموات والأرضين، فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعاً من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة.


وثالثها: سورة سبأ، وهو قوله:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } [سبأ: 1]

فبين في أول سورة الأنعام أن السموات والأرض له، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السموات والأرض له، وهذا أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.


-156-

ورابعها: قوله:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [فاطر35: 1]

والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقاً لها، والخلق هو التقدير، والمذكور في هذه السورة كونة فاطراً لها ومحدثاً لذواتها، وهذا غير الأول إلا أنه أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.


ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقاً للسموات والأرض ذكر كونه جاعلاً للظلمات والنور، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السموات والأرض ذكر كونه جاعلاً الملائكة رسلاً، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السموات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السموات والأرض جعل الروحانيات، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهذا هو التنبيه على أن قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم.

المسألة الثانية: أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضاً مشتملة على الدلالة على كونه متعالياً في ذاته عن المكان والحيز والجهة، لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان، فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد، والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على كونه رباً للمكان والزمان وخالقًا لهما وموجداً لهما، ثم من المعلوم أن الخالق لا بدّ وأن يكون سابقاً وجوده على وجود المخلوق، ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز، متعالية عن الجهة والحيز، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته، وذلك محال، فقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار.

المسألة الثالثة: هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية؛ لأنه لما كان رباً للعالمين كان خالقاً لكل ما سواه، والخالق سابق على المخلوق، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل، فكانت ذاته غنية عن كل محل، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل.

المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجباً بالذات، بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع، فلما حكم بكونه مستحقاً للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار، وإنما عرفنا كونه فاعلاً مختاراً؛ لأنه لو كان موجباً لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب، ولامتنع وقوع التغير فيها، وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات، ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقاً للحمد.

-157-

المسألة الخامسة: لما خلق الله العالم مطابقاً لمصالح العباد موافقاً لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل، وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالماً فثبت بما ذكرنا أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزهاً عن الحيز والمكان، ويدل على كونه منزهاً عن الحلول في المحل، ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة.

وأما السؤال الثاني ـ وهو قوله: هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء؟ والجواب هو قوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين: إما أن يكون في السلامة والسعادة، وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره، فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده، فكان رحماناً رحيماً، وإن كان في المكاره والآفات، فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد، أو من الله، فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين من الظالمين في يوم الدين، وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بدّ وأن يكون مستحقاً للحمد الذي لا نهاية له، والثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } مرتب ترتيباً لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه.

واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية، واعلم أن الإنسان مركب من جسد، ومن روح، والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية، وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتياً بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته، وتلك الأعمال هي العبادة، فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظباً على العبادات، وهذه أول درجات سعادة الإنسان، وهو المراد بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب، وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات، وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات، وهو المراد من قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله، وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله وهو المراد من قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وفيه لطائف:

اللطيفة الأولى: أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم، أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه: الأول: أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات، ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان، فهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل، والثاني: أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر، ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان، والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله، وأما في الأعمال فنقول: من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو العفة، وأيضاً من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن، والصراط المستقيم هو الوسط، وهو الشجاعة.

-158-

اللطيفة الثانية: أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية، والأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم، وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية.

اللطيفة الثالثة: قال بعضهم: إنه لما قال: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } لم يقتصر عليه، بل قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل، وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط، فلا بدّ من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل؛ فحينئذٍ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات.

وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى:

-159-

{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40].

المسألة الثانية: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة:

اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر، والمحبوب والمكروه، وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها، إلا أنا نقول: الشر وإن كان كثيراً إلا أن الخير أكثر، والمرض وإن كان كثيراً إلا أن الصحة أكثر منه والجوع وإن كان كثيراً إلا أن الشبع أكثر منه، وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائماً في التغيرات والانتقال من حال إلى حال، ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة، أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة، إذا عرفت هذا فنقول أن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر، ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم، أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بدّ له من سبب، ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتاً حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بدّ له من فاعل تولى بناء ذلك البيت، ولو أن إنساناً شككنا فيه لم نتشكك، فإنه لا بدّ وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادراً، إذ لو كان موجباً بالذات لدام الأثر بدوامه، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر، وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيماً محسناً؛ فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة و الخير والبهجة والسلامة، ومن كان غالب أفعاله راحة وخيراً وكرامة وسلامة كان رحيماً محسناً، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد، ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضراً في عقل كل أحد؛ فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول، وكأنه قيل: لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط، بل هو إله كل العالمين، وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان وهذه المعاني قائمة في كل العالمين، فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها، وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول، فهذا يقتضي كونه ربًا للعالمين، وإلهًا للسموات والأرضين، ومدبراً لكل الخلائق أجمعين، ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ويقدر على خلق العرش والكرسي والسموات والكواكب لا بدّ وأن يكون قادراً على إهلاكها، ولا بدّ وأن يكون غنياً عنها، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال، وحينئذٍ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه، وبأي طريق أتوسل إليه، فعند هذا ذكر اللّه ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض، فكأنه قال: أيها العبد الضعيف، أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة، فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي وإذا مت فأنا مالك يوم الدين، لا أضيع عملاً من أعمالك، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات، وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة.

-160-


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #22  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 161-170 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 161-170 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء: أولها: مقام الشريعة، وهو أن يواظب على الأعمال الظاهرة، وهو قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وثانيها: مقام الطريقة، وهو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب، فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد يصل إليه من عالم الغيب، وهو قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وثالثها: أنه يشاهد عالم الشهادة معزولاً بالكلية، ويكون الأمر كله لله، وحينئذٍ يقول: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.

ثم إن ههنا دقيقة، وهي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد، فحينئذٍ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود، فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية والأنوار الربانية، حتى إذا اتصل بها وانخرط في سلكها صار الطلب أقوى والاستعداد أتم، فحينئذٍ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة، فلهذا قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة والاستعداد؛ بين أيضاً أن الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان، فلهذا قال: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وهم الفساق { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } وهم الكفار.

ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة ـ أعني الشريعة المدلول عليها بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، والطريقة المدلول عليها بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، والحقيقة المدلول عليها بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ـ ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء، فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية.

المسألة الثالثة: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة، اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى جر الخيرات واللذات، ودفع المكروهات والمخافات، ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة، ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة، ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوباً بالذات، وكان استقراء أحوال هذا العالم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة، ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب ـ صار هذا المعنى سبباً لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة، وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء، شديد الحب لها، عظيم الميل والرغبة إليها، ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضاً أن حب التشبه غالب على طباع الخلق.

-161-

أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ. وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعه إلى الفسق، وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة وإذا عرفت هذا فنقول: إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار، وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل والطلب في قلبه أقوى وأثبت، وأيضاً فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة. وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة وذلك أيضاً يوجب استحكام هذه الحالة. فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب الموجبة لحب الدنيا والمرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جدًا ثم نقول: إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملاً شافياً وافياً فيقول: هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا؟ الأول باطل، لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزاً، وأقلهم عقلاً، فعند هذا، يظهر له أن تلك الأمارة والرياسة ما حصلت له بقوته، وما هيئت له بسبب حكمته، وإنما حصلت تلك الأمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه، ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها، فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة، وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب، ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير قال هو النافع وكلما وصل إليه شر ومكروه قال: هو الضار، وعند هذا لا يحمد أحداً عى فعل إلا الله، ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى الله، فيصير الحمد كله لله والثناء كله لله، فعند هذا يقول العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ }.

-162-

واعلم أن الإستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير الله، ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير الله، وذلك هو قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن والترتيب الأقوم والكمال الأعلى والمنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه فعند ذلك يقول: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحه في الدنيا إنما تهيأت برحمة الله وفضله وإحسانه، ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } ليس إلا الذي عرفته بأنه هو الرحمن الرحيم، فحينئذٍ ينشرح صدر العبد وينفسح قلبه ويعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا الله، وحينئذٍ ينقطع التفاته عما سوى الله ولا يبقى متعلق القلب بغير الله، ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولاً بخدمتهما، وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما وكان يطلب الخير منهما، فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلاً بخدمة الأمير والوزير فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى، فعند هذا يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، والمعنى إني كنت قبل هذا أعبد غيرك، وأما الآن فلا أعبد أحداً سواك، ولما كان يستعين في تحصيل المهمات بالأمير والوزير فلأن يستعين بالمعبود الحق في تحصيل المرادات كان أولى، فيقول: وإياك نستعين والمعنى: إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك، ولما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى، فيقول: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، ثم إن أهل الدنيا فريقان: أحدهما: الذين لا يعبدون أحداً إلا الله ولا يستعينون إلا بالله ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من الله، والفرقة الثانية، الذين يخدمون الخلق ويستعينوا بهم ويطلبون الخير منهم، فلا جرم العبد يقول: إلهي اجعلني في زمرة الفرقة الأولى، وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية، ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية وهم المغضوب عليهم والضالون، فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك كما قال إبراهيم عليه السلام: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً؟ والله أعلم.

-163-

الباب الرابع

في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة

فقه الفاتحة:

المسألة الأولى: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة، وعن الأصم والحسن بن صالح أنها لا تجب.

لنا أن كل دليل نذكره في بيان أن قراءة الفاتحة واجبة فهو يدل على أن أصل القراءة واجب وتزيد ههنا وجوهًا: ـ

الأول: قوله تعالى:

{ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ } [الإسراء17: 78]

والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر للوجوب.


الثاني: عن أبي الدرداء أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفي الصلاة قراءة فقال: " نعم " فقال السائل: وجبت، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله وجبت.

الثالث: عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " أتكون صلاة بغير قراءة، " وهذان الخبران نقلتهما من «تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني».

حجة الأصم قوله عليه الصلاة والسلام: " صلوا كما رأيتموني أصلي " جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست بمرئية، فوجب كونها خارجة عن الصلاة، والجواب أن الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.

المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته، وبه قال الأكثرون، وقال أبو حنيفة لا تجب قراءة الفاتحة.

لنا وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ } ولقوله:

{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور24: 63] ولقوله تعالى:
{ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران3: 31]

ويا للعجب من أبي حنيفة أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد، وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه، في أنه عليه الصلاة والسلام مسح على الناصية، فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وههنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه عليه الصلاة والسلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ثم قال: إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها، وهذا من العجائب.


الحجة الثانية: قوله تعالى: { وأَقِيمُواْ الصلاة } والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام فيكون المراد منها المعهود السابق، وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها: وإذا كان كذلك كان قوله: «أقيموا الصلاة» جارياً مجرى قوله: «أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها الرسول، والتي أتى بها الرسول عليه الصلاة والسلام هي الصلاة المشتملة على الفاتحة، فيكون قوله: { أقيمواٱلصَّلَوٰةِ } أمراً بقراءة الفاتحة وظاهر الأمر الوجوب، ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.

-164-

الحجة الثالثة: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدل عليه أيضاً ما روى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي " ولقوله عليه الصلاة والسلام: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " والعجب من أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تمسك في مسألة طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير كانا يخالفانه ونص القرآن أيضاً يوجب عدم الإرث، فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الأطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والأخبار والمعقول؟.

الحجة الرابعة: أن الأمة وإن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا لكنهم اتفقوا عليه في العمل، فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة، إذا ثبت هذا فنقول: إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله:

{ وَمَن يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [النساء4: 115]

فإن قالوا إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرءوها لا على اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها، فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة، فمن لم يأتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العمل، فدخل تحت الوعيد، وهذا القدر يكفينا في الدليل، ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.


الحجة الخامسة: الحديث المشهور، وهو أنه سبحانه وتعالى قال: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى: حمدني عبدي، إلى آخر الحديث، وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة، فنقول: الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف، وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة.

الحجة السادسة: قوله عليه الصلاة والسلام:

-165-

" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " قالوا: حرف النفي دخل على الصلاة، وذلك غير ممكن، فلا بدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة، وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال، والجواب من وجوه: الأول: أنه جاء في بعض الروايات: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة وإنما دخل على حصولها للرجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عهدة للتكليف بسببها، وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره، الثاني: من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد ماهية الصلاة لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها، وإذا ثبت هذا فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزأ من الصلاة، وهذا هو أول المسألة، فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره. الثالث: هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره، إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان: أحدهما: أقرب إلى الحقيقة. والثاني: أبعد فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب، إذا ثبت هذا فنقول: المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحاً لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى. الوجه الرابع: أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه: أحدها: أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان، والثاني: أن جانب الحرمة راجح، والثالث: أن هذا أحوط.

الحجة السابعة: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، غير تمام، " قالوا: الخداج هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز، قلنا: بل هذا يدل على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصلاة قائم، والأصل في الثابت البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال، فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة، والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح، قال: لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة، وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام.

الحجة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في «تعليقه» عن ابن المنذر أنه روى بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

-166-

" لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ". والحجة التاسعة: روى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل: علمني الصلاة يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " إذا توجهت إلى القبلة فكبر، واقرأ بفاتحة الكتاب " وجه الدليل أن هذا أمر، والأمر للوجوب، وأيضاً الرجل قال: علمني الصلاة، فكل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون من الصلاة، فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزءاً من أجزاء الصلاة.

الحجة العاشرة: روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها»، قالوا: نعم، قال: «فما تقرؤن في صلاتكم؟» قالوا: الحمد لله رب العالمين، فقال: «هي هي»، " وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ما تقرؤن في صلاتكم فقالوا: الحمد لله، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم.

الحجة الحادية عشرة: التمسك بقوله تعالى:

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

وجه الدليل أن قوله «فاقرؤا» أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة، فنقول: المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة، أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول: يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب، والثاني: يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا، وهو باطل بالإجماع، والثالث: يقتضي أن يكون المكلف مخيراً بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها، وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.


واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل.

الحجة الثانية عشرة: الأمر بالصلاة كان ثابتاً، والأصل في الثابت البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة، لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور، ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة، فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل.

الحجة الثالثة عشرة: قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين، فكانت أحوط فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام:

-167-

" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس، ودفع الضرر عن النفس واجب؛ فإن قالوا: فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه، فيبقى الخوف، قلت: اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل، واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضاً فيتقابل هذان الضرران، وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف، أما تركه فيفيد الخوف، فثبت أن الأحوط هو العمل.

الحجة الرابعة عشرة: لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى؛ لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز، لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى، فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة.

الحجة الخامسة عشرة: أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما، فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها، والجامع رعاية الاحتياط.

الحجة السادسة عشرة: الأصل بقاء التكليف، فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة، أما أن يعرف بالنص أو القياس، أما الأول فباطل، لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى:

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

وقد بينا أنه دليلنا، وأما القياس فباطل، لأن التعبدات غالبة على الصلاة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.


الحجة السابعة عشرة: لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره فحينئذٍ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع وذلك حرام لقوله عليه الصلاة والسلام: " اتبعوا ولا تبتدعوا " ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: " وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها ". الحجة الثامنة عشرة: الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة إما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل، والأول باطل بالإجماع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة، فتعين الثاني، فنقول: الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر فوجب أن لا يجوز المصير إليه، لأنه قبيح في العرف فيكون قبيحاً في الشرع.

واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى:

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج، وأنادي: " لا صلاة إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب ". والجواب عن الأول: أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا، وذلك لأن قوله

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول: المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة، أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها، والأول: يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب، والثاني: يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها، وهو باطل بالإجماع والثالث: يقتضي أن يكون المكلف مخيراً بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها، وذلك باطل بالإجماع؛ لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.


-168-

واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين، فهي متيسرة للكل، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل.

وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وأيضاً لم لا يجوز أن يقال: المراد من قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى؟ وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا؛ لأنه أحوط، ولأنه أفضل، والله أعلم.

المسألة الثالثة: لما كان قول أبي حنيفة وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة، فقال أبو حنيفة: إذا قرأ آية واحدة كفت، مثل قوله: ألم، وحم والطور، ومدهامتان، وقال أبو يوسف ومحمد: لا بدّ من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين.

المسألة الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة، وتجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي رضي الله تعالى عنهما: إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل، ولا يقرأ لا سراً، ولا جهراً إلا في قيام شهر رمضان فإنه يقرؤها وأما أبو حنيفة فلم ينص عليه، وإنما قال: يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويسر بها، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا، قال يعلى: سألت محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: ما بين الدفتين قرآن، قال: قلت: فلم تسره؟ قال: فلم يجبني، وقال الكرخي لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة، وقال بعض فقهاء الحنفية: تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم، فالأولى السكوت عنه.

واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل: إحداها: أن هذه المسألة هل هي مسألة اجتهادية حتى يجوز الاستدلال فيها بالظواهر وأخبار الآحاد، أو ليست من المسائل الاجتهادية بل هي من المسائل القطعية.

وثانيتها: أن بتقدير أنها من المسائل الاجتهادية فما الحق فيها؟.

-169-

وثالثتها: الكلام في أنها تقرأ بالإعلان أو بالإسرار، فلنتكلم في هذه المسائل الثلاث.

المسألة الخامسة: في تقرير أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية، وزعم القاضي أبو بكر أنها من المسائل القطعية، قال: والخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير فلا أقل من التفسيق، واحتج عليه بأن التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته إما التواتر أو الآحاد والأول باطل، لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن، ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة. والثاني: أيضاً باطل؛ لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنياً، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف، وذلك يبطل الإسلام.

واعلم أن الشيخ الغزالي عارض القاضي فقال: نفى كون التسمية من القرآن إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف، وإن ثبت بالآحاد فحينئذٍ يصير القرآن ظنياً، ثم أورد على نفسه سؤالاً وهو أنه لو قال قائل: «ليس من القرآن عدم» فلا حاجة في إثبات هذا العدم إلى النقل؛ لأن الأصل هو العدم، وأما قولنا: (أنه قرآن) فهو ثبوت فلا بدّ فيه من النقل، ثم أجاب عنه بأن قال: هذا وإن كان عدماً إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهم كونها من القرآن، فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بدليل منفصل، وحينئذٍ يعود التقسيم المذكور من أن الطريق إما أن يكون تواتراً أو آحاداً، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه، فهذا آخر ما قيل في هذا الباب.

والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم الله الرحمن الرحيم كلام أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه مثبت في المصحف بخط القرآن وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا أنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا، وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا وهل يجوز للمحدث مسها أم لا، ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية، فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام وعدمها، وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي، وسقط تهويل القاضي.

المسألة السادسة: في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة، قال قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إنها ليست من الفاتحة، وقال قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إنها آية من الفاتحة، وهو قول ابن المبارك والثوري، ويدل عليه وجوه:

الحجة الأولى: روى الشافعي رضي الله عنه عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية، الحمد لله رب العالمين آية، الرحمن الرحيم آية، مالك يوم الدين آية، إياك نعبد وإياك نستعين آية، إهدنا الصراط المستقيم آية، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الظالمين آية، وهذا نص صريح.

-170-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #23  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 171-180 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 171-180 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الحجة الثانية: روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم.

الحجة الثالثة: روى الثعلبي في «تفسيره» بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري، فقلت بلى، فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: هي هي، فهذا الحديث يدل على أن التسمية من القرآن ". الحجة الرابعة: روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة، قال: أقول الحمد لله رب العالمين، قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم.

وروي أيضاً بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.

وروي أيضاً بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص.

وروي أيضاً بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِى } [الحجر15: 87]

قال: فاتحة الكتاب، فقيل لابن عباس: فأين السابعة؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم.


وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها.

وبإسناده أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: " قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله سبحانه مجدني عبدي، وإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تبارك وتعالى حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله عزّ وجلّ أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال الله فوض إلي عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ".

-171-

وبإسناده عن أبي هريرة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي، فافتتح الصلاة وتعوذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له: يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد، من تركها فقد ترك آية منها، ومن ترك آية منها فقد قطع صلاته، فإنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته.

وبإسناده عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله "

واعلم أني نقلت جملة هذه الأحاديث من تفسير الشيخ أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله.

الحجة الخامسة: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها، بيان الأول قوله تعالى:

{ إقرأ باسم ربك } [العلق96: 1]

ولا يجوز أن يقال: الباء صلة زائدة، لأن الأصل أن يكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة، وإذا كان هذا الحرف مفيداً كان التقدير إقرأ مفتتحاً باسم ربك، وظاهر الأمر للوجوب ولم يثبت هذا الوجوب في غير القراءة في الصلاة، فوجب إثباته في القراءة في الصلاة صوناً للنص عن التعطيل.


الحجة السادسة: التسمية مكتوبة بخط القرآن، وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن، ألا ترى أنهم منعوا من كتابة أسامي السور في المصحف، ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس، والغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن.

الحجة السابعة: أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله والتسمية موجودة بين الدفتين، فوجب جعلها من كلام الله تعالى، ولهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتاً.

واعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن ولكنها ليست آية من سورة الفاتحة، بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور، وهذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي.

الحجة الثامنة: أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، قال: قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية واحدة، وقوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية واحدة، وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه قال: بسم الله ليس بآية منها، لكن قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية، وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى وسنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف، فحينئذٍ يبقى أن الآيات لا تكون سبعاً إلا إذا اعتقدنا أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية منها تامة.

-172-

الحجة التاسعة: أن نقول: قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة، فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل، وإذا كان كذلك فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ } وإذا ثبت وجوب قراءتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق.

الحجة العاشرة: قوله عليه السلام: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر " أو أجذم وأعظم الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة، فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم الله يوجب كون هذه الصلاة بتراء، ولفظ الأبتر يدل على غاية النقصان والخلل، بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدواً للرسول عليه السلام فقال:

{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } [الكوثر108: 3]

فلزم أن يقال: الصلاة الخالية عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم تكون في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بهذا الخلل النقصان قال بفساد هذه الصلاة، وذلك يدل على أنها من الفاتحة وأنه يجب قراءتها.


الحجة الحادية عشرة: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: " ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟ " فقال: بسم الله الرحمن الرحيم فصدقه النبي عليه السلام في قوله. وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية، ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [النمل27: 30]

بل هذا بعض آية، فلا بدّ وأن يكون آية تامة في غير هذا الموضع، وكل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة.


الحجة الثانية عشرة: إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن ولم يقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن؟ فأعاد معاوية الصلاة وقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ، وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه من القرآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها.

الحجة الثالثة عشرة: أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم الله، فوجب أن يجب على رسولنا صلى الله عليه وسلم ذلك، وإذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضاً في حقنا، وإذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة، أما المقدمة الأولى: فالدليل عليها أن نوحاً عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال:

-173-

{ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود11: 41]

وأن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قالوا: أليس أن قوله تعالى:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [النمل27: 30]

يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم الله تعالى؟ قلنا: معاذ الله أن يكون الأمر كذلك، وذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان ووضعه على صدر بلقيس، وكانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر والحفظة، فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب، وكانت قد سمعت باسم سليمان، فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت: { وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }. فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدؤا بذكر بسم الله الرحمن الرحيم، والمقدمة الثانية: أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك، لقوله تعالى:

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام6: 90]

وإذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ } وإذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق.


الحجة الرابعة عشرة: أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات؛ لأنه تعالى قديم وخالق وغيره محدث ومخلوق، والقديم الخالق يجب أن يكون سابقاً على المحدث المخلوق، وإذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقاً على ذكر غيره، وهذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة بسم الله الرحمن الرحيم سابقة على سائر الأذكار والقراءات، وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في العقول وجب أن يكون معتبراً في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضاً أنها آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق.

الحجة الخامسة عشرة: أن بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن، فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى:

{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [الرحمن55: 13] وقوله تعالى:
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } [المرسلات77: 15]

مكرراً في القرآن بخط واحد وصورة واحدة، قلنا: إن الكل من القرآن.


-174-

الحجة السادسة عشرة: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش «باسمك اللهم» حتى نزل قوله تعالى:

{ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود11: 41]

فكتب «بسم الله» فنزل قوله:

{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء17: 110]

فكتب «بسم الله الرحمن» فلما نزل قوله تعالى

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [النحل16: 30]

كتب مثلها، وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن، ومجموعها من القرآن، ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن، إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك، وذلك يوجب الطعن في القرآن.


الحجة السابعة عشرة: قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف، وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته، وهل يجوز للجنب قراءته، وللمحدث مسه؟ فنقول: ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: دع ما يريبك إلا ما لا يريبك.

واحتج المخالف بأشياء: الأول: تعلقوا بخبر أبي هريرة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي والاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها، والثاني: أنه تعالى قال: جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، والمراد من الصلاة الفاتحة؛ وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية ليست آية من الفاتحة، لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف وهي من قوله الحمد لله إلى قوله إياك نعبد ـ وللعبد ثلاث آيات ونصف ـ وهي من قوله وإياك نستعين إلى آخر السورة ـ أما إذا جعلنا بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف، وللعبد آيتان ونصف، وذلك يبطل التنصيف المذكور.

الحجة الثانية: روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة.

الحجة الثالثة: لو كان قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة: لزم التكرار في قوله الرحمن الرحيم، وذلك بخلاف الدليل.

-175-

والجواب عن الحجة الأولى من وجوه: الأول: أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحق الثعلبي روى بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث عد بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة، ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا، لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي. الثاني: روى أبو داود السختياني عن النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا قال العبد مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي، إذا عرفت هذا فنقول: قوله في مالك يوم الدين هذا بيني وبين عبدي، يعني في القسمة، وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها، وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه. الثالث: أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضاً يحتمل النصف في المعنى، قال عليه الصلاة والسلام: الفرائض نصف العلم، وسماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات، والموت والحياة قسمان، وقال شريح: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، سماه نصفاً من حيث إن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون، الرابع: إن دلائلنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة، وهذا الخبر الذي تمكسوا به ليس المقصود منه بيان أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا، لكن المقصود منه بيان شيء آخر، فكانت دلائلنا أقوى وأظهر.

الخامس: أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط.

والجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال: لعل عائشة جعلت الحمد لله رب العالمين اسماً لهذه السورة، كما يقال: قرأ فلان «الحمد لله الذي خلق السموات» والمراد أنه قرأ هذه السورة، فكذا ههنا، وتمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك.

والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، وتأكيد كون الله تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات، والله أعلم.

المسألة السابعة: في بيان عدد آيات هذه السورة، رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول: هذه السورة ثمانِ آيات، فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات، وبه فسروا قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15: 87]

إذا ثبت هذا فنقول: الذين قالوا إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة قالوا إن قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } آية تامة، وأما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية، وقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } آية أخرى، إذا عرفت هذا فنقول: الذي قاله الشافعي أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: أن مقاطع قوله صراط الذين أنعمت عليهم لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ورعاية التشابه في المقاطع لازم؛ لأنا وجدنا مقطاع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة فالمتقاربة كما في سورة «قۤ» والمتشاكلة كما في سورة القمر، وقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين، فامتنع جعله من المقاطع.


-176-

الثاني: أنا إذا جعلنا قوله غير المغضوب عليهم ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير، وهذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله، والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، وكذلك الاستثناء مع المستنثى منه كالشيء الواحد وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل، إما إذا جعلنا قوله صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة، كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً وآية واحدة، وذلك أقرب إلى الدليل. الثالث: أن المبدل منه في حكم المحذوف، فيكون تقدير الآية إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم الله عليهم لا يجوز إلا بشرطين: أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه، ولا ضالاً، فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به، والدليل عليه قوله تعالى:

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا } [إبراهيم14: 28]

وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم، فثبت أنه لا يجوز فصل قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } عن قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بل هذا المجموع كلام واحد، فوجب القول بأنه آية واحدة، فإن قالوا: أليس أن قوله الحمد لله رب العالمين آية واحدة، وقوله الرحمن الرحيم آية ثانية، ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها، بل هي متعلقة بما قبلها؟ قلنا: الفرق أن قوله الحمد لله رب العالمين كلام تام بدون قوله الرحمن الرحيم، فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة، ولا كذلك هذا، لما بينا أن مجرد قوله إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ليس كلاماً تاماً، بل ما لم يضم إليه قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين لم يصح قوله إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، فظهر الفرق.


المسألة الثامنة: ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا: أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية، وقال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحدًا ممن قبله لم يقل إن بسم الله آية من أوائل سائر السور، ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك: إنها ثلاثون آية، وفي سورة الكوثر: إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور، والجواب أنا إذا قلنا بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل، فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا إنها بعض آية من سائر السور؟ قلنا: هذا غير بعيد، ألا ترى أن قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة، ثم صار مجموع قوله:

-177-

{ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10]

آية واحدة: فكذا ههنا وأيضاً فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور، فسقط هذا السؤال.

الجهر بالبسملة في الصلاة:

المسألة التاسعة: يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال: التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة، وأما الشافعي فإنه قال: إنها آية منها ويجهر بها، وقال أبو حنيفة: ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضاً، فنقول: الجهر بها سنّة، ويدل عليه وجوه وحجج.

الحجة الأولى: قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة، وإذا ثبت هذا فنقول: الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية، فأما أن يكون بعضها سرياً وبعضها جهرياً فهذا مفقود في جميع السور؛ وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعاً في القراءة الجهرية.

الحجة الثانية: أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على الله وذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله تعالى:

{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة2: 200]

ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخراً بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفاً منه، فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر الله أولى عملاً بقوله:

{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة2: 200].


الحجة الثالثة: هي أن الجهر بذكر الله يدل على كونه مفتخراً بذلك الذكر غير مبالٍ بإنكار من ينكره، ولا شك أن هذا مستحسن في العقل، فيكون في الشرع كذلك؛ لقوله عليه السلام:

-178-

" ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " ومما يقوي هذا الكلام أيضاً أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان فيخفيه الرجل ويسره، لئلا ينكشف ذلك العيب. أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفائه؟ ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكراً لله بالتعظيم، ولهذا قال عليه السلام: " طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله " وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا من ذكرُه شرف للذاكرين. ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه؟ ولهذا السبب نقل أن علياً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات، وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول ألبتة بسبب كلمات المخالفين.

الحجة الرابعة: ما رواه الشافعي بإسناده، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار. يا معاوية، سرقت منا الصلاة، أين بسم الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير، قال الشافعي: إن معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين و الأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.

الحجة الخامسة: روى البيهقي في «السنن الكبير» عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله عليه السلام: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار.

الحجة السادسة: إن قوله بسم الله الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بدّ من إضماره، والتقدير بإعانة اسم الله اشرعوا في الطاعات، أو ما يجري مجرى هذا المضمر، ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله، ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول، فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله:

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [آل عمران3: 110]


-179-

لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف، وهو الرجوع إلى الله بالكلية والاستعانة بالله في كل الخيرات، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة.

واحتج المخالف بوجوه وحجج: الحجة الأولى: روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وروى مسلم هذا الخبر في صحيحه، وفيه أنهم لا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية أخرى «ولم أسمع أحداً منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم» وفي رواية رابعة «فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم».

الحجة الثانية: ما روى عبد الله بن المغفل أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال: يا بني إياك والحدث في الإسلام، فقد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، وخلف عمر، وعثمان، فابتدؤا القراءة بالحمد لله رب العالمين، فإذا صليت فقل: الحمد لله رب العالمين، وأقول: إن أنساً وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة، ولم يذكرا علياً، وذلك يدل على إطباق الكل على أن علياً كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

الحجة الثالثة: قوله تعالى:

{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف7: 55]
{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [الأعراف7: 205]

وبسم الله الرحمن الرحيم ذكر الله، فوجب إخفاؤه، وهذه الحجة استنبطها الفقهاء واعتمادهم على الكلامين الأولين.


والجواب عن خبر أنس من وجوه: الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: روى عن أنس في هذا الباب ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات: إحداها: قوله صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وثانيتها قوله: أنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم. وثالثتها قوله: لم أسمع أحداً منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، وثلاث أخرى تناقض قولهم: إحداها: ما ذكرنا أن أنسًا روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم. وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وثالثتها: أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل، وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى، فهذا جواب قاطع في المسألة.

-180-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #24  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 181-190 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 181-190 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

ثم نقول: هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم ودلائلنا، إلا أن الترجيح معنا، وبيانه من وجوه: الأول: أن راوي أخباركم أنس وابن المغفل، وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، وهؤلاء كانوا أكثر علماً وقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنس وابن المغفل. والثاني: أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل، ولهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأن القياس يخالفه إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بإن إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها، فلأي سبب رجح قول أنس وقول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي؟ والثالث: أن من المعلوم بالضرورة أن النبي عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر، والعلماء على غير العلماء، والأشراف على الأعراب، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً في العلم والشرف وعلو الدرجة من أنس وابن المغفل، والغالب على الظن أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أنس وابن المغفل يقفان بالعبد منه، وأيضاً أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالاً لقوله تعالى:

{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [الإسراء17: 110]

وأيضاً فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أنساً وابن المغفل ما سمعاه. الرابع: قال الشافعي: لعل المراد من قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه كان يقدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله الحمد لله رب العالمين المراد منه تمام هذه فجعل هذه اللفظة اسماً لهذه السورة. الخامس: لعل المراد، من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت، كما قال تعالى:


-181-

{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [الإسراء17: 110].

السادس: الجهر كيفية ثبوتية، والإخفاء كيفية عدمية، والرواية المثبتة أولى من النافية. السابع: أن الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا، ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.

وأما التمسك بقوله تعالى:

{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [الأعراف7: 205]

فالجواب أنا نحمل ذلك على مجرد الذكر، أما قوله بسم الله الرحمن الرحيم فالمراد منه قراءة كلام الله تعالى على سبيل العبادة والخضوع، فكان الجهر به أولى.


المسألة العاشرة: في تفاريع التسمية وفيه فروع:

فروع أحكام التسمية:

الفرع الأول: قالت الشيعة: السنّة هي الجهر بالتسمية، سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه.

الفرع الثاني: الذين قالوا التسمية ليست آية من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المصحف في أول كل سورة وفيه قولان: الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان: منهم من قال إنها كتبت للفصل بين السور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لجاز، ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المصاحف، ولا يجوز تركها أبداً. والقول الثاني: أنها من القرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست آية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان: منهم من قال: إن الله تعالى كان ينزلها في أول كل سورة على حدة ومنهم من قال: لا، بل أنزلها مرة واحدة، وأمر بإثباتها في أول كل سورة، والذي يدل على أن الله تعالى أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية فاصلة، وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: أن الفضل الرقاشي يزعم أن بسم الله الرحمن الرحيم ليس من القرآن، فقال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجلٰ سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها، وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية، وروي مثله عن ابن عمر، وأبي هريرة.

الفرع الثالث: القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة لا شك أنهم يوجبون قراءة التسمية أما الذين لا يقولون به فقد اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأتباعه والحسن بن صالح بن جنّي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى: يقرأ التسمية سراً، وقال مالك: لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً، وأما في النافلة فإن شاء قرأها وإن شاء ترك.

-182-

الفرع الرابع: مذهب الشافعي يقتضي وجوب قراءتها في كل الركعات، أما أبو حنيفة فعنه روايتان روى يعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقرأها في كل ركعة قبل الفاتحة، وروى أبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد ثلاثتهم جميعاً عن أبي حنيفة، أنه قال: إذا قرأها في أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها في تلك الصلاة حتى يفرغ منها، قال: وإن قرأها مع كل سورة فحسن.

الفرع الخامس: ظاهر قول أبي حنيفة أنه لما قرأ التسمية في أول الفاتحة فإنه لا يعيدها في أوائل سائر السور، وعند الشافعي أن الأفضل إعادتها في أول كل سورة، لقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر.

الفرع السادس: اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ والصحيح عندنا أنه لا يجوز.

الفرع السابع: أجمع العلماء على أن تسمية الله على الوضوء مندوبة، وعامة العلماء على أنها غير واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: " توضأ كما أمرك الله به " ، والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء، وقال أهل الظاهر إنها واجبة فلو تركها عمداً أو سهوًا لم تصح صلاته، وقال إسحق إن تركها عامداً لم يجز، وإن تركها ساهياً جاز.

الفرع الثامن: متروك التسمية عند التذكية هل يحل أكله أم لا؟ المسألة في غاية الشهرة قال الله تعالى:

{ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } [الحج22: 36] وقال تعالى:
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام6: 121].


الفرع التاسع: أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال وإلا ويقول «بسم الله» فإذا نام قال: «بسم الله» وإذا قام من مقامه قال: «بسم الله» وإذا قصد العبادة قال: «بسم الله» وإذا دخل الدار قال: «بسم الله» أو خرج منها قال: «بسم الله» وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال: «بسم الله» ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول: «بسم الله» وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل: «بسم الله» وهذا آخر أحواله من الدنيا وإذا قام من القبر قال أيضاً: «بسم الله» وإذا حضر الموقف قال: «بسم الله» فتتباعد عنه النار ببركة قوله: «بسم الله».

ترجمة القرآن:

المسألة الحادية عشرة: قال الشافعي: ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها، وقال أبو حنيفة: أنها كافية في حق القادر والعاجز وقال أبو يوسف ومحمد: أنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر، واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جداً ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.

-183-

لنا حجج ووجوه: الحجة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى باللفظ العربي، وواظب عليه طول عمره، فوجب أن يجب علينا مثله، لقوله تعالى: { فَٱتَّبَعُوهُ } والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطاً في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي.

الحجة الثانية: أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي، فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه السلام: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " ، ولقوله عليه السلام: " عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ "

الحجة الثالثة: أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي، فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه السلام: " ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة " قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: " ما أنا عليه وأصحابي " وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي، فوجب أن يكون القارىء بالفارسية من أهل النار.

الحجة الرابعة: أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل الله تعالى، فمن عدل عن هذا الطريق دخل قوله تعالى:

{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء4: 115].


الحجة الخامسة: أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة، ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن، فوجب أن لا يخرج عن العهدة، إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى:

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

ولقوله عليه السلام للإعرابي: " ثم إقرأ بما تيسر معك من القرآن " وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه: الأول: قوله تعالى:

{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الشعراء26: 192] إلى قوله:
{ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ } [الشعراء26: 195] الثاني: قوله تعالى:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [إبراهيم14: 4] الثالث: قوله تعالى:
{ وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ قُرْءاناً أعْجَمِيّاً } [فصلت41: 44]

وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآناً أعجمياً، فيلزم أن يقال: أن كل ما كان أعجمياً فهو ليس بقرآن. الرابع: قوله تعالى:

{ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء17: 88]

فهذا الكلام المنظوم بالفارسية: إما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله، أو لا عينه ولا مثله، والأول معلوم البطلان بالضرورة، والثاني باطل، إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلاً لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتياً بمثل القرآن، وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه في قوله: { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئاً للقرآن، وهو المطلوب، فثبت أن المكلف أمر بقراءة ولم يأتِ به، فوجب أن يبقى في العهدة.


-184-

الحجة السادسة: ما رواه ابن المنذر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فنقول: هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن أو يقول إنها ليست بقرآن، والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع، وبيانه من وجوه: الأول: أن أحداً من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول إن قول القائل دوستان در بهشت قرآن. الثاني: يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن آتياً بقرآن مثل الأول وذلك باطل.

الحجة السابعة: روى عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: " قل سبحان الله والحمد لله إلى آخر هذا الذكر " وجه الدليل أن الرجل لما سأله عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح، وذلك يبطل قول من يقول إنه يكفيه أن يقول دوستان دربهشت.

الحجة الثامنة: يقال إن أول الإنجيل هو قوله بسم إلاهاً رحماناً ومرحياناً وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم، فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل، ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآناً.

الحجة التاسعة: أنا إذا ترجمنا قوله تعالى:

{ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ } [الكهف18: 19]

كان ترجمته بفرستيديكي أزشما بانقره بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست ياره ازان بياورد، ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظاً ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به، لقوله عليه الصلاة والسلام: " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات، لأنه لا قائل بالفرق، وأيضاً فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى:

{ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } [القلم68: 11] إلى قوله:
{ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم68: 13]

فإن ترجمتها لا تكون شتماً من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى، وكذلك قوله تعالى:

{ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا } [البقرة2: 61]

فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظاً ومعنى، وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس والعجب من الخصوم أنهم قالوا: إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ثم قالوا: تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظاً ومعنى.


-185-

الحجة العاشرة: قوله عليه الصلاة والسلام: " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافِ كافِ، " ولو كا نت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآناً لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف، لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة، وحينئذٍ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة.

الحجة الحادية عشرة: أن عند أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات، ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا. فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة، وبقراءة زيد وإنسان، ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفاً من القرآن بل كان مواظباً على قراءة زيد وإنسان فإنه يلقى الله تعالى مطيعاً ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين.

الحجة الثانية عشرة: أنه لا ترجمة للفاتحة ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين والقادر على يوم الدين أنت المعبود وأنت المستعان إهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان، وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب، ولما كان باطلاً علمنا فساد هذا القول.

الحجة الثالثة عشرة: لو كان هذا جائزاً لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلي بها، ولكان قد أذن لصهيب في أن يقرأ بالرومية، ولبلال في أن يقرأ بالحبشية؛ ولو كان هذا الأمر مشروعاً لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق، لأن ذلك يزيل عنهم أتعاب النفس في تعلم اللغة العربية، ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة، ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية، وذلك لا يقوله مسلم.

الحجة الرابعة عشرة: لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية، وهذا جائز وذاك غير جائز، وبيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئاً لم يفهم من القرآن شيئاً ألبتة، أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا، ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني، قال تعالى:

-186-

{ أقم ٱالصلاة لذكري } [طه20: 14] وقال تعالى:
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد47: 24]


فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة، وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد، فلو كانت القراءة بالفارسي قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة.

الحجة الخامسة عشرة: المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم، والفارق ظاهر، أما المقتضى فلأن التكليف كان ثابتاً، والأصل في الثابت البقاء، وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه، وذلك من وجهين: الأول: إن الإعجاز في فصاحته؛ وفصاحته في لفظه والثاني: أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ، وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصوناً عن التحريف، وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله:

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ } [الحجر15: 9]

أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي فإنه يختل هذا المقصود، فثبت أن المقتضى قائم والفارق ظاهر.


واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن، وقراءة الترجمة قراءة القرآن، ويدل عليه وجوه: الأول: روي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلاً القرآن فقال:

{ إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ *طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } [الدخان44: 43، 44]

وكان الرجل عجمياً فكان يقول: طعام اليتيم: فقال: قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب الثاني: قوله تعالى:

{ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ } [الشعراء26: 196]

فأخبر أن القرآن في زبر الأولين وقال تعالى:

{ إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ *صُحُفِ إِبْرٰهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى87: 18، 19]

ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ لكن كان بالعبرانية والسريانية الثالث: أنه تعالى قال:

{ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا القرآن لأنذركم به } [الأنعام6: 19]

ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم، ثم أنه تعالى سماه قرآناً، فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن.


والجواب عن الأول أن نقول: إن أحوال هؤلاء عجيبة جداً، فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود، ثم أن الحنفية لا تلتفت إلى هذا، بل نقول: إن القائل به شاك في دينه، والشاك لا يكون مؤمناً، فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة؟ وإن لم يكن حجة فلم عول عليه في هذه المسألة؟ ولعمري هذه المناقضات عجيبة، وأيضاً فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به؛ وأن نقول: أنه رجع عن هذه المذاهب، وأما قوله تعالى:

-187-

{ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ } [الشعراء26: 196]

فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين، وقوله تعالى: { لأِنذِرَكُمْ } فالمعنى لأنذركم معناه، وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها.

المسألة الثانية عشرة: قال الشافعي في القول الجديد تجب القراءة على المقتدي؛ سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها، وقال في القديم: تجب القراءة إذا أسر الإمام، ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وابن المبارك وقال أبو حنيفة تكره القراءة خلف الإمام بكل حال، ولنا وجوه:

الحجة الأولى: قوله تعالى:

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم.


الحجة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة فيجب علينا ذلك لقوله تعالى: { فَٱتَّبَعُوهُ } إلا أن يقال: إن كونه مأموماً يمنع منه إلا أنه معارضة.

الحجة الثالثة: أنا بينا أن قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها، ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة، فكان قوله: { أَقِيمُواْ الصلاة } يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة.

الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وقد ثبت تقرير وجه الدليل.

فإن قالوا: هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد لأنه روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِ، إلا أن يكون وراء الإمام، قلنا: هذا الحديث طعنوا فيه.

الحجة الخامسة: قوله عليه الصلاة والسلام للأَعرابي الذي علمه أعمال الصلاة: " ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن " وهذا يتناول المنفرد والمأموم.

الحجة السادسة: روى أبو عيسى الترمذي في «جامعة» بإسناده عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: " مالي أراكم تقرؤن خلف إمامكم " قلنا: أي والله، قال: " لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن.

الحجة السابعة: روى مالك في «الموطأ »عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام "

-188-

قال: فقلت يا أبا هريرة، إني أكون أحياناً خلف الإمام، قال: إقرأ بها يا فارسي في نفسك، والاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أن صلاة المقتدي بدون القراءة مبرأة عن الخداج عند الخصم، وهو على خلاف النص الثاني: أن السائل أورد الصلاة خلف الإمام على أبي هريرة بوجوب القراءة عليه في هذه الحالة، وذلك يؤيد المطلوب.

الحجة الثامنة: روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يقول: «قسمت الصة بيني وبين عبدي نصفين " بين أن التنصيف إنما يحصل بسبب القراءة، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة من لوازم الصلاة، وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدي.

الحجة التاسعة: روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه الكريم فقال: " هل تقرؤن إذا جهرت بالقراءة؟ فقال بعضنا إنّا لنصنع ذلك، فقال: وأنا أقول مالي أنازع القرآن، لا تقرؤا شيئاً من القرآن إذا جهرت بقراءتي إلا أم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. " الحجة العاشرة: أن الأحاديث الكثيرة دالة على أن قراءة القرآن توجب الثواب العظيم وهي متناولة للمنفرد والمقتدى، فوجب أن تكون قراءتها في الصلاة خلف الإمام موجبة للثواب العظيم، وكل من قال بذلك قال بوجوب قراءتها.

الحجة الحادية عشرة: وافق أبو حنيفة رضي الله عنه على أن القراءة خلف الإمام لا تبطل الصلاة، وأما عدم قراءتها فهو عندنا يبطل الصلاة، فثبت أن القراءة أحوط، فكانت واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". الحجة الثانية عشرة: إذا بقي المقتدى ساكتاً عن القراءة مع أنه لا يسمع قراءة الإمام بقي معطلاً، فوجب أن يكون حال القارىء أفضل منه، لقوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل الأعمال قراءة القرآن " وإذا ثبت أن القراءة أفضل من السكوت في هذه الحالة ثبت القول بالوجوب، لأنه لا قائل بالفرق.

الحجة الثالثة عشرة: لو كان الاقتداء مانعاً من القراءة لكان الاقتداء حراماً، لأن قراءة القرآن عبادة عظيمة، والمانع من العبادة الشريفة محرم، فيلزمه أن يكون الاقتداء حراماً، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الاقتداء لا يمنع من القراءة.

واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى:

{ وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وأنصتوا } [الأعراف7: 204]

واعلم أنا بينا في تفسير هذه الآية أنها لا تدل على قولهم، وبالغنا، فليطالع ذلك الموضع من هذا التفسير؛ وأما الأخبار فقد ذكروا أخباراً كثيرة والشيخ أحمد البيهقي بين ضعفها، ثم نقول: هب أنها صحيحة، ولكن الأخبار لما تعارضت وكثرت فلا بدّ من الترجيح، وهو معنا من وجوه: الأول: أن قولنا يوجب الاشتغال بقراءة القرآن، وهو من أعظم الطاعات، وقولهم يوجب العطلة والسكوت عن ذكر الله ولا شك أن قولنا أولى: الثاني: أن قولنا أحوط الثالث: أن قولنا يوجب شغل جميع أجزاء الصلاة بالطاعات والأذكار الجميلة، وقولهم يوجب تعطيل الوقت عن الطاعة والذكر.


-189-

المسألة الثالثة عشرة: قال الشافعي رضي الله عنه: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة، فإن تركها في ركعة بطلت صلاته، قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: وهذا القول مجمع عليه بين الصحابة، قال به أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود.

واعلم أن المذاهب في هذه المسألة ستة: أحدها: قول الأصم وابن علية، وهو أن القراءة غير واجبة أصلاً والثاني: قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن جني أن القرءة إنما تجب في ركعة واحدة، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " والاستثناء من النفي إثبات، فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة وجب القول بصحة الصلاة بحكم الاستثناء والثالث: قول أبي حنيفة، وهو أن القراءة في الركعتين الأولتين واجبة، وهو في الأخيرتين بالخيار، إن شاء قرأ، وإن شاء سبح، وإن شاء سكت، وذكر في كتاب «الاستحباب» أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين والرابع: نقل ابن الصباغ في كتاب «الشامل» عن سفيان أنه قال: تجب القراءة في الركعتين الأوليين وتكره في الأخريين والخامس: وهو قول مالك أن القراءة واجبة في أكثر الركعات، ولا تجب في جميعها، فإن كانت الصلاة أربع ركعات كفت القراءة في ثلاث ركعات، وإن كانت مغرباً كفت في ركعتين، وإن كانت صبحاً وجبت القراءة فيهما معاً والسادس: وهو قول الشافعي وهو أن القراءة واجبة في كل الركعات.

ويدل على صحته وجوه: الحجة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل الركعات فيجب علينا مثله، لقوله تعالى: { وَٱتَّبِعُوهُ }. الحجة الثانية: أن الأعرابي الذي علمه عليه الصلاة والسلام الصلاة أمره أن يقرأ بأم القرآن، ثم قال: وكذلك فافعل في كل ركعة، والأمر للوجوب، فإن قالوا قوله: «فافعل في كل ركعة» راجع إلى الأفعال لا إلى الأقوال، قلنا القول فعل اللسان فهو داخل في الأفعال. الحجة الثالثة: نقل الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتاب «الشامل» عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة. الحجة الرابعة: القراءة في الركعات أحوط فوجب القول بوجوبها. الحجة الخامسة: أمر بالصلاة والأصل في الثابت البقاء، حكمنا بالخروج عن العهدة عند القراءة في كل الركعات لأجل أن هذه الصلاة أكمل، فعند عدم القراءة في الكل وجب أن يبقى في العهدة.

-190-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #25  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 191-200 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 191-200 من 259


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

واحتج المخالف بما روي عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر، وإذا ثبت هذا فنقول: الركعتان الأوليان أصل والأخريان تبع، ومدار الأمر في التبع على التخفيف، ولهذا المعنى فإنه لا يقرأ السورة الزائدة فيهما، ولا يجهر بالقراءة فيهما. والجواب أن دلائلنا أكثر وأقوى، ومذهبنا أحوط، فكان أرجح.

فروع على اشتراط الفاتحة في الصلاة:

المسألة الرابعة عشرة:

إذا ثبت أن قراءة الفاتحة شرط من شرائط الصلاة فله فروع: الفرع الأول: قد بينا أنه لو ترك قراءة الفاتحة أو ترك حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته، أما لو تركها سهواً قال الشافعي في القديم لا تفسد صلاته، واحتج بما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغرب فترك القراءة فلما انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة، قال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسناً، قال: فلا بأس، قال الشافعي: فلما وقعت هذه الواقعة بمحضر من الصحابة كان ذلك إجماعاً، ورجع الشافعي عنه في الجديد، وقال: تفسد صلاته؛ لأن الدلائل المذكورة عامة في العمد والسهو، ثم أجاب عن قصة عمر من وجهين: الأول: أن الشعبي روى أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة. والثاني: أنه لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة، قال الشافعي هذا هو الظن بعمر.

الفرع الثاني: تجب الرعاية في ترتيب القراءة، فلو قرأ النصف الأخير ثم النصف الأول يحسب له الأول دون الأخير.

الفرع الثالث: الرجل الذي لا يحسن تمام الفاتحة إما أن يحفظ بعضها، وإما أن لا يحفظ شيئاً منها، أما الأول: فإنه يقرأ تلك الآية ويقرأ معها ست آيات على الوجه الأقرب وأما الثاني ـ وهو أن لا يحفظ شيئاً من الفاتحة ـ فههنا إن حفظ شيئاً من القرآن لزمه قراءة ذلك المحفوظ، لقوله تعالى:

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

وإن لم يحفظ شيئاً من القرآن فههنا يلزمه أن يأتي بالذكر، وهو التكبير والتحميد، وقال أبو حنيفة لا يلزمه شيء، حجة الشافعي ما روى رفاعة بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله، ثم يكبر، فإن كان معه شيء من القرآن فليقرأ، وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد الله وليكبر، بقي ههنا قسم واحد، وهو أن لا يحفظ الفاتحة ولا يحفظ شيئاً من القرآن ولا يحفظ أيضاً شيئاً من الأذكار العربية، وعندي أنه يؤمر بذكر الله تعالى بأي لسان قدر عليه تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام:

-191-

" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". المسألة الخامسة عشرة: نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن، وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن، واعلم أن هذا في غاية الصعوبة، لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذٍ كان ابن مسعود عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل، وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة يقينية،والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل كاذب باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة، وههنا آخر الكلام في المسائل الفقهية المفرعة على سورة الفاتحة،والله الهادي للصواب.

الباب الخامس

في تفسير سورة الفاتحة، وفيه فصول:

الفصل الأول

تفسير «الحمد لله»:

في تفسير قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } وفيه وجوه: الأول: ههنا ألفاظ ثلاثة: الحمد، والمدح والشكر، فنقول: الفرق بين الحمد والمدح من وجوه: الأول: أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي، ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها، ويستحيل أن يحمدها، فثبت أن المدح أعم من الحمد الوجه الثاني في الفرق: أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان الوجه الثالث في الفرق: أن المدح قد يكون منهياً عنه، قال عليه الصلاة والسلام: " احثوا التراب في وجوه المداحين " أما الحمد فإنه مأمور به مطلقاً، قال صلى الله عليه وسلم: " من لم يحمد الناس لم يحمد الله " الوجه الرابع: أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصاً بنوع من أنواع الفضائل، وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصاً بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد.

وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك.

إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي، وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلاً مختاراً، أما لما قال الحمد لله فهو يدل على كونه مختاراً، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على كون هذا القائل مقراً بأن إله العالم ليس موجباً بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار وأيضاً فقوله الحمد لله أولى من قوله الشكر لله لأن قوله الحمد لله ثناء على الله بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره وأما الشكر لله فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل، ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كأن العبد يقول: سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين، وأنت مستحق للحمد العظيم، وقيل الحمد على ما دفع الله من البلاء، والشكر على ما أعطى من النعماء.

-192-

فإن قيل: النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل قلنا في وجوه: الأول: كأنه يقول أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما الثاني: المنع غير متناهٍ، والإعطاء متناهٍ، فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى الثالث: أن دفع الضرر أهم من جلب النفع، فلهذا قدمه.

الحمد لله أبلغ من أحمد الله:

الفائدة الثانية: أنه تعالى لم يقل أحمد الله ولكن قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه: أحدها: أنه لو قال أحمد الله أفاد ذلك كون ذلك القائل قادراً على حمده أما لما قال { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم وثانيها: أن قولنا الحمد لله، معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد، فقولنا: الحمد لله معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد الله لم يدل ذلك على كونه مستحقاً للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحد حمده وثالثها: أنه لو قال أحمد الله لكان قد حمد لكن لا حمداً يليق به، وأما إذا قال الحمد لله فكأنه قال: من أنا حتى أحمده؟ لكنه محمود بجميع حمد الحامدين، مثاله ما لو سئلت: هل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت: نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً، ولو قلت في الجواب: بل نعمه على كل الخلائق، فقد حمدته بأكمل المحامد ورابعها: أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال، فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد الله مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً، لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك، أما إذا قال الحمد لله سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه أن الحمد حق لله وملكه، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن، فثبت أن قوله الحمد لله أولى من قوله أحمد الله، ونظيره قولنا لا إله إلا الله فإنه لا يدخله التكذيب، بخلاف قولنا أشهد أن لا إله إلا الله لأنه قد يكون كاذباً في قوله أشهد، ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين

-193-

{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ } [المنافقون63: 1]

ولهذا السر أمر في الأذان بقوله أشهد ثم وقع الختم على قوله لا إله إلا الله.

معنى اللام في (الحمد لله):

الفائدة الثالثة: اللام في قوله الحمد لله يحتمل وجوهاً كثيرة: أحدها: الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس وثانيها: الملك كقولك الدار لزيد وثالثها: القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان، واللام في قولك الحمد لله يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه، وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده، وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستولٍ على الممكن لذاته، فالحمد لله بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه، وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل.

الفائدة الرابعة: قوله الحمد لله ثمانية أحرف، وأبواب الجنة ثمانية، فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة.

الفائدة الخامسة: الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، وفيه قولان: الأول: أنه إن كان مسبوقاً بمعهود سابق انصرف إليه، وإلا يحمل على الاستغراق صوناً للكلام عن الإجمال والقول الثاني: أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط، إذا عرفت هذه فنقول: قوله الحمد لله إن قلنا بالقول الأول: أفاد أن كل ما كان حمداً وثناء فهو لله وحقه وملكه، وحينئذٍ يلزم أن يقال: إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد الثناء ألبتة، وإن قلنا بالقول الثاني: كان معناه أن ماهية الحمد حق الله تعالى وملك له، وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله، فثبت على القولين أن قوله الحمد لله ينفي حصول الحمد لغير الله.

فإن قيل: أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه، والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية، وقال عليه السلام: " من لم يحمد الناس لم يحمد الله ". قلنا: إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى، لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام، ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة، فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله تعالى.

-194-

الفائدة السادسة: أن قوله الحمد لله كما دل على أنه لا محمود إلا الله، فكذلك العقل دل عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية وثانيها: أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضاً إما ثواباً أو ثناء أو تحصيل حق أو تخليصاً للنفس من خلق البخل، وطالب العوض لا يكون منعماً، فلا يكون مستحقاً للحمد في الحقيقة، أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته، والكامل لذاته لا يطلب الكمال، لأن تحصيل الحاصل محال، فكانت عطاياه جوداً محضاً وإحساناً محضاً، فلا جرم كان مستحقاً للحمد، فثبت أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى وثالثها: أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود، وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة، ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى:

{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]

والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى، وجب القطع بأن أحداً لا يستحق الحمد إلا الله تعالى ورابعها: النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة: أحدها: أن تكون منفعة، والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حياً مدركاً، وكونه حياً مدركاً لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى وثانيها: أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم، وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى. وثالثها: أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع، وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى، إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى، فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى، فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى الحمد لله.

الفائدة السابعة: قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعماً متفضلاً، وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر، إذا عرفت هذا فنقول: وجب كون الإنسان عاجزاً عن حمد الله وشكره ويدل عليه وجوه:

الأول: أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها، كما قال تعالى:

{ وإن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم14: 34]
{ وإن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [النحل16: 18]

إذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها.


الثاني: أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد، والشكر، وإذا زال عنه العوائق والحوائل، فكل ذلك إنعام من الله تعالى، فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه، وتلك النعم أيضاً توجب الشكر، وعلى هذا التقدير: فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مراراً لا نهاية لها، وذلك محال، والموقوف على المحال محال، فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به، الثالث: أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه الحمد لله؛ بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفاً بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور، وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتياً بحمد الله وشكره وبالثناء عليه.

-195-

الرابع: أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه: أحدها: أن نعم الله كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد، وثانيها: أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك، وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك، وثالثها: أن الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله، والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين، فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد، فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل أحمدوا الله، بل قال الحمد لله لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به، أما لما قال الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه، سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا عليه؛ ونقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك عليّ وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك.

الفائدة الثامنة: عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال " إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد الحمد لله فيقول الله تعالى: «أنظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له " وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الأنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعاً فأطعمه، أو كان عطشاناً فأرواه، أو كان عرياناً فكساه، أما إذا قال العبد الحمد لله كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله، وكل حمد لم يأتِ به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله، وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم:

-196-

{ دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [يونس10: 10]

ثم جميع هذه المحامد متناهية، وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين، فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فلهذا السبب قال تعالى: " انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له ". أقول: ههنا دقيقة أخرى، وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية، وقوله الحمد لله حمد غير متناهٍ، ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناهٍ، فكأنه تعالى يقول: عبدي، إذا قلت الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية، فلا بدّ من مقابلتها بنعمة غير متناهية، فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي، فثبت أن قول العبد الحمد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها.

الفائدة التاسعة: لا شك أن الوجود خير من العدم، والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه، ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك، وإذا ثبت هذا فنقول وجود كل شيء ما سوى الله تعالى فإنه حصل بإيجاد الله وجوده وفضله وإحسانه، وقد ثبت أن الوجود نعمة، فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح والأجسام والعلويات والسفليات إلا ولله عليه نعمة ورحمة وإحسان، والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر، فإذا قال العبد الحمد لله فليس مراده الحمد لله على النعم الواصلة إلى بل المراد، الحمد لله على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه واصل إلى ما كل سواه، فإذا قال العبد الحمد لله كان معناه الحمد لله على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وأنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين، وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لا حد معك فيها شركة ومنازعة.

الفائدة العاشرة: لقائل أن يقول: التسبيح مقدم على التحميد، لأنه يقال سبحانك الله والحمد لله فما السبب ههنا في وقوع البداية بالتحميد؟ والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات، والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه محسناً إلى الخلق منعماً عليهم رحيماً بهم، فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاماً والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام، فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى، وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية، وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن الله تعالى لا يكون محسناً بالعباد إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد، وإلا إذا كان قادراً على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، وإلا إذا كان غنياً عن كل الحاجات، إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسناً لا يتم إلا بعد كونه منزهاً عن النقائض والآفات، فثبت أن الابتداء بقوله الحمد لله أولى من الابتداء بقوله سبحان الله.

-197-

الفائدة الحادية عشرة: الحمد لله له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل، أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكراً على النعم المتقدمة، وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل، لقوله تعالى:

{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم14: 7]

والعقل أيضاً يدل عليه، وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة، والقيام بالطاعة، ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى، وأبواب معرفته ومحبته، وذلك من أعظم النعم، فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران، وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان، فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن الله تعالى؛ وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى، ولما كان لا نهاية لدرجات جلال الله فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله، ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد لله، فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة.

الفائدة الثانية عشرة: الحمد لله كلمة شريفة جليلة لكن لا بدّ من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها، قيل للسري السقطي: كيف يجب الإتيان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال: وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد لله وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد لله، فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها، ثم إن نعم الله على العبد كثيرة، إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين: نعم الدنيا، ونعم الدين، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة، وقولنا الحمد لله كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا، بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين، ثم نعم الدين قسمان: أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، القسم الثاني: أشرف، ثم نعم الدنيا قسمان: تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم، وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم، والقسم الثاني: أشرف، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد لله موافقاً لموضعه لائقاً بسببه.

-198-

الفائدة الثالثة عشرة: أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله، وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد لله، أما الأول: فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد لله رب العالمين، وأما الثاني: فهو قوله تعالى:

{ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10]

ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد، فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقروناً بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير.

الفائدة الرابعة عشرة: من الناس من قال: تقدير الكلام قولوا الحمد لله، وهذا عندي ضعيف، لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام، وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن قوله الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقاً له وملكاً له، وهذا كلام تام في نفسه، فلا حاجة إلى الإضمار. الثاني: أن قوله الحمد لله يدل على كونه تعالى مستحقاً للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه، لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير. الثالث: ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده إعمل كذا وكذا، لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم، بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل، ثم إذا كان الولد كريماً فإنه يجيبه ويطيعه، وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد، فيكون إثمه أقل، فكذلك ههنا قال الله تعالى الحمد لله فمن كان مطيعاً حمده، ومن كان عاصياً كان إثمه أقل.

الفائدة الخامسة عشرة: تمسكت الجبرية والقدرية بقوله الحمد لله: أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه: الأول: أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر، ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان، فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى وأجل من استحقاق الله له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد، الثاني: أجمعت الأمة على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلاً للعبد وما كان فعلاً لله لكان قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان باطلاً فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلاً له باطن قبيح لقوله تعالى:

-199-

{ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [آل عمران3: 188]

الثالث: أنا قد دللنا على أن قوله الحمد لله يدل ظاهرة على أن كل الحمد لله وأنه ليس لغير الله حمد أصلاً وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من الله، الرابع: أن قوله الحمد لله مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق، فلما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق، وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق، فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى، وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية. والخامس: إن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن، وإلا كانت عبثاً، وذلك في حقه محال، والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون من باب التفضل: أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين، وأما الذي يكون من باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان، فنقول: هذا يقدح في كونه تعالى مستحقاً للحمد، ويبطل صحة قولنا الحمد لله، وتقريره أن نقول: أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد، فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصاً له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد، وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد، وإذا كان كذلك كانا ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقاً للحمد والمدح. السادس: قوله الحمد لله يدل على أنه تعالى محمود، فنقول: استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمراً ثابتاً له لذاته أو ليس ثابتاً له لذاته، فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجباً له استحقاق المدح، لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره، وامتنع أيضاً أن يكون شيء من الأفعال موجباً له استحقاق الذم، لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره، وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه، فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب، وذلك يهدم أصول المعتزلة، وأما القسم الثاني ـ وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً له لذاته ـ فنقول: فيلزم أن يكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك على الله محال أما المعتزلة فقالوا: إن قوله الحمد لله لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله، ولا جور في أقضيته، ولا ظلم في أحكامه، وعندنا أن الله تعالى كذلك، فكان مستحقاً لأعظم المحامد والمدائح، أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله، ولا جور إلا وهو حكمه، ولا عبث إلا وهو صنعه، لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه، ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها، فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقاً للحمد؟ وأيضاً فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد، أو على نفسه، فإن كان الأول وجب كون العبد قادراً على الفعل، وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه، وذلك باطل، قالوا: فثبت أن القول بالحمد لله لا يصح إلا على قولنا.

-200-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 01-04-2011 الساعة 12:00 AM
رد مع اقتباس
 
 
  #26  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 201-210 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 201-210 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

شكر المنعم:

الفائدة السادسة عشرة: اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع: من الناس من قال: إنه ثابت بالسمع، لقوله تعالى:

{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء17: 15] ولقوله تعالى:
{ رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء4: 165]

ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق، والدليل عليه قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } وبيانه من وجوه: الأول: أن قوله الحمد لله يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق، وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع. الثاني: أنه تعالى قال:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الفاتحة1: 2]

وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف، فههنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى رباً للعالمين رحماناً رحيماً بهم، مالكاً لعاقبة أمرهم في القيامة، فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربياً لهم رحماناً رحيماً بهم، وإذا كان كذلك ثبت أن استحقاق الحمد ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده.


معنى الحمد:

الفائدة السابعة عشرة: يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول: تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد لله، لأن قولنا الحمد لله إخبار عن حصول الحمد، والأخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه، فوجب أن يكون تحميد الله مغايراً لقولنا الحمد لله، فنقول: حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً. وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب، أو فعل اللسان، أو فعل الجوارح، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفاً بصفات الكمال والإجلال، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظاً دالة على كونه موصوفاً بصفات الكمال. وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفاً بصفات الكمال والإجلال، فهذا هو المراد من الحمد، واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام فريقين: الفريق الأول: الذين قالوا أنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه، واحتجوا عليه بوجوه: الأول: أن ذلك التحميد إما أن يكون بناءً على إنعام وصل إليهم أولاً وبناءً عليه، فالأول باطل، لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة، وذلك يقدح في كمال الكرم، فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة، وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء، وذلك يوجب الظلم.

-201-

الثاني: قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود، لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره، فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر، فوجب أن لا يكون مشروعاً. الثالث: أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب، فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك، وهذا الحمد لا نفع له في حق الله، فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد، ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد، وهذا لا يليق بالحكم الكريم. الفريق الثاني: قالوا الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه: الأول: أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل، والثاني: أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب، واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم. الثالث: أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم، وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم، وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس، وذلك مقام نازل، والله أعلم.

الفصل الثاني

في تفسير قوله رب العالمين، وفيه فوائد:

أقسام العالم وأنواع كل قسم:

الفائدة الأولى: اعلم أن الموجود إما أن يكون واجباً لذاته، وإما أن يكون ممكناً لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى فقط، وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى الله تعالى وهو العالم، أن المتكلمين قالوا: العالم كل موجود سوى الله، وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل على وجود الله تعالى، فلهذا السبب سمي كل موجود سوى الله بأنه عالم. إذا عرفت هذا فنقول: كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون متحيزاً، وإما أن يكون صفة للمتحيز، وإما أن لا يكون متحيزاً ولا صفة للمتحيز، فهذه أقسام ثلاثة: القسم الأول: المتحيز: وهو إما أن يكون قابلاً للقسمة، أو لا يكون، فإن كان قابلاً للقسمة فهو الجسم، وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد؛ أما الجسم فإما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية؛ أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب، وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين، مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة، وأما الأجسام السفلية فهي إما بسيطة أو مركبة: أما البسيطة فهي العناصر الأربعة: واحدها: كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة، وثانيها: كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى، وثالثها: كرة الهواء، ورابعها: كرة النار.

-202-

وأما الأجسام المركبة فهي النبات، والمعادن، والحيوان، على كثرة أقسامها وتباين أنواعها، وأما القسم الثاني ـ وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات ـ فهي الأعراض، والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنساً من أجناس الأعراض. أما الثالث ـ وهو الممكن الذي لا يكون متحيزاً ولا صفة للمتحيز ـ فهو الأرواح، وهي إما سفلية، وإما علوية: أما السفلية فهي إما خيرة، وهم صالحو الجن، وإما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين. والأرواح العلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية، وإما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة، فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم، ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام، إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد، ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته، فيكون محتاجاً في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته، وأيضاً ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغنى عن المبقي، والله تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود، وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها. وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله الحمد لله رب العالمين، وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفاً على تفسير قوله رب العالمين.

الفائدة الثانية: المربي على قسمين: أحدهما: أن يربي شيئاً ليربح عليه المربي، والثاني: أن يربيه ليربح المربي، وتربية كل الخلق على القسم الأول، لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه إما ثواباً أو ثناءً، والقسم الثاني: هو الحق سبحانه، كما قال: خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن، وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين.

واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيانه من وجوه: الأول: ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم، الثاني: أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعالٍ عن النقصان والضرر، كما قال تعالى:

{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر15: 21]


-203-

الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء. " الرابع: أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ألا ترى أنه رباك حال ما كنت جنيناً في رحم الأم، وحال ما كنت جاهلاً غير عاقل، لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية. الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه ألبتة. السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال:

{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } [الأعراف7: 156]

فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد لله رب العالمين.


الفائدة الثالثة: أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة؛ إما لكونه كاملاً في ذاته وفي صفاته منزهاً عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك، وإما لكونه محسناً إليك ومنعماً عليك، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان، وإما لأجل أنك تكون خائفاً من قهره وقدرته وكمال سطوته، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين، وهو المراد من قوله الحمد لله، وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فانا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين.

الفائدة الرابعة: وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة: المثال الأول: لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولاً، ثم مضغة ثانياً، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين، ثم اتصل البعض بالبعض، ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، والسامعة في الأذن، والناطقة في اللسان، فسبحان من أسمع بعظم، وبصر بشحم، وأنطق بلحم، واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب: أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة؛ وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض، وهو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولاً، ثم الثمار ثانياً، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة، وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية، كما قال تعالى:

-204-

{ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَاء صَبّاً *ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأرْضَ شَقّاً } [عبس80: 25، 26]

الآيات. المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسباباً لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سبباً للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سبباً للمعاش والحركة

{ هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } [يونس10: 5]
{ وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } [الأنعام6: 97] واقرأ قوله:
{أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأرْضَ مِهَـٰداً *وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [النبأ78: 6-7]

ـ إلى آخر الآية واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد لله رب العالمين.


الفائدة الخامسة: أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد لله، ثم أضاف نفسه إلى العالمين والتقدير: إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكاً لي ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني رباً للعالمين، ومن عرف ذاتاً بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها، وذلك يدل على أن كونه رباً للعالمين أكمل الصفات، والأمر كذلك؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تاماً، وفوق التمام، فقولنا الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام، وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام.

الفائدة السادسة: أنه يملك عباداً غيرك كما قال:

{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } [المدثر74: 31]

وأنت ليس لك رب سواه، ثم أنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كأن لك رباً غيره، فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض، وبالليل عن المخافات من غير عوض؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات، ويصونه من المخافات؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها، أليس من التربية أنه صلى الله عليه وسلم قال:


-205-

" الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب " ؛ فلهذا المعنى قال تعالى:

{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [الأنبياء21: 42]

ما ذاك إلا الملك الجبار، والواحد القهار، ومقلب القلوب والأبصار، والمطلع على الضمائر والأسرار.


الفائدة السابعة: قالت القدرية: إنما يكون تعالى رباً للعالمين ومربياً لهم لو كان محسناً إليهم دافعاً للمضار عنهم، أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه؛ ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه؛ لم يكن رباً ولا مربياً، بل كان ضاراً ومؤذياً، وقالت الجبرية: إنما سيكون رباً ومربياً لو كانت النعمة صادرة منه والأَلطاف فائضة من رحمته، ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من الله تعالى ليكون رباً للعالمين إليهم محسناً بخلق الإيمان فيهم.

الفائدة الثامنة: قولنا: «الله» أشرف من قولنا: «رب» على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء الله تعالى، ثم أن الداعي في أكثر الأمر يقول: يا رب، يا رب، والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء الله تعالى فلا نعيدها.

الفصل الثالث

في تفسير قوله { الرحمن الرحيم } ، وفيه فوائد:

تفسير (الرحمن الرحيم):

الفائدة الأولى: الرحمن: هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد، والرحيم: هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد، حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال كنت ضيفاً لبعض القوم فقدم المائدة، فنزل غراب وسلب رغيفاً، فاتبعته تعجباً، فنزل في بعض التلال، وإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. وروى ذي النون أنه قال: كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي، وصرت بحيث ما ملكت نفسي، فخرجت من البيت وانتهيت إلى شط النيل، فرأيت عقرباً قوياً يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعاً واقفاً على طرف الوادي، فوثب العقرب على ظهر الضفدع وأخذ الضفدع يسبح ويذهب، فركبت السفينة وتبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل، ونزل العقرب من ظهره، وأخذ يعدو فتبعته، فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة، ورأيت أفعى يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى فوثب العقرب على الأفعى فلدغه، والأفعى أيضاً لدغ العقرب، فماتا معاً، وسلم ذلك الإنسان منهما. ويحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر، والغراب يفر منه ولا يقوم بتربيته، ثم أن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت، فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض واغتذى بها، ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت ريشه، فعند ذلك تعود أمه إليه، ولهذا السبب جاء في أدعية العرب: يا رازق النعاب في عشه، فظهر بهذه الأمثلة أن فضل الله عام، وإحسانه شامل، ورحمته واسعة.

-206-

واعلم أن الحوادث على قسمين: منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك، بل يكون في الحقيقة عذاباً ونقمة، ومنه ما يظن في الظاهر أنه عذاب ونقمة، مع أنه يكون في الحقيقة فضلاً وإحساناً ورحمة: أما القسم الأول: فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء ولا يؤدبه ولا يحمله على التعلم، فهذا في الظاهر رحمة وفي الباطن نقمة. وأما القسم الثاني: كالوالد إذا حبس ولده في المكتب وحمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة، وفي الحقيقة رحمة، وكذلك الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب، وفي الباطن راحة ورحمة، فالأبله يغتر بالظواهر، والعاقل ينظر في السرائر.

إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة، وتحقيقه ما قيل في الحكمة: إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى:

{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ } [الإسراء17: 7]

والمقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار، وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار، كما قال تعالى:

{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات51: 50]

وأقرب مثال لهذا الباب قصة موسى والخضر عليهما السلام، فإن موسى كان يبني الحكم على ظواهر الأمور فاستنكر تخريق السفينة وقتل الغلام وعمارة الجدار المائل، وأما الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق والأسرار فقال:

{ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِى ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً *وَأَمَّا ٱلْغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـٰناً وَكُفْراً *فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَـوٰةً وَأَقْرَبَ رُحْماً *وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } [الكهف18: 79 ـ 82]

فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر، فإذا رأيت ما يكرهه طبعك وينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسراراً خفية وحكماً بالغة، وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك، وعند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله الرحمن الرحيم.


الفائدة الثانية: الرحمن: اسم خاص بالله، والرحيم: ينطلق عليه وعلى غيره.

فإن قيل: فعلى هذا: الرحمن أعظم: فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى؟.

-207-

والجواب: لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير، حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال: جئتك لمهم يسير فقال: اطلب للمهم اليسير رجلاً يسيراً، كأنه تعالى يقول: لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني ولتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة، ولكن كما علمتني رحماناً تطلب مني الأمور العظيمة، فأنا أيضاً رحيم؛ فاطلب مني شراك نعلك وملح قدرك، كما قال تعالى لموسى: «يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك».

الفائدة الثالثة: وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً، ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال:

{ وَرَحْمَةً مّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [مريم19: 21]

فتلك الرحمة صارت سبباً لنجاتها من توبيخ الكفار الفجّار، ثم أنا نصفه كل يوم أربعة وثلاثين مرة أنه رحمن وأنه رحيم، وذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة، ويقرأ لفظ الرحمن الرحيم في كل ركعة مرتين مرة في بسم الله الرحمن الرحيم ومرة في قوله:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ *ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [الفاتحة1: 2-3]

فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سبباً لخلاص مريم عليها السلام عن المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سبباً لنجاة المسلمين من النار والعار والدمار؟.


الفائدة الرابعة: أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه، رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه، فكأنه تعالى يقول: أنا رحمن لأنك تسلم إلى نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة، كما قال تعالى:

{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر40: 64]

وأنا رحيم لأنك تسلم إلى طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة.


الفائدة الخامسة: روي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه به، فقام ودخل عليه، وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرك ويضطرب ولا يعمل لسانه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما كان يصلي؟ أما كان يصوم؟ أما كان يزكي؟ " فقالوا: بلى، فقال: " هل عق والديه؟ " فقالوا: بلى، فقال عليه السلام: " هاتوا بأمه " ، فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام: «هلا عفوت عنه»، فقالت: لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني، فقال عليه السلام: " هاتوا بالحطب والنار " ، فقالت: وما تصنع بالنار؟ فقال عليه السلام: " أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك " ، فقالت: عفوت عفوت، أللنار حملته تسعة أشهر؟ أللنار أرضعته سنتين؟ فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه، وذكر أشهد أن لا إله إلا الله، والنكتة أنها كانت رحيمة وما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار، فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا الله سبعين سنة بالنار.

-208-

الفائدة السادسة: لقد اشتهر أن النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ، فظهر أنه يوم القيامة يقول: " أمتي، أمتي " ، فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة، وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هذا المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم؟ وأيضاً روي أنه عليه السلام قال: " اللهم اجعل حساب أمتي على يدي " ، ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديوناً بدرهمين، وأخرج عائشة / عن البيت بسبب الإفك فكأنه تعالى قال له إن لك رحمة واحدة وهي قوله:

{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء21: 107]

والرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح عالم المخلوقات، فذرني وعبيدي واتركني وأمتك فإني أنا الرحمن الرحيم، فرحمتي لا نهاية لها، ومعصيتهم متناهية، والمتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانياً، فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي، لأني أنا الرحمن الرحيم.


الفائدة السابعة: قالت القدرية: كيف يكون رحماناً رحيماً من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد؟ وكيف يكون رحماناً رحيماً من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه عليه؟ وكيف يكون رحماناً رحيماً من أمر بالإيمان ثم صد ومنع عنه؟ وقالت الجبرية: أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من الله بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه بالله، والله أعلم.

الفصل الرابع

في تفسير قوله { مالك يوم الدين } ، وفيه فوائد:

تفسير (مالك يوم الدين):

الفائدة الأولى: قوله مالك يوم الدين، أي: مالك يوم البعث والجزاء، وتقريره أنه لا بدّ من الفرق بين المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، والموافق والمخالف، وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى:

{ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [النجم53: 31] وقال تعالى:
{ أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِى ٱلأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [صۤ38: 28] وقال:
{ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } [طه20: 15]

واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضياً بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا، وذلك هو المراد بقوله:

{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } [الفاتحة1: 4] وبقوله:
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [الزلزلة99: 7] الآية

روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة، فيأتيه النداء، يا فلان أدخل الجنة بعملك، فيقول: إلهي، ماذا عملت؟ فيقول الله تعالى: ألست لما كنت نائماً تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك «الله» ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ذلك أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك، وأيضاً يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا الله فلا يثقل مع ذكر الله غيره.


-209-

واعلم أن الواجبات على قسمين: حقوق الله تعالى، وحقوق العباد: أما حقوق الله تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين، وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها.

روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به، فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة، فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن فعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال: إن تركتها كان ذلك سبباً لقبح جدار هذا المجوسي، وإن حككتها انحدر التراب من الحائط، فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها: قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب، فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال، فأخذ يعتذر، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه، ههنا ما هو أولى، وذكر قصة الجدار، وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي: فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال، والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان، فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند الله تعالى.

الفائدة الثانية: اختلف القراء في هذه الكلمة، فمنهم من قرأ مالك يوم الدين، ومنهم من قرأ ملك يوم الدين. حجة من قرأ مالك وجوه: الأول: أن فيه حرفاً زائداً فكانت قراءته أكثر ثواباً. الثاني: أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون، أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله. الثالث: المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكاً وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف، والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى. الرابع: إن الملك ملك للرعية، والمالك مالك للعبيد، والعبد أدون حالاً من الرعية، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك، الخامس: أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية.

-210-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #27  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 211-220 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 211-220 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

السادس: أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية، قال عليه الصلاة والسلام وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، ولا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه، حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً؛ فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية، فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك.

وحجة من قال أن الملك أولى من المالك وجوه: الأول: أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك. الثاني: أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ *مَلِكِ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 1، 2]

لفظ الملك فيه متعين، ولولا أن الملك أعلى حالاً من المالك وإلا لم يتعين. الثالث: الملك أولى لأنه أقصر، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها، بخلاف المالك فإنها أطول، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة، هكذا نقل عن أبي عمرو، وأجاب الكسائي بأن قال: إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلاً للأمل، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه؛ لأنه وإن كان ذلك تطويلاً للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس، ويجوز أن يموت في تلك الليلة، فيقول: إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام وهو المراد.


ثم نقول: أنه يتفرع على كونه ملكاً أحكام، وعلى كونه مالكاً أحكام أخر.

أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكاً فوجوه: الأول: أن السياسات على أربعة أقسام: سياسة الملاك؛ وسياسة الملوك، وسياسة الملائكة، وسياسة ملك الملوك: فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك؛ لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكاً واحداً، ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس، وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك؛ لأن عالماً من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد، وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة، ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ78: 38] وقوله تعالى:

-211-

{ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة2: 255]

وقال في صفة الملائكة:

{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء21: 28]

فيا أيها الملوك لا تغتروا بما لكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين.


الحكم الثاني: من أحكام كونه تعالى ملكاً أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم، وقلت خزائنهم؛ أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان، بل يزداد، بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولداً واحداً لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد، أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازماً على الكل، فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً. الحكم الثالث: من أحكام كونه ملكاً كمال الرحمة، والدليل عليه آيات: إحداها: ما ذكر في هذه السورة من كونه رباً رحماناً رحيماً وثانيها: قوله تعالى:

{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [الحشر59: 22] ثم قال بعده:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ } [الحشر59: 23]

ثم ذكر بعده كونه قدوساً عن الظلم والجور،ثم ذكر بعده كونه سلاماً، وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره، ثم ذكر بعده كونه مؤمناً، وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه، فثبت أن كونه ملكاً لا يتم إلا مع كمال الرحمة. وثالثها: قوله تعالى:

{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان25: 26]

لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً، يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر، فكونه رحماناً يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة. ورابعها: قوله تعالى:

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ *مَلِكِ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 1، 2]

فذكر أولاً كونه رباً للناس ثم أردفه بكونه ملكاً للناس، وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة، فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى. الحكم الرابع: للملك أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق، فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد؟ وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم، قال تعالى:

{ تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَـدَّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [مريم19: 90، 91]

وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى:


-212-

{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ } [طه20: 132]

فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم، ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم. الحكم الخامس: أنه لما وصف نفسه بكونه ملكاً ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال:

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } [فصلت41: 46]

ثم بين كيفية العدل فقال:

{ وَنَضَعُ ٱلْمَوٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [الأنبياء21: 47]

فظهر بهذا أن كونه ملكاً حقاً ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل، فإن كان الملك المجازي عادلاً كان ملكاً حقاً وإلا كان ملكاً باطلاً فإن كان ملكاً عادلاً حقاً حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكاً ظالماً ارتفع الخير من العالم.


يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوماً، وأوغل في الركض، وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه، ووصل إلى بستان، فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان: أعطني رمانة واحدة، فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها فخرج منه ماء كثير فشربه، وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي: أعطني رمانة أخرى، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً مؤذياً، فقال: أيها الصبي لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي: لعل ملك البلد عزم على الظلم، فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا، فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم، وقال لذلك الصبي: أعطني رمانة أخرى، فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى، فقال للصبي: لم بدلت هذه الحالة؟ فقال الصبي: لعل ملك البلد تاب عن ظلمه، فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم، فلا جرم بقي اسمه مخلداً في الدنيا بالعدل، حتى إن من الناس من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولدت في زمن الملك العادل».

أما الأحكام المفرعة على كونه مالكاً فهي أربعة: الحكم الأول: قراءة المالك أرجى من قراءة الملك؛ لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس، أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول: أنا مالككم فعلي طعامكم وثيابكم وثوابكم وجنتكم. الحكم الثاني: الملك وإن كان أغنى من المالك غير أن الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه، وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات، بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل، فلهذا السبب قال الكسائي: إقرأ مالك يوم الدين لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة.

-213-

الحكم الثالث: أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج، أما من كان مريضاً فإنه يرده ولا يعطيه شيئاً من الواجب، أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه، فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين. الحكم الرابع: الملك له هيبة وسياسة، والمالك له رأفة ورحمة، واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة.

الفائدة الثالثة: الملك عبارة عن القدرة، فكونه مالكاً وملكاً عبارة عن القدرة، ههنا بحث: وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكاً للموجودات أو للمعدومات، والأول: باطل، لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام، وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم، والثاني: باطل أيضاً؛ لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال: إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد.

والجواب إن الله تعالى مالك الموجودات، وملكها، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم، أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول: إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات، ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله، وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر.

فإن قيل: إن المالك لا يكون مالكاً للشيء إلا إذا كان المملوك موجوداً، والقيامة غير موجودة في الحال، فلا يكون الله مالكاً ليوم الدين، بل الواجب أن يقال: مالك يوم الدين، بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيد، فهذا إقرار، ولو قال أنا قاتل زيداً بالتنوين كان تهديداً ووعيداً.

قلنا: الحق ما ذكرتم، إلا أن قيام القيامة لما كان أمراً حقاً لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال، وأيضاً من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال.

الفائدة الرابعة: أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة: الله، والرب، والرحمن والرحيم، والمالك. والسبب فيه كأنه يقول: خلقتك أولاً فأنا إله. ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب، ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن؛ ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين.

فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة، وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة؟.

-214-

قلنا: التقدير كأنه قيل: أذكر أني إله ورب مرة واحدة، وأذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين، ونظيره قوله تعالى:

{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِى ٱلطَّوْلِ } [غافر40: 3].


الفائدة الخامسة: قالت القدرية: إن كان خالق أعمال العباد هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء؛ لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث، وعقابه على ما لم يعمله ظلم، وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين، وقالت الجبرية: لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكاً لها، ولما أجمع المسلمون على كونه مالكاً للعباد ولأعمالهم؛ علمنا أنه خالق لها مقدر لها، والله أعلم.

الفصل الخامس

في تفسير قوله إياك نعبد وإياك نستعين وفيه فوائد

معنى قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }:

الفائدة الأولى: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير، وهو مأخوذ من قولهم: طريق معبد، أي مذلل، واعلم أن قولك إياك نعبد معناه لا أعبد أحداً سواك، والذي يدل على هذا الحصر وجوه: الأول: أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به، فالمرتبة الأولى ـ وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى:

{ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم19: 9] وقوله:
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } [البقرة2: 28] ـ الآية

والمرتبة الثانية ـ وهي خلق المنتفع به ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى:

{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة2: 29]

ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله:

{ ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } [البقرة2: 29]

فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى، فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى، فلهذا المعنى قال إياك نعبد، فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر. الوجه الثاني: في دلائل هذاالحصر والتعيين: وذلك لأنه تعالى سمى نفسه ههنا بخمسة أسماء: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وللعبد أحوال ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل: أما الماضي فقد كان معدوماً محضاً كما قال تعالى:

{ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم19: 9]

وكان ميتاً فأحياه الله تعالى كما قال:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } [البقرة2: 28]

وكان جاهلاً فعلمه الله كما قال:

{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأبْصَـٰرَ وَٱلأفْئِدَةَ } [النحل16: 78]

-215-

والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديماً أزلياً، فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى، وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوماً كان محتاجاً إلى الرب الرحمن الرحيم، أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عند أسباب الضرورات، فقال الله تعالى: أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود. أما بعد أن أصرت موجوداً فقد كثرت حاجاتك إليّ فأنا رب رحمن رحيم، وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين، فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكمل إلا بالله وفضله وإحسانه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى، فلا جرم قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين على سبيل الحصر. الوجه الثالث: في دليل هذا الحصر، وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادراً عالماً محسناً جواداً كريماً حليماً، وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه؛ لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى، ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكاً فيه، فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبوداً للخلق أمر يقيني، وأما كون غيره معبوداً للخلق فهو أمر مشكوك فيه، والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك، فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. الوجه الرابع: أن العبودية ذلة ومهانة إلا أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ، ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره، وأيضاً قدرة الله تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره، فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره، فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين. الوجه الخامس: أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكناً لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته كان محتاجاً فقيراً والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير، والشي ما لم يكن غنياً في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو الله تعالى فدافع الحاجات هو الله تعالى، فمستحق العبادات هو الله تعالى، فلهذا السبب قال: إياك نعبد وإياك نستعين.

-216-

الوجه السادس: استحقاق العبادة يستدعي قدرة الله تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة، وأرضاً بلا دعامة، ويسير الشمس والقمر، ويسكن القطبين، ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق، وتارة الهواء وهي الريح، وتارة الماء وهو المطر، وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر، وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مقيمة لا تسافر وهي الجبال؛ وأجساماً مسافرة لا تقيم وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه، ورفع محمداً عليه الصلاة والسلام فجعل قاب قوسين تحته، وجعل الماء ناراً على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا ناراً، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ورفع موسى فوق الطور، وقال له:

{ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه20: 12]

ورفع الطور عى موسى وقومه

{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } [البقرة2: 63]

وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله:

{ وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [هود11: 40]

وجعل البحر يبساً لموسى عليه السلام، فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك، فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه.


الفائدة الثانية: قوله إياك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا الله، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله، فقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يدل على التوحيد المحض واعلم أن المشركين طوائف، وذلك لأن كل من اتخذ شريكاً لله فذلك الشريك إما أن يكون جسماً وإما أن لا يكون، أما الذين اتخذوا شريكاً جسمانياً فذلك الشريك أما أن يكون من الأجسام السفلية أو من الأجسام العلوية، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام السفلية فذلك الجسم إما أن يكون مركباً أو بسيطاً، أما المركب فأما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان أو من الإنسان، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام المعدنية فهم الذين يتخذون الأصنام إما من الأحجار أو من الذهب أو من الفضة ويعبدونها، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام النباتية فهم الذين اتخذوا شجرة معينة معبوداً لأنفسهم، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الحيوان فهم الذين اتخذوا العجل معبوداً لأنفسهم، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الناس فهم الذين قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام البسيطة فهم الذين يعبدون النار وهم المجوس، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام العلوية فهم الذين يعبدون الشمس والقمر وسائر الكواكب ويضيفون السعادة والنحوسة إليها وهم الصابئة وأكثر المنجمين، وأما الذين اتخذوا الشركاء لله من غير الأجسام فهم أيضاً طوائف: الطائفة الأولى: الذين قالوا مدبر العالم هو النور والظلمة، وهؤلاء هم المانوية والثنوية. والطائفة الثانية: هم الذين قالوا: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ولكل نوع من أنواع هذا العالم روح فلكي يدبره ويتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهؤلاء هم عبدة الملائكة؛ والطائفة الثالثة: الذين قالوا للعالم إلهان: أحدهما: خير، والآخر شرير، وقالوا: مدبر هذا العالم هو الله تعالى وإبليس، وهما أخوان، فكل ما في العالم من الخيرات فهو من الله وكل ما فيه من الشر فهو من إبليس.

-217-

إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول: كل ما اتخذ لله شريكاً فإنه لا بدّ وأن يكون مقدماً على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه، إما طلباً لنفعه أو هرباً من ضرره، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم من الله ورغبتهم في الله ورهبتهم من الله فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله؛ فلهذا قالوا: إياك نعبد وإياك نستعين، فكان قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قائماً مقام قوله: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ }.

واعلم أن الذكر المشهور هو أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد دللنا على أن قولنا الحمد لله يدخل فيه معنى قولنا سبحان الله لأن قوله سبحانه الله يدل على كونه كاملاً تاماً في ذاته، وقوله الحمد لله يدل على كونه مكملاً متمماً لغيره، والشيء لا يكون مكملاً متمماً لغيره إلا إذا كان قبل ذلك تاماً كاملاً في ذاته، فثبت أن قولنا الحمد لله دخل فيه معنى قولنا سبحان الله ولما قال الحمد لله فأثبت جميع أنواع الحمد ذكر ما يجري مجرى العلة لإثبات جميع أنواع الحمد لله، فوصفه بالصفات الخمس وهي التي لأجلها تتم مصالح العبد في الأوقات الثلاثة على ما بيناه، ولما بين ذلك ثبت صحة قولنا سبحان الله والحمد لله ثم ذكر بعده قوله إياك نعبد، وقد دللنا على أنه قائم مقام لا إله إلا الله ثم ذكر قوله وإياك نستعين، ومعناه أن الله تعالى أعلى وأجل وأكبر من أن يتم مقصود من المقاصد وغرض من الأغراض إلا بإعانته وتوفيقه وإحسانه، وهذا هو المراد من قولنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فثبت أن سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها منطبقة على ذلك الذكر، وآيات هذه السورة جارية مجرى الشرح والتفصيل للمراتب الخمس المذكورة في ذلك الذكر.

الفائدة الثالثة: قال إياك نعبد، فقدم قوله إياك على قوله نعبد ولم يقل نعبدك، وفيه وجوه: أحدها: أنه تعالى قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو الله الحق، فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يميناً وشمالاً؛ يحكى أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع رستاقياً جلفاً فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مراراً فقيل للرستاقي: إنه فلان الأستاذ، فانصرع في الحال منه، وما ذاك إلا لاحتشامه منه، فكذا ههنا: عرفه ذاته أولاً حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة.

-218-

وثانيها: أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولاً قوله إياك نعبد لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات، ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة، فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولاً معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية، ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب، فكذا ههنا: إذا شاهد جمال إياك سهل عليه تحمل ثقل العبودية. وثالثها: قال الله تعالى:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف7: 201]

فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال الله من مشرق قوله إياك نعبد فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات. ورابعها: أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولاً بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن، فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر، أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولاً إياك ثم قلت ثانياً نعبد كان قولك أولاً إياك صريحاً بأن المقصود والمعبود هو الله تعالى، فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك. وخامسها: وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار؛ فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدماً على ذكر الخلق. وسادسها: قال بعض المحققين: من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء، وحينئذٍ يكون غرقاً في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه، وكل من كان كذلك كان أبداً في أعلى مراتب السعادات، أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلى فكان غرقاً في كل الأوقات في الإشتغال بغير الله، فكان أبداً في الشقاوة، لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفاً من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلي بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال، ولهذا التحقيق قال لأمة موسى:

{ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [البقرة2: 40]،

وقال لأمة محمد عليه السلام:


-219-

{ فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ } [البقرة2: 152]،

إذا عرفت هذا فنقول: إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقاً في مشاهدة نور جلال إياك، ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقراً في عين الفردوس، كما قال تعالى: لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً. وسابعها: لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره، لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونهم ولا يعبدون غير الله. وثامنها: أن هذه النون نون العظمة، فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد، أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبداً لنا كان ملك الدنيا والآخرة. وتاسعها: لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبراً ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.

فإن قال قائل: جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد لله مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله.

فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله أما لو قدم قوله «نعبد» احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر؛ والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله، لا جرم حسن تقدم الحمد أما ههنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك على نعبد، فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله.

الفائدة الرابعة: لقائل أن يقول: النون في قوله نعبد أما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم، والأول: باطل، لأن الشخص الواحد لا يكون جمعاً، والثاني: باطل لأن عند أداء العبادة، فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة.

واعلم أنه يمكن الجواب عنه من وجوه، كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة: فالوجه الأول: أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة، واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها، ويدل عليه قوله عليه السلام: " التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها " ثم نقول: إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول: هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل، فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية.

-220-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #28  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 221-230 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 221-230 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الوجه الثاني: أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد، والمراد منه ذلك الجمع، وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة. فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله.

الوجه الثالث: أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره، أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام: " من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته ". الوجه الرابع: كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا، فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك، ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل " إياك نعبد وإياك نستعين ".

الوجه الخامس: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها؛ لأنها ممزوجة بجهات التقصير، ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد.

وههنا مسألة شرعية، وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فللمشتري إما أن يقبل الكل، أو لا يقبل واحداً منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين، فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض، فأما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء، وإما أن يقبل الكل، وحينئذٍ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره، والتقدير كأن العبد يقول: إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني.

الفائدة الخامسة: اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها؛ وثقل عليه الاشتغال بغيرها، وبيانه من وجوه: الأول: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان وأقواها في كونها سعادة اشتغاله بعبادة الله، فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة، وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة الله، وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية والدرجات البشرية، فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال، وهي موجبة أيضاً لأكمل السعادات في الزمان المستقبل، فمن وقف على هذه الأحوال زال عنه ثقل الطاعات وعظمت حلاوتها في قلبه.

-221-

الثاني: أن العبادة أمانة بدليل قوله تعالى:

{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [الأحزاب33: 72] ـ الآية

وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً، بدليل قوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء4: 58]

وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات؛ ولأن الأداء الأمانة أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني؛ قال بعض الصحابة: رأيت أعرابياً أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء، فتعجبنا، فلما خرج لم يجد ناقته فقال: إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الراوي فزدنا تعجباً، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه، والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته، وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس: " يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات ". الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة: يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف، وتفرق الناس، وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها، ووقعت الآكلة في بعض أعضاء عروة بن الزبير، واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو، فلما شرع في الصلاة قطعوا منه ذلك العضو فلم يشعر عروة بذلك القطع، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره، أزيزاً كأزيز المرجل، ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى:

{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف12: 31]

فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف عليه السلام وصلت تلك الغلبة إلى حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك، فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى، ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك الملك تمنع القلب عن الشعور بهم، فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازى فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى.


ثم قال أهل التحقيق: العبادة لها ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب أو هرباً من العقاب، وهذا هو المسمى بالعبادة، وهذه الدرجة نازلة ساقطة جداً، لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل المطلوب، ومن جعل المطلوب بالذات شيئاً من أحوال الخلق وجعل الحق وسيلة إليه فهو خسيس جداً.

والدرجة الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو يتشرف بالانتساب إليه، وهذه الدرجة أعلى من الأولى، إلا أنها أيضاً ليست كاملة، لأن المقصود بالذات غير الله.

-222-

والدرجة الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذا أعلى المقامات وأشرف الدرجات، وهذا هو المسمى بالعبودية، وإليه الإشارة بقول المصلي في أول الصلاة أصلي لله، فإنه لو قال أصلي لثواب الله، أو للهرب من عقابه فسدت صلاته.

واعلم أن العبادة والعبودية مقام عالٍ شريف، ويدل عليه آيات: الأولى: قوله تعالى في آخر سورة الحجر:

{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ * وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر15: 97 ـ 99]

والاستدلال بها وجهين: أحدهما: أنه قال: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } فأمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالمواظبة على العبادة إلى أنه يأتيه الموت، ومعناه أنه لا يجوز الإخلال بالعبادة في شيء من الأوقات، وذلك يدل على غاية جلالة أمر العبادة، وثانيهما: أنه قال: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } ثم إنه تعالى أمره بأربعة أشياء: التسبيح: وهو قوله فسبح؛ والتحميد: وهو قوله بحمد ربك؛ والسجود: وهو قوله: { وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } والعبادة؛ وهي قوله: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ }؛ وهذا يدل على أن العبادة تزيل ضيق القلب، وتفيد انشراح الصدر، وما ذاك إلا لأن العبادة توجب الرجوع من الخلق إلى الحق، وذلك يوجب زوال ضيق القلب.


الآية الثانية: في شرف العبودية: قوله تعالى:

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء17: 1]

ولولا أن العبودية أشرف المقامات، وإلا لما وصفه الله بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج، ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وأيضاً بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات، وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات، واللائق بالعبد والانعزال عن التصرفات، وأيضاً العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته، والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة، وشتان ما بينهما.


الآية الثالثة: في شرف العبودية: أن عيسى أول ما نطق قال:

{ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم19: 30]

وصار ذكره لهذه الكلمة سبباً لطهارة أمه، ولبراءة وجوده عن الطعن، وصار مفتاحاً لكل الخيرات، ودافعاً لكل الآفات، وأيضاً لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة، كما قال تعالى:

{ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } [آل عمران3: 55]

والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة، والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة كيف يبقى محروماً عن الجنة.


الآية الرابعة: قوله تعالى لموسى عليه السلام:

{ إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى } [طه20: 14]

أمره بعد التوحيد بالعبودية، لأن التوحيد أصل، والعبودية فرع، والتوحيد شجرة؛ والعبودية ثمرة، ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر، فهذه الآيات دالة على شرف العبودية.


-223-

وأما المعقول فظاهر، وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته، فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلاً عن كمالات الوجود، فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ولونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية، فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد فإنما حصلت بسبب العبودية، فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات، وعنوان السعادات، ومطلع الدرجات، وينبوع الكرامات، فلهذا السبب قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، وكان علي كرم الله وجهه يقول: (كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً، وكفى بي شرفاً أن تكون لي رباً، اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت فاجعلني عبداً كما أردت).

الفائدة السادسة: اعلم أن المقامات محصورة في مقامين: معرفة الربوبية، ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله:

{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40]

أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فكون العبد منتقلاً من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً، وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً، وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين، وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات، وبعدها جاءت معرفة العبودية، ولها مبدأ وكمال، وأول وآخر، أما مبدؤها وأولها فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد، بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وأما كمالها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل كل المطالب، وذلك هو المراد بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة، وهو قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ترتيب شريف رفيع عالٍ يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه.


الفائدة السابعة: لقائل أن يقول: قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة، وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، فما الفائدة فيه؟ قلنا فيه وجوه: الأول: أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين، ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني واقررت بكوني إلهاً رباً رحماناً رحيماً مالكاً ليوم الدين، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد. الوجه الثاني: أن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا:

-224-

{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [الأعراف7: 23]، و
{ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [آل عمران3: 147]، و
{ رَبّ هَبْ لِى } [آل عمران3: 38]، و
{ رَبّ أَرِنِى } [الأعراف7: 143]


والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضاً العبادة خدمة، والخدمة في الحضور أولى. الوجه الثالث: أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء، والدعاء في الحضور أولى. الوجه الرابع: العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقرباً إلى الله فينوي حصول القربة، ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعاً من الثناء على الله، فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، فقال: إياك نعبد وإياك نستعين.

الفصل السادس

في قوله { وإياك نستعين }

معنى قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }:

اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ويدل عليه وجوه من العقل والنقل، أما العقل فمن وجوه: الأول: أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية، فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان، وذلك المرجح ليس من العبد، وإلا لعاد في الطلب، فهو من الله تعالى، فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانة الله. الثاني: أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين، وما ذاك المعين إلا الله تعالى، لأن ذلك المعين لو كان بشراً أو ملكاً لعاد الطلب فيه. الثالث: أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به، ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه، ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل، فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى، ولا معنى للإعانة إلا ذلك.

وأما النقل فيدل عليه آيات: أولاها: قوله وإياك نستعين، وثانيتها: قوله:

{ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ } [الأعراف7: 128]

وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية: أما الجبرية فقالوا: لو كان العبد مستقلاً بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكناً من أصل الفعل، فتبطل الإعانة من الغير، أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة.


وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة، فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة، وإزالة الداعية الصارفة ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد:

الفائدة الأولى: لقائل أن يقول: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين، فما الحكمة فيه؟ الجواب من وجوه: الأول: كأن المصلي يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها.

-225-
الثاني: كأن الإنسان يقول: يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلباً يفر مني، فأستعين بك في إحضاره، وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن " فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله. الثالث: لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا مكائيل، بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمرود رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: سله، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب، وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير، وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير، ويدي فلا أحركهما، وعيني فلا أنظر بهما، وأذني فلا أسمع بهما، ولساني فلا أتكلم به، وكان الخليل مشرفاً على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم، فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معيناً فكذلك لا أريد معيناً غيرك، فإياك نعبد وإياك نستعين، فكأنه تعالى يقول: أتيت بفعل الخليل وزدت عليه، فنحن نزيد أيضاً في الجزاء لأنا ثمت قلنا:

{ يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } [الأنبياء21: 69]

وأما أنت فقد نجيناك من النار، وأوصلناك إلى الجنة، وزدناك سماع الكلام القديم، ورؤية الموجود القديم، وكما أنا قلنا لنار نمروذ { يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } فكذلك تقول لك نار جهنم: جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي. الرابع: إياك نستعين: أي: لا أستعين بغيرك، وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة، فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك. الوجه الخامس: قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى، وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد، بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر.


الفصل السابع

في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } ، وفيه فوائد:

معنى قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }:

الفائدة الأولى: لقائل أن يقول: المصلي لا بدّ وأن يكون مؤمناً، وكل مؤمن مهتد، فالمصلي مهتد، فإذا قال: اهدنا كان جارياً مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلباً لتحصيل الحاصل، وأنه محال، والعلماء أجابوا عنه من وجوه:

الأول: المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى.

-226-

يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه، وكان يقول في كل مرة: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فإن قيل: إن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة، وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحاً عليه السلام كان أفضل منه، والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من الله تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها.

الوجه الثاني في الجواب: أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان، والحق هو الوسط، ويتأكد ذلك بقوله تعالى:

{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة2: 143]

وذلك الوسط هو العدل والصواب، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمناً مهتدياً، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بدّ من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال، وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل.


الوجه الثالث: أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته، وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.

الوجه الرابع: أنه تعالى قال:

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ *صِرٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } [الشورى42: 52، 53]

وقال أيضاً لمحمد عليه السلام:

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ } [الأنعام6: 153]

وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، فقوله: اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة، مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام، ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسمعيل عليه السلام؛ ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام، ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام، ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيـى وزكريا عليهما السلام، فالمراد بقوله إهدنا الصراط المستقيم هو الاقتداء بأنبياء الله في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء؛ ولا شك أن هذا مقام شديد هائل؛ لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به، إلا أنا نقول: أيها الناس، لا تخافوا ولا تحزنوا، فإنه لا يضيق أمر في دين الله إلا اتسع؛ لأن في هذه الآية ما يدل على اليسر والسهولة؛ لأنه تعالى لم يقل صراط الذين ضربوا وقتلوا بل قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فلتكن نيتك عند قراءة هذه الآية أن تقول: يا إلهي، إن والدي رأيته ارتكب الكبائر، كما ارتكبتها وأقدم على المعاصي كما أقدمت عليها، ثم رأيته لما قرب موته تاب وأناب فحكمت له بالنجاة من النار والفوز بالجنة فهو ممن أنعمت عليه بأن وفقته للتوبة، ثم أنعمت عليه بأن قبلت توبته.


-227-

فأنا أقول: إهدنا إلى مثل ذلك الصراط المستقيم طلباً لمرتبة التائبين، فإذا وجدتها فاطلب الاقتداء بدرجات الأنبياء عليهم السلام، فهذا تفسير قوله اهدنا الصراط المستقيم.

الوجه الخامس: كأن الإنسان يقول في الطريق: كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثانٍ، والشيطان إلى طريق ثالث، وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد، وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد والرفض والخروج، والعقل ضعيف، والعمر قصير، والصناعة طويلة، والتجربة خطرة، والقضاء عسير، وقد تحيرت في الكل فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة. والمستقيم: السوي الذي لا غلظ فيه.

يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابي على ناقة له فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال إبراهيم إلى بيت الله، قال كأنك مجنون لا أرى لك مركباً؛ ولا زاداً، والسفر طويل، فقال إبراهيم: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها، قال: وما هي؟ قال: إذا نزلت على بلية ركبت مركب الصبر، وإذا نزل على نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل.

الوجه السادس: قال بعضهم: الصراط المستقيم: الإسلام، وقال بعضهم: القرآن، وهذا لا يصح؛ لأن قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وإذا كان كذلك كان التقدير إهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين، ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام، وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد إهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة، وإنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحداً ليكون لفظ الصراط مذكراً لصراط جهنم فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية.

-228-

القول الثاني في تفسير إهدنا: أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا، ونظيره قوله تعالى:

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران3: 8]

أي ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم.


الفائدة الثانية: لقائل أن يقول: لم قال إهدنا ولم يقل إهدني؟ والجواب من وجهين: الأول أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب. كان بعض العلماء يقول لتلامذته: إذ قرأتم في خطبة السابق «ورضي الله عنك وعن جماعة المسلمين» إن نويتني في قولك «رضي الله عنك» فحسن، وإلا فلا حرج، ولكن إياك وأن تنساني في قولك «وعن جماعة المسلمين» لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل، وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بدّ وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي، ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولاً على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً؛ لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه.

الثاني: قال عليه الصلاة والسلام: " ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها، قالوا: يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة، قال يدعو بعضكم لبعض؛ لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك. " والثالث: كأنه يقول: أيها البعد، ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولاً حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل إهدنا.

الرابع: كان العبد يقول: سمعت رسولك يقول: الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد لله، ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت إياك نعبد، ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت وإياك نستعين، فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت إهدنا الصراط المستقيم، ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت صراط الذين أنعمت عليهم، ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فلما لم أفارق الأنبياء والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة، قال تعالى:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ } [النساء4: 69] الآية.


الفائدة الثالثة: اعلم أن أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين، فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة، فكان العبد يقول: إهدنا الصراط المستقيم لوجوه: الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.

-229-

الثاني: أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضاً في الإعوجاج فيشتبه الطريق على، أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان. الثالث: الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود، والمعوج لا يوصل إليه. الرابع: المستقيم لا يتغير، والمعوج يتغير، فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم، والله أعلم.

الفصل الثامن

في تفسير قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } ، وفيه فوائد:

معنى قوله (صراط الذين أنعمت عليهم):

الفائدة الأولى: في حد النعمة، وقد اختلف فيها، فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذنب والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر، والذم بمعصية الله، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك.

ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول: أما قولنا «المنفعة» فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، وقولنا «المفعولة على جهة الإحسان» لأنه لو كان نفعاً حقاً وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها.

إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع: الفرع الأول: اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى:

{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]

ثم أن النعمة على ثلاثة أقسام: أحدها: نعمة تفرد لله بإيجادها، نحو أن خلق ورزق. وثانيها: نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة فهي أيضاً إنما وصلت من الله تعالى، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة، والخالق لذلك المنعم، والخالق لداعية الأنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال:

{ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان31: 14]

فبدأ بنفسه تنبيهاً على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله، وثالثها: نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى.


-230-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #29  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 231-240 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 231-240 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الفرع الثاني: أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء، ويدل عليه العقل والنقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به، ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة، فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة، وأما النقل فهو أنه تعالى قال:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } [البقرة2: 28] ثم قال عقيبه:
{ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً } [البقرة2: 29]

فبدأ بذكر الحياة، وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها، وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة.


الفرع الثالث: اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس لله تعالى على الكافر نعمة، وقالت المعتزلة: لله على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول: أما القرآن فآيات. إحداها: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولو كان كذلك لكان قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } طلباً لصراط الكفار، وذلك باطل، فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار، فإن قالوا: إن قوله الصراط يدفع ذلك، قلنا: إن قولنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من قوله: { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكان التقدير إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، وحينئذٍ يعود المحذور المذكور. والآية الثانية: قوله تعالى:

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌلأِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [آل عمران3: 178]

وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نعمة، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير، فكذا ههنا.


وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعماً كثيرة فقد احتجوا بآيات: إحداها: قوله تعالى:

{يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاء } [البقرة2: 21، 22]

فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة. وثانيها: قوله:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } [البقرة2: 28]

ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وثالثها: قوله تعالى:

{ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة2: 40]

ورابعها: قوله تعالى:

{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ34: 13]

وقول إبليس:

{ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ } [الأعراف7: 17]

ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر.


-231-

ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة.

الفائدة الثانية: قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ } [النساء4: 69]؛ الآية

ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين، ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه.


الفائدة الثالثة: قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كل من كان لله عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين، فنقول: كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدل على أن المراد من قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيمان، فرجع حاصل القول في قوله: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: يتفرع عليه أحكام:

الحكم الأول: أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، ولأن الإيمان أعظم النعم، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.

الحكم الثاني: يجب أن لا يبقى المؤمن مخلداً في النار، لأن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم.

الحكم الثالث: دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين، لأنه لو كان الإرشاد واجباً على الله لم يكن ذلك إنعاماً؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعاماً، وحيث سماه الله تعالى إنعاماً علمنا أنه غير واجب.

الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الأنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه.

-232-

الفصل التاسع

في قوله تعالى { غير المغضوب عليهم ولاالضالين }

وفيه فوائد:

معنى قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ـ الخ:

الفائدة الأولى: المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى:

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]

والضالين: هم النصارى لقوله تعالى:

{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } [المائدة5: 77]

وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، ويحتمل أن يقال: المغضوب عليهم هم الكفار، والضالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [البقرة2: 6]

ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله:

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا } [البقرة2: 8]

فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ }.


الفائدة الثانية: لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.

الفائدة الثالثة: قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } يدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق، لقوله تعالى:

{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس10: 32]

ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم، ولا الاهتداء بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام.

الفائدة الرابعة: الغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، واعلم أن هذا على الله تعالى محال، لكن ههنا قاعدة كلية، وهي أن جميع الأعراض النفسانية ـ أعني الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والغيرة، والمكر والخداع، والتكبر، والاستهزاء ـ لها أوائل، ولها غايات، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الأضرار، وأيضاً، الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.

-233-

الفائدة الخامسة: قالت المعتزلة: غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلماً من الله تعالى، وقال أصحابنا: لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين، وحينئذٍ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد، أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك محال.

الفائدة السادسة: أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له، وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته، وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى، ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.

الفائدة السابعة: دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق: أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله: أنعمت عليهم، وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم، وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين.

فإن قيل: لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة؟ قلنا: لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم.

الفائدة الثامنة: في الآية سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم، أو محدث، فإن كان هذا العلم قديماً فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم، ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه؟ وأما إن كان ذلك العلم حادثاً كان الباري تعالى محلاً للحوادث، ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر، ويتسلسل، وهو محال، وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.

الفائدة التاسعة: في الآية سؤال آخر، وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه وأن يكون من الضالين، فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين؟ والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، كما قال عليه السلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " فقوله: صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل، وقوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حد الكمال.

الفائدة العاشرة: في الآية سؤال آخر، ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضالين؟ والجواب أن أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المرادون بقوله: أنعمت عليهم، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى:

-234-

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [النساء4: 93]

وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى:

{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس10: 32]

وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل، والله أعلم.


القسم الثاني

الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، وفيه فصول

الفصل الأول

في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة

اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة، وعالم الآخرة عالم الصفاء، فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع، وكالجسم بالنسبة إلى الظل، فكل ما في الدنيا فلا بدّ له في الآخرة من أصل، وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل، وكل ما في الآخرة فلا بدّ له في الدنيا من مثال، وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل، فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور، ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بدّ وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها، ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه، كما قال:

{ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ *مُّطَـٰعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير81: 20، 21]

وأيضاً فلا بدّ في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها، ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره، فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات، فذاك مطاع العالم الأعلى، وهذا مطاع العالم الأسفل ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة، فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي، والمظهر هو الرسول البشري، وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا.


وإذا عرفت هذا فنقول: كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى الله، وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها الله تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ } ـ الآية ويندرج في أحكام الرسل قوله:

{ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [البقرة2: 285]

فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ، وهي معرفة الربوبية، ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية وهو مبني على أمرين: أحدهما: المبدأ، والثاني: الكمال. فالمبدأ هو قوله تعالى:

{ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة2: 285]

لأن هذا المعنى لا بدّ منه لمن يريد الذهاب إلى الله، وأما الكمال فهو التوكل على الله والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى الله تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة، ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد، وهو المراد من قوله: { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة: المبدأ والوسط، والمعاد، أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة: وهي معرفة الله، والملائكة، والكتب، والرسل، وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين: «سمعنا وأطعنا» نصيب عالم الأجساد، و «غفرانك ربنا» نصيب عالم الأرواح، وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد، وهو قوله:


-235-

{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة2: 285]

فابتداء الأمر أربعة، وفي الوسط صار اثنين، وفي النهاية صار واحداً.

ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع:

فأولها: قوله:

{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة2: 286]

وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب33: 41] وقوله:
{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف18: 24] وقوله:
{ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف7: 201] وقوله:
{ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ } [الإنسان76: 25]

وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم الله الرحن الرحيم.


وثانيها: قوله:

{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة2: 286]

ودفع الأصر ـ والأصر هو الثقل ـ يوجب الحمد، وذلك إنما يحصل بقوله الحمد لله رب العالمين.


وثالثها: قوله:

{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة2: 286]

وذلك إشارة إلى كمال رحمته، وذلك هو قوله الرحمن الرحيم.


ورابعها: قوله: { وَٱعْفُ عَنَّا } لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين، وهو قوله مالك يوم الدين.

وخامسها: قوله تعالى: { وَٱغْفِرْ لَنَا } لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات، وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين.

وسادسها: قوله: { وَٱرْحَمْنَا } لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا: اهدنا الصراط المستقيم.

وسابعها: قوله:

{ أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [البقرة2: 286]

وهو المراد من قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.


فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب قال عليه السلام: " الصلاة معراج المؤمن ".

-236-

الفصل الثاني: في مداخل الشيطان

مداخل الشيطان:

اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة، والغضب، والهوى، فالشهوة بهيمية، والغضب سبعية، والهوى شيطانية: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه، فقوله تعالى:

{ إن ٱلصلاة تنهى عن الفحشاء } [العنكبوت29: 45]

المراد آثار الشهوة، وقوله: { وَٱلْمُنْكَرِ } المراد منه آثار الغضب، وقوله: { وَٱلْبَغْىَ } المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب يصير ظالماً لغيره، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى، ولهذا قال عليه السلام: " الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه " فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى. ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب، ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة، ثم لها نتائج؛ فالحرص والبخل نتيجة الشهوة، والعجب والكبر نتيجة الغضب، والكفر والبدعة نتيجة الهوى، فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع ـ وهو الحسد ـ وهو نهاية الأخلاق الذميمة. كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد، وهو قوله:

{ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق113: 5]

كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله:

{ يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ ٱلنَّاسِ *مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [الناس114: 5، 6]

فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس، بل قيل: الحاسد أشر من إبليس، لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا؟ فقال إبليس: لو كنت إلهاً لما جهلتني، فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شراً مني ومنك، قال: نعم، الحاسد، وبالحسد وقعت في هذه المحنة.


إذا عرفت هذا فنقول: أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة، والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل الله تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضاً أصل سورة الفاتحة هو التسمية، وفيها الأسماء الثلاثة، وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة، فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع (التي هي الفاتحة) في مقابلة الأخلاق السبعة، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة، وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة.

أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول: إن من عرف الله وعرف أنه لا إله إلا الله تباعد عنه الشيطان والهوى؛ لأن الهوى إله سوى الله يعبد، بدليل قوله تعالى:

-237-

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية45: 23]

وقال تعالى لموسى: يا موسى، خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا الهوى، ومن عرف أنه رحمن لا يغضب، لأن منشأ الغضب طلب الولاية، والولاية للرحمن لقوله تعالى:

{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان25: 26]

ومن عرف أنه رحيم وجب أنه يتشبه به في كونه رحيماً وإذا صار رحيماً لم يظلم نفسه، ولم يلطخها بالأفعال البهيمية.

وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع، وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى، وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة، وذكر معها اسمين آخرين: وهما الرب، والمالك؛ فالرب قريب من الرحيم، لقوله:

{ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [يۤس: 58]

والمالك قريب من الرحمن، لقوله تعالى: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } فحصلت هذه الأسماء الثلاثة: الرب والملك، والإله، فلهذا السبب ختم الله آخر سورة القرآن عليها، والتقدير كأنه قيل: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل:

{ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 1]

وإن أتاك من قبل الغضب فقل:

{ مَلِكِ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 2]

وإن أتاك من قبل الهوى فقل:

{ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 3].


ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول: من قال الحمد لله فقد شكر الله، واكتفى بالحاصل، فزالت شهوته، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد، وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها، ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن الرحيم زال غضبه، ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني، فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته، وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته، فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة.

الفصل الثالث:

في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد.

جمع الفاتحة لكل ما يحتاج إليه:

اعلم أن قوله الحمد لله إشارة إلى إثبات الصانع المختار، وتقريره: أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال:

{ رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } [البقرة2: 258]،

وقال في موضع آخر:

{ ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء26: 78]،

وقال موسى عليه السلام:

{ رَبُّنَا ٱلَّذِى أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه20: 50]،

وقال في موضع آخر:

{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلأوَّلِينَ } [الشعراء26: 26]،

وقال تعالى في أول سورة البقرة:

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة2: 21]

وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام:

{ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ *خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق96: 1، 2]

-238-

فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى، وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيراً جداً.

واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل، ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام، فلا جرم هو دليل من وجه، وإنعام من وجه، والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاماً كان يستحق هو الحمد، وحدوث بدن الإنسان أيضاً كذلك، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والإشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقدورات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا، ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقاً للحمد والثناء، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الصانع، وعلى علمه، وقدرته، ورحمته، وكمال حكمته وعلى كونه مستحقاً للحمد والثناء والتعظيم، فكان قوله الحمد لله دالاً على جملة هذه المعاني، وأما قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهو يدل على أن ذلك الإله واحد، وأن كل العالمين ملكه وملكه، وليس في العالم إله سواه، ولا معبود غيره، وأما قوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت، وأما قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحماناً رحيماً، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } يدل على وجود الصانع المختار، وقوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } يدل على وحدانتيه، وقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } يدل على رحمته في الدنيا والآخرة، وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة. وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية. أما قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ـ إلى آخر السورة فهو إشارة إلى الأمور التي لا بدّ من معرفتها في تقرير العبودية، وهي محصورة في نوعين: الأعمال التي يأتي بها العبد، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال: أما الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان: أحدهما: إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }. والثاني: علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر، وأما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي، وإليه الإشارة بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الكاملون المحقون المخلصون، وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإليهم الإشارة بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

-239-

والطائفة الثانية: الذين أخلوا بالأعمال الصالحة، وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }. والطائفة الثالثة: الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة، وهم أهل البدع والكفر، وإليهم الإشارة بقوله: { وَلاَ ٱلضَّالّينَ }.

إذا عرفت هذا فنقول: استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين: أحدهما: أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال، والثاني: أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه، وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إشارة إلى القسم الأول، وقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إشارة إلى القسم الثاني، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة، وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة، وهم المغضوب عليهم، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة، وهم الضالون، وهذا آخر السورة، وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية.

الفصل الرابع:

قسمة الله للصلاة بينه وبين عباده.

قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي، وإذا قال الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي، وفي رواية أخرى فوض إليّ عبدي، وإذا قال إياك نعبد يقول الله عبدني عبدي، وإذا قال وإياك نستعين يقول الله تعالى توكل علي عبدي، وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " فوائد هذا الحديث:

الفائدة الأولى: قوله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق، كما قال تعالى:

{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء17: 7]

وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، كما قال:

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56] وقال:
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان76: 2] وقال:
{ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40]

ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل الله هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية، والنصف الثاني منها في معرفة العبودية، حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد.


-240-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #30  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 241-250 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 241-250 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الفائدة الثانية: الله تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة، وهذا يدل على أحكام: الحكم الأول: أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة، وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى: أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: { فَٱتَّبَعُوهُ } ولقوله عليه الصلاة والسلام: " صلوا كما رأتيموني أصلي ". وثانيها: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي " وثالثها: أن جميع المسلمين شرقاً وغرباً لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى:

{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [النساء4: 115]

ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " خامسها: قوله تعالى:

{ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [المزمل73: 20]

وقوله: { فاقرؤا } أمر، وظاهره الوجوب، فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة، وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملاً بظاهر الأمر، وسادسها: أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها، لقوله عليه السلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وسابعها: أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرماً لقوله تعالى:

{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور24: 63]

وثامنها: أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها، إذا ثبت هذا فنقول: التكليف كان متوجهاً على العبد بإقامة الصلاة، والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة، وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص، فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة، وتاسعها: أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب، لقوله تعالى:

{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه20: 14]

وهذه السورة مع كونها مختصرة، جامعة لمقامات الربوبية والعبودية والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ولهذا السبب جعل الله هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءانَ ٱلْعَظِيمَ } [الحجر15: 87]

فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها ألبتة. وعاشرها: أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة.


الفائدة الثالثة: أنه قال: «إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى: «ذكرني عبدي» وفيه أحكام: أحدها: أنه تعالى قال:

-241-

{ فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ } [البقرة2: 152]

فههنا لما أقدم العبد على ذكر الله لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملائه. وثانيها: أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عالٍ شريف في العبودية، لأنه وقع الابتداء به، ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال: { ٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ } ثم قال:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب33: 41] ثم قال:
{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } [آل عمران3: 191] ثم قال:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـٰئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف7: 201]

فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر. وثالثها: إن قوله: " ذكرني عبدي " يدل على أن قولنا: «الله» اسم علم لذاته المخصوصة، إذ لو كان اسماً مشتقاً لكان مفهومه مفهوماً كلياً، ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ، فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان، فثبت أن قوله: «ذكرني عبدي» يدل على أن قولنا الله اسم علم، أما قوله: «وإذا قال الحمد لله يقول الله تعالى حمدني عبدي» فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد، بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم

{ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ } [البقرة2: 30]

وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضاً، بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة

{ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10]

والعقل أيضاً يدل عليه؛ لأن الفكر في ذات الله غير ممكن، لقوله عليه الصلاة والسلام: " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره، وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن، فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته، ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات، والشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر، فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر، فلهذا قال: الحمد لله رب العالمين، وعند هذا يقول: حمدني عبدي، فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل، وعلى أن لسانه صار موافقاً لعقله ومطابقاً له، وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه، فما أجل هذه الحالة.


وأما قوله: «وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي» فلقائل أن يقول: إنه لما قال بسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل الله عظمني عبدي، وههنا لما قال الرحمن الرحيم قال عظمني عبدي فما الفرق؟ وجوابه أن قوله الحمد لله دل على إقرار العبد بكماله في ذاته، وبكونه مكملاً لغيره، ثم قال بعده: رب العالمين، وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك، فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا: «عظمني عبدي».

-242-

وأما قوله: «وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي» أي: نزهني وقدسني عما لا ينبغي ـ فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين، وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء، ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش، ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة، وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف الله فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب، وإلى أهل الكفر العقاب، لكان هذه الاهمال والامهال ظلماً من الله على العباد، أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم، فلهذا السبب قال الله تعالى:

{ لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [النجم53: 31]

وهذا هو المراد من قوله تعالى: " مجدني عبدي، الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه. " وأما قوله: «وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي» فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر، فإن قوله إياك نعبده معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة. ثم جاء بحث الجبر والقدر: وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به، والحق أنه غير مستقل به، وذلك لأن قدرة العبد إما أن تكون صالحة للفعل والترك، وإما أن لا تكون كذلك: فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدراً للفعل دون الترك إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه، وإن لم يكن من العبد فهو من الله تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة، وهو المراد من قوله إياك نستعين، وهو المراد من قولنا: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، أي: لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة، وهب لنا من لدنك رحمة، وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة، فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة، وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم ألبتة معنى قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، أما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة، وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه، وهذا كلام دقيق لا بدّ من التأمل فيه.


-243-

وأما قوله: «وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» وتقريره أنا نرى أهل العالم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية، وفي جميع مسائل النبوات، وفي جميع مسائل المعاد، والشبهات غالبة، والظلمات مستولية، ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير، وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد؛ فلولا هداية الله تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه كما قال:

{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } [الحجرات49: 7]

وإلا لامتنع وصول أحد إلى الحق، فقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إشارة إلى هذه الحالة، ويدل عليه أيضاً أن المبطل لا يرضى بالباطل، وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح، فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ؛ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية الله تعالى، ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك، أما الملائكة فقالوا:

{ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } [البقرة2: 32]

وقال آدم عليه السلام:

{ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } [الأعراف7: 23]

وقال إبراهيم عليه السلام:

{ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالّينَ } [الأنعام6: 77]

وقال يوسف عليه السلام:

{ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ } [يوسف12: 101]

وقال موسى عليه السلام:

{ رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } [طه20: 25] ـ الآية

وقال محمد عليه السلام:

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } [آل عمران3: 8]

فهذا هو الكلام في لطائف هذاالخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه.


الفائدة الرابعة: من فوائد هذا الخبر أن آيات الفاتحة سبع، والأعمال المحسوسة أيضاً في الصلاة سبعة، وهي: القيام، والركوع، والانتصاب، والسجود الأول، والانتصاب فيه، والسجود الثاني والقعدة، فصار عدد آيات الفاتحة مساوياً لعدد هذه الأعمال، فصارت هذه الأعمال كالشخص، والفاتحة لها كالروح، والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد، فقوله: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله بقي قائماً مرتفعاً، وأيضاً فالتسمية لبداية الأمور، قال عليه الصلاة والسلام: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر " وقال تعالى:

-244-

{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ *وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبّهِ فَصَلَّىٰ } [الأعلى: 14، 15]

وأيضاً القيام لبداية الأعمال، فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه، وقوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بإزاء الركوع، وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق؛ لأن التحميد عبارة عن الثناء عليه بسب الإنعام الصادر منه، والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة، فهو حالة متوسطة بين الإعراض وبين الاستغراق، والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود وأيضاً، الحمد يدل على النعم الكثيرة، والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره، فينحني ظهره للركوع وقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى الله في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب، ولذلك قال عليه السلام: " إذا قال العبد سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة " وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } مناسب للسجدة الأولى: لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء، وذلك يوجب الخوف الشديد، فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع، وهو السجدة؛ وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مناسب للقعدة بين السجدتين، لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت، وقوله وإياك نستعين استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية. وأما قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع. وأما قوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخره فهو مناسب للقعدة، وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل الله تواضعه بالإكرام، وهو أن أمره بالقعود بين يديه، وذلك إنعام عظيم من الله على العبد، فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم، وأيضاً أن محمداً عليه السلام لما أنعم الله عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك: " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، " والصلاة معراج المؤمن، فلما وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام ـ وهي أن جلس بين يدي الله ـ وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام، فهو أيضاً يقرأ التحيات، ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ } [النساء4: 69] ـ الآية.


واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة، وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان، وهي قوله:

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ } [المؤمنون23: 12] إلى قوله:
{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ } [المؤمنون23: 14]

وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة، ومراتب الأرواح كثيرة، وروح الأرواح ونور الأنوار هو الله تعالى، كما قال سبحانه وتعالى:

{ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم53: 42].


الفصل الخامس:

في أن الصلاة معراج العارفين.

-245-

الصلاة معراج العارفين:

اعلم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان: أحدهما: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت الله تعالى، فهذا ما يتعلق بالظاهر، وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان: أحدهما: من عالم الشهادة إلى عالم الغيب. والثاني: من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب، وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين، فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى:

{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [النجم53: 9]

وقوله: { أَوْ أَدْنَىٰ } إشارة إلى فنائه في نفسه، أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة، لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك، فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له، وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية، ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي، وهي أيضاً متفاوتة في الاستعلاء، ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى:

{ وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } [الزمر39: 75]

ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى:

{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ } [الحاقة69: 17]

وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام، وهم الذين طعامهم ذكر الله، وشرابهم محبة الله، وأنسهم بالثناء على الله، ولذتهم في خدمة الله، وإليهم الإشارة بقوله:

{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [الأنبياء21: 19] وبقوله:
{ يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء21: 20]

ثم لهم أيضاً درجات متفاوتة، ومراتب متباعدة، والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها، والوقوف على شرح صفاتها، ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلاً كما قال تعالى:

{ وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف12: 76]

إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار، ومسبب الأسباب، ومبدأ الكل، وينبوع الرحمة، ومبدأ الخير، وهو الله تعالى، فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب، وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " إن لله سبعين حجاباً من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر " وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة.


فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين: أولهما: المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، والثاني: المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب، وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول: إن محمداً عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال:

-246-

" يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه، فقيل له: إن تحفة أمتك الصلاة " وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني، وبين المعراج الروحاني: أما الجسماني فبالأفعال، وأما الروحاني فبالأذكار، فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولاً، لأن المقام مقام القدس، فليكن ثوبك طاهراً، وبدنك طاهراً لأنك بالوادي المقدس طوى، وأيضاً فعندك ملك وشيطان، فانظر أيهما تصاحب: ودين ودنيا، فانظر أيهما تصاحب: وعقل وهوى، فانظر أيهما تصاحب: وخير وشر، وصدق وكذب، وحق وباطل، وحلم وطيش، وقناعة وحرص؛ وكذا القول في كل الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة، ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا، وفي القبر، وفي القيامة، وفي الجنة وأن كلباً صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا، وفي الآخرة، ولهذا السر قال تعالى:

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } [التوبة9: 119]

ثم إذا تطهرت فارفع يديك، وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية، ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى الله، ثم قل: الله أكبر، والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات، وأعلى وأعظم وأعز من كل المعلومات، بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال أنه أكبر، ثم قل: سبحانك اللهم وبحمدك، وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال، ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل: تبارك اسمك، وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد، لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام، وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم، ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء، ثم قل: وتعالى جدك، وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور، ثم قل: ولا إله غيرك، وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو، والمقدس الذي لا مقدس إلا هو، وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو، والعقل ههنا ينقطع، واللسان يعتقل، والفهم يتبلد، والخيال يتحير، والعقل يصير كالزمن، ثم عد إلى نفسك وحالك وقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، فقولك: «سبحانك اللهم وبحمدك» معراج الملائكة المقربين، وهو المذكور في قوله:

{ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ } [البقرة2: 30]

وهو أيضاً معراج محمد عليه السلام، لأن معراجه مفتتح بقوله: «سبحانك اللهم وبحمدك» وأما قولك: «وجهت وجهي» فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام، وقولك: «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله» فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام، فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين، ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لتدفع ضرر العجب من نفسك.


-247-

واعلم أن للجنة ثمانية أبواب، ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة، وهو باب المعرفة، والباب الثاني: هو باب الذكر وهو قولك بسم الله الرحمن الرحيم، والباب الثالث: باب الشكر، وهو قولك الحمد لله رب العالمين والباب الرابع: باب الرجاء، وهو قولك الرحمن الرحيم، والباب الخامس: باب الخوف، وهو قولك مالك يوم الدين، والباب السادس: باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية، وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين، والباب السابع: باب الدعاء والتضرع كما قال:

{ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل27: 62] وقال:
{ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر40: 60]

وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم، والباب الثامن: باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم، وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة. ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة، وهو المراد من قوله تعالى:

{ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأبْوَابُ } [صۤ38: 50]

فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية، فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني.


وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف، وهو قوله تعالى:

{ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الكهف18: 14]

بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى:

{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [المطففين83: 6]

ثم اقرأ سبحانك اللهم، وبعده وجهت وجهي، وبعده الفاتحة، وبعدها ما تيسر لك من القرآن، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله، فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين، وهذا سر قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.


واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت، فاجعلها محنية بالركوع فقل: سمع الله لمن حمده، ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو، وقل: سبحان ربي الأعلى، فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة: الركوع الواحد، والسجودان، وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة، فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات، وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات، وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات، فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات، فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، فالتحيات المباركات باللسان، والصلوات بالأركان، والطيبات بالجنان وقوة الإيمان، ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان، ويحصل هناك الروح والراحة والريحان، فلا بدّ لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية، فقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وكأنه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها؟ وبأي طريق وصلت إليها؟ فقل بقولي: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقيل لك أن محمداً هو الذي هداك إليه، فأي شيء هديتك له؟ فقل: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد، فقيل لك: إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال:

-248-

{ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } [البقرة2: 129]

فما جزاؤك له؟ فقل: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فيقال لك: فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله؟ فقل: بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد.

ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عزّ وجلّ: " إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه " فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله: «إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك، وقد جاؤك فابدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين، فيقول العبد عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون:

{ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } [الرعد13: 24].


الفصل السادس:في الكبرياء والعظمة

الكبرياء والعظمة:

أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان: أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له، والخلاء الذي لا غاية له، وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد، كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ، ولا لاستقراره منزل، فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم، فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً، ووسع الزمان أولاً وآخراً، وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزهاً عن المكان والزمان.

إذا عرفت هذا فنقول: الحق سبحانه وتعالى له عرش، وكرسي، فعقد المكان بالكرسي فقال:

{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [البقرة2: 255]


-249-

وعقد الزمان بالعرش فقال:

{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء } [هود11: 7]

لأن جري الزمان يشبه جري الماء، فلا مكان وراء الكرسي، ولا زمان وراء العرش، فالعلو صفة الكرسي وهو قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } والعظمة صفة العرش وهو قوله:

{ فَقُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [التوبة9: 129]

وكمال العلو والعظمة لله كما قال:

{ وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ } [البقرة2: 255].


واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال، إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو، وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى: " الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري " ، ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار، وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال، وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات، وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية، فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام: " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " ، وقال:

{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ } [الرحمن55: 27] وقال:
{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ ذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلإكْرَامِ } [الرحمن55: 78]

إذا عرفت هذا الأصل فاعلم أن المصلى إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال الله في صفتهم:

{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الكهف18: 28]
{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام6: 52]

ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس، ولهذا التطهير مراتب: المرتبة الأولى: التطهير من دنس الذنوب بالتوبة، كما قال تعالى:

{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } [التحريم66: 8]

ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها، ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله، ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته، ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى الله، وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوتة كأنها غير متناهية، كما قال تعالى:

{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } [الروم30: 30]

فإذا أردت أن تكون من جملة من قال الله فيهم: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فقم قائماً واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بأن تبتدىء من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية، ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره، ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء، ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها، ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم، ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية، واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام:


-250-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 12:07 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.