مكتب انجاز استخراج تصاريح الزواج  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي : حكم لصالح موكلنا بأحقيتة للمبالغ محل ...  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات يوسيرين: رفع مستوى روتين العناية بالبشرة مع ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    اكتشفي منتجات لاروش بوزيه الفريدة من نوعها في ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات العناية بالبشرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    استكشف سر جمال شعرك في ويلنس سوق، الوجهة الأولى للعناية بالش...  آخر رد: الياسمينا    <::>    ويلنس سوق : وجهتك الأساسية لمنتجات العناية الشخصية والجمال  آخر رد: الياسمينا    <::>    موقع كوبون جديد للحصول على اكواد الخصم  آخر رد: الياسمينا    <::>    إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم
التسجيل التعليمات الملحقات التقويم مشاركات اليوم البحث

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #11  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) مصنف و مدقق

تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }


قوله عز وجل: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } المثل بالتحريك والتسكين، والمَثَل بالتحريك مستعمل في الأمثال المضروبة، والمِثْل بالتسكين مستعمل في الشيء المماثل لغيره.

وقوله: { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } فيه وجهان:

أحدهما: أنه أراد كمثل الذي أوقد، فدخلت السين زائدة في الكلام، وهو قول الأخفش.

والثاني: أنه أراد استوقد مِنْ غيره ناراً للضياء، والنار مشتقة من النور.

{ فَلَمَّا أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ } يقال ضاءت في نفسها، وأضاءت ما حولها قال أبو الطمحان:


أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْدُجَى الَّليْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهْ


قوله عز وجل: { ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ } فيه وجهان:

أحدهما: نور المستوقِد، لأنه في معنى الجمع، وهذا قول الأخفش.

والثاني: بنور المنافقين، لأن المثل مضروب فيهم، وهو قول الجمهور.

وفي ذهاب نورهم وجهان:

أحدهما: وهو قول الأصم ذهب الله بنورهم في الآخرة، حتى صار ذلك سمةً لهم يُعْرَفُونَ بها.

والثاني: أنه عَنّى النور الذي أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم من قلوبهم بالإسلام. وفي قوله: { وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ } قولان:

أحدهما: معناه لم يأتهم بضياء يبصرون به.

والثاني: أنه لم يخرجهم منه، كما يقال تركته في الدار، إذا لم تَخرجْهُ منها، وكأنَّ ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالاً، لأن من طُفِئَت عنه النار حتى صار في ظلمة، فهو أقل بصراً ممن لم يزل في الظلمة، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى للمنافقين.

وفيما كانوا فيه من الضياء، وجعلوا فيه من الظلمة قولان:

أحدهما: أن ضياءهم دخولهم في الإسلام بعد كفرهم، والظلمة خروجهم منه بنفاقهم.

والثاني: أن الضياء يعود للمنافقين بالدخول في جملة المسلمين، والظلمة زوالُهُ عنهم في الآخرة، وهذا قول ابنِ عباسٍ وقتادةَ.

قوله تعالى: { صَمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } وهذا جمع: أصم، وأبكم، وأعمى، وأصل الصَّمَمُ الإنسداد، يقال قناة صماء، إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة، إذا سددتها، فالأصم: من انسدَّتْ خروق مسامعه.

أما البَكَمُ، ففيه أربعة أقاويل:

أحدها: أنه آفة في اللسان، لا يتمكن معها من أن يعتمد على مواضع الحروف.

والثاني: أنه الذي يولد أخرس.

والثالث: أنه المسلوب الفؤاد، الذي لا يعي شيئاً ولا يفهمه.

والرابع: أنه الذي يجمع بين الخَرَس وذهاب الفؤاد.

ومعنى الكلام، أنهم صمٌّ عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عُمْيٌ عن الإبصار له، رَوَى ذلك قتادة، { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } يعني إلى الإسلام.

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #12  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق 1-2

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }


" المَثَل والمِثْل والمثيل " واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان وقد يكون مثل الشيء جرماً مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلاً له، فقوله تعالى: { مثلهم كمثل } معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى:

{ مَثَلُ الْجَنَّةِ } [الرعد13: 35]
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ } [محمد47: 15]

وفي تفسير قوله تعالى:

{ ليس كمثله شيء } [الشورى42: 11]

لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل:

{ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [النحل16: 60].

وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.


وقوله: { مثلهم } رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى: [البسيط].


أتنتهون ولا ينهى ذوي شططٍكالطعن يذهب فيه الزيت والفتل


ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالاً عليه، وجوز الأخفش حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفاً ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد، و { الذي } أيضاً ليس بإشارة إلى واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل: وقع من واحد أو من جماعة.

قال النحويون، الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. و { استوقد } قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.

قال أبو علي: وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي]: [الطويل].


فلم يستجبه عند ذاك مجيب


وأخلف لأهله واستخلف إذا جلب لهم الماء، ومنه قول الشاعر: [الطويل]


ومستخلفات من بلاد تنوفةلمصفرة الأشداق حمر الحواصل


ومنه قول الآخر: [الطويل]

سقاها فروّاها من الماء مخلف


ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له. واختلف في { أضاءت } فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم: [المنسرح]


وأنت لما ولدت أشرقَتِ الـأرضُ وضاءت بنورك الطرق


وعلى هذا، فـ { ما } في قوله: { ما حوله } مفعولة، وقيل (أضاءت) لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، فـ (ما) زائدة، وحوله ظرف.
-1-

واختلف المتأولون في على المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد ناراً).

فقالت طائفة: هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.

وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: " إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات ".

وقالت فرقة: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.

وقالت فرقة: إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله واعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.

وقالت فرقة منهم قتادة: نطقهم بـ " لا إله إلا الله " والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.

قال جمهور النحاة: جواب " لما " ذهب، ويعود الضمير من " نورهم " في هذا القول على (الذي)، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة]: [الطويل].


وإنّ الذي حانتْ بفلجٍ دماؤهمهمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمّ خالدِ


وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.

وقال قوم: جواب " لما " مضمر، وهو طفئت، والضمير في " نورهم " على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى:

{ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ } [الحديد57: 13].


قال القاضي أبو محمد: هذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال " في ظلْمات " بسكون اللام، وقرأ قوم " ظلَمات " بفتح اللام.

قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاثة لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل إتباعاً فتقول ثمرة وثمرات.

قال القاضي أبو محمد: وذهب قوم في " ظلَمات " بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع، والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.

وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما. " صماً، بكماً، عمياً " بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في { مهتدين } ، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل الضمير في " نورهم " للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في { تركهم }.

قال بعض المفسرين قوله تعالى { فهم لا يرجعون } إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.

قال القاضي أبو محمد: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره: معناه { فهم لا يرجعون } ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه.
-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #13  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق

تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق



{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


قوله تعالى: { مثلهم كمثَل الذي اسْتوقد ناراً }.

هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء: ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال. وفي قوله تعالى«استوقد» قولان.

أحدهما: أن السين زائدة، وأنشدوا:

وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندىفلم يستجبه عند ذاك مجيب


أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة.

والثاني: أن السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره ناراً.

قوله تعالى: { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون }.

وفي«أضاءت» قولان: أحدهما: أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههمدجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه


وقال آخر:

أضاءت لنا النار وجهاً أغرَّملتبساً بالفؤاد التباسا


والثاني: أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد: يقال أضاءت النَّار، وأضاءها غيرها. وقال الزجاج: يقال: ضاء القمر، وأضاء.

وفي «ما» قولان. أحدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله. والثاني: أنها بمعنى الذي. وحول الشَّيء: ما دار من جوانبه. والهاء: عائدة على الْمستوقد. فان قيل: كيف وحد. فقال: « كمثل الذي استوقد» ثم جمع فقال: « ذهب الله بنورهم»؟ فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: «ذهب الله بنورهم» لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك. قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع، وحد أولاً للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر:

فان الذي حانت بفلج دماؤهمهم القوم كلُّ القوم يا أم خالد


فجعل «الذي» جمعاً.
فصل


اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين. أحدهما: أنه ضرب بكلمة الإِسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء، فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إِقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد.

وفي المراد بـ «الظلمات» هاهنا أربعة أقوال. أحدها: العذاب، قاله ابن عباس، والثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد. والثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت؛ قاله قتادة. والرابع: أنها نفاقهم، قاله السدي.
فصل


وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم.

إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.

والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم.

والثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #14  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


{ اسْتَوْقَدَ } أوقد، أو طلب ذلك من غيره للاستضاءة { أَضَآءَتْ } ضاءت النار في نفسها، وأضاءت ما حولها. قال:


أضاءت لهم أحسابُهم ووجوهُهم دُجَى الليل حتى نظَّمَ الجَزعَ ثاقبُه


{ بِنُورِهِمْ } أي: المُستوقد، لأنه في معنى الجمع، أو بنور المنافق عند الجمهور، فيذهب في الآخرة فيكون ذهابه سمة يعرفون بها، أو ذهب ما أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم من الإسلام { فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } لم يأتهم بضياء يبصرون به، أو لم يخرجهم من الظلمات، وحصول الظلمة بعد الضياء أبلغ، لأن من صار في ظلمة بعد ضياء أقل إبصاراً ممن لم يزل فيها، ثم الضياء دخولهم في الإسلام، والظلمة خروجهم منه، أو الضياء تعززهم بأنهم في عداد المسلمين، والظلمة زواله عنهم في الآخرة.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #15  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ) مصنف و مدقق 1-4

تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ) مصنف و مدقق 1-4

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ }


{ مّثْلُهُمْ كَمِثْلِِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير. يقال: مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير. وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً، وكذلك قوله

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [الرعد13: 35]

أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ووضع «الذي» موضع الذين كقوله

{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ } [التوبة9: 69]

فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحدة، أو قصد جنس المستوقدين، أو أريد الفوج الذي استوقد ناراً على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد. ومعنى استوقد أوقد، ووقود ووقود النار سطوعها، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً. { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله

{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [يونس10: 5]

وهي في الآية متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء. وجواب فلما { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل «إذا».و«ما» موصولة و«حوله» نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير: فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله. وجمع الضمير وتوحيده للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى. والنور ضوء النار وضوء كل نير، ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به. والمعنى أخذ بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب. ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله «فلما أضاءت» لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } والظلمة عرض ينافي النور. وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه «وتركهم في ظلمات» أصله «هم في ظلمات» ثم دخل «ترك» فنصب الجزأين والمفعول الساقط من «لا يبصرون» من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً.

-1-

وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي. وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم. { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } أي هم صم، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أنفت مشارعهم. وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم: هم ليوث للشجعان وبحور للأَسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون، والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشيء. وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون.

{ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح. وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف «مثل» لدلالة العطف عليه «وذوي» لدلالة «يجعلون» عليه. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله:

كأن قلوب الطير رطباً ويابسالدى وكرها العناب والحشف البالي


بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة. والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به.
-2-

بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى:

{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [الجمعة62: 5] الآية.

فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب. وكقوله:

{ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاء } [الكهف18: 45]،

فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ. وعطف أحد التمثيلين على الآخر بـ «أو» لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك «جالس الحسن أو ابن سيرين» تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، وقوله تعالى:

{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان76: 24]،

أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك. والصيب: المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً. وتنكير «صيب» لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول، والسماء هذه المظلة. وعن الحسن أنها موج مكفوف. والفائدة في ذكر السماء. والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأن كل أفق من آفاقها سماء، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، وقيل: إنه يأخذ من البحر ويرتفع.


«ظلمات» مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء «فيه ظلمات» ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه.
-3-

والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه، أو ملك يسوق السحاب. والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع، والضمير في «فيه» يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكاناً للظلمات، فإن أريد به السحاب فظلماته ـ إذا كان أسحم مطبقاً، ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة أظلال غمامه مع ظلمة الليل. وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق على إرادة السحاب به ظاهر، وكذا إن أريد به المطر لأنهما ملتبسان به في الجملة. ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل، يقال رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً فروعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما. ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِم } الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفاً كما في قوله:

{ أو هُمْ قَائِلُونَ } [الأعراف7: 4]

لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه. ولا محل لـ «يجعلون» لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم. ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقال: يكاد البرق يخطف أبصارهم. وإنما ذكر الأصابع ولم يذكر الأنامل ورؤوس الأصابع هي التي تجعل في الأذان اتساعاً كقوله:

{ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة5: 38]

والمراد إلى الرسغ، ولأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسدّ به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة. { مّنَ ٱلصَّوٰعِقِ } متعلق بـ «يجعلون» أي من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم. والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار. قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلاَّ أتت عليه، إلاَّ أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي: مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } مفعول له، والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة { وَٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكـٰفِرِينَ } يعني: أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز وهذه الجملة اعتراض لا محل لها.


-4-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #16  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق 1-12

تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق 1-12

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }


{ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون }: المثل في أصل كلام العرب بمعنى المثل والمثيل، كشبه وشبه وشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل والمثل على أمثال. قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل الوصف، هذا مثل كذا، أي وصفه مساوٍ لوصف الآخر بوجه من الوجوه. والمثل: القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه. وقيل: المثل، ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس، يستدل به علي وصف مشابه له من بعض الوجوه، فيه نوع من الخفاء ليصير في الذهن مساوياً للأول في الظهور من وجه دون وجه. والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقاً للعقل. والذي: اسم موصول للواحد المذكر، ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مجرى مَن في وقوعه على الواحد والجمع. وقال الأخفش: هو مفرد، ويكون في معنى الجمع، وهذا شبيه بقول أبي علي، وقال صاحب التسهيل فيه، وقد ذكر الذين، قال: ويغني عنه الذي في غير تخصيص كثيراً وفيه للضرورة قليلاً وأصحابنا يقولون: يجوز أن تحذف النون من الذين فيبقي الذي، وإذا كان الذي لمفرد فسمع تشديد الياء فيه مكسورة أو مضمومة، وحذف الياء وإبقاء الذال مكسورة أو ساكنة، وأكثر أصحابنا على أن تلك لغات في الذي. والاستيقاد: بمعنى الإيقاد واستدعاء ذلك، ووقود النار ارتفاع لهيبها. والنار: جوهر لطيف مضيء حار محرق. لما: حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا، وظرفاً بمعنى حين عند الفارسي، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما، ولمجيء جوابها مصدراً بإذا الفجائية. الإضاءة: الإشراق، وهو فرط الإنارة. وحوله: ظرف مكان لا يتصرف، ويقال: حوال بمعناه، ويثنيان ويجمع أحوال، وكلها لا تتصرف وتلزم الإضافة. الذهاب: الانطلاق. النور: الضوء من كل نير ونقيضة الظلمة، ويقال نار ينور إذا نفر، وجارية نوار: أي نفور، ومنه اسم امرأة الفرزدق، وسمي نوراً لأن فيه اضطراباً وحركة. الترك: التخلية، أترك هذا أي خله ودعه، وفي تضمينه معنى التصيير وتعديته إلى اثنين خلاف، الأصح جواز ذلك. الظلمة: عدم النور، وقيل: هو عرض ينافي النور، وهو الأصح لتعلق الجعل بمعنى الخلق به، والإعدام لا توصف بالخلق، وقد رده بعضهم لمعنى الظلم، وهو المنع، قال: لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية. الإبصار: الرؤية. { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } جموع كثرة على وزن فعل، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا، نحو: أحمر وحمراء، أو انفرد المانع في الخلقة، نحو: عذل ورتق.
-1-

فإن كان الوصف مشتركاً لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء، وذلك نحو: رجل آلي وامرأة عجزاء، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه. والصمم: داء، يحصل في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع، وأصله من الصلابة، قالوا: قناة صماء، وقيل أصله السد وصممت القارورة: سددتها. والبكم: آفة تحصل في اللسان تمنع من الكلام، قاله أبو حاتم، وقيل: الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان. والعمى: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، والفعل منها على فعل بكسر العين، واسم الفاعل على أفعل، وهو قياس الآفات والعاهات. والرجوع، إن لم يتعد، فهو بمعنى: العود، وإن تعدى فبمعنى: الإعادة. وبعض النحويين يقول: إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر.

قال الزمخشري: لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء، فقال الله تعالى:


ومثلهم: مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده، والتقدير كائن كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر. وقال ابن عطية: الخبر الكاف، وهي على هذا اسم، كما هي في قول الأعشى:

أتنتهون ولن ينهى ذوي شططكالطعن يذهب فيه الزيت والفتل


انتهى.


وهذا الذي اختاره ونبأ به غير مختار، وهو مذهب أبي الحسن، يجوز أن تكون الكاف اسماً في فصيح الكلام، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله: فصيروا مثل:

{ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل105: 5]،

وحمله على ذلك، والله أعلم، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى، صار المعنى عنده على الزيادة، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل، لا يمثل المثل والمثل هنا بمعنى القصة والشأن، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد ناراً، فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة. وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد ناراً وجوه ذكروها: الأول: أن مستوقد النار يدفع بها الأذى، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر.

-2-

الثاني: أنه يهتدي بها، فإذا انطفأت ضل، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمه كفره. الثالث: أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها، كذلك المنافق، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه. الرابع: أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار. الخامس: أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين الذهاب، قاله مجاهد: السادس: شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد، والضلالة المشتراة بالظلمات. السابع: أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه، روي معناه عن الحسن، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين، وهو مروي عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.

وروي عن ابن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب، ويمان بن رئاب، أنها في اليهود، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها: الأول: أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة، واليهود لما كانوا يبشرون النبي صلى الله عليه وسلم ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون، شبه حالهم بحال المستوقد النار، فلما بعث وكفروا به، أذهب الله ذلك النور عنهم. الثاني: شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنار المستوقد، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد. الثالث: شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد ناراً، فلما غيروا اسمه وصفته وبدلوا التوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان، وتقدم الكلام على الذي، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع، والذي نختاره أنه مفرد لفظاً وإن كان في المعنى نعتاً لما تحته أفراد، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد ناراً كأحد التأويلين في قوله:

وإن الـذي حـانت بفلـج دماؤهـم


ولا يحمل على المفرد لفظاً ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم، وجمعه في دمائهم. وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة، فهو خطأ لإفراد الضمير في الصلة، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به. ألا ترى جمعه في قوله تعالى:

{ وَخُضْتُم كَالَّذِي خَاضُوا } [التوبة9: 69]

على أحد التأويلين، وجمعه في قول الشاعر:

يا رب عبس لا تبارك في أحدفي قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الـذي قـامـوا بـأطـراف المسـد


وأما قول الفارسي: إنها مثل مَن، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد ومثنى وجمع بخلاف مَن، فلفظ مَن مفرد مذكر أبداً وليس كذلك الذي، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى:
-3-

{ وَخُضْتُم كَالَّذِي خَاضُوا } [التوبة9: 69]

وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال: أحدهما: أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تخطى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت، قال: والثاني: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون واقعاً إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعاً لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنياً التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيراً.

وقرأ ابن السميفع: كمثل الذين، على الجمع، وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفاً لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه: أحدها: أن يكون إفراد الضمير حملاً على التوهم المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي، قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي:

كذاك الذي يبغي على الناس ظالماًتصبه على رغم عواقب ما صنع


الثاني: أن يكون إفراد الضمير، وإن كان عائداً على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد أبو الحسن:
-4-

وبالبدو منا أسرة يحفظونناسراع إلى الداعي عظام كراكره


أي كراكرهم.

والثالث: أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائداً على الذين، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى:

{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِن بَعْدِ مَا رَأَوُا الأَيَاتِ } [يوسف12: 35]

أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما: أن يكون حذف وأصله لهم، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد ناراً وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر:

ولو أن ما عالجت لين فؤادهافقسا استلين به للان الجندل


يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجروراً بحرف جر ليس في موضع رفع، وأن يكون الموصول، أو الموصوف به الموصول، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظاً ومعنىً، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق. والوجه الثاني: أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلة لا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر، فيكون شبيهاً بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم: زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم } ، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميفع.

واستوقد: استفعل، وهي بمعنى افعل. حكى أبو زيد: أوقد واستوقد بمعنى، ومثله أجاب واستجاب، وأخلف لأهله واستخلف أي خلف الماء، أو للطلب، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح، وكونها بمعنى أوقد، قول الأخفش، وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه. ألا ترى أنه يكون المعنى في الطلب استدعوا ناراً فأوقدوها، { فلما أضاءت ما حوله } ، لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب، إنما تتسبب عن الاتقاد، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح، والتشبيه وقع بين قصة وقصة، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلى مقابلة جماعة بجماعة. ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة62: 5]

وعلى أنه في قوله: { كمثل الذي استوقد ناراً } ، هو من قبيل المقابلة أيضاً؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثل الجمع؟ أو الفوج الذي استوقد، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى.

-5-

على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد ورام مقابلة الجمع بالجمع، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف التقدير، كمثل أصحاب الذي استوقد، ولا حاجة إلى هذا الذي قدره لأنه لو فرضناه مفرداً لفظاً ومعنى لما احتيج إلى ذلك، لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة، وإذا كان كذلك فلا تشترط المقابلة، كما قدمنا، ونكر ناراً وأفردها، لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييد بالإسلام، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوءة به، فشبه حاله بحال من استوقد ناراً ما إذ لا يدل إلا على المطلق، لا على كثرة ولا على عهد، والفاء في فلما للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره إن استوقد فهو فاسد من وجوه، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله: { فما ربحت تجارتهم } ، فأغنى عن إعادته هنا.

وأضاءت: قيل متعد وقيل لازم ومتعد، قالوا: وهو أكثر وأشهر، فإذا كان متعدياً كانت الهمزة فيه للنقل، إذ يقال: ضاء المكان، كما قال العباس بن عبد المطلب، في النبي عليه الصلاة والسلام: وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق. والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله، وإذا كان لازماً فقالوا: إن الضمير في أضاءت للنار، وما زائدة، وحوله ظرف معمول للفعل، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى، أي: فلما أضاءت الجهة التي حوله، كما أنثوا على المعنى في قولهم: ما جاءت حاجتك. وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب: جلست ما مجلساً حسناً، ولاقت ما يوم الجمعة، والحمل على المعنى محفوظ، كما ذكرناه، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة، ولا حمل على المعنى.

وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فلما ضاءت ثلاثياً فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة وإما موصوفة، كما تقدم، ولما جوابها: { ذهب الله بنورهم } ، وجمع الضمير في: بنورهم حملاً على معنى الذي، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفاً لفهم المعنى، كما حذفوه في قوله:
-6-

{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا } [يوسف12: 15] الآية.

قال الزمخشري: وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه، انتهى. وقوله: لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام، لأنه قدره خمدت، وأي استطالة في قوله: { فلما أضاءت ما حوله } ، خمدت؟ بل هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله: { فلما ذهبوا به } ، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغاً لاستطالة الكلام. وقوله: مع أمن الإلباس، وهذا أيضاً غير مسلم، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون { ذهب الله بنورهم } هو الجواب، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئاً يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئاً يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب { ذهب الله بنورهم }.

ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى من الإثبات، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت، فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار، انتهى. وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها، لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله: { فلما أضاءت ما حوله } ، قوله: { ذهب الله بنورهم }. وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره، فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله، ويقدر تقادير وجملاً محذوفة لم يدل عليها الكلام، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله، ولا أن يزاد فيه، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه. ولما جوزوا حذف الجواب تكلموا في قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم } ، فخرجوا ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفاً جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم } والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله: { ذهب الله بنورهم } بدلاً من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهر في صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله: { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ، فجعله { ذهب الله بنورهم } بدلاً من هذه الجملة، على سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية، فقد ذكروا جواز ذلك.
-7-

أما أن تبدل جملة فعلية من جملة إسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك، والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدء فيها، ومن جعل الجواب محذوفاً جعل الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين. والباء في بنورهم للتعدية، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة. فإذا قلت: خرجت بزيد؛ فمعناه أخرجت زيداً، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيداً، لم يلزم أنك قمت، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية. وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي، قال: تدخل الباء، يعني المعدية، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو: أقعدته، وقعدت به، وأدخلته الدار، ودخلت به، ولا يصح هذا في مثل: أمرضته، وأسقمته. فلا بد إذن من مشاركة، ولو باليد، إذا قلت: قعدت به، ودخلت به. ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها. ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم؟ ألا ترى أن الله لا يوصف بالذهاب مع النور؟ قال بعض أصحابنا، ولا يلزم ذلك أبا العباس: إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به، كما وصف نفسه تعالى بالمجيء في قوله:

{ وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر89: 22]

والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر:

ديار التي كانت ونحن على منىتحل بنا لولا نجاء الركائب


أي تحلنا ألا ترى أن المعنى تصيرنا حُلالاً غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراماً، فتصير حلالاً بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، ولقوله تعالى:

{ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ } [المؤمنون23: 20]

في قراءة من جعله رباعياً تخريج يذكر في مكانه، إن شاء الله تعالى. ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة، ونسبة الإذهاب إلى الله تعالى حقيقة، إذ هو فاعل الأشياء كلها.


وفي معنى: { ذهب الله بنورهم } ثلاثة أقوال: قال ابن عباس: هو مثل ضرب للمنافقين، كانوا يعتزون بالإسلام، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء، فلما ماتوا سبلهم الله العز، كما سلب موقد النار ضوءه، وتركهم في ظلمات، أي في عذاب.
-8-

الثاني: إن ذهاب نورهم باطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر من كفرهم. الثالث: أبطل نورهم عنده، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا، فهم كرجل أوقد ناراً ثم طفئت فعاد في ظلمة. وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين، وإن عاد على المستوقدين، فذهاب النور هو إطفاء النار التي أوقدوها، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل، فلذلك قال الضحاك: لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحاً عاصفاً فاطفأها، وهذا التأويل يأتي على قول من قال: إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلى فسادهم وعبثهم، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم، وأما إذا قلنا إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها، وإن المراد بها نار العداوة والحقد، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين. وإذا كانت النار مجازية، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقد هو من مجاز الترشيح، وقد تقدم الكلام فيه. وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم، لا العكس. فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور. والمقصود إذهاب النور عنهم أصلاً، ألا ترى كيف عقبه بقوله: { وتركهم في ظلمات }؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة، لكن مما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم.

وقرأ الجمهور: في ظلمات بضم اللام، وقرأ الحسن، وأبو السماك: بسكون اللام، وقرأ قوم: بفتحها. وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير المضعف، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو: كلية، امتنعت الضمة، أو كان مضعفاً نحو: دره، أو معتل العين نحو: سورة، أو وصفاً نحو: بهمة امتنعت الفتحة والضمة. وقرأ قوم: إن ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا جمع جمع، والعدول إلى الفتح تخفيفاً أسهل من ادعاء جمع الجمع، لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوازاً، وإليه في نحو: جفنة وجوبا. وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني: في ظلمة، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كل واحد له ظلمة تخصه، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله. ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان ترك متعدياً لواحد فيحتمل أن يكون: في ظلمات، في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف، ولا يبصرون: في موضع الحال أيضاً، إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالاً متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة.
-9-

ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني، ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني، وإن كان يجوز ظننت زيداً منفرداً لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيداً في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر المبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار. فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرىء القيس:

إذا ما بكى من خلفها انحرفت لهبشق وشق عندنا لم يحول


على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكداً، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه. قال ابن عباس: والظلمات هنا العذاب، وقال مجاهد: ظلمة الكفر، وقال قتادة: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، وقال السدّي: ظلمة النفاق، ولم يذكر مفعول لا يبصرون، ولا ينبغي أن ينوي، لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه.

قرأ الجمهور: { صم بكم عمي } ، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية، لكنها في موضع خبر واحد، إذ يؤول معناها كلها إلى عدم قبولهم الحق وهم سمعاء الآذان، فصح الألسن، بصراء الأعين، لكنهم لم يصيخوا إلى الحق ولا نطقت به ألسنتهم، ولا تلمحوا أنوار الهداية، وصفوا بما وصفوا من الصمم والبكم والعمى، وقد سمع عن العرب لهذا نظائر، أنشد الزمخشري من ذلك أياتاً، وأنشد غيره:

أعمى إذا ما جارتي برزتحتى يواري جارتي الخدر
وأصم عما كان بينهماأذني وما في سمعها وقر


وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين، وليس من باب الاستعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه، صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير:

لدي أسد شاكي السلاح مقذفله لبد أظفاره لم تقلم

-10-

وحذف المبتدأ هناك لذكره، فلا يقال: إنه من باب الاستعارة، إذ هو كقول زهير:

أسد علي وفي الحروب نعامةفتخاء تنفر من صفير الصافر


والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كما ذكرناه من باب المجاز، وذلك لعدم قبولهم الحق. وقيل: وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والنعامي من غير أن يكونوا متصفين بشيء من ذلك، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم. والعرب إذا سمعت ما لا تحب، أو رأت ما لا يعجب، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه. قال تعالى:

{ َأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } [لقمان31: 7] وقالوا:
{ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ } [فصلت41: 5] الآية.

قيل: ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالاً من البهائم وأشبه حالاً من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر. فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى، ولذلك لما أراد ابراهيم، على نبينا وعليه السلام، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال:

{ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [مريم19: 42]؟

وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء، وإن كان قد قاله بعض المفسرين. قال: دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله:

{ وَنَحْشُرُهُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِم عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء17: 97].

وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين: صماً بكماً عمياً، بالنصب، وذكروا في نصبه وجوهاً: أحدها: أن يكون مفعولاً. ثانياً لترك، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم، أو في موضع الحال، ولا يبصرون. حال. الثاني: أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما. الثالث: أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني. الرابع: أن يكون منصوباً على الحال من الضمير في يبصرون، وفي ذلك نظر. الخامس: أن يكون منصوباً على الذم، صماً بكماً، فيكون كقول النابغة:

أقارع عوف لا أحاول غيرهاوجوه قرود تبتغي من تخادع


وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله: { فلما أضاءت ما حوله } ، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم. ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب. ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه: أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الإسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم.
-11-

فهم لا يرجعون: جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي كناية عن عدم قبول الحق، جدير أن لا يرجع إلى إيمان. فإن كانت الآية في معنيين، فذلك واضح، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لا يرجع إليه أبداً، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها. قال قتادة، ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم، وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام، وقيل: لا يرجعون عن الصم والبكم والعمى، وقيل: لا يرجعون إلى ثواب الله، وقيل: عن التمسك بالنفاق، وقيل: إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولاً للهداية، وبعث إليهم رسلاً بالبراهين القاطعة، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم، والجري على مألوف آبائهم، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم. وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعاً وإلى العبد لملابسته له، ولذلك قال في هذه الآية: { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } ، فأضاف هذه الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وقال تعالى:

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُم وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم } [محمد47: 23]،

فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى. وهذه الأقاويل كلها على تقدير أن يكون الرجوع لازماً، وإن كان متعدياً كان المفعول محذوفاً تقديره فهم لا يرجعون جواباً.

-12-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #17  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) مصنف و مدقق

تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) مصنف و مدقق



قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً... }

قال ابن عرفة: كيف شبه (الجمع) بالواحد. فأجيب بأنّه كلية روعي فيها آحادها، أو المراد بالموصول الجمع أو هو واحد بالنوع لا بالشخص، والتشبيه يستدعي مشبها ومشبها به ووجه التشبيه نتيجتة، كما أن القياس التمثيلي يقتضي فرعا وأصلا وعلة جامعة ونتيجة وهي الحكم، فالمشبه المنافقون والمشبه به مستوقد النار. ووجه التشبيه حكى فيه ابن عطية حمسة أقوال (ونتيجته) هو الخسران والندم.

قوله تعالى: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ... }

قال السهيلي في الروض: إن قلت: لم عداه هنا بالباء. وقال في سورة الأحزاب:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } (الأحزاب33: 33)
فعداه بنفسه؟


فأجاب بأن الباء تقتضي الصاحب، فإذا قلت: ذهبت بزيد، فأنت أذهبته وذهبت معه والنور محبوب شرعا فناسب اسناد الذهاب إليه باعتبار الفهم والتصور وإن كان في حق الله تعالى محالا لكنه على معنى يليق به، كما وصف نفسه بالمجيء في قوله:

{ وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } (الفجر89: 22)

والرّجس مذموم شرعا وطبعا فناسب إبعاده عنه (وعدم) إسناده إليه.


قال ابن عرفة: وفي (التعدية) بالباء التي للمصاحبة نوع زيادة وإشعاره (بدوام) الذهاب، وملازمته بسبب ملازمة فاعل الذهاب له، فلا يزال ذاهبا عنهم فهو أشد في عقوبتهم حتى لا يتصور رجوعه (إليهم) بوجه. وتكلم الطيبي (هنا) (في الضياء) والنور.

قال الزمخشري: النور ضوء النهار وضوء كل شيء، وهو نقيض الظلمة، والضياء إفراط الإنارة، فالنور عنده زيادة في الضياء. قال تعالى:

{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً... } (يونس10: 5)

وقدره صاحب المثل السائر بأنّ الضياء هنا (مثبت) والنور منفي.


والقاعدة استعمال الأخص في الثبوت والأعم في النفي فإذا ثبت أعلى الضياء فأحرى أدناه، وإذا انتفى أقل النور (ومبادِئُهُ) فأحرى أكثره أعلاه.

وتعقب عليه صاحب الفلك الدائر بأن يعقوب ابن السكيت نص في (إصلاح) المنطق على أن الضياء هو النور لا فرق بينهما.

وقال بعضهم: قول: من قال: إن القمر مستمد من نور الشمس مخالف لمذهب أهل السنة، ولا يتم إلا على مذهب الطبائعية. ورد بعضهم على الفخر الخطيب في سورة النور عند قول الله تعالى:

{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } (النور24: 35)

قال فيها: إن النور هو الضوء الفياض من الشمس.


(قال): ما يتمّ إلا على القول بالطّبع والطبيعة.

وأجاب ابن عرفة بأنه أخطأ في العبارة فقط، ومراده أنه نور يخلقه الله في القمر عند مقابلة الشمس، ومذهب أكثر أهل السنة أن الظلمة أمر وجودي، وذهب الحكماء والفلاسفة إلى أنها أمر عدمي.

قوله تعالى: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ... }
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #18  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 1-7

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


القراءات: " آذانهم " وبابه بالإمالة: نصير وأبو عمر. " بالكافرين " وما أشبهها مما كان في محل الخفض بالإمالة: أبو عمر وقتيبة ونصير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. " شاء الله " حيث كان بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان.

الوقوف: " ناراً " (لا) لأن جواب " لما " منتظر لما فيها من معنى الشرط مع دخول فاء التعقيب فيها. " لا يبصرون " (ه) " لا يرجعون " (ه) للعطف بأو وهو للتخيير، ومعنى التخيير لا يبقى مع الفصل. ومن جعل " أو " بمعنى الواو جاز وقفه لعطفه الجملتين مع أنها رأس آية. وقد اعترضت بينهما آية على تقدير ومثلهم كصيب. " وبرق " (ج) لأن قوله " يجعلون " يحتمل أن يكون خبر المحذوف، أي هم يجعلون، أو حالاً عامله معنى التشبيه في الكاف، وذو الحال محذوف أي كأصحاب صيب. " الموت " (ط) " بالكافرين " (ه) " أبصارهم " (ط) لأن كلما استئناف. " فيه " (لا) لأن تمام المقصود بيان الحال المضاد للحال الأول " قاموا " (ط) و " أبصارهم " (ط) " قدير " (ه).

التفسير: لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميماً للبيان. ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين، والغائب كأنه شاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد. ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله

{ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } [العنكبوت29: 43]
{ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } [الحشر59: 21]

وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع " " مثل الجليس الصالح كمثل الداري " وأمثال العرب أكثر من أن تحصى، حتى صنف فيها ككتب مشهورة. والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل. ولا يخلو من غرابة، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير. وأما ههنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضرباً من الهدى بحسب الفطرة، ولما نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلاً، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤول حالهم إلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد ناراً في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب. والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله

{ وَخُضْتُم كَالَّذِي خَاضُوا } [التوبة9: 69]

وحذف النون لاستطالته بصلته، أو قصد جنس المستوقدين، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعاً في قوله " بنورهم وتركهم " لم يحتج إلى التكلفات المذكورة، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو،

-1-

{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ } [الجمعة62: 5]

ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضاً. والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر، لأن فيها حركة واضطراباً والإضاءة فرط الإنارة

{ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } [يونس10: 5]

وهي في الآية متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية، مسندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن " ما " مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة، و " حوله " نصب على الظرف، وتأليفه للدوران والإطافة، والعام حول لأنه يدور. وجواب " لما ذهب الله بنورهم " فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظراً إلى المعنى، كما أن الضمير في " حوله " راجع إليه من حيث اللفظ. وقيل: الأولى أن يقال: جوابه محذوف مثل { فلما ذهبوا به } لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار. ثم إن سائلاً كأنه يسأل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفرداً، ويمكن أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم. ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام، وتلك النار، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء، وللباطل صولة، ثم تضمحل، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت. ونار العرفج مثل لثروة كل طماح

{ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائد5: 64]

وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم. وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق " فلما أضاءت " لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً، فإن الضوء شدة النور وزيادته، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس.

-2-

والفرق بين " أذهبه " و " ذهب به " أن معنى " أذهبه " أزاله وجعله ذاهباً، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه. وما يمسك الله فلا مرسل له، فهو أبلغ من الإذهاب، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد، وإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة:

" فتركته جزر السباع ينشنه "


ومنه قوله تعالى { وتركهم في ظلمات } والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير، وقيل: عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم " ما ظلمك أن تفعل كذا " أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان، وفي قوله " لا يبصرون " دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغاً يبهت معها الواصفون. وكذا في إسقاط مفعول " لا يبصرون " وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً. ومحل " لا يبصرون " إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئاً، وإما نصب مفعولاً ثانياً، أو حالاً من هم مثل

{ وَيَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُونَ }
[الأعراف7: 186]

أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار. عن سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به. وكان انتظارهم له كإيقاد النار، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور ثم إنه كان من المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون، لكنهم شبهوا بمن إيفت مشاعرهم فقيل لهم: صم بكم عمي، حيث سدوا عن الإصاغة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم، وأن ينظروا ويستبصروا بعيونهم. وإنما قلنا: إن ما في الآية تشبيه لا استعارة مع أن المشبه مطوي ذكره كما هو حق الاستعارة، لأن ذلك في حكم المنطوق به وإلا بقي الخبر بلا مبتدأ. ومعنى " لا يرجعون " لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها تسجيلاً عليهم بالطبع، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدؤا منه كيف يرجعون.

وقف الهوى بي حيث أنت فليس ليمتأخر عنه ولا متقدم


ومثله حال مريد طريقة الذي له بداية ولازم خلوته وصحبته حتى شرقت له من صفات القلب شوارق الشوق، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس فيرجع القهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل عن يومه أمسه. ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلاً آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف، وإيضاحاً غب إيضاح، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع.
-3-

فيكون تقدير الكلام " مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب " على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعاً نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين. والتمثيلان جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب. ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخرج تدرجاً من الأهون إلى الأغلظ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا: أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به. ألا ترى إلى قوله تعالى

{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ } [يونس10: 24]

كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب، لأن الضمير في " يجعلون " لا بد له من راجع هذا هو التحقيق. وقد يقال: شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضرورياً ليصبح تشبيه المنافقين بهم، ويكون المعنى " مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا " ويكون ذكر المشبهات مطوياً على سنن الاستعارة. والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع. ويقال للسحاب: صيب أيضاً. وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول. والسماء هذه المظلة، والفائدة في ذكره، والصيب لا يكون إلا من السماء، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء. وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على " فيعل " والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقاً، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها وخالطتها، حصل من اختلاطها موجودات شتى. فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئاً بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية. أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكباً يقذف به، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد.

-4-

وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً. ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحاباً وهذا هو الطل، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب، فنزل وكان ثلجاً، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل، فنزل وكان صقيعاً وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيهاً بالثلج، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً. وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب، وفي الربيع وهو داخل السحاب، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً فاستحال مطراً. وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحاباً فبرد فتغلغل فيه الدخان طلباً للنفوذ إلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة ناراً تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد. وإن كان قوياً شديداً غليظ المادة كان صاعقة، وربما وجد مندفعاً فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال. فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى. ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: ارتفع " ظلمات " بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف. والصيب إن كان سحاباً فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل، وإن كان مطراً فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل. ثم إن كان الصيب سحاباً فكونه مكاناً للرعد والبرق ظاهر، وإن كان مطراً فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري:

يا عارضاً متلفعاً ببرودهيختال بين بروقه ورعوده


وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل: وإرعاد وإبراق. ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في " يجعلون " إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور. قال حسان:

يسقون من ورد البريص عليهمبردى يصفق بالرحيق السلسل

-5-

ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق. والبريص نهر من أنهارها. ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر. ولا محل لقوله " يجعلون " لكونه مستأنفاً كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم. ثم سئل: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فاجيب " يكاد البرق يخطف أبصارهم " وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو

{ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة5: 38]

والمراد إلى الرسغ. وليس بعض الأصابع - كالمسبحة مثلاً بجعلها في الأذن - أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص؟ وقوله " من الصواعق " أي من أجل الصواعق نحو: سقاه من الغيمة. وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف، ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته. فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية، أو مصدراً كالعافية والكاذبة. " وحذر الموت " مفعول له كقوله:

وأغفر عوراء الكريم ادخارهوأعرض عن شتم اللئيم تكرماً


والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس. وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة، والجملة معترضة لا محل لها. " يكاد " من أفعال المقاربة. كاد يفعل كذا يكاد كوداً ومكاداً ومكادة وضعت لمقاربة الشيء، فعل أو لم يفعل. فمجرده ينبئ عن نفي الفعل، ومقرونه بالجحد ينبئ عن وقوع الفعل. وخبر كاد فعل مضارع بغير " أن " وهو ههنا " يخطف " والبرق اسمه والخطف الأخذ بسرعة، " كلما أضاء لهم " استئناف ثالث كأنه قيل: كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وفتوره؟ وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه والمفعول محذوف، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. والمشي جنس الحركة المخصوصة وفوقها السعي وفوقه العدو. " وأظلم " إما لازم وهو الظاهر، وإما متعد منقول من ظلم الليل أي أظلم البرق الطريق عليهم بأن فتر عن لمعانه، ومعنى " قاموا " وقفوا وثبتوا في مكانهم من قام الماء جمد. وإنما قيل مع الإضاءة " كلما " ومع الإظلام " إذا " لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، وكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها فخطوا خطوات يسيرة، وليس كذلك التوقف والتحبس، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي الضوء البرق فأعماهم.
-6-

ومفعول " شاء " محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، وهذا الحذف في " شاء " و " أراد " كثير لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله:

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيتهعليه ولكن ساحة الصبر أوسع


وقال عز من قائل

{ لَو أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ } [الأنبياء21: 17]

وكلمة " لو " تفيد انتفاء الثاني لانتفاء الأول. وقد تجيء للمبالغة كقوله " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " والمراد أن عدم العصيان ثابت على كل حال لأنه على تقدير عدم الخوف ثابت، فعلى تقدير الخوف أولى. والشيء أعم العام كما أن الله أخص الخاص، يجري على الجوهر والعرض والقديم والحادث بل على المعدوم والمحال. وهذا العام مخصوص بدليل العقل، فمن الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل والواجب وجوده لذاته، وأما الممكن فإبقاؤه على العدم وكذا إيجاده وإبقاؤه على وجوده، لأن جميع ذلك بقدرة القادر فلا يستغنى آناً من الآنات ولحظة من اللحظات عن تأثير القادر فيه. وقدرة كل قادر على مقدار قوته واستطاعته، ونقضيها العجز. فلا قادر بالحق إلا هو سبحانه وتعالى.


-7-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #19  
قديم 12-15-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق 1-2

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


قوله تعالَىٰ: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } إلى قوله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ }: قال الفَخْر: اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفْسِهِ؛ لأن الغرض من المَثَل تشبيه الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ، والغائب بالشاهدِ، فيتأكَّد الوقوفُ على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل؛ وذلك هو النهاية في الإِيضاح؛ ألا ترَىٰ أنَّ الترغيب والترهيب إِذا وقع مجرَّداً عن ضرب مَثَلٍ، لم يتأكَّد وقوعه في القلب؛ كتأكُّده مع ضرب المثل، ولهذا أكثر اللَّه تعالَىٰ في كتابه المبين، وفي سائر كتبه الأمثالَ، قال تعالَىٰ:


والمَثَل والمِثْل والمَثِيلُ واحدٌ، معناه: الشبيه، قاله أهل اللغة.

و { ٱسْتَوْقَدَ }: قيل: معناه أوقد.

واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد ناراً؛ فقالت فرقةٌ: هي فيمن كان آمن، ثم كفر بالنفاقِ، فإِيمانه بمنزلة النار أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها، وذهابِ النور، وقالت فرقةٌ، منهم قتادة: نطقهم بـــ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» والقُرْآنِ كإِضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كٱنطفائها، قال جمهورُ النحاة: جواب «لَمَّا»: «ذَهَبَ» ويعود الضمير من نورهم على «الذي»، وعلى هذا القولِ يتمُّ تمثيل المنافق بالمستوقِدِ؛ لأنَّ بقاء المستوقِدِ في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق؛ على الخلاف المتقدِّم.

وقال قومٌ: جوابُ «لَمَّا» مضمرٌ، وهو «طُفِئَتْ»، فالضمير في «نُورِهِمْ» على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكونُ في الآخرة، وهو قوله تعالَىٰ:

{ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ... } الآيةَ [الحديد57: 13]


وهذا القول غير قويٍّ.

والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم: الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإِذا فهم، فهو الأخرس، وقيل: الأبكم والأخرس واحدٌ، ووصفهم بهذه الصفات؛ إِذْ أعمالهم من الخطإ وعدم الإِجابة؛ كأعمال من هذه صفته.

و «صُمٌّ»: رفع على خبر الابتداء، إما على تقدير تكرير «أُولَئِكَ»، أو إِضمارهم.

وقوله تعالَىٰ: { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قيل: معناه: لا يؤمنون بوجْهٍ، وهذا إنما يصح أنْ لو كانت الآية في معيَّنينِ، وقيل: معناه: فهم لا يرجعونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيحُ.

{ أَوْ كَصَيِّبٍ }: «أَوْ»: للتخيير، معناه مثِّلوهم بهذا أو بهذا، والصَّيِّبُ المَطَرُ؛ من: صَابَ يَصُوبُ، إِذا انحط من عُلْو إِلى سُفْل.

و { ظُلُمَـٰتٌ }: بالجمع: إِشارة إِلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، ومن حيث تتراكب وتتزيد جُمِعَتْ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفوس؛ بخلاف السحاب والمطر، إذا انجلَىٰ دجنه، فإنه سارٌّ جميل.

واختلف العلماء في «الرَّعْدِ»، فقال ابن عباس ومجاهد وشَهْرُ بن حَوْشَبٍ وغيرهم: هو مَلَكٌ يزجرُ السحابَ بهذا الصوتِ المسموعِ كلَّما خالفتْ سحابةٌ، صاح بها، فإِذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعقُ، واسم هذا الملك: الرَّعْد.
-1-

وقيل: الرَّعْدُ مَلَكٌ، وهذا الصوت تسبيحُهُ.

وقيل: الرعد: اسم الصوْتِ المسموعِ؛ قاله عليُّ بن أبي طالب.

وأكثر العلماء على أن الرعد ملكٌ، وذلك صوته يسبِّح ويزجرُ السحابَ.

واختلفوا في البَرْقِ.

فقال علي بن أبي طالب؛ وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " هُوَ مِخْرَاقُ حَدِيدٍ بِيَدِ المَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ " وهذا أصحُّ ما روي فيه.

وقال ابن عبَّاس: هو سَوط نور بيد المَلَكِ يزجي به السحَابَ، وروي عنه: " أنَّ البرق ملَكٌ يتراءى "

واختلف المتأوِّلون في المقْصِد بهذ المثل، وكيف تترتب أحوالُ المنافقينَ المُوَازِنَةُ لما في المَثَل من الظلماتِ والرعْدِ والبرقِ والصواعِقِ.

فقال جمهور المفسِّرين: مَثَّلَ اللَّه تعالى القُرْآنَ بالصَّيِّبِ، فما فيه من الإشكال عليهم والعَمَىٰ هو الظلماتُ، وما فيه من الوعيدِ والزجْرِ هو الرعْدُ، وما فيه من النُّور والحُجَج الباهرة هو البَرْقُ، وتخوُّفهم ورَوْعُهُمْ وحَذَرُهم هو جَعْلُ أصابعهم في آذانهم، وفَضْحُ نفاقهم، واشتهارُ كفرهم، وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها من الجهادِ والزكاةِ ونحوه هي الصواعقُ، وهذا كله صحيحٌ بيِّن.

وقال ابنُ مسعود: إِن المنافقين في مجلسِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانُوا يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا القرآن، فضرب اللَّه المثل لهم، وهذا وفاقٌ لقول الجمهورِ.

و { مُحِيطٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ } معناه: بعقابهم، يقال: أحاط السلطان بفلانٍ، إِذا أخذه أخذًا حاصرًا من كل جهة، ومنه قوله تعالَىٰ:

{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [الكهف18: 42].


و { يَكَادُ } فعل ينفي المعنَىٰ مع إِيجابه، ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخَطْفُ: الانتزاعُ بسرعة، ومعنى { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } ، تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البَرْقَ في المثل الزجْرَ والوعيدَ، قال: يكاد ذلك يصيبهم.

و «كُلَّمَا»: ظرفٌ، والعامل فيه «مَشَوْا»، و «قَامُوا» معناه: ثَبَتُوا، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عَبَّاس وغيره: كلَّما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحججُ، أنسوا ومشوا معه، فإذا نَزَلَ من القرآن ما يعمهون فيه، ويضلون به، أو يكلَّفونه، قاموا، أي: ثَبَتُوا على نفاقهم.

وروي عن ابن مسعودٍ؛ أنَّ معنى الآية: كلَّما صلُحَتْ أحوالهم في زروعهم ومواشِيهِمْ، وتوالَتْ عليهم النّعم، قالوا: دين محمَّد دِينٌ مبارَكٌ، وإِذا نزلت بهم مصيبةٌ أَو أصابتهم شدَّة، سَخِطُوه وثَبَتُوا في نفاقهم.

ووحَّد السمع؛ لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.

وقوله سبحانه: { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لفظه العمومُ، ومعناه عند المتكلِّمين: فيما يجوز وصفه تعالَىٰ بالقدرة عليه، وقديرٌ بمعنَىٰ قَادِرٍ، وفيه مبالغةٌ، وخَصَّ هنا سبحانه صفتَهُ الَّتي هي القدرةُ بالذِّكُر؛ لأنه قد تقدَّم ذكر فعلٍ مضمَّنه الوعيدُ والإِخافةُ، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك.
-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #20  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 1-8

تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 1-8

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


اعلم أن المقصود من ضرب المِثَال أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً.

قوله: " مثلهم " مبتدأ و " كمثل " جار ومجرور خبره، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول: إنّ " كاف " التشبيه لا تتعلّق بشيء، والتقدير: مثلهم مستقر كَمَثَلِ. وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون " الكاف " اسماً هي الخبر، ونظيره قول الشاعر: [البسيط].

220- أَتَنْتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍكَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ


وهذا مذهب الأخفش: يجيز أن تكون " الكاف " اسماً مطلقاً.

وأما مذهب سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة، بخلاف الآية.

والذي ينبغي أن يقال: إن " كاف " التشبيه لها ثلاثة أحوال:

حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلة، أو مجرورة بحرف، أو إضافة. مثال الفاعل: [البسيط]

221- أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى.................................


البيت.

ومثال جَرِّها بحرف قول امرىء القَيْسِ: [الطويل]

222- وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَاتَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي


وقوله: [الوافر]

223- وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيٍّإذَا وَنَتِ الرِّكَابُ جَرَى وَثابَا


ومثال جَرِّها بالإضافة قوله: [السريع أو الرجز]

224- فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ


وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً، وهي الواقعة صلة، نحو: جاء الذي كزيد؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة، وهذا ممتنع عند البصريين. وحال يجوز فيها الأمران، وهي ما عدا ذلك نحو: " زيد كعمرو ".

وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة، أي: مثلهم مثل الذي، ونظّره بقوله: " فَصُيِّرُوا مثل كعصف " كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير: صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد، فليست زائدةً على هذا التأويل، وهذا جواب عن سؤال أيضاً، وهو أن يقال: قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ } يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شَبّه أحدهما بالآخر؟

فالجواب: أن يقال: استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: قصّتهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً، وكذا قوله:

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [الرعد13: 35]

أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة.



{ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [النحل16: 60]

أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
-1-

{ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } [الفتح48: 29]

أي: وصفهم وشأنهم المتعجّب منه، ولكن المَثَل - بالفتح - في الأصل بمعنى مثل ومثيل نحو: شِبْه وشَبَه وشَبِيه. وقيل: بل هي في الأصل الصِّفة.

وأما المثل في قولهم: " ضرب مثلاً " فهو القول السَّائر الذي فيه غرابةٌ من بعض الوجوه، ولذلك حوفظ في لفظه فلم يغير.

و " الذي ": في محلّ خفض بالإضافة، وهو موصول للمفرد المذكّر، ولكن المراد به - هنا - جمع ولذلك روعي مَعْنَاه في قوله: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأولى أن يقال: إنَّ " الذي " وقع وصفاً لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه.

والتقدير: ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد، أو الجمع الذي اسْتَوْقَدَ؛ ويكون قد روعي الوصف مرة، فعاد الضمير عليه مفرداً في قوله: { ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } و " حوله " ، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعاً في قوله: " بنورهم " ، و " تركهم ".

وقيل: إنَّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المُسْتوقد، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد، ومثله قوله:


وقيل: المعنى: ومثل كل واحد منهم كقوله:

{ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [غافر40: 67]

أي: يخرج كلّ واحد منكم. ووهم أبو البقاء، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النُّون تخفيفاً، وأنّ الأصْل: " الذين " ثم خففت بالحذف، وكأنه مثل قوله تعالى:

{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة9: 69]،

وقول الشاعر: [الطويل]

225- وَإِنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْهُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ


والأصل: " كالذين خَاضُوا " " وإنَّ الذين حانت ". وهذا وَهْم؛ لأنه لو كان من باب ما حذفت النون منه لوجب مُطَابقة الضمير جمعاً كما في قوله تعالى:

{ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة9: 69]

و " دِمَاؤُهُمْ " ، فلما قال تعالى: { ٱسْتَوْقَدَ } بلفظ الإفراد تبيّن أحد الأمرين المتقدّمين: إمّا بصلة من باب وقوع المفرد موقع الجمع؛ لأن المراد به الجنس، أو أنه من باب ما وقع فيه من صفة لموصوف يفهم الجمع.


وقال الزمخشري ما معناه: إنَّ هذه الآية مثل قوله تعالى:

{ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة9: 69]،

واعتل لتسويغ ذلك بأمرين.


أحدهما: أن " الذي " لما كان وصلةً لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته، قال: " ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته، ثم اقتصروا منه على اللاَّم في أسماء الفاعلين والمفعولين ".

والأمر الثاني: أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامةٌ لزيادة الدّلالة، ألا ترى أنَّ سائر المَوْصُولاَتِ لَفْظُ الجَمْعِ والمفرد فيهن سواء؟

وهذا القول فيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن قوله ظاهر في جَعْلِ هذه الآية من باب حذف نون " الذين " ، وفيه ما تقدّم من أنه كان ينبغي أن يُطَابق الضمير جمعاً كما في الآية الأخرى التي نظر بها.
-2-

والوجه الثاني: أنه اعتقد كون الموصول بقيته " الذي " ، وليس كذلك، بل " أل " الموصولة اسم موصول مستقلّ، أي: غير مأخوذ من شيء، على أنَّ الراجح من جهة الدَّليل كون " أل " الموصولة حرفاً لا اسماً كما سيأتي.

وليس لمرجّح أن يرجّح قول الزمخشري بأنهم قالوا: إنَّ الميم في قولهم: " مُ الله " بقية " أيمن " ، فإذا انتهكوا " أيمن " بالحذف حتى صار على حرف واحد، فأولى أن يقال بذلك فيما بقي على حرفين، لأن " أل " زائدة على ماهية " الذي " ، فيكونون قد حذفوا جميع الاسم، وتركوا ذلك الزائد عليه، بخلاف " ميم " " أيمن " ، وأيضاً فإن القول بأن " الميم " بقية " أيمن " قول ضعيف مردود يأباه قول الجُمْهُور.

وفي " الَّذي " لُغَاتٌ، أشهرها ثبوت الياء ساكنةً وقد تُشَدَّد مكسورة مطلقاً، أو جاريةً بوجوه الإعراب، كقوله: [الوافر]

226- وَلَيْسَ المَالُ فَاعْلَمْهُ بِمَالٍوَإِنْ أَرْضَاكَ إلاَّ لِلَّذِيِّ
يَنَالُ بِهِ العَلاَءَ وَيَصْطَفِيهِلأَقْرَبِ أَقْرَبَيْهِ وَلِلْقَصِيِّ


فهذا يحتمل أن يكون مبنيًّا، وأن يكون معرباً. وقد تُحْذَفُ ساكناً ما قبلها؛ كقول الآخر: [الطويل]

227- فَلَمْ أَرَ بَيْتاً كَانَ أَحْسَنَ بَهْجَةًمِنَ اللَّذْ بِهِ مِنْ آلِ عَزَّةَ عَامِرُ


أو مكسوراً؛ كقوله: [الرجز]

228- واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكَانَتْ بَرَّاأَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخِرَّا


ومثل هذه اللغات في " التي " أيضاً.

قال بعضهم: " وقولهم: هذه لغات ليس بجيِّد؛ لأن هذه لم ترد إلاّ ضرورةً، فلا ينبغي أن تسمى لغاتٍ ".

و " استوقد ": " استفعل " بمعنى " أَفْعَل " ، نحو: " استجاب " بمعنى " أَجَابَ " ، وهو رأي الأخفش وعليه قول الشاعر: [الطويل]

229- وَدَاعٍ دَعَا: يَا مَنْ يُجِيبُ إلى الهُدَىفَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ


أي: فلم يجبه.

وقيل: بل السّين للطلب، ورجّح قول الأخفش بأن كونه للطَّلب يستدعي حذف جملة، ألا ترى أن المعنى: استدعوا ناراً فأوقدوها، فلما أضاءت؛ لأن الإضاءة لا تنشأ عن الطلب إنما تنشأ عن الإيقاد.

والفاء في قوله: " فَلَمَّا " للسبب.

وقرأ ابن السَّميفع: " كمثل الذين " بلفظ الجمع، واستوقد بالإقراد، وهي مُشْكلة، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهّم، أي: كأنه نطق بـ " مَنْ "؛ إذ أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم، " ضربني وضربت قومك " أي: ضربني من، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من " استوقد " ، والعائد على الموصول مَحْذوف، وإن لم يكمل شرط الحذف، والتقدير: استوقدها مستوقدٌ لهم.
-3-

وهذه القراءة تقوّي قول من يقول: إنّ أصل " الذي ": " الذين " ، فحذفت النون.

و " لَمَّا " حرف وجوب لوجوب هذا مذهب سيبويه.

وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء، أنها ظرف بمعنى " حين " ، وأن العامل فيها جوابها، وقد ردّ عليه بأنها أجيبت بـ " ما " النافية، و " إذا " الفُجَائية، قال تعالى:


وقال تعالى:

{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت29: 65]،

و " ما " النافية، و " إذا " الفُجَائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما، فانتفى أن تكون ظرفاً.


وتكون " لما " أيضاً جازمة لفعل واحدٍ، معناها نَفْي الماضي المتّصل بزمن الحال، ويجوز حذف مجزومها؛ قال الشاعر: [الوافر]

230 - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّافَنَادَيْتُ القُبُورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ


وتكون بمعنى " إلاّ " قال تعالى:


و " أضاء ": يكون لازماً ومتعدياً، فإن كان متعدياً، فـ " ما " مفعول به، وهي موصولة، و " حوله " ظرف مكان مخفوض به، صِلةٌ لها، ولا يتصرّف، وبمعناه: حَوَال؛ قال الشاعر: [الرجز].

231- وأَنَا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوَالَكَا


ويُثَنَّيان؛ قال عليه الصلاة والسلام: " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ".

ويجمعان على " أَحْوَال ".

ويجوز أن تكون " ما " نكرة موصوفة، و " حوله " صفتها، وإن كان لازماً، فالفاعل ضمير " النار " أيضاً، و " ما " زائدة، و " حوله " منصوب على الظرف العامل فيه " أضاء ".

وأجاز الزمخشري أن تكون " ما " فاعلة موصولة، أو نكرة موصولة، وأُنِّثَ الفعل على المعنى، والتقدير: فلما أضاءت الجهةُ التي حوله أو جهةٌ حوله.

وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكون منصوبة على الظرف، وهي حينئذ: إما بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والتقدير: فلما أضاءت النَّار المكان الذي حوله، أو مكاناً حوله، فإنه قال: يقال: ضاءت النّار، وأضاءت بمعنى، فعلى هذا تكون " ما " ظرفاً.

وفي " ما " ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون بمعنى الذي.

والثاني: هي نكرة موصوفة، أي: مكاناً حوله.

والثالث: هي زائدة.

وفي عبارته بعض مُنَاقشة، فإنه بعد حكمه على " ما " بأنها ظرفية كيف يُجَوِّزُ فيها - والحالة هذه - أن تكون زائدة، وإنما أراد في " ما " هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه.

وقول الشاعر: [الطويل]

232- أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْدُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الجَزْعَ ثَاقِبُهْ


يحتمل التعدّي واللزوم كالآية الكريمة.

وقرأ ابن السَّمَيْفع: " ضاءت " ثلاثياً.

قوله: " ذهب الله بنورهم " هذه الجملة الظاهر أنها جواب لـ " ما ".
-4-

وقال الزمخشري: " جوابها محذوف، تقديره: فلما أضاءت خَمَدَتْ " وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، وجعل جملة قوله: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل.

وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين:

أحدهما: أن هذا التقدير مع وجود ما يغني عنه، فلا حاجة إليه؛ إذ التقديرات إنما تكون عند الضَّرورات.

والثَّاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية.

و " بنورهم " متعلّق بـ " ذهب " ، والباء فيه للتَّعدية وهي مُرَادفة للهمزة في التَّعدية، هذا مذهب الجمهور.

وزعم أبو العباس أنَّ بينهما فرقاً، وهو أن الباء يلزم معها مُصَاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفِعْلِ الذي قبله، والهزة لا يلزم فيها ذلك.

فإذا قلت: " ذهبت بزيد " فلا بُدَّ أن تكون قد صاحبته في الذَّهَاب فذهبت معه.

وإذا قلت: أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألاَّ يكون.

وقد رد الجمهور على المُبَرّد بهذه الآية؛ لأن مصاحبته - تعالى - لهم في الذهاب مستحيلة.

ولكن قد أجاب [أبو الحسن] ابن عُصْفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون - تعالى - قد أسند إلى نفسه ذهاباً يليق به، كما أسند إلى نفسه - تعالى - المجيء والإتيان على معنى يليق به، وإنما يُرَد عليه بقول الشاعر: [الطويل].

233- دِيارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنَىتَحُلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَّكائِبِ


أي: تجعلنا جلالاً بعد أن كُنَّا مُحْرِمِين بالحج، ولم تكن هي مُحْرِمَة حتى تصاحبهم في الحِلِّ؛ وكذا قول امرىء القيس: [الطويل]

234- كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِكَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ


" الصفواء " الصخرة، وهي لم تصاحب الذي تزله.

والضمير في " بنورهم " عائد على مَعْنَى الذي كما تقدم.

وقال بعضهم: هو عائد على مُضَاف محذوف تقديره: كمثل أصحاب الذي استوقد، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير، قال: حتى يتطابق المشبه والمشبه به؛ لأنّ المشبه جمع، فلو لم يقدر هذا المُضَاف، وهو " أصحاب " لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد. ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على مَنْعِ تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان، فلم يقع التشبيه إلاَّ بين قصَّتين إحداهما مُضافة إلى جمع، والأخرى إلى مُفْرد.

قوله: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ههذه جملة معطوفة.

فإن قيل: لم قيل: ذهب بنورهم، ولم يقل: أذهب الله نورهم؟

فالجواب: أن معنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهباً، ومعنى ذهب به: إذا أخذه، ومضى به معه، ومنه: ذهب السُّلطان بماله: أخذه، قال تعالى:

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [يوسف12: 15]

فالمعنى: أخذ الله نوره، وأمسكه، فهو أبلغ من الإذهاب، وقرأ اليماني: " أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ ".
-5-

فإن قيل: هلاّ قيل: ذهب الله بضوئهم [لقوله: { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ }؟

الجواب: ذكر النور أبلغ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة].

فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [الكمال، وبقاء] ما يسمى نوراً والغرض إزالة النُّور عنهم بالكلية، أَلاَ ترى كيف ذكر عقيبه: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } والظلمة عبارة عن عدم النور.

وقوله: [ { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ] هذه جملة معطوفة على قوله: " ذهب الله " ، وأصل الترك: التخلية، ويراد به التّصيير، فيتعدّى لاثنين على الصَّحيح؛ كقول الشَّاعر: [البسيط]

235- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِفَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ


فإن قلنا: هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير، والمفعول الثاني: " في ظلمات " و " لا يبصرون " حال، وهي حال مؤكدة؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ.

وصاحب الحال: إما الضمير المنصوب، أو المرفوع المُسْتَكِنّ في الجار والمجرور.

ولا يجوز أن يكون " في ظلمات " حالاً و " لا يبصرون " هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والخبر لا يؤتى به للتأكيد، فإذا جعلت " في ظلمات " حالاً فهم من عدم الإبصار، فلو يفد قولك بعد ذلك: " لا يبصرون " إلا التَّأكيد، لكن التأكيد ليس من شَأْنِ الأخبار، بل من شأن الأحوال؛ لأنها فضلات.

ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرىء القيس: [الطويل]

236- إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُبِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ


أعربوا: " شقّ " مبتدأ و " عندنا " خبره، و " لم يُحَوَّلِ " جملة حالية مؤكدة؛ قالوا: وجاز الابتداء بالنكرة، لأنه موضع تفصيل، وأبوا أن يجعلوا " لم يُحَوَّلِ " خبراً، و " عندنا " صفة لـ " شق " مُسَوِّغاً للابتداء به قالوا: لأنه فهم معناه من قوله: " عندنا "؛ لأنه إذا كان عنده عُلِمَ منه أنه لم يُحَوَّل.

وقد أعربه أبو البَقَاءِ كذلك، وهو مردود بما ذكرت.

ويجوز إذا جعلنا " لا يبصرون " هو المفعول الثّاني أن يتعلّق " في ظُلُمَاتٍ " به، أو بـ " تركهم " ، التقدير: " وتركهم لا يبصرون في ظلمات ". وإن كان " ترك " متعدياً لواحد كان " في ظُلُمَاتٍ " متعلّقاً بـ " تركهم " ، و " لا يبصرون " حال مؤكّدة، ويجوز أن يكون " في ظُلُمَاتٍ " حالاً من الضَّمير المنصوب في " تركهم " ، فيتعلّق بمحذوف، و " لا يبصرون " حال أيضاً، إما من الضمير في تركهم، فيكون له حالان، ويجري فيه الخلاف المتقدّم، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله، فتكون حالين متداخلتين.
-6-
فصل في سبب حذف المفعول

فإن قيل: لم حذف المفعول من " يبصرون "؟

فالجواب: أنه من قبيل المَتْرُوك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بِالبَالِ، لا من قبيل المقدّر المَنْوِيّ كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً.

قال ابن الخطيب: ما وجه التمثيل في أعطي نوراً، ثم سلب ذلك النور، مع أنّ المنافق ليس هو نور، وأيضاً أن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان، وأيضاً مستوقد النَّار قد اكتسب لنفسه النور، والله - تعالى - ذهب بنوره، وتركه في الظُّلمات، والمنافق لم يكتسب خيراً، وما حصل له من الحيرة، فقد أتي فيه من قبل نفسه، فما وجه التَّشبيه؟

والجواب: أنَّ العلماء ذكروا في كيفية التَّشبيه وجوهاً:

أحدها: قال السّدي: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله - عليه الصلاة والسلام - إلى " المدينة " ثم إنهم نافقوا، والتشبيه - هاهنا - في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة من الدنيا، وأما المتحيّر في الدِّين، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبَد الآبدين.

وثانيها: إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا مُنَافقين من أول الأمر، فهاهنا تأويل آخر.

قال ابن عباس: وقتادة، ومقاتل، والضحاك، والسدي، والحسن: نزلت في المُنَافقين يقول: مَثَلُهُمْ في نفاقهم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مَغَارَةٍ، فاستدفأ، ورأى ما حوله فاتَّقَى مما يخاف، فَبَيْنَا هو كذلك إذْ طُفِئَتْ ناره، فبقي في ظلمة خائفاً متحيراً، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، وأورثوهم، وقاسموهم الغَنَائم، وسائر أحكام المسلمين، فذلك نورهم، فإذَا ماتوا عادوا إلى الظُّلْمَة والخوف، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدَّائم مثل الذّرة، شبههم بمستوقد النَّار الذي انتفع بضوئها قليلاً، ثم سلب ذلك، فدامت حسرته وحيرته للظُّلمة العَظِيمةِ التي جاءته عقيب النُّور اليسير.

وثالثها: أن نقول ليس التَّشبيه في أنَّ للمنافق نوراً، بل وجه التَّشْبيه بالمستوقد أنه لما زال النُّور عنه تحيَّروا تحيُّرَ من كان في نور ثم زال عنه أشَدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة، لكنه - تعالى - ذكر النور في مستوقد النَّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظُّلمة الشديدة، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة.

ورابعها: قال مُجَاهد: إنَّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنِّفَاق، ومن قال بهذا قال: إن المثل إنما عطف على قوله:

-7-

فإن قيل: كيف صار ما يُظْهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلاً بالنور، وهو حين تكلّم بها أبطن خلافها؟

قلنا: لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملاً به لأتم النور لنفسه، لكنه لمَّا لم يفعل لم يتم نُوره، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نوراً؛ لأنه قول حقّ في نفسه.

وخامسها: يجوز أن يكون استيقاد النار عبارةً عن إظهار المُنَافق كلمة الإيمان، وإنما سمى نوراً؛ لأنه يتزين به ظاهراً فيهم، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بِهَتْكِ ستر المُنَافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره، فيظهر له اسم النِّفَاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان، فيبقى في ظُلُمَاتٍ لا يبصر؛ إذ النُّور الذي كان له قبل كَشْفِ الله أمره قد زال.

وسادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضَّلاَلة بالهُدَى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هُدَاهم الذي باعوه بالنار المُضِيئة ما حول المستوقد والضَّلاَلة التي اشتروها، وطبع بها على قُلُوبِهِمْ بذهاب الله بنورهم، وتركه إيّاهم في ظلمات.

وسابعها: يجوز أن يكون المستوقد - هاهنا - مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، فإنَّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله تعالى:


وثامنها: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود، وانتظارهم لخروج النبي - عليه الصلاة والسلام - لإيقاد النَّار، وكفرهم به بعد ظهوره، كزوال ذلك النور؛ قاله محمد بن كَعْبٍ، وعطاء.

والموقود - هنا - هو سطوع النَّار وارتفاع لهبها.

والنَّار: جوهر لطيف مضيء حامٍ محرق، واشتقاقها من نَارَ يَنُورُ إذا نفر؛ لأن فيها حركةً واضطراباً، والنور مشتق منها، وهو ضوؤها، والمنار العلامة، والمَنَارة هي الشَّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة، ومنه النُّورَة لأنها تطهر البدن، والإضاءة فرط الإنارة، ويؤيده قوله تعالى:


وما حول الشيء فهو الذي يتّصل به تقول: دار حوله وحواليه.

والحَوْل: السَّنة؛ لأنها تحول، وحال عن العَهْدِ أي: تغير، ومنه حال لونه.

والحوالة: انقلاب الحَقّ من شخص إلى شخص، والمُحَاولة: طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له، والحَوَل: انقلاب العَيْنِ، وَالحِوَل: الانقلاب قال تعالى:


والظّلمة: عدم النُّور عما من شأنه أنْ يَسْتَنِيرَ، والظّلم في الأصل عِبَارَةٌ عن النُّقصان قال تعالى:


والظّلم: الثلج، لأنه ينقص سريعاً. والظَّلَمُ: ماء آسنٌ وطلاوته وبياضه تشبيهاً له بالثلج.

-8-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:42 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.