إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > منتدى القرآن الكريم لمشاركات الأعضاء

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #1  
قديم 02-07-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي تفسير سورة البقرة (19) الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

الثلاثاء 15 ربيع الأول 1433
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[75].

لما بين الله سبحانه قساوة قلوبهم المنبئة عن بعدهم من الإيمان التفت إلى المؤمنين يؤيسهم من إيمان هؤلاء وفلاحهم، تسلية منه سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما كان يشتد حرصه عليهم من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم والتبكيت لهم، منكراً طمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إيمانهم قائلاً: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ أيها المؤمنين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ أي: يؤمن بنو إسرائيل لكم بعد ما علمتم من تفاصيل أحوال أسلافهم المؤيسة عنهم، وهم متماثلون في طبائعهم الذميمة، وأخلاقهم الفاسدة، وقلوبهم القاسية، لا يصدر منهم إلا مثل ما صدر من أسلافهم ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ سماعاً واضحاً ليس فيه التباس، ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يحرفونه من بعد ما ضبطوه وفهموه، ولم تشتبه عليهم صحته، بل تحريفهم لكلام الله عن عمد وسوء قصد مما لا يصح أن يكون لهم فيه عذر من سوء الفهم ونحوه، ولذا قال ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعني يعلمون المعني المقصود تماماً بلا إشكال ولا نسيان ولا ذهول، وإنما لمقاصد نفسية وأغراض مادية نفعية، وهذا فسوق عميق لا يرجى معه إيمان، وهذا إخبار من الله عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة للأنبياء، وأن بقاياهم في العصر المحمدي لا يزالون على مثل ما كان عليه أسلافهم.

وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يطعمون في إيمان اليهود أكثر مما يطعمون في إسلام المشركين، وذلك لما عندهم من أصل التوحيد، ولما ورثوه من الكتاب الذي فيه ذكر نبي الإسلام وأوصافه، والذي جاءهم بكتاب مصدق لما معهم في الجملة، وفيه تجلية للشبهات وحلول للمشكلات، وفيه إباحة لبعض ما حرم عليهم من الطيبات، فكان طمع أسلافنا في إيمان اليهود مبنياً على وجه نظري معقول، ولكن الله العليم بالسرائر يعلم أن لا وجه لهذا الطمع وليس فيه جدوي، لأنهم انحرفوا بحقيقة الدين الذي هو رابطة روحية قوية بين الأمم، وهداية للقلوب الفطرية فجعلوه رابطة جنسية عصبية يريدون بن الانفصال عن غيرهم والاستعلاء عليهم، ويتصرفون بالنصوص على حسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية، ويريدون أن يجعلوا من دينهم أداة تسلط على الأمم والشعوب في النواحي السياسية والاقتصادية بضروب من أنواع الافتراء على الله، كما سنبين طرفاً منه عند كلام على الآية (79) قريباً.

فالله سبحانه وتعالى لم يؤيس أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هداية هؤلاء إلا بعد أن قص عليهم نماذج منتنة من قبائح أفعالهم، وسوء أخلاقهم، وخبث دفائن أنفسهم، واستعصاء تربيتهم، والعجب العجاب أن القرد الأصلي فيه قابلية للتربية والتعليم، وهذه الأمة الخبيئة ليس فيها قابلية لذلك. أمة اللعنة والغضب خصص الله من وحية المبارك مائتين وستاً وستين آية لكشف أستارها، وبيان مخازيها، وخبث قلوبها، وفساد مقاصدها وأعمالها، وخيبة جميع وسائل التربية فيها، آيات كثيرات عظيمات بينت لنا كيف اجتبى الله هذه الأمة وتولاها بعظيم ألطافه ورعايته، وبوأها مبوأ صدق، ونجاها ممن عمل على إفنائها ورزقها من صنوف الخيرات، وأولاها من نعمه وآلائه، ما لم يحظ به غيرها، وآتاها بينات من الأمر، وفضلها على عالمي زمانها، ورباها بسياط المواعظ وقوارع العقوبات، من تقتيل النفوس، وإنزال الصاعقة، وأخذ الرجفة، ورفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، ومسخ بعضهم قردة وخنازير، إلى غير ذلك مما في مقابلته معجزات باهرة وإنعامات فاخرة، كتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وتفجير العيون من صخرة صغيرة لا يمكن في المحسوس أن يخرج منها أصغر قارورة، إلى غير ذلك من صنوف التربية والإكرام مما لم يكن لها تأثير كبير.

أقول: بعد سرد الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأحوال هؤلاء وسوء مقابلتهم للنعم، يقول لنا سبحانه: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ حقاً إن هذا مستحيل، إنهم على عرق راسخ في العناد والجحود، إنهم من أشد الناس استكباراً عن الإسلام، وإيذاء لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته إلى يوم القيامة، وإن الطمع في هدايتهم طمع في غير مطمع، ولذا نرى الله سبحانه يملي على رسوله والمؤمنين، ويقنعهم بأن لا يطمعوا في هداية هؤلاء.

وقد جمع الله بين رسوله والمؤمنين في استنكاره الطمع في هدايتهم لمشاركة المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم في آماله والآمه، وأوضح لهم بطريقة واضحة استحالة الإيمان، مخبراً لهم عن حقيقة واضحة جارية منهم، وهي أن موسى عليه السلام بعد ما اختار سبعين رجلا ممن يتوسم فيهم الخير والصلاح، أو ممن لم يعبدوا العجل، واقترب من الطور، وأوحي الله إليه التوراة ، قالوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55] ، ويكلمنا كما كلمك، إذ ليس لك ميزة علينا، وما قيمتك إلا بنا، ﴿فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ﴾.

ثم إن موسى ضرع إلى الله قائلا: كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهكلت خيارهم ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ [الأعراف: 155] إلى آخر القصة، ثم بعد ما أنجاهم الله تاب عليهم وقبل توبتهم، حيث قال موسى: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 156]، ورجعوا مع موسى عليه السلام، وقد سمعوا كلام الله من موسى، وعلقوه غاية الفهم، وصدقوا به أنه واحي الله، ثم أخذوا في تحريفه بأن حرفوه عن وجه الحق إلى ما يريدون مما يوافق أغراضهم الشخصية ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ لم يلتبس عليهم شيء، يوجب التأويل والتحريف، ولكنها المقاصد السيئة في نفوس خبيثة لا تذعن للحق أبداً.

وكما أن هدايتهم مستعصية ولا مطمع فيها، فإن هداية أصحاب المبادئ العنصرية والمذاهب المادية من الشيوعية والبعثية وذيولها، مستصعب جداً، لأنها كلها من التعالىم اليهودية المعقدة والمركز فيها حب المادة والأشخاص، وتقديس المادة والأشخاص، وفيها تعالىم حزبية سياسية هادفة إلى الاستعلاء على الناس، وافتراسهم، ونهب أموالهم، وإهلاك الحرث والنسل، تعالىم يهودية تذوقت شعوب الأرض منها الأمرين، وأمة الفساد تتفكه على قول أفراخها بهم.

تنبيه: قد يتوهم متوهم من قوله تعالى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ أنهم سمعوه مشافهة، وقد أوضحت أنهم سمعوه من موسى؛ لأن موسى عليه السلام هو الذي اختصه الله بالتكليم، وأما ما رواه ابن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنهم سمعوه، سمعوا صوتاً كصوت الشبور - يعنى: البرق -[1]، فهذا حديث باطل لا يصح من جهة سنده، لأن فيه مناكير، ولا من حهة متنه، لأنه مخالف للقرآن من اختصاص موسى بالتكليم. قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾ [76، 77].

ويخبر الله سبحانه عن فريق منهم ينافقون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الأنصار، لما بينهم وبين اليهود من المخالفة، وأنهم إذا التقوا بهؤلاء المؤمنين قالوا لهم: آمنا بنبيكم أنه الحق وأنه المذكور عندنا في التوراة، ولكنهم إذا خلا بعضهم إلى بعض أخذوا يتلاومون، ويناقش بعضهم بعضاً، ويقول للفريق المتكلم: كيف تحدثونهم بما بين الله في التوراة وفتح عليكم من العلم، ألا تخشون أنهم يقيمون عليكم الحجة بالإيمان بنبيهم ما دمتم قد اعترفتم لهم أنه حق مذكور في كتابكم.

والعجب من قولهم: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ يعنى: تكون الحجة لهم عليكم عند ربكم في الدار الآخرة، غير مبالين بتلاعبهم في الحياة الدنيا، وإنما تلاومهم ومناقشتهم فيما بينهم أنهم كيف يعترفون للمؤمنين بما يقيمون به عليهم الحجة يوم القيامة، لأنهم اعترفوا لهم بأن نبيهم هو الحق المذكور في التوراة، ثم لم يؤمنوا به، وقد أخذ عليهم العهد التوراة أن يؤمنوا به. ولذا قال الله متسائلاً ومفنداً خطتهم: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾.

هل يجهلون علم الله بحالهم؟ وهل يجهلون أن الله مقيم عليهم الحجة في الدنيا والآخرة، لأنه أوضح لهم نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه في التوراة؟ وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن الحجة عليهم قائمة بدون هذا الحوار.

نعم، الحجة قائمة عليهم لو لم يتفوهوا مع المؤمنين بأي كلمة، الحجة قائمة عليهم من الله سبحانه، قائمة عليهم وعلى النصارى أيضاً، لأن الله أخبرهم بصفاته وأخذ عليهم الميثاق بالإيمان به، فهم مطالبون بذلك جميعاً، والحجة قائمة عليهم لو كانوا يعقلون، ولكن أين لهم من العقل الفطري الصحيح، ومع هذا يقول بعضهم لبعض: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. ياللسخرية من هذا التعقل الذي يريدونه ويتحدثون به ويتساءلون عنه، إنه عجب إذا حصل النفاق من بعضهم، فأفضى إلى المسلمين بما أفضى، ولكن العجب ممن لم ينافق كيف يكون منطقة كذلك.

وأصل الفتح في كلام العرب الحكم والقضاء، ومنه قوله تعالى حكاية عن شعيب: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 89]. فالمعنى: كيف تحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضى فيكم، ومن حكمه عليهم أخذه الميثاق منهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فهم يقولون لهم: إن الذي تحدثونهم به موافق لما في القرآن فلهم الحق أن يقولوا: لولا أن محمداً نبي لما علم هؤلاء به من كتابهم فيمسكون كلامكم حجة عليكم، وكلامهم هذا كلام ساقط، لأن الحجة قائمة عليهم حتى لو أجمعوا على الإنكار.

وأيضاً ففي هذا إلحاد في أسماء الله، كانهم لا يعترفون بعلمه المحيط بالسر والإعلان، فموقفهم هذا زيادة في جريمتهم، ثم إن خطتهم خطة ضعف وخسة، والرجولة الصحيحة تقضي عليهم بخلاف ذلك من الثياب وعدم التذبذب، ولكن هذه طبيعة الذي يعلن خلاف ما يبطن، ويضطر إلى المجاملة أو المداهنة والنفاق، فإذا صفا له الجو مع رفاقه أخذ يحمسهم ويؤنبهم على شيء لو وقف موقفهم لقال مثل ما قالوه.

والذي أخبرنا الله به في هذه الآية من بعض فضائحهم إنما هو ليقطع جميع آمالنا في هدايتهم، لأن قلوبهم مجدبة جافة قاسية أشد من قسوة الحجارة التي لا يلين لها ملمس، ومما يجدر بالذكر أن الفريق المشار إليه في الآيات الثلاث السابقة هم العلماء العارفون بحقائق ما أنزل إليهم من ربهم، ويعمدون إلى تحريفها بدفع من أهوائهم وأغراضهم الشخصية، واحتكارهم للسيادة والنفوذ، ومن كان منطبعاً بهذا الطبع حول التوراة، فانحرافه عن القرآن أولى، وعناده له أشد، بل يسلكون مع أهل القرآن مسلك الرياء والنفاق والمراوغة والمخادعة. وفي هذا من خراب الضمير والإصرار على الباطل والإلحاد في أسماء الله، ما الله به عليم، ولذا يذكرهم الله بقاعدة من قواعد التوحيد: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾؛ لأن عملهم هذا عمل المحجوب عن معرفة الله، ومعاملته حسب صفاته؛ لأن من عامل الله معاملة العليم، مراقباً اطلاعه، يستحي منه أن يفقده حيث أمره، أو يجده حيث نهاه، ولكن هؤلاء من عماء بصيرتهم يظنون أن الله لا يقيم عليهم الحجة حتى يقولوها بأفواههم للمسلمين، أما إذا اتفقوا على كتمان الحقيقة والسكوت عن ذكرها فلن يؤاخذهم الله.

وهذا من عقوبات القلوب من مرضى القلوب الذين اطرحوا رسالة الله، وفرطوا في واجبه، يصيبهم الله بمرض في قلوبهم، وكل من شابههم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالله يبتليه بما ابتلاهم من مرض القلوب وعمى البصيرة، ويجعلهم كسباً لأعدائهم، كما هي الحال المشاهدة، ثم إن الله لما بين مساوئ العلماء منهم والعارفين أخبرنا عن الفريق الثاني الذين هم الجهلة، فقال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [78]. يخبر سبحانه وتعالى عن النوع الثاني من بني إسرائيل أنهم أميون ليسوا من أحبارهم وعلمائهم، ولكنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني، و(الأماني) هي القراءة المجردة عن التفهم والتدبر، كقراءة أكثر الناس في هذا الزمان للقرآن، فإنهم شابهوا اليهود، فموقفهم من القرآن كموقف اليهود من التوراة وبعضهم فسر الأماني بالأمنيات التي عندهم، فإن عندهم من الدعاوى العريضة والأماني الباطلة ما جرأهم على كل فعل شنيع وخطة أثيمة، لأنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وأنهم ابناء الله وأحباؤه، وأنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات لعظم مكانتهم عند الله، وأنه لا حرج عليهم فيما يفعلون، وأنهم ليسوا مكلفين إلا بالإيمان بما أنزل إليهم، إلى غير ذلك من الأمنيات التي كذبها الله وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإجابات الدامغة لهم والمبطلة لجميع أمانيهم.

وعلى التفسير الثاني للأماني يكون الاستثناء منقطعاً في قولة تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمانِيَّ﴾ إذا فسرت الاماني بالتمنيات والتخرصات والأكاذيب، وأما إذا فسرت (الأماني) بالقراءة المجردة فإن الاستثناء غير منقطع، وهو الصحيح إن شاء الله، لأن القراءة المجردة عن الفهم والتدبر تجر أصحابه إلى التقليد من غير دراية ولا روية، والمقلد الذيب على هذه الحال ينخدع بالأمنيات الأخرى التي يمليها عليه الدجاجلة المغرضون، وتغرهم تلك الأمنيات، فتفسير الأماني بالقراءة المجردة جامع لكل المساوئ التي وقع فيها بنو إسرائيل.

قال الشيخ الإمام محمد عبده: "هذه الأماني توجد في كل الأمم، حال الضعف والانحطاط، يفتخرون بما بين أيديهم من الشريعة وبسلفهم الذين كانوا مهتدين بها، وبما لهم من الآثار التي كانت ثمرة تلك الهداية، وتسول لهم تلك الأماني أن ذلك كاف في نجاتهم وسعادتهم وفضلهم على سائر الناس، وهكذا كان اليهود في زمن التنزيل، وقد اتبعنا سنتهم وتلونا تلوهم فظهر فنيا تاويل الحديث الصحيح: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع))[2]، وإننا نقرأ أخبارهم فنسخر منهم ولا نسخر من أنفسنا، ونعجب لهم كيف رضوا بالأماني ونحن غارقون فيها. انتهي.

[1] القرطبي (2/2) ونوادر الأصول (1/244).
[2] أخرجه البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669، 6) وأحمد (3/84، 89) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه (3994)، وأحمد (2/450، 511)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/37151/#ixzz1li8pu33x
رد مع اقتباس
 
 
  #2  
قديم 02-09-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: تفسير سورة البقرة (19) الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

الخميس 17 ربيع الأول 1433
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [67].

هذا هو النوع الثاني مما وجه الله إليهم من التشديدات لأن الأول هو ما حصل على أصحاب السبت، والثاني ما حصل على أصحاب البقرة. والأمر بالذبح جاء مقدماً على سببه الذي هو قتل النفس وعلى الخلاص منها، فإنه سبحانه قدم ذكر وسيلة الخلاص التي هي ذبح البقرة.

والقرآن الكريم لا يراعي الترتيب والتنسيق كالمؤرخين، إنما يراعي التأثير بالسامعين، لأنه كتاب هداية، وأسلوبه هذا أدعى لتشويق السامع، وبعث همته على البحث عن معرفة السبب في الذبح، ومفاجأته بحكاية ما دار بين موسى وقومه من الجدل، فإن الحكمة في أمر الله بذبح بقرة إذا خفيت يحرص السامع على طلبها، فطريقة الله في وحيه المبارك تأخذ بمجامع القلوب وتحرك الفكر تحريكاً إلى تدقيق النظر، وتهز النفس هزاً قوياً إلى الاعتبار، وهذه القصة من جملة القصص التي اقتضت حكمة الله أن يقصها علينا للاعتبار بها والابتعاد عن مشابهتهم، وفيها من المواعظ والعبر عدة أمور:

أحدها: أن التنطع في الدين وكثرة الأسئلة مضرة فعلاً محرمة شرعاً، لكونها تفضي إلى تشديد قد يؤول أمره إلى التعطيل فيكفر صاحبه، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101، 102] وقال صلى الله عليه وسلم: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) [1]. وقال ما معناه: ((إن أشد الناس جرماً على هذه الأمة من سأل عن شيء فحرم عليهم من أجل مسألته)) [2].

ثانيها: أن الله أمرهم بذبح بقرة دون غيرها من سائر الحيوان ليقتلع من نفوسهم كل تقديس للبقر، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، فينقلب التقديس إلى إهانة واحتقار بدلاً من الحب والتعظيم، وهذا امتحان كبير لنفوسهم، فبعد أن أحرق موسى العجل الذهبي وذراه في البحر جاءهم هذا الأمر الذي يقضي على ما تبقى في نفوسهم من تقديسه قضاء مبرماً.

ثالثها: استهزاؤهم بأوامر نبيهم ووصمهم له بخلقهم الشنيع حيث قالوا: ﴿ أتتخذنا هزوًا ﴾ وهذا من قلب الحقائق ورمي البريء بما الرامي به ألصق، كقول المثل:
رمتني بدائها وانسلت

رابعها: إظهار عجائب قدرة الله سبحانه في اختراع الأشياء من أضدادها، حيث أحيا الله القتيل بمجرد ضربه بجزء منها، كما سيأتي بيانه.

خامسها: زيادة الإعلام من الله لهذه الأمة بما جرى من بني إسرائيل من أنواع اللجاجة والتلكؤ في الاستجابة، وانتحال المعاذير للتخلص من التنفيذ، مما يدلنا على جوانب جديدة من طبيعتهم الذميمة وسلاطة ألسنتهم، وقلة إيمانهم بالغيب، مما ستكشفه الآيات القآدمة.

وهو أنهم ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [70] عادوا مرة ثالثة يسألون عن الماهية، ماهية البقرة المأمورين بذبحها، متعللين بأن وجوه البقر تتشابه عليهم، وحنيئذ كلفهم الله بقيود صعبة المنال، فأجابهم موسى عن ربه: ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ﴾ [71]. فشددوا، فشدد الله عليهم بأنهم كلما زادوا موسى عليه السلام أذىً وتعنتاً، زادهم الله عقوبة وتشديداً في الأوصاف والقيود قائلاً: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ ﴾ يعني صعبة لم تذلل بالعمل لإثارة الأرض بأظلافها ﴿ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾ لا يسنى عليها لإخراج الماء للحرث ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ من كل عيب وأذى فهي سليمة من العيوب كافة ﴿ لَا شِيَةَ فِيهَا ﴾ يعني ليس فيها لون آخر يخالف لون جلدها أبداً، وأصل الوشي: تحسين عيوب الثوب بضروب مختلفة من الألوان ثم استعير للواشي يأخذ إلى السلطان، لأنه عند سعيه بإضراره يعمل على تحسين قوله بالأباطيل، وأقوال الشعراء في الوشاة كثيرة.

ثم قال الله عن بني إسرائيل في شأن البقرة: ﴿ قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [71]. وفي قوله سبحانه: ﴿ الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ بينت الحق فاتضح وعرفنا أي بقرة عينت، وبعضهم قال: إن قولهم يوجب الردة عن الدين لاقتضائه أن موسى لم يأتهم بالحق قبل ذلك، ولكن إذعانهم وانقيادهم للتنفيذ يبطل هذا القول ولا يكون كفراً إلا إذا اعتقدوا أن ما تقدم من الأوامر ما كانت حقاً.

أما والحالة هذه فقولهم يحتمل أنه الآن ظهرت لهم حقيقة ما أمروا به بذلك التمييز في الأوصاف، وقال بعض المفسرين: إن قول بني إسرائيل: ﴿ الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ هراء من القول وخطأ وجهل من الأمر، لأن نبي الله موسى كان مبيناً لهم في كل مسألة سألوها في أمر البقرة، وإنما يقال ذلك لمن لم يكن مبيناً قبل ذلك، فأما من كان جميع قوله فيما بلغه عن الله حقاً وبياناً، فغير جائز أن يقال له في بعضه دون بعض: ﴿ الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك وعلى كل حال فقولهم هذا جهالة من بعض جهالاتهم، وهفوة من بعض هفواتهم، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ يعني ذبح قوم موسى تلك البقرة التي وصفناها لهم وما كادوا يذبحونها، لقد قاربوا من ترك ذبحها المفروض عليهم.

قال بعض المفسرين: إنه لغلاء ثمنها، لأنهم لم يجدوا بقرة على هذه الأوصاف إلا عند رجل واحد، فأبى أن يبيعها، إما طمعاً أو إرضاء لوالديه، كما في بعض الروايات أنه أبى أن يبيعها إلا بملء جلدها ذهباً، وقيل إنهم لم يكادوا يفعلون لخوف الفضيحة أن يبين الله قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى، والأولى أن يكون السبب في كونهم لم يكادوا يفعلون هو جميع الأمرين: غلاء الثمن، والفضيحة.

ولا ريب أن مجتمعهم قد فشا فيه الشغب والدجل من عصبة القاتل في جميع ملابسات شأن البقرة وحوارهم مع موسى في صفاتها، لأن للدعاية تأثيراً كبيراً في اللف والدوران، وقد روى بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون ﴾ يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها [3]، قال ابن جرير رحمه الله: "وكل شيء في القرآن - كاد - أو كادوا - أو لو فإنه لا يكون، وهو مثل قوله: ﴿ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ [طه: 15].

أقول: ومن تتبع سيرة القوم الملتوية وطباعهم الخسيسة جزم من حرف كاد الذي اختاره الله أنهم كادوا لا يفعلون، لأن الشروط قد تضاعفت بتضاعف تلكئهم، والأمر قد تعقد عليهم وضاق مجال الاختيار حيث ضيقوا على أنفسهم، ولولا حاجتهم الملحة الشديدة لكشف الغمة التي حلت بهم من القتيل الذي سيجري بسببه مجزرة عظيمة، فلولا خوف التفاني ما ذبحوها لصعوبتها عليهم، ولهذا قال العليم الخبير: ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾.

وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَة ﴾.

هذه الآية مما وبخ الله أحفاد بني إسرائيل بسوء أعمال أجدادهم، والسبب في هذا الأمر أنه كان فيهم رجل غني عقيم لا ولد له، فقام قريب له يريد إرثه، فقتله واحتمله حتى وضعه في حي سبط غير سبطه، ولما أصبح أخذ يسأل عنه ويصيح بالويل والثبور، فلما وجده أخذ يطالب أهل ذلك الحي بقوده أو ديته، فلم يقبلوا، وطال نزاعهم حتى كادوا يقتتلون، فقال أولو الرأي والنهي منهم: كيف تقتتلون وفيكم رسول الله، وكان كل فريق منهم يدفع التهمة عن نفسه ويلقيها على غيره.

فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾، فلما شكوا الأمر إلى موسى، واستلهم وحي الله في هذه الحادثة، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة، وذلك لما قدمنا من الأسباب، وحينئذ قالوا أتتخذنا هزواً، فظنوا به أنه هازئ لاعب، ولا يجوز لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله وهو يخبرهم أن الله أمرهم بذبح البقرة، ولكنها النفس اليهودية الخبيثة التي عجزت أنبياء الله عن تربيتها، فضلاً عن تصفيتها.

و(الهزء): هو السخرية واللعب، وحيث إنه لا ينبغي لنبي من أنبياء الله الهزء واللعب فيما يخبر به عن الله، فإن هذا من الجهل المخالف لمقام الأفاضل، فكيف بمقام الأنبياء، لهذا برأ موسى نفسه من ذلك أعظم تبرئة، حيث لاذ بالله والتجأ إليه من هذه الوصمة الشنيعة، قائلاً: ﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.

ثم هل اكتفت بنو إسرائيل بهذا، فنفذوا بدون تلكؤ ولا مماحلة بالسؤال؟ لا. إنهم لم يكتفوا، ولو اكتفوا وذبحوا أي بقرة لأجزأتهم وقضى الله بها أمره فيما بينهم، ولكن على العكس عادوا إلى طباعهم اللئيمة، ولله در موسى، كيف أجابهم بكل أدب ولطافة، نافياً عن نفسه ما اتهموه به على أبلغ وجه وأوكده بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه، استعظاماً له واستفظاعاً لما شافهوه به وما قابلوه من الفظاظة وسوء الأدب ولو كان عندهم مسحة من ضمير ما قابلوه بهذا، وهم يعمون أنه زعيمهم، بل نبيهم الذي أنقذهم الله به من العذاب المهين، وأجرى عليهم من النعم ما لم يحصل لغيرهم من العالمين.

ثم هل خالجهم الحياء ودب إليهم شيء من الوجدان ففعلوا ما يؤمرون؟ كلا بل هي طبيعتهم الملتوية جعلتهم يعودون إلى السؤال عن ماهية البقرة وهي بقرة، وسؤال بطريقة بشعة ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ ولم يقولوا (ادع الله - أو ادع ربنا) ولكن تشابهت قلوبهم مع الفراعنة، ثم إن تكرار السؤال ينبئ عن موقف الإنكار والاستهزاء، لا عن موقف الإيمان والتسليم، ولكن موسى يقابلهم بكل لطف لما قالوا: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ [68] يعني أنها ليست كبيرة عجوزاً وليست بكراً، صغيرة لم ينز عليها الفحل، ولكن هي عوان بين ذلك، متوسطة في السن.

وفي هذا الجواب الرقيق البليغ كفاية لمن يريد الهداية، ولكن تأبى عليهم نفوسهم إلا الشغب والإلحاح في السؤال: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ﴾ وأي حاجة لكم في لونها؟ لقد أرشدكم الله إلى ماهيتها وأنها بقرة متوسطة السن، ومتوسط السن من الخيار، فهلا يكفيكم ذلك؟ إنه لا يكفيهم ذلك بل تأبى عليهم طباعهم.

وهناك يشدد الله عليهم قائلاً لهم على لسان موسى: ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [69]، والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض، فلونها فاقع الصفرة ﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ يعني تعجب الناظرين في خلقها ومنظرها وهيئتها، وقد قيدها الله بهذا اللون النادر الوجود لعدم استجابتهم لأمره، حيث قال في بيان هيئتها الأولى: ﴿ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ افعلوا ما أمرتكم به تدركوا حاجتكم ومطلبكم وتحصلوا بطاعتي على العلم بقاتل قتيلكم ولكنهم أبوا فجاءهم تشديد جديد.

قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [72-73].

ذكرنا فيما مضى أن السبب في أمر الله لهم بذبح البقرة هو حادثة القتل التي اتهم بعضهم فيها ا لبعض الآخر، وكل فريق منهم يدفع التهمة عن نفسه ويلصقها بغيره لشدة ما بينهم من الإحن والعداوات، حتى كادوا أن يقتتلوا جميعاً، ولما سألوا موسى الكشف عن الحقيقة قال لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾، وجرى منهم من التعنت على موسى واتهامه وكثرة الإلحاح معه في السؤال عن صفات البقرة مما جلب عليهم التشديد وتعقيد الأمور المناسب لنفوسهم المعقدة.

وقد ورد أثر موقوف على ابن جريج وابن عباس أنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم، ولكنهم شددوا، فشدد الله عليهم[4]، وزعم بعضهم رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه مرسل على التحقيق، وقد روى ابن جرير عن بشر قال حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم، والذي نفس محمد بيده لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد))[5]. يعني لو لم يقولوا: ﴿ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾.

وقد أضاف الله الجريمة إلى الجميع بقوله: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ ﴾، لأنهم مسئولون عنها جميعاً حتى يجتهدوا بنصح وإخلاص خال من الحمية والعصبية في كشف المجرم ليلقى جزاءه، فالأمة كالجسد الواحد، وقد سبق القول في معنى ﴿ ادَّارَأْتُمْ ﴾ يعني تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، كل سبط يدرأ الجريمة عن حزبه ويتهم بها الآخرين، قال رؤبة بن العجاج:

أدركتها قدام كل مدره
بالدفع عني درء كل عنجه

ولقد انكشفت حكمة الله لنبي إسرائيل من ذبح البقرة، وأخرج الله ما كانوا يكتمونه من أمر القتيل الذي بسببه كادت تعمهم الفتنة والنقمة، فصار ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، ليخبرهم بنفسه عمن قتله، لقد جعلها الله وسيلة، وهو سبحانه قادر على إحيائه بغير وسيلة، ولكن اقتضت حكمته أن لا يحيا إلا بعد جهد وامتحان وثمن باهظ كادوا بسببه أن لا يفعلوا.

هذا التكليف الذي كلفهم الله به دون أن يعرفوا غايته، فيه امتحان لذي الانقياد والتسليم، وقد علمت ما قابلوا به موسى من التعنت والأمر المريب، وما ألجأهم في النهاية إلى التنفيذ ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ وهنا يوبخهم الله ﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ من أمر القتيل حمية على القاتل، وعدم رحمة بالمقتول، ومن يبكيه ومن يحزن عليه، وعدم مبالاة بتهمة الأبرياء الذين تضطرهم الحالة إلى الدفاع عن أنفسهم ورفض عار الجريمة وشناعتها، ثم عدم المبالاة بفتنة لا يعلم أيان مرساها إلا الله.

ما أقسى هذه القلوب التي تريد لها معجزة فاضحة، تدفع أربابها على رؤوسهم وتخسئهم بين باقي الأسباط، وتبين للجميع مدى قدرة الله وعظيم حكمته ورحمته، ولذا قال لهم بعد ما ذبحوا البقرة: ﴿ اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ بجزء منها غير معين، بل اختاروا أنتم قطعة منها واضربوه بها، وجعلهم يتولون أمر الضرب هم بأنفسهم ويباشرونها دون موسى عليه السلام، لأن الله يعرف دفائن أنفسهم الخبثة، وأنه لو ضربه موسى ببعضها من دونهم لرموه بالسحر والشعوذة، أو زعموا أن هذا من خصائصه، كاليد والعصا والصخرة ولكن جاء قدر الله وأمره بوسيلة هم يباشرونها بأنفسهم لينقطعوا أمام حجة الله البالغة وآياته التي هي فوق مستوى أي بشر، ولذا قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.

هنالك شاهدوا من قدرة الله وتأثيره في الكائنات مشهداً لا يعرفون كنهه، وليس لديهم أمامه إلا الاعتراف والتسليم، قطعة لحم من حيوان مذبوح يضرب بها ميت قد صار جيفة فينهض حياً ناطقاً، يخاطبهم ويخبرهم بالذي قتله، هكذا القدرة الإلهية، لا يستعصي عليها شيء.

إن هذه الحادثة العظيمة والمعجزة الباهرة المخضعة للرقاب طوعاً أو كرهاً قد شاهدها القوم مشاهدة عيان لا يمكن إنكارها، وهي أيضاً من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بها أمته، وذكر بها أحفاد بني إسرائيل، ولم يجرؤ أحد منهم على إنكارها، مع أنهم أمة البهت والفجور، وقد أرى الله بها بني إسرائيل سراً من أسرار ألوهيته، وأعجوبة عظيمة من عجائب قدرته، لا سبيل إليهما في عالم الماديين، بل ولا في طاقة العقول البشرية جميعاً، كيف باغت الله بهذه الحادثة خصوماً لؤماء ألداء كتموا الجريمة لحاجات وأهواء في صدورهم، لتكون النكاية بغيرهم من دونهم، ففضحهم الله بانتفاضة المقتول لما ضربوه ببعض لحم البقرة أو أجزائها، فقام حياً يكلمهم ويهتك أستار المجرمين، وصدقهم الله قوله بإنجاز هذه القدرة ﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾. لقد دفع الله الباطل وأظهر الحق وهلهل أستار التلبيس وبرهن لهم على قدرته في إحياء الموتى إحياءً معنوياً.

فقوله سبحانه وتعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أراهم الله بالعيان نوعي الإحياء الحسي والمعنوي، فالحسي إحياء القتيل وقيامه من بينهم وهم ينظرون، وأما الإحياء الثاني فهو إنجاؤه للفريقين المتخاصمين، بل لعدة فرق وأسباط، أو لكل الأسباط الذين تجرهم الفتنة إلى قتال يفنون فيه، فالله أنقذهم من الموت المحقق الشنيع الذي سيجري عليهم بالتقاتل، وذلك بإحياء القتيل وإخباره إياهم بالذي قتله، وهنالك خمدت الفتنة وحييت نفوسهم جميعاً، فيالها من آيات باهرة نزلت عليهم فيها رحمة الله.

ولذا قال سبحانه: ﴿ ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ لعلكم تفهمون مدى قدرة الله التي لا تقف عند حد ولا تحيط بها العقول، وتفهمون أسرار شريعته في أمره ونهيه، وتدركون فائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها وتكبحونها عن جماحها، وتؤمنون بجميع آيات الله التي جاء بها موسى، والتي جاء بها محمد عليهما الصلاة والسلام، ولا تجحدون شيئاً منها لأغراض في نفوسكم، فإنه لا يستقيم لكم الإيمان بموسى حتى تؤمنوا بكل نبي ورسول بعده، وعلى الأخص خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم تحققوا هذا فإنكم لم تعوا آيات الله ولم ترعوها حق رعاتيها، فهذا الخطاب منه سبحانه وتعالى عام في جميع بني إسرائيل الأقدمين والآخرين.

إن من لم يستفد من هذه القصة بمشهدها الأخير، زيادة عقل وتفكر، وقوة إيمان، ولين قلب، وصفاء نفس، فبأي شيء يستفيد؟ إن بني إسرائيل بهذا المشهد الهائل العجيب يجب أن تنحشي قلوبهم بالتقوى والخشية والمراقبة لله، وأن تجيش بجميع أنواع الحساسية، فتخشع وتلين لما شاهدت نم الحق، ولكن الله سبحانه يخبرنا عن انعكاس أحوالهم في الآية (74) من قسوة القلوب التي ليس لها نظير. ثم إن ههنا فوائد:

الأولى: في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ تدل على إحاطة علمه بجميع المعلومات العلنية والسرية والفعلية واللفظية والنفسية، فهو عالم بجميع ذلك، وقادر على إظهار المكتوم منه.

الثانية: تدل هذه الآية على أن مايسره العبد ويكنه من خير أو شر فإن الله سيظهره، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن عبداً أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس))[6] وكذلك المعصية.

الثالثة: هذه الآية من العام المراد به الخصوص، لأن قوله: ﴿ كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ عام في كل مكتوم، ولكن الله يريد إظهار ما كتموه في هذه الواقعة فقط.

الرابعة والخامسة: الأمر المطلق يقتضي الوجوب ويقتضي الفورية، لأن الله ذم المتثاقلين في تنفيذه، مع اشتغالهم بطلب مقتضاه والسؤال عن ماهيته، كما ذمهم على التراخي في الفعل عند ورود الأمر المجرد من هاتين القاعدتين من قواعد الأصول.

السادسة: قال الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً))[7]، فهذه اللفظة المباركة مستحبة في كل عمل يراد تحصيله، وقد قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24]، لأن في هذه الكلمة استعانة بالله، وتفويض الأمر إليه، وتجديد الاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته.

السابعة: تساءلوا عن تخصيص الأمر بذبح بقرة دون غيرها من الأنعام، وأجابوا بعدة أشياء، منها: أن الكلام في غيرها لو أمروا به لا ينقطع كالكلام فيها، ومنها: أنها مما جرت العادة بجعلها قرباناً إلى الله، ومنها: عكس ذلك، وهو أن الله يريد أن يمسح تقديس البقر من قلوبهم، لأنه شيء طارئ عليهم من تقليدهم لعادات المصريين، ومنها أن الله يريد منهم تحمل الكلفة في تحصيلها، ودفع الثمن الباهظ فيها، لينتفع صاحبها البار بوالديه، وليثبت منهم من حسنت نيته، ومنها: أنه تعلق بذبحها مصلحة لا تحصل إلا بذبحها، والله أعلم بمراده وأسرار حكمته.

الثامنة: تساءلوا عن الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة، مع أن الله سبحانه قادر على أن يحييه ابتداء، بل يحييه بدونها؟

والجواب: أن الفائدة فيه لتأكيد الحجة على الناظرين وقطع دابر تهمة الحيلة على المتهوكين والملحدين، ذلك أنه يحصل بإحياء الفتيل دون ذلك مجال لأولئك، فيقولون هذا ضرب من السحر، ولذلك لم يباشر هذا الفعل موسى خشية من القيل والقال، بل وجه الله لأمر إليهم لتكون حياته بفعل فعلوه، والله أجرى حياته على أيديهم بما باشروه من الضرب، ليدلل على أن المعجزات لا تكون إلا من الله، دون أي تمويه من الناس، وأن الانبياء كغيرهم لا تأثير لهم فيها.

التاسعة: وردت حكايات إسرائيلية في اسم البقرة وصاحبها، واسم الجزء الذي ضرب فيه القتيل، اعرضت عن ذكرها، لأني أرى وجوب تنزية تفسير كلام الله عنه هذه النقول التي لا تقوم بها حجة، ولعدم صدورها عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

العاشرة: في قولة تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ تدليل حسي واضح على الأمر الغيبي الذي تتطرق الشكوك إليه، ليدلل للمستيقنين على أن الإعادة في قدرته سبحانه أهون عليه من الابتداء في صنعته، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27]، فيزيد الله في هذه الحادثة من إيمان المؤمنين بالبعث، فتطمئن قلوبهم، كما فعل بإبراهيم عليه السلام، ويقيم الحجة على الكافرين، لأن هذه القصة قد شوهدت بالعيان وتواتراث أخبارها، فهي من بعض حجج الله الكبيرة.

الحادية عشرة: قوله تعالى: ﴿ ويريكم ءايته ﴾ قد يقول بعض الجهلة والمشاغبين: هي آية واحدة، إحياء القتيل بجزء من مذبوح، والحق أن هذه المعجزة يتفرع منها آيات كثيرة، منها: الدلالة على وجود الخالق القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء والمختار ما يشاء في إيجاده وإعدامه، ومنها الدلالة على صدق موسى، والدلالة على حقيقة المجرم، وتبرئة ساحة الأبرياء، ومنها: الدلالة العظيمة على إحياء الموتي بشيء واضح لا يقبل الجدل.

حقاً إنها آيات كبيرة يرينا الله إياها.

الثانية عشر: جواز الاجتهاد حتى في عصر النبوة، لأن الله أمرهم بذبح بقرة وسط بين الكبير والصغير، دون تعيين سنها، وقال لهم: ﴿ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ﴾، وهو أمر منه سبحانه لهم أن يجتهدوا فيما بين ذلك.

الثالثة عشر: حصلت تساؤلات كثيرة على تقديم ذكر الأمر بذبح البقرة قبل ذكر السبب الذي هو قتلهم للنفس، ومن أحسن ما أجيب: أنهما قصتان، كل واحدة منهما مسقلة بنوع من التقريع، وإن كاننا في الحقيقة متصلتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة للامتثال، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وإخفاء الجريمة، ولو قدم ذكر القتل على ذكر البقرة لكانت قصة واحدة وذهب الغرض في تثنية التقريع، وقال الحراني: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل ابتداء بأشرف القصتين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة.

الرابعة عشرة: من لم يؤمن بهذه القصة أو بهضمها فهو ملحد لا يؤمن بالبعث والنشور، ومن لا يؤمن بالبعث لا يؤمن بالله وقدرته الغالبة وحكمته البالغة.

الخامسة عشر: قوله تعالى: ﴿ فادرءتم ﴾ أصلها تدارأتم، ولكن لقرب مخرج التاء من مخرج الدال أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مشددة، كما في قول الشاعر:

تولى الضجيع إذا ما استافها خصراً
عذب المذاق إذا ما اتابع القبل

قال تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَما اللَّهُ بِغَافِلٍ عَما تَعْمَلُونَ ﴾ [74].

القسوة: هي شدة الصلابة والغلظة، وهي منبئة عن ذهاب اللين والرحمة والخشوع، وهو قوله سبحانه: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ يعني من بعد هذه الآيات، سواء إحياء القتيل وما نجم عنه، أو جمع الآيات التي مر ذكرها: من تظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وتفجير اثنتي عشرة عيناً من صخرة صغيرة، ورفع الطور فوقهم، ومسخهم قردة وخنازير، يعنى مسخ بعضهم، ورحمة الله بهم في أمر القتيل بإحيائه في تلك الأعجوبة، بعد جميع هذه الآيات صارت النتجية قسوة القلوب.

وهذه الآيات تلين القلوب، وتصقل النفوس، وتهز العواطف والشعور وتكسب اليقين، وتؤنب الضمائر، ولكن قلوب هؤلاء بلغت من القساوة ما يزيد عن قساوة الجماد، وقد قال بعض المفسرين: أن المقصود بهم سبط القاتل ومن على شاكلته، وبعضهم قال: المقصود به جميعهم حيث تمادوا في التمرد على موسى، وبعضهم قال: إن ذلك حصل في خلف لهم بعد موسى، واستدل بقولة تعالى: ﴿ ثُمَّ ﴾ على أن العطف بها يفيد أن أولهم قد خشع وأن القسوة حصلت فيمن بعدهم، والصحيح أيضاً العطف بـ(ثُمَّ) يقصد به الترتيب، يعني ثم من بعد ما رأوا تلك الآيات الملينة للقلوب المحركة للشعور، قست قلوبهم ولهذا قال سبحانه: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾.

فقوله: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ يعني (من بعد ذلك الآيات)، لا من بعد ذلك الخشوع، لأنه ليس للخشوع ذكر في السياق، ولا له دليل أبداً، والصحيح الذي تدل عليه الآيات التي في غير هذه السورة أن قسوة القلوب من صفات بني إسرائيل جميعاً وسماتهم، حتى المخاطبين في عصر النبوة فإنهم برهنوا لنا بجحودهم وعنادهم واشتداد عداوتهم للحق، على قسوة قلوبهم التي وصفها الله في هذه الآية الكريمة، ذلك أن قوارع القرآن تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بأخبارهم ويتلوها عليهم، وفيها من التقريع والتوبيخ وسرد الآيات والنعم والعقوبات والنذر ما فيه عظات ومزدجر، بل الأسلوب القرآني يخاطب قلوبهم بالمثلات التي لا يبقي معها أي تريث عن الإيمان لو كانت عندهم قلوب حيوانية[8]، ولكن قلوبهم أصبحت جمادية لا تتأثر بالعبر والعظات، ولم تستطع تلك النذر والمثلات أن تشقها وتنفذ إلى أعماق الوجدان فيها، وصارت لا تهزها الآيات الكونية الرهيبة التي ذكرهم بها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لتكون أعظم معجزة على صدقه.

لقد قرأ صلى الله عليه وسلم أوائل سورة (فصلت) على بعض صناديد قريش، فلما وصل إلى قوله: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13] صرخ قائلاً: ناشدتك الله والرحم أن تمسك[9]، هكذا القلوب الحيوانية تتأثر من الآيات، مع أن تلك لا تساوي واحداً من الألف مما تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني إسرائيل، ولكن قلوبهم جمادية والعياذ بالله.

وقوله تعالى: ﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ يعني بل أشد قسوة، فحرف (أو) هنا ليس للشك والتردد، وإنما هو بمعنى الواو أو بمعني (بل) فالواو لقوله تعالى: ﴿ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴾ [المرسلات: 6] وقوله: ﴿ آَثِما أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 24] وبمعنى بل، كقول الشاعر:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أو أنت في العين أملحُ

وكقول الآخر:

أحب محمداً حباً شديداً
وعباساً وحمزة أو عليا

وتشبه الله قلوبهم بالحجارة دون الحديد والصفر ونحوهما مما هو أقسى لأمرين:
الأول: أن الحديد ونحوه يذوب إذا أحمي بالنار، ولهيب المواعظ للقلوب أعظم من النار.

والثاني: لأنهم شاهدوا الحجارة يتفجر منها الأنهار، وشاهدوا الجبل يندك من خشية الله، ويخر موسى صعقاً، فلهذا أجرى التشبيه لهم، مبيناً لهم أن قلوبهم لا تنبض بخشية ولا تقوى، ومذكراً لهم بقوله: ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ ﴾. وقد شاهدتم يا بنى إسرائيل نوعاً من ذلك حجارة صغيرة بأمر الله، ومن خشية الله، تتفجر عيوناً لكم حيث شاء الله ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ كما شاهدتموه حين مواعدة موسى لربه، شاهده بعضكم وأخبر البعض إلى الآخر، فأمثلة القرآن حسية تورث اليقين للقلوب الحية، والله أعلم.

روى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي))[10]. وما قسوة قلوب بني إسرائيل بسبب عدم ذكر الله الذكر الصحيح، ذكر المحب لحبيبه، ذكر المربوب للرب، ذكر المتأله الصادق للمالوه الحق، ذلك الذكر الدائم الذي يورث المراقبة والخشوع فيسلم صاحبه من جحود النعمة والإعراض عن الآيات، والتنكر للمنعم المحبوب سبحانه وتعالى، فإن هذه هي أمراض قلوب الإسرائيليين التي أورثتها القسوة الموصوفة في القرآن بأنها أشد من قسوة الحجارة، لأنهم كانوا على ما وصفهم الله به من التكذيب برسله، والجحود لآياته بعد ما أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم من الأرواح والعقول التي لم يعطها الحجر ونحوه من الجماد.

ومع هذا فالجماد يتأثر وقلوبهم لا تتأثر، خصوصاً ما أتاهم من آيات وعظات تهز الوجدان وتنفذ إلى أعماق الجنان، وقد ثبت أن الجذع الذي كان يستند إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا خطب، حن إليه بعد ما تحول عنه[11]، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن حجراً كان يسلم عليَّ في الجاهلية، إني لأعرفه الآن))[12]، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال لي ثبير[13]: اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله، فناداه حراء: إلي يا رسول الله))[14]. هكذا شأن الجماد. فأين قلوب بني إسرائيل التي جاءها من النعم والآيات والنقم ما فيه مزدجر، ولذا قال تعالى: ﴿ وَما اللَّهُ بِغَافِلٍ عَما تَعْمَلُونَ ﴾ يعنى: معشر اليهود المكذبين بآيات الله، والمؤذين لأنبيائهم، والجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والناقلين عليه الأباطيل، ما الله بغافل ولا ساه عن أعمالكم بل هو لكم بالمرصاد، سيواصل عليكم أنواع عقوباته، وفي هذه الآية تهديد شديد لهم.

[1] أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337/412) والترمذي (2679) وابن ماجه (2) وأحمد (2/258, 355، 428) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري (7289) ومسلم (2358/132) وأحمد (1/179) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[3] الطبري (1/354).
[4] الطبري (1/339) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] مرسل:
أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (1/347) من طريق قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
[6] إسناده ضعيف:
أورده أبو نعيم في الحلية (5/37) بمعناه.
والحديث فيه روح بن مسافر متروك الحديث. انظر: المغني في الضعفاء (1/234)، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/289).
[7] لم أجده فيما بين يدي من مصادر.
[8] حيوانة: فيها حياة.
[9] أخرجه الحاكم (2/278)، وأبو يعلى في مسنده (7/350) وعبد بن حميد (1/337) وابن أبي شيبة (7/331) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
والحديث في إسناده الأجلح بن عبد الله وهو مختلف فيه. انظر: تهذيب الكمال (2/275).
وقال الحافظ في التقريب (285): صدوق شيعي. ومال الذهبي إلى توثيقه حيث ذكره في كتابه ((من تكلم فيه وهو موثق)).
[10] أخرجه الترمذي (2411) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث غريب.
والحديث فيه إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، قال الحافظ في التقريب (194): صدوق روى مراسيل.
وقال الذهبي في الميزان (1/161): ما علمت فيه جرحاً ومن غرائبه حديثه عن عبد الله بن دينار... فذكره.
[11] أخرجه البخاري (3583) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه البخاري (3584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[12] أخرجه مسلم (4/2277) والترمذي (3624) وابن حبان (14/402) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
[13] ثبير: اسم جبل.
[14] ذكره القرطبي في التفسير (1/466).





تفسير سورة البقرة (1)
تفسير سورة البقرة (2)
تفسير سورة البقرة (3)
تفسير سورة البقرة (4)
تفسير سورة البقرة (5)
تفسير سورة البقرة (6)
تفسير سورة البقرة (7)
تفسير سورة البقرة (8)
تفسير سورة البقرة (9)
تفسير سورة البقرة (10)
تفسير سورة البقرة (11)
تفسير سورة البقرة (12)
تفسير سورة البقرة (13)
تفسير سورة البقرة (14)
تفسير سورة البقرة (15)
تفسير سورة البقرة (16)
تفسير سورة البقرة (17)
تفسير سورة البقرة (19)
تفسير سورة البقرة (20)
تفسير سورة البقرة (21)
تفسير سورة البقرة (22)
تفسير سورة البقرة (23)


صدر حديثاً (تفسير القاضي عبدالجبار المعتزلي) جمع خضر نبها(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
تفسير جديد للعلامة البلاغي عبدالقاهر الجرجاني (471هـ)(درج الدرر في تفسير الآي والسور)(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
صدر حديثاً (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم) لنخبة من علماء التفسير في 10 مجلدات(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
عرض كتاب (المفصل في تفسير القرآن الكريم المشهور بتفسير الجلالين)تحقيق فخر الدين قباوة(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
تفسير خَلَفِ السجستاني (ت399هـ):تَجرِبةٌ قَديِمَةٌ للتفسير الموسوعيِّ الجماعي(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
المسلمون والتقصير في خدمة كتاب الله (3/3)(مقالة - موقع أ. محمد خير رمضان يوسف)
التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما(مقالة - آفاق الشريعة)
صدر حديثاً كتاب (الدرة في تفسير سورة البقرة) للأستاذة ميادة الماضي(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
تفسير سورة البقرة للحافظ ابن حجر من فتح الباري(كتاب - مكتبة الألوكة)
تفسير سورة البقرة للحافظ ابن حجر من فتح الباري(مقالة - آفاق الشريعة)



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/36942/#ixzz1luXPNyvW
رد مع اقتباس
 
 
  #3  
قديم 02-09-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: تفسير سورة البقرة (19) الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

الخميس 17 ربيع الأول 1433
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [67].

هذا هو النوع الثاني مما وجه الله إليهم من التشديدات لأن الأول هو ما حصل على أصحاب السبت، والثاني ما حصل على أصحاب البقرة. والأمر بالذبح جاء مقدماً على سببه الذي هو قتل النفس وعلى الخلاص منها، فإنه سبحانه قدم ذكر وسيلة الخلاص التي هي ذبح البقرة.

والقرآن الكريم لا يراعي الترتيب والتنسيق كالمؤرخين، إنما يراعي التأثير بالسامعين، لأنه كتاب هداية، وأسلوبه هذا أدعى لتشويق السامع، وبعث همته على البحث عن معرفة السبب في الذبح، ومفاجأته بحكاية ما دار بين موسى وقومه من الجدل، فإن الحكمة في أمر الله بذبح بقرة إذا خفيت يحرص السامع على طلبها، فطريقة الله في وحيه المبارك تأخذ بمجامع القلوب وتحرك الفكر تحريكاً إلى تدقيق النظر، وتهز النفس هزاً قوياً إلى الاعتبار، وهذه القصة من جملة القصص التي اقتضت حكمة الله أن يقصها علينا للاعتبار بها والابتعاد عن مشابهتهم، وفيها من المواعظ والعبر عدة أمور:

أحدها: أن التنطع في الدين وكثرة الأسئلة مضرة فعلاً محرمة شرعاً، لكونها تفضي إلى تشديد قد يؤول أمره إلى التعطيل فيكفر صاحبه، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101، 102] وقال صلى الله عليه وسلم: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) [1]. وقال ما معناه: ((إن أشد الناس جرماً على هذه الأمة من سأل عن شيء فحرم عليهم من أجل مسألته)) [2].

ثانيها: أن الله أمرهم بذبح بقرة دون غيرها من سائر الحيوان ليقتلع من نفوسهم كل تقديس للبقر، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، فينقلب التقديس إلى إهانة واحتقار بدلاً من الحب والتعظيم، وهذا امتحان كبير لنفوسهم، فبعد أن أحرق موسى العجل الذهبي وذراه في البحر جاءهم هذا الأمر الذي يقضي على ما تبقى في نفوسهم من تقديسه قضاء مبرماً.

ثالثها: استهزاؤهم بأوامر نبيهم ووصمهم له بخلقهم الشنيع حيث قالوا: ﴿ أتتخذنا هزوًا ﴾ وهذا من قلب الحقائق ورمي البريء بما الرامي به ألصق، كقول المثل:
رمتني بدائها وانسلت

رابعها: إظهار عجائب قدرة الله سبحانه في اختراع الأشياء من أضدادها، حيث أحيا الله القتيل بمجرد ضربه بجزء منها، كما سيأتي بيانه.

خامسها: زيادة الإعلام من الله لهذه الأمة بما جرى من بني إسرائيل من أنواع اللجاجة والتلكؤ في الاستجابة، وانتحال المعاذير للتخلص من التنفيذ، مما يدلنا على جوانب جديدة من طبيعتهم الذميمة وسلاطة ألسنتهم، وقلة إيمانهم بالغيب، مما ستكشفه الآيات القآدمة.

وهو أنهم ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [70] عادوا مرة ثالثة يسألون عن الماهية، ماهية البقرة المأمورين بذبحها، متعللين بأن وجوه البقر تتشابه عليهم، وحنيئذ كلفهم الله بقيود صعبة المنال، فأجابهم موسى عن ربه: ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ﴾ [71]. فشددوا، فشدد الله عليهم بأنهم كلما زادوا موسى عليه السلام أذىً وتعنتاً، زادهم الله عقوبة وتشديداً في الأوصاف والقيود قائلاً: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ ﴾ يعني صعبة لم تذلل بالعمل لإثارة الأرض بأظلافها ﴿ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾ لا يسنى عليها لإخراج الماء للحرث ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ من كل عيب وأذى فهي سليمة من العيوب كافة ﴿ لَا شِيَةَ فِيهَا ﴾ يعني ليس فيها لون آخر يخالف لون جلدها أبداً، وأصل الوشي: تحسين عيوب الثوب بضروب مختلفة من الألوان ثم استعير للواشي يأخذ إلى السلطان، لأنه عند سعيه بإضراره يعمل على تحسين قوله بالأباطيل، وأقوال الشعراء في الوشاة كثيرة.

ثم قال الله عن بني إسرائيل في شأن البقرة: ﴿ قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [71]. وفي قوله سبحانه: ﴿ الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ بينت الحق فاتضح وعرفنا أي بقرة عينت، وبعضهم قال: إن قولهم يوجب الردة عن الدين لاقتضائه أن موسى لم يأتهم بالحق قبل ذلك، ولكن إذعانهم وانقيادهم للتنفيذ يبطل هذا القول ولا يكون كفراً إلا إذا اعتقدوا أن ما تقدم من الأوامر ما كانت حقاً.

أما والحالة هذه فقولهم يحتمل أنه الآن ظهرت لهم حقيقة ما أمروا به بذلك التمييز في الأوصاف، وقال بعض المفسرين: إن قول بني إسرائيل: ﴿ الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ هراء من القول وخطأ وجهل من الأمر، لأن نبي الله موسى كان مبيناً لهم في كل مسألة سألوها في أمر البقرة، وإنما يقال ذلك لمن لم يكن مبيناً قبل ذلك، فأما من كان جميع قوله فيما بلغه عن الله حقاً وبياناً، فغير جائز أن يقال له في بعضه دون بعض: ﴿ الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك وعلى كل حال فقولهم هذا جهالة من بعض جهالاتهم، وهفوة من بعض هفواتهم، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ يعني ذبح قوم موسى تلك البقرة التي وصفناها لهم وما كادوا يذبحونها، لقد قاربوا من ترك ذبحها المفروض عليهم.

قال بعض المفسرين: إنه لغلاء ثمنها، لأنهم لم يجدوا بقرة على هذه الأوصاف إلا عند رجل واحد، فأبى أن يبيعها، إما طمعاً أو إرضاء لوالديه، كما في بعض الروايات أنه أبى أن يبيعها إلا بملء جلدها ذهباً، وقيل إنهم لم يكادوا يفعلون لخوف الفضيحة أن يبين الله قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى، والأولى أن يكون السبب في كونهم لم يكادوا يفعلون هو جميع الأمرين: غلاء الثمن، والفضيحة.

ولا ريب أن مجتمعهم قد فشا فيه الشغب والدجل من عصبة القاتل في جميع ملابسات شأن البقرة وحوارهم مع موسى في صفاتها، لأن للدعاية تأثيراً كبيراً في اللف والدوران، وقد روى بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون ﴾ يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها [3]، قال ابن جرير رحمه الله: "وكل شيء في القرآن - كاد - أو كادوا - أو لو فإنه لا يكون، وهو مثل قوله: ﴿ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ [طه: 15].

أقول: ومن تتبع سيرة القوم الملتوية وطباعهم الخسيسة جزم من حرف كاد الذي اختاره الله أنهم كادوا لا يفعلون، لأن الشروط قد تضاعفت بتضاعف تلكئهم، والأمر قد تعقد عليهم وضاق مجال الاختيار حيث ضيقوا على أنفسهم، ولولا حاجتهم الملحة الشديدة لكشف الغمة التي حلت بهم من القتيل الذي سيجري بسببه مجزرة عظيمة، فلولا خوف التفاني ما ذبحوها لصعوبتها عليهم، ولهذا قال العليم الخبير: ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾.

وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَة ﴾.

هذه الآية مما وبخ الله أحفاد بني إسرائيل بسوء أعمال أجدادهم، والسبب في هذا الأمر أنه كان فيهم رجل غني عقيم لا ولد له، فقام قريب له يريد إرثه، فقتله واحتمله حتى وضعه في حي سبط غير سبطه، ولما أصبح أخذ يسأل عنه ويصيح بالويل والثبور، فلما وجده أخذ يطالب أهل ذلك الحي بقوده أو ديته، فلم يقبلوا، وطال نزاعهم حتى كادوا يقتتلون، فقال أولو الرأي والنهي منهم: كيف تقتتلون وفيكم رسول الله، وكان كل فريق منهم يدفع التهمة عن نفسه ويلقيها على غيره.

فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾، فلما شكوا الأمر إلى موسى، واستلهم وحي الله في هذه الحادثة، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة، وذلك لما قدمنا من الأسباب، وحينئذ قالوا أتتخذنا هزواً، فظنوا به أنه هازئ لاعب، ولا يجوز لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله وهو يخبرهم أن الله أمرهم بذبح البقرة، ولكنها النفس اليهودية الخبيثة التي عجزت أنبياء الله عن تربيتها، فضلاً عن تصفيتها.

و(الهزء): هو السخرية واللعب، وحيث إنه لا ينبغي لنبي من أنبياء الله الهزء واللعب فيما يخبر به عن الله، فإن هذا من الجهل المخالف لمقام الأفاضل، فكيف بمقام الأنبياء، لهذا برأ موسى نفسه من ذلك أعظم تبرئة، حيث لاذ بالله والتجأ إليه من هذه الوصمة الشنيعة، قائلاً: ﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.

ثم هل اكتفت بنو إسرائيل بهذا، فنفذوا بدون تلكؤ ولا مماحلة بالسؤال؟ لا. إنهم لم يكتفوا، ولو اكتفوا وذبحوا أي بقرة لأجزأتهم وقضى الله بها أمره فيما بينهم، ولكن على العكس عادوا إلى طباعهم اللئيمة، ولله در موسى، كيف أجابهم بكل أدب ولطافة، نافياً عن نفسه ما اتهموه به على أبلغ وجه وأوكده بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه، استعظاماً له واستفظاعاً لما شافهوه به وما قابلوه من الفظاظة وسوء الأدب ولو كان عندهم مسحة من ضمير ما قابلوه بهذا، وهم يعمون أنه زعيمهم، بل نبيهم الذي أنقذهم الله به من العذاب المهين، وأجرى عليهم من النعم ما لم يحصل لغيرهم من العالمين.

ثم هل خالجهم الحياء ودب إليهم شيء من الوجدان ففعلوا ما يؤمرون؟ كلا بل هي طبيعتهم الملتوية جعلتهم يعودون إلى السؤال عن ماهية البقرة وهي بقرة، وسؤال بطريقة بشعة ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ ولم يقولوا (ادع الله - أو ادع ربنا) ولكن تشابهت قلوبهم مع الفراعنة، ثم إن تكرار السؤال ينبئ عن موقف الإنكار والاستهزاء، لا عن موقف الإيمان والتسليم، ولكن موسى يقابلهم بكل لطف لما قالوا: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ [68] يعني أنها ليست كبيرة عجوزاً وليست بكراً، صغيرة لم ينز عليها الفحل، ولكن هي عوان بين ذلك، متوسطة في السن.

وفي هذا الجواب الرقيق البليغ كفاية لمن يريد الهداية، ولكن تأبى عليهم نفوسهم إلا الشغب والإلحاح في السؤال: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ﴾ وأي حاجة لكم في لونها؟ لقد أرشدكم الله إلى ماهيتها وأنها بقرة متوسطة السن، ومتوسط السن من الخيار، فهلا يكفيكم ذلك؟ إنه لا يكفيهم ذلك بل تأبى عليهم طباعهم.

وهناك يشدد الله عليهم قائلاً لهم على لسان موسى: ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [69]، والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض، فلونها فاقع الصفرة ﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ يعني تعجب الناظرين في خلقها ومنظرها وهيئتها، وقد قيدها الله بهذا اللون النادر الوجود لعدم استجابتهم لأمره، حيث قال في بيان هيئتها الأولى: ﴿ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ افعلوا ما أمرتكم به تدركوا حاجتكم ومطلبكم وتحصلوا بطاعتي على العلم بقاتل قتيلكم ولكنهم أبوا فجاءهم تشديد جديد.

قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [72-73].

ذكرنا فيما مضى أن السبب في أمر الله لهم بذبح البقرة هو حادثة القتل التي اتهم بعضهم فيها ا لبعض الآخر، وكل فريق منهم يدفع التهمة عن نفسه ويلصقها بغيره لشدة ما بينهم من الإحن والعداوات، حتى كادوا أن يقتتلوا جميعاً، ولما سألوا موسى الكشف عن الحقيقة قال لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾، وجرى منهم من التعنت على موسى واتهامه وكثرة الإلحاح معه في السؤال عن صفات البقرة مما جلب عليهم التشديد وتعقيد الأمور المناسب لنفوسهم المعقدة.

وقد ورد أثر موقوف على ابن جريج وابن عباس أنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم، ولكنهم شددوا، فشدد الله عليهم[4]، وزعم بعضهم رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه مرسل على التحقيق، وقد روى ابن جرير عن بشر قال حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم، والذي نفس محمد بيده لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد))[5]. يعني لو لم يقولوا: ﴿ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾.

وقد أضاف الله الجريمة إلى الجميع بقوله: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ ﴾، لأنهم مسئولون عنها جميعاً حتى يجتهدوا بنصح وإخلاص خال من الحمية والعصبية في كشف المجرم ليلقى جزاءه، فالأمة كالجسد الواحد، وقد سبق القول في معنى ﴿ ادَّارَأْتُمْ ﴾ يعني تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، كل سبط يدرأ الجريمة عن حزبه ويتهم بها الآخرين، قال رؤبة بن العجاج:

أدركتها قدام كل مدره
بالدفع عني درء كل عنجه

ولقد انكشفت حكمة الله لنبي إسرائيل من ذبح البقرة، وأخرج الله ما كانوا يكتمونه من أمر القتيل الذي بسببه كادت تعمهم الفتنة والنقمة، فصار ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، ليخبرهم بنفسه عمن قتله، لقد جعلها الله وسيلة، وهو سبحانه قادر على إحيائه بغير وسيلة، ولكن اقتضت حكمته أن لا يحيا إلا بعد جهد وامتحان وثمن باهظ كادوا بسببه أن لا يفعلوا.

هذا التكليف الذي كلفهم الله به دون أن يعرفوا غايته، فيه امتحان لذي الانقياد والتسليم، وقد علمت ما قابلوا به موسى من التعنت والأمر المريب، وما ألجأهم في النهاية إلى التنفيذ ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ وهنا يوبخهم الله ﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ من أمر القتيل حمية على القاتل، وعدم رحمة بالمقتول، ومن يبكيه ومن يحزن عليه، وعدم مبالاة بتهمة الأبرياء الذين تضطرهم الحالة إلى الدفاع عن أنفسهم ورفض عار الجريمة وشناعتها، ثم عدم المبالاة بفتنة لا يعلم أيان مرساها إلا الله.

ما أقسى هذه القلوب التي تريد لها معجزة فاضحة، تدفع أربابها على رؤوسهم وتخسئهم بين باقي الأسباط، وتبين للجميع مدى قدرة الله وعظيم حكمته ورحمته، ولذا قال لهم بعد ما ذبحوا البقرة: ﴿ اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ بجزء منها غير معين، بل اختاروا أنتم قطعة منها واضربوه بها، وجعلهم يتولون أمر الضرب هم بأنفسهم ويباشرونها دون موسى عليه السلام، لأن الله يعرف دفائن أنفسهم الخبثة، وأنه لو ضربه موسى ببعضها من دونهم لرموه بالسحر والشعوذة، أو زعموا أن هذا من خصائصه، كاليد والعصا والصخرة ولكن جاء قدر الله وأمره بوسيلة هم يباشرونها بأنفسهم لينقطعوا أمام حجة الله البالغة وآياته التي هي فوق مستوى أي بشر، ولذا قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.

هنالك شاهدوا من قدرة الله وتأثيره في الكائنات مشهداً لا يعرفون كنهه، وليس لديهم أمامه إلا الاعتراف والتسليم، قطعة لحم من حيوان مذبوح يضرب بها ميت قد صار جيفة فينهض حياً ناطقاً، يخاطبهم ويخبرهم بالذي قتله، هكذا القدرة الإلهية، لا يستعصي عليها شيء.

إن هذه الحادثة العظيمة والمعجزة الباهرة المخضعة للرقاب طوعاً أو كرهاً قد شاهدها القوم مشاهدة عيان لا يمكن إنكارها، وهي أيضاً من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بها أمته، وذكر بها أحفاد بني إسرائيل، ولم يجرؤ أحد منهم على إنكارها، مع أنهم أمة البهت والفجور، وقد أرى الله بها بني إسرائيل سراً من أسرار ألوهيته، وأعجوبة عظيمة من عجائب قدرته، لا سبيل إليهما في عالم الماديين، بل ولا في طاقة العقول البشرية جميعاً، كيف باغت الله بهذه الحادثة خصوماً لؤماء ألداء كتموا الجريمة لحاجات وأهواء في صدورهم، لتكون النكاية بغيرهم من دونهم، ففضحهم الله بانتفاضة المقتول لما ضربوه ببعض لحم البقرة أو أجزائها، فقام حياً يكلمهم ويهتك أستار المجرمين، وصدقهم الله قوله بإنجاز هذه القدرة ﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾. لقد دفع الله الباطل وأظهر الحق وهلهل أستار التلبيس وبرهن لهم على قدرته في إحياء الموتى إحياءً معنوياً.

فقوله سبحانه وتعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أراهم الله بالعيان نوعي الإحياء الحسي والمعنوي، فالحسي إحياء القتيل وقيامه من بينهم وهم ينظرون، وأما الإحياء الثاني فهو إنجاؤه للفريقين المتخاصمين، بل لعدة فرق وأسباط، أو لكل الأسباط الذين تجرهم الفتنة إلى قتال يفنون فيه، فالله أنقذهم من الموت المحقق الشنيع الذي سيجري عليهم بالتقاتل، وذلك بإحياء القتيل وإخباره إياهم بالذي قتله، وهنالك خمدت الفتنة وحييت نفوسهم جميعاً، فيالها من آيات باهرة نزلت عليهم فيها رحمة الله.

ولذا قال سبحانه: ﴿ ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ لعلكم تفهمون مدى قدرة الله التي لا تقف عند حد ولا تحيط بها العقول، وتفهمون أسرار شريعته في أمره ونهيه، وتدركون فائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها وتكبحونها عن جماحها، وتؤمنون بجميع آيات الله التي جاء بها موسى، والتي جاء بها محمد عليهما الصلاة والسلام، ولا تجحدون شيئاً منها لأغراض في نفوسكم، فإنه لا يستقيم لكم الإيمان بموسى حتى تؤمنوا بكل نبي ورسول بعده، وعلى الأخص خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم تحققوا هذا فإنكم لم تعوا آيات الله ولم ترعوها حق رعاتيها، فهذا الخطاب منه سبحانه وتعالى عام في جميع بني إسرائيل الأقدمين والآخرين.

إن من لم يستفد من هذه القصة بمشهدها الأخير، زيادة عقل وتفكر، وقوة إيمان، ولين قلب، وصفاء نفس، فبأي شيء يستفيد؟ إن بني إسرائيل بهذا المشهد الهائل العجيب يجب أن تنحشي قلوبهم بالتقوى والخشية والمراقبة لله، وأن تجيش بجميع أنواع الحساسية، فتخشع وتلين لما شاهدت نم الحق، ولكن الله سبحانه يخبرنا عن انعكاس أحوالهم في الآية (74) من قسوة القلوب التي ليس لها نظير. ثم إن ههنا فوائد:

الأولى: في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ تدل على إحاطة علمه بجميع المعلومات العلنية والسرية والفعلية واللفظية والنفسية، فهو عالم بجميع ذلك، وقادر على إظهار المكتوم منه.

الثانية: تدل هذه الآية على أن مايسره العبد ويكنه من خير أو شر فإن الله سيظهره، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن عبداً أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس))[6] وكذلك المعصية.

الثالثة: هذه الآية من العام المراد به الخصوص، لأن قوله: ﴿ كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ عام في كل مكتوم، ولكن الله يريد إظهار ما كتموه في هذه الواقعة فقط.

الرابعة والخامسة: الأمر المطلق يقتضي الوجوب ويقتضي الفورية، لأن الله ذم المتثاقلين في تنفيذه، مع اشتغالهم بطلب مقتضاه والسؤال عن ماهيته، كما ذمهم على التراخي في الفعل عند ورود الأمر المجرد من هاتين القاعدتين من قواعد الأصول.

السادسة: قال الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً))[7]، فهذه اللفظة المباركة مستحبة في كل عمل يراد تحصيله، وقد قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24]، لأن في هذه الكلمة استعانة بالله، وتفويض الأمر إليه، وتجديد الاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته.

السابعة: تساءلوا عن تخصيص الأمر بذبح بقرة دون غيرها من الأنعام، وأجابوا بعدة أشياء، منها: أن الكلام في غيرها لو أمروا به لا ينقطع كالكلام فيها، ومنها: أنها مما جرت العادة بجعلها قرباناً إلى الله، ومنها: عكس ذلك، وهو أن الله يريد أن يمسح تقديس البقر من قلوبهم، لأنه شيء طارئ عليهم من تقليدهم لعادات المصريين، ومنها أن الله يريد منهم تحمل الكلفة في تحصيلها، ودفع الثمن الباهظ فيها، لينتفع صاحبها البار بوالديه، وليثبت منهم من حسنت نيته، ومنها: أنه تعلق بذبحها مصلحة لا تحصل إلا بذبحها، والله أعلم بمراده وأسرار حكمته.

الثامنة: تساءلوا عن الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة، مع أن الله سبحانه قادر على أن يحييه ابتداء، بل يحييه بدونها؟

والجواب: أن الفائدة فيه لتأكيد الحجة على الناظرين وقطع دابر تهمة الحيلة على المتهوكين والملحدين، ذلك أنه يحصل بإحياء الفتيل دون ذلك مجال لأولئك، فيقولون هذا ضرب من السحر، ولذلك لم يباشر هذا الفعل موسى خشية من القيل والقال، بل وجه الله لأمر إليهم لتكون حياته بفعل فعلوه، والله أجرى حياته على أيديهم بما باشروه من الضرب، ليدلل على أن المعجزات لا تكون إلا من الله، دون أي تمويه من الناس، وأن الانبياء كغيرهم لا تأثير لهم فيها.

التاسعة: وردت حكايات إسرائيلية في اسم البقرة وصاحبها، واسم الجزء الذي ضرب فيه القتيل، اعرضت عن ذكرها، لأني أرى وجوب تنزية تفسير كلام الله عنه هذه النقول التي لا تقوم بها حجة، ولعدم صدورها عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

العاشرة: في قولة تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ تدليل حسي واضح على الأمر الغيبي الذي تتطرق الشكوك إليه، ليدلل للمستيقنين على أن الإعادة في قدرته سبحانه أهون عليه من الابتداء في صنعته، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27]، فيزيد الله في هذه الحادثة من إيمان المؤمنين بالبعث، فتطمئن قلوبهم، كما فعل بإبراهيم عليه السلام، ويقيم الحجة على الكافرين، لأن هذه القصة قد شوهدت بالعيان وتواتراث أخبارها، فهي من بعض حجج الله الكبيرة.

الحادية عشرة: قوله تعالى: ﴿ ويريكم ءايته ﴾ قد يقول بعض الجهلة والمشاغبين: هي آية واحدة، إحياء القتيل بجزء من مذبوح، والحق أن هذه المعجزة يتفرع منها آيات كثيرة، منها: الدلالة على وجود الخالق القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء والمختار ما يشاء في إيجاده وإعدامه، ومنها الدلالة على صدق موسى، والدلالة على حقيقة المجرم، وتبرئة ساحة الأبرياء، ومنها: الدلالة العظيمة على إحياء الموتي بشيء واضح لا يقبل الجدل.

حقاً إنها آيات كبيرة يرينا الله إياها.

الثانية عشر: جواز الاجتهاد حتى في عصر النبوة، لأن الله أمرهم بذبح بقرة وسط بين الكبير والصغير، دون تعيين سنها، وقال لهم: ﴿ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ﴾، وهو أمر منه سبحانه لهم أن يجتهدوا فيما بين ذلك.

الثالثة عشر: حصلت تساؤلات كثيرة على تقديم ذكر الأمر بذبح البقرة قبل ذكر السبب الذي هو قتلهم للنفس، ومن أحسن ما أجيب: أنهما قصتان، كل واحدة منهما مسقلة بنوع من التقريع، وإن كاننا في الحقيقة متصلتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة للامتثال، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وإخفاء الجريمة، ولو قدم ذكر القتل على ذكر البقرة لكانت قصة واحدة وذهب الغرض في تثنية التقريع، وقال الحراني: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل ابتداء بأشرف القصتين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة.

الرابعة عشرة: من لم يؤمن بهذه القصة أو بهضمها فهو ملحد لا يؤمن بالبعث والنشور، ومن لا يؤمن بالبعث لا يؤمن بالله وقدرته الغالبة وحكمته البالغة.

الخامسة عشر: قوله تعالى: ﴿ فادرءتم ﴾ أصلها تدارأتم، ولكن لقرب مخرج التاء من مخرج الدال أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مشددة، كما في قول الشاعر:

تولى الضجيع إذا ما استافها خصراً
عذب المذاق إذا ما اتابع القبل

قال تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَما اللَّهُ بِغَافِلٍ عَما تَعْمَلُونَ ﴾ [74].

القسوة: هي شدة الصلابة والغلظة، وهي منبئة عن ذهاب اللين والرحمة والخشوع، وهو قوله سبحانه: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ يعني من بعد هذه الآيات، سواء إحياء القتيل وما نجم عنه، أو جمع الآيات التي مر ذكرها: من تظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وتفجير اثنتي عشرة عيناً من صخرة صغيرة، ورفع الطور فوقهم، ومسخهم قردة وخنازير، يعنى مسخ بعضهم، ورحمة الله بهم في أمر القتيل بإحيائه في تلك الأعجوبة، بعد جميع هذه الآيات صارت النتجية قسوة القلوب.

وهذه الآيات تلين القلوب، وتصقل النفوس، وتهز العواطف والشعور وتكسب اليقين، وتؤنب الضمائر، ولكن قلوب هؤلاء بلغت من القساوة ما يزيد عن قساوة الجماد، وقد قال بعض المفسرين: أن المقصود بهم سبط القاتل ومن على شاكلته، وبعضهم قال: المقصود به جميعهم حيث تمادوا في التمرد على موسى، وبعضهم قال: إن ذلك حصل في خلف لهم بعد موسى، واستدل بقولة تعالى: ﴿ ثُمَّ ﴾ على أن العطف بها يفيد أن أولهم قد خشع وأن القسوة حصلت فيمن بعدهم، والصحيح أيضاً العطف بـ(ثُمَّ) يقصد به الترتيب، يعني ثم من بعد ما رأوا تلك الآيات الملينة للقلوب المحركة للشعور، قست قلوبهم ولهذا قال سبحانه: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾.

فقوله: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ يعني (من بعد ذلك الآيات)، لا من بعد ذلك الخشوع، لأنه ليس للخشوع ذكر في السياق، ولا له دليل أبداً، والصحيح الذي تدل عليه الآيات التي في غير هذه السورة أن قسوة القلوب من صفات بني إسرائيل جميعاً وسماتهم، حتى المخاطبين في عصر النبوة فإنهم برهنوا لنا بجحودهم وعنادهم واشتداد عداوتهم للحق، على قسوة قلوبهم التي وصفها الله في هذه الآية الكريمة، ذلك أن قوارع القرآن تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بأخبارهم ويتلوها عليهم، وفيها من التقريع والتوبيخ وسرد الآيات والنعم والعقوبات والنذر ما فيه عظات ومزدجر، بل الأسلوب القرآني يخاطب قلوبهم بالمثلات التي لا يبقي معها أي تريث عن الإيمان لو كانت عندهم قلوب حيوانية[8]، ولكن قلوبهم أصبحت جمادية لا تتأثر بالعبر والعظات، ولم تستطع تلك النذر والمثلات أن تشقها وتنفذ إلى أعماق الوجدان فيها، وصارت لا تهزها الآيات الكونية الرهيبة التي ذكرهم بها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لتكون أعظم معجزة على صدقه.

لقد قرأ صلى الله عليه وسلم أوائل سورة (فصلت) على بعض صناديد قريش، فلما وصل إلى قوله: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13] صرخ قائلاً: ناشدتك الله والرحم أن تمسك[9]، هكذا القلوب الحيوانية تتأثر من الآيات، مع أن تلك لا تساوي واحداً من الألف مما تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني إسرائيل، ولكن قلوبهم جمادية والعياذ بالله.

وقوله تعالى: ﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ يعني بل أشد قسوة، فحرف (أو) هنا ليس للشك والتردد، وإنما هو بمعنى الواو أو بمعني (بل) فالواو لقوله تعالى: ﴿ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴾ [المرسلات: 6] وقوله: ﴿ آَثِما أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 24] وبمعنى بل، كقول الشاعر:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أو أنت في العين أملحُ

وكقول الآخر:

أحب محمداً حباً شديداً
وعباساً وحمزة أو عليا

وتشبه الله قلوبهم بالحجارة دون الحديد والصفر ونحوهما مما هو أقسى لأمرين:
الأول: أن الحديد ونحوه يذوب إذا أحمي بالنار، ولهيب المواعظ للقلوب أعظم من النار.

والثاني: لأنهم شاهدوا الحجارة يتفجر منها الأنهار، وشاهدوا الجبل يندك من خشية الله، ويخر موسى صعقاً، فلهذا أجرى التشبيه لهم، مبيناً لهم أن قلوبهم لا تنبض بخشية ولا تقوى، ومذكراً لهم بقوله: ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ ﴾. وقد شاهدتم يا بنى إسرائيل نوعاً من ذلك حجارة صغيرة بأمر الله، ومن خشية الله، تتفجر عيوناً لكم حيث شاء الله ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ كما شاهدتموه حين مواعدة موسى لربه، شاهده بعضكم وأخبر البعض إلى الآخر، فأمثلة القرآن حسية تورث اليقين للقلوب الحية، والله أعلم.

روى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي))[10]. وما قسوة قلوب بني إسرائيل بسبب عدم ذكر الله الذكر الصحيح، ذكر المحب لحبيبه، ذكر المربوب للرب، ذكر المتأله الصادق للمالوه الحق، ذلك الذكر الدائم الذي يورث المراقبة والخشوع فيسلم صاحبه من جحود النعمة والإعراض عن الآيات، والتنكر للمنعم المحبوب سبحانه وتعالى، فإن هذه هي أمراض قلوب الإسرائيليين التي أورثتها القسوة الموصوفة في القرآن بأنها أشد من قسوة الحجارة، لأنهم كانوا على ما وصفهم الله به من التكذيب برسله، والجحود لآياته بعد ما أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم من الأرواح والعقول التي لم يعطها الحجر ونحوه من الجماد.

ومع هذا فالجماد يتأثر وقلوبهم لا تتأثر، خصوصاً ما أتاهم من آيات وعظات تهز الوجدان وتنفذ إلى أعماق الجنان، وقد ثبت أن الجذع الذي كان يستند إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا خطب، حن إليه بعد ما تحول عنه[11]، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن حجراً كان يسلم عليَّ في الجاهلية، إني لأعرفه الآن))[12]، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال لي ثبير[13]: اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله، فناداه حراء: إلي يا رسول الله))[14]. هكذا شأن الجماد. فأين قلوب بني إسرائيل التي جاءها من النعم والآيات والنقم ما فيه مزدجر، ولذا قال تعالى: ﴿ وَما اللَّهُ بِغَافِلٍ عَما تَعْمَلُونَ ﴾ يعنى: معشر اليهود المكذبين بآيات الله، والمؤذين لأنبيائهم، والجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والناقلين عليه الأباطيل، ما الله بغافل ولا ساه عن أعمالكم بل هو لكم بالمرصاد، سيواصل عليكم أنواع عقوباته، وفي هذه الآية تهديد شديد لهم.

[1] أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337/412) والترمذي (2679) وابن ماجه (2) وأحمد (2/258, 355، 428) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري (7289) ومسلم (2358/132) وأحمد (1/179) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[3] الطبري (1/354).
[4] الطبري (1/339) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] مرسل:
أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (1/347) من طريق قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
[6] إسناده ضعيف:
أورده أبو نعيم في الحلية (5/37) بمعناه.
والحديث فيه روح بن مسافر متروك الحديث. انظر: المغني في الضعفاء (1/234)، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/289).
[7] لم أجده فيما بين يدي من مصادر.
[8] حيوانة: فيها حياة.
[9] أخرجه الحاكم (2/278)، وأبو يعلى في مسنده (7/350) وعبد بن حميد (1/337) وابن أبي شيبة (7/331) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
والحديث في إسناده الأجلح بن عبد الله وهو مختلف فيه. انظر: تهذيب الكمال (2/275).
وقال الحافظ في التقريب (285): صدوق شيعي. ومال الذهبي إلى توثيقه حيث ذكره في كتابه ((من تكلم فيه وهو موثق)).
[10] أخرجه الترمذي (2411) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث غريب.
والحديث فيه إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، قال الحافظ في التقريب (194): صدوق روى مراسيل.
وقال الذهبي في الميزان (1/161): ما علمت فيه جرحاً ومن غرائبه حديثه عن عبد الله بن دينار... فذكره.
[11] أخرجه البخاري (3583) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه البخاري (3584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[12] أخرجه مسلم (4/2277) والترمذي (3624) وابن حبان (14/402) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
[13] ثبير: اسم جبل.
[14] ذكره القرطبي في التفسير (1/466).





تفسير سورة البقرة (1)
تفسير سورة البقرة (2)
تفسير سورة البقرة (3)
تفسير سورة البقرة (4)
تفسير سورة البقرة (5)
تفسير سورة البقرة (6)
تفسير سورة البقرة (7)
تفسير سورة البقرة (8)
تفسير سورة البقرة (9)
تفسير سورة البقرة (10)
تفسير سورة البقرة (11)
تفسير سورة البقرة (12)
تفسير سورة البقرة (13)
تفسير سورة البقرة (14)
تفسير سورة البقرة (15)
تفسير سورة البقرة (16)
تفسير سورة البقرة (17)
تفسير سورة البقرة (19)
تفسير سورة البقرة (20)
تفسير سورة البقرة (21)
تفسير سورة البقرة (22)
تفسير سورة البقرة (23)


صدر حديثاً (تفسير القاضي عبدالجبار المعتزلي) جمع خضر نبها(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
تفسير جديد للعلامة البلاغي عبدالقاهر الجرجاني (471هـ)(درج الدرر في تفسير الآي والسور)(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
صدر حديثاً (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم) لنخبة من علماء التفسير في 10 مجلدات(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
عرض كتاب (المفصل في تفسير القرآن الكريم المشهور بتفسير الجلالين)تحقيق فخر الدين قباوة(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
تفسير خَلَفِ السجستاني (ت399هـ):تَجرِبةٌ قَديِمَةٌ للتفسير الموسوعيِّ الجماعي(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
المسلمون والتقصير في خدمة كتاب الله (3/3)(مقالة - موقع أ. محمد خير رمضان يوسف)
التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما(مقالة - آفاق الشريعة)
صدر حديثاً كتاب (الدرة في تفسير سورة البقرة) للأستاذة ميادة الماضي(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
تفسير سورة البقرة للحافظ ابن حجر من فتح الباري(كتاب - مكتبة الألوكة)
تفسير سورة البقرة للحافظ ابن حجر من فتح الباري(مقالة - آفاق الشريعة)



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/36942/#ixzz1luXPNyvW
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:57 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.