إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #21  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) مصنف و مدقق 1-5

تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) مصنف و مدقق 1-5


{ اياك نعبد واياك نستعين } بنى الله سبحانه اول الكلام على ما هو مبادى حال العارف من الذكر والفكر والتأمل فى اسمائه والنظر فى آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شانه وتأثير سلطانه ثم قفى بما هو منتهى امره وهوان يخوض لجة الوصول ويصير من اهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها اللهم اجعلنا من الواصلين الى العين دون السامعين للاثر. وفيه اشارة ايضا الى ان العابد ينبغى ان يكون نظره الى المعبود اولا وبالذات ومنه الى العبادة لا من حيث انها عبادة صدرت منه بل من حيث انها نسبة شريفة ووصلة بينه وبين الحق فان العارف انما يحق وصوله اذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى انه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من احوالها الا من حيث انها ملاحظة له ومنتسب اليه ولذلك فضل ما حكى عن حبيبه حين قال


على ما حكاه عن كليمه حيث قال


وتقديم المفعول لقصد الاختصاص اى نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك والعبادة غاية الخضوع والتذلل.

وعن عكرمة جميع ما ذكر فى القرآن من العبادة التوحيد ومن التسبيح الصلاة ومن القنوت الطاعة.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان جبريل عليه السلام قال للنبى صلى الله عليه وسلم قل يا محمد { اياك نعبد } اى اياك نؤمل ونرجوا لا غيرك والضمير المستكن فى { نعبد } وكذا فى { نستعين } للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضرى صلاة الجماعة او له ولسائر الموحدين ادرج عبادته فى تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها وتجاب ولهذا شرعت الجماعة قال الشيخ الاكبر والمسك الاذفر قد سنا الله بسره الاطهر فى كتاب العظمة اذا كنى العبد عن نفسه بنون نفعل فليست بنون التعظيم واذا كنى عن الحق تعالى بضمير الافراد فان ذلك لغلبه سلطان التوحيد فى قلب هذا العبد وتحققه به حتى سرى فى كليته فظهر ذلك فى نطقه لفظا كما كان عقدا وعلما ومشاهدة وعينا وهذه النون نون الجمع فان العبد وان كان فرداني اللطيفة وحدانى الحقيقة فانه غير وحدانى ولا فرداني من حيث لطيفته ومركبها وهيكلها وقالبها وما من جزء فى الانسان الا والحق تعالى قد طالب الحقيقة الربانية التى فيه ان تلقى على هذه الجزاء ما يليق بها من العبادات وهى فى الجملة وان كانت المدبرة فلها تكليف يخصها ويناسب ذاتها فلهذه الجميعة يقول العبد لله تعالى نصلى ونسجد واليك نسعى ونحفد واياك نعبد وامثال هذا الخطاب ولقد سألنى سائل من علماء الرسوم عن هذه المسئلة وكان قد حار فيها فاجبته باجوبة منها هذا فشفى غليله والحمد لله انتهى كلام الشيخ قدس سره.

-1-

وانما خصص العبادة به تعالى لان العبادة نهاية التعظيم فلا تليق الا بالمنعم فى الغاية وهو المنعم بخلق المنتفع وباعطاء الحياة الممكنة من الانتفاع كما قال تعالى

{ وَكُنتُم أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُم } [البقرة2: 28] الآية
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة2: 29].


ولان احوال العبد ماض وحاضر ومستقبل ففى الماضى نقله من العدم والموت والعجز و الجهل الى الوجود والحياة والقدرة والعلم بقدرته الازلية وفى الحاضر انفتحت عليه ابواب الحاجات ولزمته اسباب الضروريات فهو رب الرحمن الرحيم وفى المستقبل مالك يوم الدين يجازيه باعماله فمصالحه فى الاحوال الثلاثة لا تستتب الا بالله فلا مستحق للعبادة الا الله تعالى. ثم قوله { نعبد } يحتمل ان يكون من العبادة ومن العبودة والعبادة هى العابدية والعبودة هى العبدية. فمن العبادة الصلاة بلا غفلة والصوم بلا غيبة والصدقة بلا منة والحج بلا اراءة والغزو بلا سمعة والعتق بلا اذية والذكر بلا ملالة وسائر الطاعات بلات آفة. ومن العبودة الرضى بلا خصومة والصبر بلا شكاية واليقين بلا شبهة والشهود بلا غيبة والاقبال بلا رجعة والايصال بلا قطيعة. واقسام العبادة على ما ذكره حجة الاسلام فى كتابه المسمى بالاربعين عشرة كما أن الاعتقاد التى قبلها عشرة فالمعتقدات الذات الازلية الابدية المنعوتة بصفات الجلال والاكرام الذى هو الاول والآخر والظاهر والباطن اى الاول بوجوده والآخر بصفاته وافعاله والظاهر بشهادته ومكوناته والباطن بغيبه ومعلوماته. ثم التقديس عما لا يليق بكماله او يشين بجماله من النقائص والرذائل. ثم القدرة الشاملة للممكنات. ثم العلم المحيط بجميع المعلومات حتى بدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء وما هو اخفى منه كهواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر. ثم الارادة بجميع الكائنات فلا يجري في الملك والملكوت قليل او كثير الا بقضاءه ومشيئته مريد في الازل لوجود الاشياء في اوقاتها المعينة فوجدت كما ارادها. ثم السمع والبصر لا يحجب سمعه بعد ولا رؤيته ظلام فيسمع من غير اصمخة وآذان ويبصر من غير حدقة واجفان. ثم الكلام الازلى القائم بذاته لا بصوت ككلام الخلق وان القرآن مقروء ومكتوب ومحفوظ ومع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى وان موسى سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف كما يرى الابرار ذات الله من غير شكل ولا لون. ثم الافعال الموصوفة بالعدل المحضن فلا موجود الا وهو حادث بفعله وفائض من عدله اذا لا يضاف لغيره ملكا ليكون تصرفه فيه ظلما فلا يتصور منه ظلم ولا يجب عليه فعل فكل نعمة من فضله وكل نقمه من عدله. ثم اليوم الآخر. والعاشر النبوة المشتملة على إرسال الملائكة وانزال الكتب * واما العبادات العشرة فالصلاة والزكاة والصوم والحج وقراءة القرآن وذكر الله فى كل حال وطلب الحلال والقيام بحقوق المسلمين وحقوق الصحبة والتاسع الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والعاشر اتباع السنة وهو مفتاح السعادة وامارة محبة الله كما قال تعالى

-2-

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران3: 31].

قال المولى الجامى قدس سره

يا نبى الله السلام عليكانما الفوز والفلاح لديك
كرنرفتم طريق سنت توهستم از عاصيان امت تو
ما نده ام زير بار عصيان بستافتم ازباي اكرنكيرى دست


وجاء فى بيان مراتب العباد المتوجهين إلى الله ان الانسان اذا فعل برا ان قصد به امرا ما غير الحق كان من الاحرار لا من العبيد وان لم يقصد امرا بعينه بل يفعله لكونه خيرا فقط ولكونه مأمورا به لا مطلقا بل من حيث الحضور منه مع الآمر فهو الرجل فان ارتقى بحيث لا يقصد بعمله غير الحق كان تاما في الرجولية فان كان بحيث لا يفعل شيأ الا بالحق كما ورد فى قرب النوافل صار تاما فى المعرفة والرجولية وان انضم الى ما سبق حضوره مع الحق فى فعله بحيث يشهده بعين الحق لا بنفسه من حيث اضافة الشهود الى الله والفعل والاضافة اليه الا الى نفسه فهو العبد المخلص عمله فان ظهرت عليه غلبة احكام هذه المقام والذي قبله وهو مقام فبى يسمع غير متقيد بشئ منها ولا بمجموعها مع سريان حكم شهوده الاحدى فى كل مرتبة ونسبة دون الثبات على امر بعينه بل ثابتا فى سعته وقبوله كل وصف وحكم عن علم صحيح منه بما اتصف به وما انسلخ عنه فى كل وقت وحال دون غفلة وحجاب فهو الكامل فى العبودية والخلافة والاحاطة والاطلاق كذا فى تفسير الفاتحة للصدر القنوى قدس سره. قال فى التأويلات النجمية فى قوله { اياك نعبد } رجع الى الخطاب من الغيبة لانه ليس بين المملوك ومالكه الاحجاب ملك نفس المملوك فاذا عبر من حجاب ملك النفس وصل الى مشاهدة مالك النفس كما قال ابو يزيد فى بعض مكاشفاته الهى كيف السبيل اليك قال له ربه دع نفسك وتعال فللنفس اربع صفات امارة ولوامة وملهمة ومطمئنة فامر العبد المملوك بان يذكر مالكه باربع صفات بالصفة والالهية والربوبية والرحمانية والرحيمية فيعبر بعد مدح الالهية وشكر الربوبية وثناء الرحمانية وتمجيد الرحيمية بقوة جذبات هذه الصفات الاربع من حجاب ممالك الصفات الاربع للنفس فيتخلص من ظلمات ليلة رين نفسه بطلوع صبح صادق مالك يوم الدين فيبقى العبد عبدا مملوكا لا يقدر على شئ فيرحمه مالكه ويذكره بلسان كرمه على قضية وعده

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم } [البقرة2: 152].


ويناديه ويخاطب نفسه

{ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } [الفجر89: 27].


ثم يجذبه من غيبة نفسه الى شهود مالكية ربه بجذبة

{ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } [الفجر89: 28].

-3-

فيشاهد جمال مالكه ويناديه نداء عبد خاضع خاشع ذليل عاجز كما قرأ بعضهم مالك يوم الدين نصبا على نداء اياك نعبد. واعلم ان النفس دنيوية تعبدو هواها الدنيوى لقوله تعالى

{ أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية45: 23].


والقلب اخروى يعبد الجنة لقوله تعالى

{ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات79: 40-41].


والروح قربى يعبد القربة والعندية لقوله تعالى

{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر54: 55].


والسر حضرتى يعبد الحق تبارك لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام " الاخلاص سر بينى وبين عبدى لا يسعه فيه مل كمقرب ولا نبى مرسل "

فلما انعم الله على عبده بنعمة الصلاة قسمها بينه وبين عبده كما قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام " قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل " فتقرب العبد بنصفه الى حضرة كماله بالحمد والثناء والشكر على صفات جماله وجلاله وتقرب الرب على مقتضى كرمه وانعامه كما قال " من تقرب الى الله شبرا تقربت اليه ذراعاBR> ". بنصفه الى خلاص عبده من رق عبودية الاغيار باخراجه من ظلمات بعضها فوق بعض من هوى الناس ومراد القلب وتعلق الروح بغير الحق الى نور وحدانيتة وشهود فردانيته فاشرقت ارض وسماوات القلب وعرش الروح وكرسى السر بنور ربها فآمنوا كلهم اجمعون بالله الذي خلقهم وهو مالكهم وملكهم وكفروا بطواغيتهم التى يعبدونها واستمسكوا بالعروة الوثقى وجعلوا كلهم واحدا وقالوا { اياك نعبد واياك نستعين } كرر اياك للتنصيص على اختصاصه تعالى بالاستعانة ايضا والاستعانة طلب العون ويعدى بالباء وبنفسه اى نطلب العون على عبادتك او على ما لا طاقة لنا به او على محاربة الشيطان المانع من عبادتك او فى امورنا بما يصلحنا فى دنيانا وديننا والجامع للاقاويل نسألك ان تعيننا على اداء الحق واقامة الفروض وتحمل المكاره وطلب المصالح وتقديم العبادة على الاستعانة ليوافق رؤوس الآى وليعلم منه ان تقديم الوسيلة على طلب الحاجة ادعى الى الاجابة واياك نعبد لما ورثه العجب اردف اياك نستعين ازالة له وافناء للنخوة. ففى الجمع بينهما افتخار وافتقار فالافتخار بكونه عبداً عابداً والافتقار الى معونته وتوفيقه وعصمته وفيه أيضاً تحقيق لمذهب اهل السنه والجماعة اذ فيه اثبات الفعل من العبد والتوفيق من الله كالخلق ففيه رد الجبرية النافين للفعل من العبد بقوله اياك نعبد ورد المعتزلة النافين للتوفيق والخلق من الله بقوله اياك نستعين ثم تحقيقهما من العبد ان لا يخدم غير الله ولا يسأل الامن الله – حكى – عن سفيان الثورى رحمه الله انه ام قوما فى صلاة المغرب فلما قال { اياك نعبد واياك نستعين } خر مغشيا عليه فلما افاق قيل له فى ذلك فقال خفت ان يقال فلم تذهب الى ابواب الاطباء والسلاطين.

-4-

وفى تخصيص الاستعانة بالتقديم اقتداء بالخليل عليه السلام فى قيد النمرود حيث قال له جبريل عليه السلام هل لك من حاجة فقال اما اليك فلا فقال سله قال حسبى من سؤالى علمه بحالى بل زدت عليه فان الخليل قيد رجلاه ويداه لا غير فاما انا فقيدت الرجلين فلا اسير واليدين فلا احركهما وعينى فلا انظر بهما واذنى فلا اسمع بهما ولسانى فلا اتكلم به وانا مشرف على نار جهنم فكما لم يرض الخليل بغيرك معينا لا اريد الاعونك فاياك نستعين وكانه تعالى يقول فنحن ايضا نزيد حيث قلنا ثمة يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم واما انت فقد نجيناك من النار واوصلناك الى الجنة زدنا سماع الكلام القديم وامرنا نار جهنم تقول لك جزيا مؤمن فقد اطفأ نورك لهبى: قال المولى جلال الدين قدس سره

زآتش مؤمن ازين رو اى صفىميشود دوزخ ضعيف ومنطفى
كويدش بكذر سبك اى محتشمورنه زآتشهاى تو مرد آتشم


-5-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #22  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق 1-3

تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق 1-3

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


قلت: { إياك } مفعول { نعبد } ، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به، والدلالِ على الحصر، ولذلك قال ابن عباس: (نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك)، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال:

{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التّوبَة9: 40]،

على ما حكاه عن كليمه حيث قال:

{ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ } [الشُّعَرَاء26: 62]،

أي: حيث صرّح بمطلوبه، و { إياك } مفعول { نستعين } وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام، كما تقدم في { إياك نعبد }. وكرّر الضمير ولم يقل: إياك نعبد ونستعين؛ لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي - أبلغ وأمدح من قولك: بك أنتصر وأحتمي... الخ؟


وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته، فقال: أعطني ما يعينُني عليها، فهو سوء أدب، وأيضاً: من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة، وأيضاً: لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله: { وإياك نستعين } ، دفعاً لذلك التوهم.

والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق مُعَبَّدٌ، أي: مُذَلل، والاستعانة، طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها، أو في أداء العبادات.

والضمير المستتر في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموجودين. أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.

يقول الحقّ جلّ جلاله، تتميماً لتعليم عباده: فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية، وأظهروا من أنفسكم العبودية، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وكأنه - جلّ جلاله - لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها؛ لأنه رب العوالِم وقيومها، أصل الأصول وفروعها، أنعم عليها أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه؛ إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله، فهو أحقُّ أن يُعبد، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
-1-

قال البيضاوي: ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة، لكون أدلّ على الاختصاص، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود، وكأن المعلومَ صار عياناً، والمعقولَ مُشاهَداً، والغيبة حضوراً، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ؛ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول،ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله:

{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ... } [يُونس10: 22]،

ولم يقل (بكم) وقوله:

{ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ... } [فَاطِر35: 9]،

أي: ولم يقل: فساقه... انظر تمام كلامه.


والالتفات هذا في قوله: { إياك نعبد } ولم يقل: إياه نعبد؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً.

قال الأقليشي: فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم: " فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ " معناه: أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، والعون من الله تعالى للعبد، فلهذا قال: " فهذه بيني وبين عبدي ".

قال ابن جُزَي: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك.

{ الإشارة }: لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.

فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: { إياك نعبد } شريعة، و { إياك نستعين } حقيقة، و { إياك نعبد } إسلاماً، و { إياك نستعين } إحساناً، { إياك نعبد } عبادة، و { إياك نستعين } عبودية، { إياك نعبد } فَرْقٌ، { إياك نسعتين } جَمْعٌ. هـ.

-2-

وإن شئت قلت: { إياك نعبد } لأهل العمل لله وهم المخلصون، و { إياك نستعين } لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الصمائر، قاله القشيري.

ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله: { إياك نعبد } ،وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: { إياك نستعين } ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وبالله التوفيق.
-3-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #23  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ) مصنف و مدقق


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


{ إياك نعبد } مخاطبة الله عز وجل { وإياك نستعين }.

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #24  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق 1-2


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


القراءة:

قرأ ابن كثير في رواية ابن مجاهد عن قنبل والكسائي من طريق ابن حمدون ويعقوب من طريق رويس بالسين. وكذلك في سراط، في جميع القرآن. الباقون بالصاد واشم الصاد زا يا حمزة في الموضوعين، خاصة في رواية علي بن سالم، وفي رواية الدوري وخلاد اشمامها الزاي ما كان فيه الف ولام. واما الصاد اذا سكنت وكان بعدها دال نحو: يصدر، وفاصدع، ويصدفون، فاشم الصاد الزاي حيث وقع، حمزة والكسائى وخلف ورويس.

الأعراب

{ اهدنا }: مبني على الوقف لانه امر، والهمزة مكسورة لأن ثالث المضارع منه مكسور في نحو يهدي. وموضع النون والألف من اهدنا، نصب لأنه مفعول به والصراط منصوب لأنه مفعول ثان. فمن قرأ بالسين فلأنه الأصل، من غير سبب يمنع منه، ومن قرأ باشمام الزاي، فللمؤاخاة بين السين والطاء بحرف مجهور من مخرج السين وهو الزاء من غير ابطال للأصل ومن قرأ بالصاد بين الصاد والطاء بالاستعلاء والاطباق. والقراءة بالصاد احسن لأن فيها جمعاً بين المتشاكلين في المسموع.

اللغة والتفسير

ومعنى اهدنا يحتمل امرين:

احدهما ـ ارشدنا. كما قال طرفة.

للفتى عقل يعيش بهحيث يهدي ساقه قدمه


والثاني ـ وفقنا كما قال الشاعر:

فلا تعجلن هداك المليكفان لكل مقام مقالا


أي وفقك.

والآية تدل على بطلان قول من يقول: لا يجوز الدعاء بأن يفعل الله ما يعلم أنه يفعله لأنه عبث، لأن النبي صلى الله عليه وآله كان عالماً بأن الله يهديه الصراط المستقيم، وانه قد فعل ذلك، ومع ذلك كان يدعو به. وقد تكون الهداية بمعنى أن يفعل بهم اللطف الذي يدعوهم إلى فعل الطاعة، والهدى يكون ايضاً بمعنى العلم لصاحبه لأنه مهتد على وجه المدح. والهدى يكون ان يهديه إلى طريق الجنة، كما قال الله تعالى:

{ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } ، وأصل الهداية في اللغة الدلالة على طريق الرشد فان قيل: ما معنى المسأله في ذلك وقد هداهم الله الصراط المستقيم، ومعلوم أن الله تعالى يفعل بهم ما هو أصلح لهم في دينهم؟ قيل: يجوز أن يكون ذلك عبادة وانقطاعاً إليه تعالى كما قال: { رب احكم بالحق } وإن علمنا أنه لا يحكم إلا بالحق، ويكون لنا في ذلك مصلحة كسائر العبادات، وكما تعبّدنا بأن نكرر تسبيحه وتحميده والاقرار بتوحيده ولرسوله بالصدق، وإن كنا معتقدين لجميع ذلك. ويجوز أن يكون المراد بذلك الزيادة في الألطاف كما قال تعالى:

{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُم هُدًى } (محمد47: 17) وقال:
{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } (المائدة5: 16)

ويجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا، وأنفع لنا إذا سألناه، وإذا لم نسأله لا يكون ذلك مصلحة، وكان ذلك وجهاً في حسن المصلحة.

-1-

ويجوز أن يكون المراد استمرار التكليف والتعريض للثواب، لأن إدامته ليست بواجبة بل هو تفضل محض جاز أن يرغب فيه بالدعاء. ويلزم المخالف أن يقال له: إذا كان الله تعالى قد علم أنه يفعل ذلك لا محالة فما معنى سؤاله ما علم أنه يفعله، فما أجابوا به فهو جوابنا.

والصراط المستقيم هو الدين الحق الذي أمر الله به من توحيده، وعد له، وولاية من أوجب طاعته. قال جرير:

أميرالمؤمنين على صراطإذا اعوج الموارد مستقيم


أي على طريق واضح. وقال الشاعر:

فصد عن نهج السراط الواضح


وقيل: إنه مشتق من " مسترط " الطعام، وهو ممره في الحلق، والصاد لغة قريش؛ وهي اللغة الجيدة، وعامة العرب يجعلونها سينا، والزاي لغة لعذرة، وكعب وبني القين يقولون: أزدق، فيجعلونها زاياً إذا سكنت. وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق. وبنو تميم يذكرون هذا كله. وأصل الاستقامة التقويم والاستواء في جهة الانتصار وهو ضد الاعوجاج، فمنه القيام والتقويم والتقوّم، ومنه المقاومة، لأنه بمنزلة المماثلة بما هو كالاستواء. وتقاوموا في الأمر إذا تماثلوا والاستقامة المرور في جهة واحدة. وقيل في معنى قوله: { الصراط المستقيم } وجوه:

أحدها ـ إنه كتاب الله، وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن علي عليه السلام وابن مسعود.

والثاني ـ انه الاسلام، حكي ذلك عن جابر وابن عباس.

والثالث ـ انه دين الله عز وجل الذي لا يقبل من العباد غيره.

والرابع ـ انه النبي (صلى الله عليه وسلم) والأئمة (ع) القائمون مقامه صلوات الله عليهم، وهو المروي في أخبارنا.

التفسير

والأولى حمل الآية على عمومها لأنا إذا حملناها على العموم دخل جميع ذلك فيه فالتخصيص لا معنى له.


-2-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #25  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ) مصنف و مدقق 1-2


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } * { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }


{ (5)إيّاكَ نَعْبُدُ } في تفسير الإِمام عليه السلام قال الله تعالى: قُولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم إِيّاك نعبد أيّها المنعم علينا نطيعك مخلصين موحّدين مع التذلل والخضوع بلا رياء ولا سمعة.

وفي رواية عامية عن الصادق عليه السلام: يعني لا نريد منك غيرك لا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.

أقول: إِنّما انتقل العبد من الغيبة إلى الخطاب لأنه كان بتمجيده (لتمجيده خ ل) لله سبحانه وتعالى يتقرب إِليه متدرجاً إلى أن يبلغ في القرب مقاماً كأنّ العلم صار له عياناً والخبر شهوداً والغيبة حضوراً.

{ وَإِيّاكَ نَسْتَعِيْنُ }: على طاعتك وعبادتك وعلى دفع شرور أعدائك ورد مكائدهم والمقام على ما أمرت، كذا في تفسير الإمام عليه السلام. قيل: المستتر في نعبد ونستعين للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أوله ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها وتجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدّم إِيّاك للتعظيم له والاهتمام به وللدلالة على الحصر.

{ (6) إهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }: في المعاني وتفسير الإمام عن الصادق عليه السلام يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنّتك والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: يعني أدِمْ لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.

أقول: لما كان العبد محتاجاً إلى الهداية في جميع اموره آناً فآناً ولحظة فلحظة فادامة الهداية هي هداية أخرى بعد الهداية الأولى فتفسير الهداية بإِدامتها ليس خروجاً عن ظاهر اللفظ. وعنه عليه السلام الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير واستقام وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة.

وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: وهي الطريق إلى معرفة الله وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنّم.

وعنه عليه السلام: ان الصراط أمير المؤمنين عليه السلام.

وفي رواية أخرى: ومعرفته.

وفي أخرى: أنه معرفة الامام، وفي اخرى: نحن الصراط المستقيم.

والقمّي عنه عليه السلام: الصراط أدقّ من الشّعر وأحدّ من السيف فمنهم من يمر عليه مثل البرق ومنهم من يمر عليه مثل عدو الفرس ومنهم من يمر عليه ماشياً ومنهم من يمر عليه حبواً ومنهم من يمر عليه متعلقاً فتأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً. وفي رواية أخرى: أنه مظلم يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم.
-1-

أقول: ومآل الكل واحد عند العارفين بأسرارهم.

وبيانه على قدر فهمك أن لكل انسان من ابتداء حدوثه إلى منتهى عمره انتقالات جبلية باطنية في الكمال وحركات طبيعية ونفسانية تنشأ من تكرار الأعمال وتنشأ منها المقامات والأحوال فلا يزال ينتقل من صورة إلى صورة ومن خلق إلى خلق ومن عقيدة إلى عقيدة ومن حال إلى حال ومن مقام إلى مقام ومن كمال إلى كمال حتى يتصل بالعالم العقلي والمقربين ويلحق بالملأ الأعلى والسابقين إن ساعده التوفيق وكان من الكاملين أو بأصحاب اليمين إن كان من المتوسطين أو يحشر مع الشياطين وأصحاب الشمال إن ولاه الشيطان وقارنه الخذلان في المآل وهذا معنى الصراط المستقيم، ومنه ما إذا سلكه أوصله إلى الجنّة وهو ما يشتمل عليه الشرع كما قال الله عز وجل:

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى42: 52]

صراط الله وهو صراط التوحيد والمعرفة والتوسط بين الأضداد في الأخلاق والتزام صوالح الأعمال.


وبالجملة: صورة الهدى الذي أنشأه المؤمن لنفسه ما دام في دار الدنيا مقتدياً فيه بهدى إمامه وهو أدق من الشعر وأحدّ من السيف في المعنى مظلم لا يهتدي إليه إلا من جعل الله لو نوراً يمشي به في الناس يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم.

وروي عن الصادق عليه السلام أن الصورة الإنسانية هي الطريق المستقيم إلى كل خير والجسر الممدود بين الجنّة والنار.

أقول: فالصراط والمار عليه شيء واحد في كل خطوة يضع قدمه على رأسه أعني يعمل على مقتضى نور معرفته التي هي بمنزلة رأسه بل يضع رأسه على قدمه أي يبني معرفته على نتيجة عمله الذي كان بناؤه على المعرفة السابقة حتى يقطع المنازل إلى الله وإلى الله المصير.

وقد تبيّن من هذا أن الإمام هو الصراط المستقيم وأنه يمشي سوياً على الصراط المستقيم وأن معرفته معرفة الصراط المستقيم ومعرفة المشي على الصراط المستقيم وإن من عرف الامام ومشى على صراطه سريعاً أو بطيئاً بقدر نوره ومعرفته إِيّاه فاز بدخول الجنّة والنجاة من النار ومن لم يعرف الإمام لم يدر ما صنع فزل قدمه وتردّى في النار.
-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #26  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق



{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يعنى ينبغى للقارى ان يرتقى الى مقام الحضور ويشاهد الحقّ تعالى فى مظاهره تعالى فيرى انّه ما كان مالكاً لشيىءٍ من امواله وافعاله واوصافه وذاته وانّ الله كان هو المالك للكلّ بالاستحقاق فيقع فى مقام الالتجاء ويخاطبه بلسان حاله وقاله ولسان ذاته وجميع جنوده وقواه ويظهر عبوديّته ورقيّته له تعالى بنحو حصر العبوديّة فيه فانّ مقام الحضور يقتضى التضييق فى العبوديّة بحيث لا يبقى للحاضر مجال النّظر الى غير المعبود الم تنظر الى قوله تعالى

{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [النساء4: 97]

من غير ذكر عبادة فيه فضلاً عن حصر العبادة فيه تعالى، والى قوله تعالى

{ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ } [العنكبوت29: 56]

بذكر العبادة وحصرها فيه تعالى، فانّ مقام الغيبة لا يكون فيه عبادة ولو فرض عبادة لم يكن الاّ للاسم لا لله فضلاً عن الحصر فيه تعالى، وفى مقام الحضور لا يكون غير العبادة ولا تكون العبادة الاّ لمن حضر لديه ولذلك قال تعالى فى موضع آخر { واعبدوا الله } { واعبدوا ربّكم } ويكون المقصود من اظهار العبادة والحصر فى الله تعالى تمهيداً لطّلب الاعانة منه ويقول بطريق الحصر نفعل فعل العبيد لك لا لغيرك او نصير عبيداً لك لا لغيرك { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فى دوام الحضور عندك وعدم الخروج من هذا المقام والبقاء على عبوديّتك وفى جملة الامور سوى هذا، واذا بلغ السّالك فى قراءته الى مقام الحضور عند ربّه يكون لا محالة يتجاذبه كثرات وجوده ورعايا مملكته وتتقاضى منه قضاء حاجاتها واحقاق حقوقها فيضطرّ الى الالتفات اليها والى كثرات خارجة من مملكته لاضطرار الحاجة اليها فى قضاء حقوق رعاياه ويرى انّه قلّما ينفّك فى معاملة الكثرات عن الافراط والتفريط وهما مانعان عن مقام الحضور ولذّة الوصال فيتضرّع على ربّه ويسأله الابقاء على لذّة الوصال عن الاشتغال بالاغيار ويقول { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.



__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #27  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ) مصنف و مدقق



[قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }. هذا دعاء؛ سأله المؤمنون الهدى والاستقامة في كل قول وعمل. { اهْدِنَا } أي: أرشدنا. قال بعض المفسرين: { الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } ، يعني الطريق المستقيم إلى الجنة، وهو دين الإِسلام. ذكروا عن ابن مسعود وابن عمر قالا: ترك النبي عليه السلام طرفَ الصراط عندنا وطرفَه في الجنة.

قوله: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. يعني بالإِسلام. قال بعضهم: { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هم الأنبياء؛ وهو كقوله:


قوله: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ } يعني اليهود. { وَلاَ الضَّالِّينَ } يعني النصارى. والمشركون كلهم مغضوب عليهم وكلهم ضالون، ولكن اليهود والنصارى يقرأون الكتابين: التوراة والإِنجيل وينتحلونهما، ويزعمون أنهم يدينون بهما. وقد حرَّفوهما، وهم على غير هدى. ذكروا عن الحسن أنه قال: المغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #28  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


{ إِيَّاكَ } قدم للحصر، والثاني للحصر والفاصلة، ومقتضى الظاهر، إياه نعبد، وإياه نستعين، ليهدنا بلام الدعاء، أنعم عليهم بصيغ الغيبة مثل ما قبله، إلا أنه لما أتى بالأوصاف الكاملة من كمال الرحمن المشاهدة، وصفات الجلال المحمود عليها، وقدرته الكاملة بتدريج الأفهام في ذلك على وجه الغيبة، وقوى برهان ذلك صار الغائب شاهداً بتكلم معه بصيغ الخطاب، وفي صيغة الخطاب تلذذ { نَعْبُدُ } نخدم بكل ما نقدر عليه، وهذا العموم أفاده الإطلاق القابل لكل ممكن على سبيل البدلية، فيحمل على العموم الشمولى الشامل لكل أفراد البدلى، وكذا في قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } على تحصيل العبادة والمباح، وعلى دفع المعاصى عنها والمضار، وخدمته إما للثواب والهروب عن العقاب، وذلك زهد، وهى عبادة، وإما للشرف بها والنسبة إليه تعالى، وهى عبودية، وإما لإجلاله، وهى عبودية، وهى أعلى، وقدم العبادة لنتوسل بها إلى دفع المكروه، وجلب المحبوب، أو قدمها لأن المراد بها التوحيد، فذكر بعدها الاستعانة على مطلق العبادة، وأيّاً كان الأمر فالواو لا ترتب، وفى الوجه الأخير حصول التخلى قبل التجلى.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #29  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-8 من 15

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-8 من 15


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


في هذه الآية الكريمة يعلم الله عبادة أن يفردوه بالعبادة وبالإِستعانة، وهذه ثمرة التوحيد وجوهر الإِيمان والآيات المتقدمة في السورة جاءت توطئة لها ومقدمة لما فيها فإن الإله الحق الذي هو رب العالمين والمتصف بالرحمة والمالك للأمر في الدنيا والآخرة جدير بأن لا تتجه العبادة إلى غيره وأن لا يتعلق القلب بسواه، ويرى الزمخشري أن الآية الكريمة جاءت لتبين الحمد المقصود في قول الله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ويتقدمها سؤال مقدر تقديره كيف تحمدونه؟ فأُجيب: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وسوغ السيد الجرجاني ذلك لأن السؤال عن كيفية الحمد لا عن ماهيته، فصح أن يجاب عنه بالإِجابة المشتملة على الحمد وعلى غيره لأن ضم غيره إليه نوع بيان لكيفيته، أي حال حمدنا أن نجمعه بسائر عبادات الجوارح والإِستعانة في المهمات، ونخص مجموعها بك، وأورد السيد الجرجاني أيضا أنه صح كون العبادة بيانا للحمد من حيث أن اقصى غاية الخضوع يقتضي اعترافا تاما بالإِنعام، ووصفا للمنعم بصفات الجلال والإِكرام، وهذا لأن الحمد اصل العبادة ورأسها كما مر أنه رأس الشكر، إِذ حقيقة العبادة شكر المنعم الحقيقي، أي اظهار الإِنقياد له بقدر الإِمكان غاية ما في الباب أن الجواب يشتمل على زيادة في البيان، ورجح السيد الجرجاني أن يكون قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } استئنافا جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها أزلا وأبدا، كأن سائلا يقول: ما شأنكم مع هذا الموصوف؟ وكيف توجهكم إليه؟.

فأجيب بحصر العبادة والإِستعانة فيه، واعترض الإِمام أبو السعود ما يقوله الزمخشري " بأنه مع كونه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام، وتنساق إليه الأذهان والأفهام، ولا ريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته، على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العباده حتى يتوهم أنه بيان لكيفية حمدهم، والإِعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالمفهوم المقدر، ثم قال: وبعد اللُّتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فأتت نكته الإِلتفات التي أجمع عليها السلف والخلف، وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لأبتناء الجواب على خطابه تعالى وبهذا هدم أبو السعود ما رجحه الجرجانى من أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، وأضاف (بأن تناسي جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عزّ وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله) ثم قال: (والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذُكرمن النعوت الجليلة الموجبة للإِقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هنالك شيء آخر) وأرى أن أضيف إلى ما يقوله أبو السعود أن السورة الكريمة صُدِّرت بحصر الحمد في ذات الحق تعالى وهو مشعر كما سبق بصدور جميع الآلاء عنه ثم تُلِّي ذلك بوصفه تعالى أنه رب العالمين، وفي هذا تصريح بما يستلزمه حصر الحمد فيه من كونه مصدر جميع الآلاء، كما أن فيه إيقاظا للشعور بعظمته تعالى المستوجبة لملأ القلب بهيبته، ثم أُتبع ذلك وصفه بالرّحمة المستلزمة للإِحسان، واختتمت سلسلة هذه الصفات بكونه مالك يوم الدين وهو اليوم الذي ينقلب جيع الناس إليه ليلقوا جزاء ما قدموا، وإجراء هذه الصفات العظيمة على الله باللسان مع استشعار معانيها بالقلب يجعل النفس تنساق انسياقا تلقائيا إلى منتهى الخضوع لهذا الرب الجليل الموصوف بهذه الصفات، صفات العظمة التي لا تليق بغيره، وليس خضوع أبلغ من خضوع العابد فناسب المقام أن يُفرد الله تعالى هنا بالعبادة وبالإِستعانة بصيغة الخطاب المشعرة بالحضور، والخروج بالكلام من أسلوب الغَيبَة إلى أسلوب الخطاب هو المعروف عند علماء البلاغة بالالتفات ويكون أيضا بالخروج عن التكلم إلى الخطاب أو العكس وبالخروج عن الخطاب إلى الغيبة أو التكلم وهكذا.
-1-

. ولا يعنينا هنا بحث مسائل الالتفات فإن ذلك من اختصاص علم البلاغة وانما يعنينا بحث النكتة التي يجاء به لأجلها، وقد ذكر علماء البلاغة نكتة عامة له وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط السامع والمتكلم، وقد تنضم إليها نكت خاصة بحسب المقامات، وللمفسرين والبلاغيين سباق في إظهار النكت التي تناسب هذا المقام، منهم من قال: لما ذُكر الحقيق بالحمد ووُصف بصفات العظمة التي تميزه عن غيره تعلقت معرفة القلب بمعلوم متميز خوطب بذلك ليكون أدل على الإِختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والإِنتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا، والمعقول مشاهدا، والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده بالإِسلام وأفاض على قلبه نور الإِيمان ترقى بسلم الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى مقام الإِحسان وهو (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وأيضا حقيقة العباده هو الإِنقياد المطلق من النفس لأحكام المعبود، وصورة هذا الإِنقياد وقالبه الإِسلام، ومعناه وروحه الإِيمان، وسره وغايته الإِحسان، وبالإِلتفات في (نعبد) يصل العبد عبر المرحلتين السابقتين إلى المرحلة الثالثة، وذكر الألوسي " بأنه يحتمل أن يكون السر أنّ الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى " ، وقيل غير ذلك.

والعبادة لغة بمعنى الذل، يقال: عبد إذا ذل، وعُبِّد إذا ذُلل، منه قوله تعالى:
-2-

{ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء26: 22]

ويُقال طريق معبد إذا وطئته الأقدام حتى ذللته، ومنه قول طرفة بن العبد:

تبارى عتاقا ناجيات وأتبعتوظيفا وظيفا فوق مور معبد


أما إصطلاحا فللناس فيها مذاهب ترجع إلى المعنى اللغوي، فابن جرير الطبري يفسرها بالخضوع والإِستكانة والذل مع الإِقرار بالربوبية للرب المعبود وحده، وروي عن ترجمان القرآن رضي الله عنه " أن المراد بقوله سبحانه { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } إياك نوحد ونخاف ونرجو " ، ورواه عنه ايضا ابن ابي حاتم، وابن كثير يرى أن العبادة استكمال المحبة مع منتهى الخضوع والخوف، وابن تيميه يرى أن العباده الجمع بين المحبة والخضوع، ولجهابذة العلماء في العصر الحديث أنظار في مدلول لفظ العباده، فالإِمام أبو الأعلى المودودي يرى أن العبادة تتكون من عناصر، منها الإِذعان التام من العابد لعلو المعبود والنزول له عن حريته واستقلاله، وترك كل مقاومة وعصيان إزاءه والإِعتقاد بعلائه، والإِعتراف بعلو شأنه، وأن يكون قلبه مفعما بعواطف الشكر والإِمتنان على نعمه وأياديه بحيث يبالغ في تمجيده وتعظيمه، ويتفنن في إبداء الشكر على آلائه، وفي أداء شعائر العبدية له، ويرى العلامة المودودي أن هذا التصور لا ينضم إلى معاني العبدية إلا إذا كان العبد لا يخضع لسيده رأسه فحسب، بل يخضع معه قلبه أيضا، ويستمد السيد الموردودي نظرته هذه في تفسير العبادة من مدلول الكلمة اللغوي، فإن العربي بمجرد سماعه كلمة العبد والعبادة لا يتصور إلا العبديه والعُبودية، وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي طاعة سيده المطلقة فإن تصور الطاعة بمجرد ذكر العبد والعبادة أمر لا بد منه، وخلاصة رأيه في العبادة أنها خضوع الظاهر والباطن والانقياد المطلق من العابد للمعبود مع غمرة القلب بالشعور العبودي.

أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فيرى أن العبادة شعور خاص في القلب يستلزم الخضوع المطلق والإِنقياد التام من العابد للمعبود وفي ذلك يقول: ما هي العبادة؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون احيانا بالتعريف اللفظي، ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها اجمالا وتساهلا واننا إذا تتبعنا آى القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع واطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي عبد ويحل محلها ويقع موقعها.

ولذلك قالوا: إن لفظ العباد مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ العبيد تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى، ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه.
-3-

يغلو العاشق في تعظيم معشسوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في ارادته ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريمهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة إذاً؟.

تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشىء عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطىء أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء لكرمه المحدود اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن للملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصرا وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإِلحاد فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية.

ويضيف الأستاذ إلى ذلك فيقول: للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإِنسان بذلك الشعور بالسلطان الإِلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع فإذا كانت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة كما أن صورة الإِنسان وتمثاله ليس إنسانا خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإِتيان بها وإقامة الشيء هي الإِتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله:

{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت29: 45] وقوله عز وجل
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً *إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً *وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً *إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } [المعارج70: 19- 22]


وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدى إلى غايتها بقوله:

{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ *ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ *وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } [الماعون107: 4- 7]

فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون.


هذا كلام الأستاذ في العبادة، وهو يفيد أن معنى العبادة لا يتم إلا مع استشعار عظمة المعبود التي لا تكتنه، وقدرته التي لا تُحد، وهو صحيح بالنظر إلى العبادة الصحيحية الواجبة لله تعالى، ولكن لا يمنع أن يطلق اسم العباده على تعظيم أحد لغيره تعظيما يخرج به عن حدود استحقاق البشر، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله مع أنهم لم يكونوا يعتقدون لهؤلاء الأحبار والرهبان القدرة المطلقة التي لا تُحد، والعظمة الباهرة التي لا تكتنه، وروى الإِمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو قوله سبحانه:
-4-

{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة9: 31]

وكان امرأً قد تنصر - فقال له إنهم لم يعبدوهم، قال له: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " فإذا كان اتباع الإِنسان على تحليله الحرام وتحريمه الحلال عبادة فما بالك بما يكون من مخلوق لمخلوق مثله من تعظيم لا يليق إلا بمقام الألوهية.

هذا والعبادة هي الغاية التي لأجلها خلق الإِنسان، قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56]

ومن هنا كانت فطرة كل إنسان داعية إليها لما تستشعره من الفراغ الروحي والخواء النفسي بدونها، ومن ثم كانت العبادة تلبية لنداء الفطرة الذي يجلجل من أعماق النفس الإِنسانية، وإنما الفطرة وحدها لا تستطيع أن تهتدي إلى العبادة الصًّحيحة ولذا فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه لتوجيه هذه الفطرة إلى الصراط المستقيم، وما من رسول إلا وكانت دعوته الأولى في قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء21: 25]

والعبادة الخالصة لله تعالى توائم بين حركتي الإِنسان الاختيارية والاضطرارية، فجسم الإِنسان تُعَد خلاياه بملايين الملايين، وكل هذه الخلايا تتحرك بحسب سنة الله فيها، فإذا انقاد هذا الإِنسان وأذعن لربه العظيم وعبده حق عبادته حصل الانسجام التام ما بين هذه الحركات الطبيعية في جسمه وحركته الاختيارية التي ينساق إليها مختارا طاعة لمولاه، ومن هنا نجد الإِمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله يُعبر في إحدى قصائده النورانية عما يشعر به وهو يسبح لله سبحانه من تجاوب ألسنة لا تحصى فيه مع هذا التسبيح حيث يقول: -

أعاين تسبيحي بنور جنانيفأشهد منى ألف ألف لسان
وكل لسان أجتلي من لغاتهإذا ألف ألف من غريب أغان
ويُهدى إلى سمعي بكل لُغيةهدي ألف ألف من شتيت معان
وفي كل معنى ألف ألف عجيبةيقصر عن إحصائها الثقلان


ولا تقف عبادة الإِنسان عند هذا الحد بل توائم بين حركته وحركة كل شيء في هذا الكون الواسع الذي تسبح كل ذرة منه بحمد الله وتسجد خاضعة لجلاله،
-5-

{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء17: 44]،
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } [الحج22: 18]


ولذلك كانت عبادة الله الخالصة داعية للشعور بالانسجام مع الكون والألفة مع الوجود، فلا ينظر إليه العابد نظرة نفرة وعداء، وإنما ينظر إليه نظرة وئام ووداد.

أما إذا تجلى الإِنسان عن عبادة ربه فإنه يشعر بعداوة الكون وخصومة الطبيعة له، ولذلك تجد الغربيين الذين رانت على قلوبهم الجاهلية الحديثة ينظرون إلى الكون نظرة الخصومة والعداء، ويتجلى ذلك في عباراتهم، فكثيرا ما يرد على ألسنتهم وأقلامهم قهر الطبيعة وقسوتها، فإذا حقق أحدهم شيئا قالوا قهر الطبيعة أو تغلب عليها، وإذا أصيب أحدهم بمكروه قالوا قست الطبيعة عليه، أما المؤمن الذي يسبح بحمد الله ويسجد لكبريائه فهو لا يشعر بأية عداوة بينه وبين الطبيعة، وإنما يشعر بالألفة والمودة بينه وبينها لما يربطهما من الخضوع لله والتسبيح بحمده، ولما يتلوه على صفحاتها من آيات بينات تزيد إيمانه رسوخا ويقينه ثباتا، ومما يؤسف له أن تردد ألسنة تلامذة الغرب المنتسبين إلى الإِسلام هذه العبارات الوقحة بدون شعور بهاجس نفسي يؤنبهم على استعمالها، وهذا إن دل على شيء فهو دليل على ما أصاب قلوبهم من المسخ وبصائرهم من الطمس، وإذا كانت العبادة منشأ الألفة والوئام بين العابد وجميع الكائنات فإن ذلك يقتضي أن تكون العبادة أوسع مدلولا مما يظنه كثير من الناس من أنها منحصرة في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذا هو الذى تدل عليه الآيات والأحاديث. أما الآيات فأرى أن أؤخر الكلام عليها إلى أن أصل إليها إن شاء الله في مواضعها، وأما الأحاديث فبحسبي أن أذكر مثالين منها:

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في كل ذى كبد رطبة أجر " وهو دليل على أن الإِنسان يتقرب إلى الله سبحانه بالإِحسان حتى إلى البهيمة العجماء.

2- يقول عليه أفضل الصلاة والسلام " في بضع أحدكم صدقة " قيل له يا رسول الله أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: " أرأيت إن وضعها في حرام ألم يكن يؤزر " قيل له بلى يا رسول الله قال: " كذلك يؤجر إن وضعها في حلال " فانظر كيف يكون العَمل الفطرى الذي يبلى به الإِنسان داعي الغريزة عبادة يؤجر عليها إن أحسن توجيهه واستصحب معه حسن النية.

وبهذا يتضح أن العبادة تقتضى الخضوع المطلق لمنهاج الله فلا يحكم العابد إلاّ به ولا يحتكم إلا إليه ولذلك حكم الله على من لم يكن يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق حيث قال:
-6-


والعبادة أسمى ما ينتسب إليه الانسان ولذلك وصف الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى مقامات ذكره وهى صِنو العبادة فقد قال في معرض ذكر إنزال الكتاب عليه

{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ.. } [آل عمران3: 7] وقال
{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف18: 1] وقال:
{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان25: 1]


وقال في معرض الحديث عن إبلاغه الرسالة ودعائه الله { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } وقال في الحديث عن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ترتب عليه أن ينال من الإِكرام ما لم ينله أحد قبله:

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [الإسراء17: 1]

وهذا لأن عبادة الإِنسان لربه وعبوديته له تعنيان تحرير رقبته من الذل لسواه وتخليص قلبه من الخضوع لغير عزته، وقد غلا بعضهم فادعى أن العبودية أشرف من الرسالة حكى ذلك الفخر الرازى في تفسيره ولم يتعرض له بشيء، وحاصل ما احتج به هذا القائل أن الرسالة انصراف عن الحق إلى الخلق، والعبودية انصراف عن الخلق إلى الحق، والعبودية أيضا تجرد عن التصرفات، والرسالة تلبس بها، وهذه فلسفة باطلة لا يجوز لمن يؤمن بالله ورسله أن يقرها فالرسالة هى أشرف المقامات وأعلى الدرجات التي يوصل إليها بمحض اصطفاء الله تعالى ولا تنافي العبودية ولذلك وصف الله بهما أحب الناس إليه وأرفعهم عنده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الرسالة - كما قال - انصرافاً من الحق إلى الخلق وإنما هى اضطلاع بواجب أمانة الحق لابلاغها إلى الخلق، وإذا كانت تقتضي اشتغالا بالتصرفات فإن تلك التصرفات هى من أقرب القربات إلى المرسِل سبحانه فهى داخلة في حدود عبادته، وأعظم الدلائل على إخلاص العبودية له.


والفخر والألوسي قسما العبادة إلى ثلاث درجات تمشيا مع آراء كثير من العلماء:

الدرجة الأولى: أن تكون العبادة ابتغاء ثواب الله وخشية عقابه، وهى أضعف الدرجات وسماها الألوسي في تفسيره عبادة.
-7-

الدرجة الثانية: أن تكون لأجل نيل شرف بما فيها من التزلف إلى الله تعالى، وهى درجة متوسطة عندهم، وسماها الألوسي عبودية.

الدرجة الثالثة: أن تكون لذات الله مع غض النظر عن كل ما سواه وسماها الألوسي عبودية.

وفي هذا التصنيف نظر، إذ لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة، وتعظيم الله سبحانه بالعبادة وإخلاصها لوجه لا ينافيان ابتغاء ثوابه والحذر من عقابه كما لا ينافيان الرغبة في نيل شرف عبادته عزَّ وجل، وللإِمام نور الدين السالمي رحمه الله في معارجه بحث نفيس في هذه المسأله، ناقش فيه كلام هؤلاء الذين يقسمون العبادة من تلقاء أنفسهم أقساما، واستدل لرده بما جاء من الآيات التي تصف الأنبياء أنهم كانوا يعبدون الله رغبا ورهبا، كقوله سبحانه:

{ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [الأنبياء21: 90]

وهي في معرض مدحهم والإِبانة عن علو قدرهم، ولا ريب أن الأنبياء أرسخ في العبادة قدما، وأسرع إلى كل خير سبقا من غيرهم، فلو كانت العبادة التي تكون بباعث الخوف والرجاء أضعف من غيرها لكانت عبادات الأنبياء غير مقرونة بهما على أن الخوف والرجاء هما السور المتين الذي يحوط أعمال البر كلها.


وكما تطالب الآية الكريمة الناس أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة تطالبهم بأن يفردوه بالاستعانة لأن القوة المطلقة لله وكل ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وكما أن الله تعالى قد تفرد بخلق الكون فهو متفرد بتدبيره فلا معنى للتعلق بغيره، والقرآن الكريم جاء ليقرر هذه الحقيقة بكثير من الآيات التي تخاطب الناس بالبرهان وتضرب لهم الأمثال، منها قول الله سبحانه

{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [الرعد13: 16] وقوله:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر39: 38]

ويبين لنا القرآن أن كل محاولة من المخلوقين لرد سراء أو ضراء كتبها الله لأحد أو عليه لا بد أن تبوء بالفشل الذريع

{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [فاطر35: 2]
{ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }[يونس10: 107]
-8-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #30  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 9-15 من 15

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 9-15 من 15


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


والنبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أمته على هذه العقيدة القرآنية لتتحول إلى واقع ملموس في أحوال المؤمنين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين " إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ".

وهنا سؤال يفرض نفسه وهو أن الإِنسان كائن اجتماعي يشترك مع غيره في المصالح والمنافع ولا يمكنه الاستقلال عن سائر بني جنسه فهو بحاجة دائما إلى من يعينه فإذا مرض احتاج إلى الطبيب، وإذا أفلس احتاج إلى من يقرضه أو يتصدق عليه، وإذا اضطر إلى حمل شيء لا يطيقه احتاج إلى من يعينه عليه، وهكذا فكيف يمنع من الاستعاة بالناس؟ على أن القرآن نفسه يرشدنا إلى التعاون في قوله:

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة5: 2]

وأترك الإِجابة عن هذا السئوال لفيلسوف الإِسلام الإِمام محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا.


أما الإِمام محمد عبده فيجيب بما معناه: أن أعمال الناس تتوقف ثمراتها ونجاحها على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإِلهية أن تكون مؤدية اليها وانتفاء الموانع التي جعلها الله بمقتضى حكمته حائلة دونها، والإِنسان بما اوتي من علم وقوة مكن الله له من كسب بعض الأسباب ودفع بعض الموانع ولكن حجب عنه البعض الآخر فيجب على الناس أن يقوموا بما فيه استطاعتهم من ذلك ويتقنوا أعمالهم بما في وسعهم وأن يتعاونوا ويساعد بعضهم بعضا ويفوضوا الأمر فيما وراء الكسب إلى القادر على كل شيء ويلجأوا إليه وحده طالبين منه المعونة المتممة للعمل والمؤدية إلى جناء ثمرته وليس لهم أن يتعلقوا بما وراء الاسباب إلا بمسببها سبحانه، ويتضح بهذا أن قوله تعالى: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } متمم لمعنى قوله { إِيَّاكَ نَعْبُد } لأن هذه الاستعانة هي فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه بها العبد إلى غير الله كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي انتشرت في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجاهلون أن الاستعانة بالذين اتخذوهم أولياء من دون الله واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة للناس هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة فأراد الله سبحانه أن يزيل هذا اللبس ببيان أن الاستعانة بالناس في حدود استطاعتهم ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما مثلها إلا كمثل الآلات المستعملة فيما خصت به بخلاف الاستعانة بهم فيما وراء طاقاتهم البشرية كالاستعانة في شفاء المريض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدد فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون إلا بالله تعالى الذي بيده الأسباب والمسببات وهو على كل شيء قدير، وضرب الإِمام محمد عبده مثلا لذلك: الزارع عندما يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها فهو يمارس الوسائل المؤدية مع التوفيق إلى حصول المطلوب، ويستعين بالله تعالى على النجاح طالبا منه منع الآفات والجوائح السماوية والأرضية، ومثل بالتاجر الذي يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في فن الترويج، ويتوكل على الله فيما وراء ذلك، وخلص الأستاذ الإِمام من هذا إلى تفنيد حالة الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من الأمور التي ليست في استطاعة الأحياء بله الأموات، وقال عنهم: إنهم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون، واستخرج الأستاذ الإِمام من قول الله سبحانه: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فائدتين جليلتين قال فيهما: (هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة):

أولاهما: أن الإِنسان مطالب بالأعمال النافعة والاجتهاد في إتقانها ما استطاع، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه أو يخشى أن لا ينجح فيه فيطلب المعونة على إتمامه وكماله.

-9-

فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، أما من وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده فهو جدير بطلب المعونة من غيره على رفعه ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، ثم قال الأستاذ بعد هذا التحرير: وهذا الأمر هو مرقاه السعادة الدنيوية وركن من أركان السعادة الأخروية.

ثانيتهما: ما يفيده الحصر المستفاد من تقديم المعمول على العامل من وجوب تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك، قال: وهو روح التوحيد وكمال الدين الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكذّابين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا

{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب33: 71].


وأما السيد محمد رشيد رضا فيقول " إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإِله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية المعنوية، قال: ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم واسم الرب الأكرم إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى:

{ وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود11: 123]

فهذه الاستعانة هى ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفاً على قرن العبادة بالتوكل فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقيق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبى وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.


-10-

قال: وبهذا البيان تعلم أن لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا وجعلهم خدما يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشاها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، وهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته فالعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه حيث جعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل، قال: هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه لا يجد من يتوجه إليه سواه إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد، وأتبع ذلك قوله أن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإِعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام، به وفي هذا تكريم للإِنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإِتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة، ولا من هدي الشريعة فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وتذكير له من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم بأنه مستغن بكسبه عن عناية ربه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره، هذا كلامه وهو ككلام أستاذه في إثبات كون الاستعانة بالله وعدم إشراك غيره فيها من لوازم الإِيمان ومقتضيات التوحيد، وإنما بين كلاميهما خلاف لفظي، فالأستاذ الإِمام يرى أن الاستعانة فيما كان داخلا في إطار الأسباب التي منحها الله عباده جائزة أن تكون بأولئك الذين أجرى الله الأسباب على أيديهم وعلى ذلك يحمل نحو قوله تعالى:

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة5: 2]

أما تلميذه السيد محمد رشيد رضا فهو ينظر إلى أن أولئك ليسوا مستقلين بالأسباب وإنما وهبهم الله تعالى من فضله التفوق فيها وسخرهم بحكمته لإِعانة المحتاجين إليها فالمستعين بهم إنما يستعين في الحقيقة بالله واهب الأسباب ومقدرها فيجب على المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة عندما يطلب من غيره قضاء حاجته.


-11-

هذا وقد يفهم من كلامه في الأسباب العَامة وقوله إنها موهوبة للناس كافة أنه يرى تكافؤ جميع الناس فيها، وهو أمر ترده المشاهدة فإن الناس متباينون في المواهب منهم من وهب حصافة الرأي، ومنهم من وهب قوة البدن ومنهم من وهب الحذق في أعمال خاصة وهذا لتكون حياة الناس قائمة على أسس الاجتماع ولو تساوى الناس في مواهبهم لاستغنى كل أحد بنفسه واستكفى بموهبته ولكن الله سبحانه يريد بذلك تذكير الناس بفقرهم واحتياجهم، لئلا يغتر إنسان بما أوتي فيدعي أنه أوتيه باستحقاق، فتجد الملك بحاجة إلى الحجام والقين والحداد والطباخ كحاجته إلى المستشارين والوزراء فسبحان الغني الذي تفرد بالعزة والكبرياء.

وبهذا الذي حررناه تدرك خطورة ما يصنعه كثير من الناس من التعلق بغير الله سبحانه في طلب الحاجات التي لم يجعل الله قضاءها بيد الناس والأعجب من ذلك أن يأتي أحدهم إلى ضريح طالبا من صاحبه الميت البالي أن يعينه على ما لا يستعان عليه إلا بالله، أو يأتي إلى صخرة صماء أو شجرة أو نهر أو أي شيء من هذا القبيل طالبا منه ذلك مع أن هذه الأشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تعقل وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق منزلة وأعظمهم شأنا يقول له سبحانه في حياته:

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعراف7: 188]

فما بالك بغيره صلى الله عليه وسلم بل ما بالك بالأموات والجمادات والنباتات هل من المعقول أن تلبي هذه الأشياء لأحد طلبا أو تسمع له دعاء أو تستجيب له نداء؟ وإنما ذلك شأن العقول إذا ضلت والأفكار إذا زاغت.


ولعمري ليس تفشي مثل هذه الضلالات في هذه الأمة إلا تصديقا لنبوة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم حيث يقول كما ثبت في الصحيحين " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " وفي حديث أبي واقد الليثي عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها " ذات أنواط " يعلقون عليها أسلحتهم، فقيل له: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي: " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ".

هذا وفي المقام مباحث:

-12-

الأول:- في تقديم العبادة على الاستعانة، ولأفكار العلماء تزاحم في استخراج حكمة ذلك وقد استظهروا وجوها:

أولها: أن العبادة أمانة كما قال تعالى:

{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب33: 72]

لذلك كانت أجدر بالعناية، فقدمت.


ثانيها: أن إسناد المتكلم العبادة إلى نفسه يوهم التبجح والاعتداد بما صدرعنه، فكان جديرا بأن يُتْبع ما يدل على أن العبادة لا تتم إلا بمعونة وتوفيق من الله وهذا يستفاد من جملة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.

ثالثها: أن العبادة قربة محضة إلى الله تعالى، أما الاستعانة فقد تكون لمنفعة عاجلة.

رابعها: أن العبادة مطلوبة لله تعالى من العباد، والاستعانة مطلوبة للعباد من الله، وتقديم ما كان لله أولى مما كان للعباد.

خامسها: أن العبادة في جملتها واجبة لله تعالى على العبد، ولذلك كانت هي الغاية من خلق الإِنس والجن، قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56]

أما الاستعانة فيختلف حكمها باختلاف حال المستعان عليه.


سادسها: أن العبادة أظهر مناسبة بذكر الجزاء فجيء بها بعده، والاستعانة أكثر التئاما مع طلب الهداية فجيء بها قبله.

سابعها: أن الاستعانة ثمرة للعبادة، فإن إخلاصَ العبادة لله يستلزم إفراده بالاستعانة، قال صاحب المنار: " ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإِتيان بها على الوجه المرضي له عز وجل، لا منافاة بين الأمرين لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى، فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشيء الأعمال، فكل منها سبب ومسبّب، وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة ".

ويرى ابن جرير أن الترابط الذي بين العبادة والاستعانة يقتضي جواز تقديم أي منهما على الآخر كما يجوز أن يُقال: قضيت حقي فأحسنت إليّ، أو أحسنت إليّ فقضيت حقي، ويُستفاد مما قاله أنه لا يرى ما يسوغ البحث في تقديم العبادة على الاستعانة.

الثاني:- في تقديم المعمول وهو { إياك } على العامل وهو { نعبد } و { نستعين } ، وذكروا له وجوها:-

أولها: الدلالة على الحصر والاختصاص، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلا نعبدُ غيرك، ويراد به التبرؤ عن الشرك والتعريض بالمشركين.

ثانيها: أن المتقدم في الوجود أحق بالتقدم في الذكر، فالله تعالى كان قبل كل موجود، ولذلك كان الأنسب تقديم ذكره عن ذكر عبادته.

ثالثها: أن في تقديم ذكره تعالى تنبيها للعابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله، فيوقظ ذلك الهمة في نفسه ويقضي على الكسل والتواني.

الثالث:- في المجيء بصيغة الجمع دون الإِفراد في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفيه أقوال:

أولها: أن العبد يحتقر نفسه في مقام الخطاب لله عز وجل، ويستقل عبادته بجانب ما لله تعالى من منة أسبغها عليه وحق يجب له تعالى على العبد، فيجدر به أن يخاطبه مع غيره وأن يوجه عبادته إليه مختلطة بعبادة العابدين.

-13-

ثانيها: أن الإِنسان مع خضوعه لأهل الدنيا وطلبه منهم ما يجدر طلبه من الله إن قال بمفرده إياك أعبد وإياك أستعين كان كاذبا، أما إن وجه الخطاب بصيغة الجمع الدالة على اشتراكه مع العابدين والمستعينين كان أبعد عن الكذب، لوجود من أخلص له العبادة وقصر الاستعانة عليه من بينهم.

ثالثها: أن صيغة الجمع أدعى إلى القبول والاستجابة من صيغة الإِفراد لأن المخاطب يحشر نفسه في زمرة المخاطبين، ولا يعتد بخطابه بنفسه، وذكروا أنّه مما يرشد إلى ذلك ما حكاه الله عن الذبيح إسماعيل عليه السلام من قوله:

{ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [الصافات37: 102]

وما حكاه عن الكليم عليه السلام من قوله:

{ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } [الكهف18: 69]

وقد صبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحداً من جمع، ولم يصبر الكليم لإِفراده نفسه مع أنهما قالا جميعا " إن شاء الله ".


رابعها: أن الإِسلام دين وحدة واجتماع، وليس بدين تشتت وافتراق، ولأجل ذلك شرعت بعض العبادات تؤدي بطريقة جماعية لا على الانفراد، وفي المجيء بصيغة الجمع هنا في هذه السورة التي يجب على المسلم أن يكررها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أهم عبادة في الإِسلام تذكير بواجب الترابط بين المسلمين وإيقاظ لمشاعر الأخوة والمودة بينهم.

الرابع:- في تكرار { إِيَّاكَ } وفيه آراء:-

أولها: أنه للتنصيص على أن طلب العون منه تعالى فإنه لو قال: { إياك نعبد ونستعين } لاحتمل أن يكون إخبارا عن طلب العون من غير تعيين للجهة المطلوب منها.

ثانيها: أن العبادة هي قربة إلى الله تعالى ولو لم تكن مقرونة بالاستعانة، والاستعانة كذلك ولو لم تكن في حال العبادة، ولو أفرد ذكر الضمير لأوهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بينهما.

ثالثها: أن في التكرار تعليما للناس بأن يجددوا ذكر الله عند كل حاجة تعن.

الخامس: في إطلاق الاستعانة وعدم تقييدها بمستعان فيه معين، وقد ذكروا لذلك نكته وهي قصد العموم لاحتمال دخول كل ما يستعان عليه، والفعل المثبت وإن كان له حكم الإِطلاق المخالف لحكم العموم في عدم احتوائه جميع أفراد مدلولات لفظه دفعة واحدة، فإنه بعدم تقييده يقضي باحتمال قصد أي فرد من أفراد تلك المدلولات، ومن جهابذة المفسرين من يرى أن الاستعانة هنا ليست على إطلاقها وإنما هي محصورة في العبادة، وممن جنح إلى هذه العلامة الزمخشري في كشافه حيث جعل الاستعانة مبهمة أوضحها قول الله تعالى فيما بعد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكأنما المستعينون سُئلوا من قبل العلي الأعلى: كيف أعينكم؟ فقالوا: إهدنا الصراط المستقيم.

-14-

واللائق بعقيدة التوحيد عموم الاستعانة في كل ما يطلب العون فيه وهذا لا يمنع أن تكون العبادات داخلة من باب الأولوية فيما يستعان فيه، وقد أسلفنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الدال على الاستعانة بالله شاملة لكل ما يُطلب فيه العون، وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العون من الله في أداء العبادة، فقد أخذ يوما بيد معاذ رضى الله عنه وقال: " والله إني لأحبك أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".

-15-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:43 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.