منتجات العناية بالبشرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    استكشف سر جمال شعرك في ويلنس سوق، الوجهة الأولى للعناية بالش...  آخر رد: الياسمينا    <::>    ويلنس سوق : وجهتك الأساسية لمنتجات العناية الشخصية والجمال  آخر رد: الياسمينا    <::>    موقع كوبون جديد للحصول على اكواد الخصم  آخر رد: الياسمينا    <::>    إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم
التسجيل التعليمات الملحقات التقويم مشاركات اليوم البحث

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #1  
قديم 05-23-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي البقرة 002 - آية 019 - أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مرحبا بكم معنا في المسجد الأقصى المبارك
سورة 002 - البقرة - آية رقم 019

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ

صدق الله العظيم
السابق التالي
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-11-2010 الساعة 10:04 PM
رد مع اقتباس
 
 
  #2  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق 1-2


قال أبو جعفر: والصيِّب الفـيعل، من قولك: صاب الـمطر يصوب صَوْبـاً: إذا انـحدر ونزل، كما قال الشاعر:

فَلَسْتَ لإنْسِيَ وَلَكِنْ لمَلأكٍتَنَزَّلَ مِنْ جَوّ السمَّاءِ يَصُوبُ


وكما قال علقمة بن عبدة:

كأنَّهُمُ صَابَتْ عَلَـيْهمْ سَحَابَةٌصَوَاعِقُها لِطَيْرِهِنَّ دَبِـيبُ
فَلا تَعْدِلـي بَـيْنِـي وَبَـيْنَ مُغَمَّرِسُقِـيتِ رَوَايا الـمُزْنِ حِينَ تَصُوبُ


يعنـي: حين تنـحدر. وهو فـي الأصل: صيوب، ولكن الواو لـما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعاً ياء مشددة، كما قـيـل: سيد من ساد يسود، وجيد من جاد يجود. وكذلك تفعل العرب بـالواو إذا كانت متـحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرهما جميعاً ياء مشددة. وبـما قلنا من القول فـي ذلك قال أهل التأويـل.

حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي، قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد، قال: حدثنا هارون بن عنترة، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: { أو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } قال: القطر.

وحدثنـي عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال لـي عطاء: الصيب: الـمطر.

وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية ابن صالـح، عن علـيّ عن ابن عبـاس، قال: الصيب: الـمطر.

وحدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: الصيب: الـمطر.

وحدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي سعد، قال: حدثنـي عمي الـحسين، عن أبـيه، عن جده، عن ابن عبـاس مثله.

وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: أو كصيب قال: الـمطر.

وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة مثله.

وحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، وعمرو بن علـي، قالا: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: الصيب: الـمطر.

وحدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: الصيب: الـمطر.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: الصيب: الـمطر.

وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس قال: الصيب: الـمطر.

وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: { أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السمَّاءِ } قال: أو كغيث من السماء.

وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: قال سفـيان: الصيب: الذي فـيه الـمطر.

حدثنا عمرو بن علـي، قال: حدثنا معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: أو كصيب من السماء قال: الـمطر.
-1-

قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك: مثل استضاءة الـمنافقـين بضوء إقرارهم بـالإسلام مع استسرارهم الكفر، مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره علـى ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مطر مظلـم وَدْقُه تـحدَّر من السماء تـحمله مزنة ظلـماء فـي لـيـلة مظلـمة، وذلك هو الظلـمات التـي أخبر الله جل ثناؤه أنها فـيه.

فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين الـمثلـين، أهما مثلان للـمنافقـين أو أحدهما؟ فإن يكونا مثلـين للـمنافقـين فكيف قـيـل: { أوْ كَصَيِّبٍ } ، و«أو» تأتـي بـمعنى الشك فـي الكلام، ولـم يقل: وكصيب، بـالواو التـي تلـحق الـمثل الثانـي بـالـمثل الأول؟ أو يكون مثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الآخر ب«أو»، وقد علـمت أن «أو» إذا كانت فـي الكلام فإنـما تدخـل فـيه علـى وجه الشك من الـمخبر فـيـما أخبر عنه، كقول القائل: لقـينـي أخوك أو أبوك، وإنـما لقـيه أحدهما، ولكنه جهل عين الذي لقـيه منهما، مع علـمه أن أحدهما قد لقـيه وغير جائز فـي الله جل ثناؤه أن يضاف إلـيه الشك فـي شيء أو عزوب علـم شيء عنه فـيـما أخبر أو ترك الـخبر عنه. قـيـل له: إن الأمر فـي ذلك بخلاف الذي ذهبت إلـيه، و«أو» وإن كانت فـي بعض الكلام تأتـي بـمعنى الشك، فإنها قد تأتـي دالة علـى مثل ما تدلّ علـيه الواو إما بسابق من الكلام قبلها، وإما بـما يأتـي بعدها كقول توبة بن الـحُمَيِّر:

وَقَدْ زَعَمَتْ لَـيْـلَـى بأنَى فـاجِرٌلِنَفْسِي تُقاها أوْ عَلَـيْهَا فُجُورُها


ومعلوم أن ذلك من توبة علـى غير وجه الشك فـيـما قال. ولكن لـما كانت «أو» فـي هذا الـموضع دالة علـى مثل الذي كانت تدل علـيه الواو لو كانت مكانها، وَضَعَها موضعها. وكذلك قول جرير:

جاءَ الـخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراًكما أتـى رَبَّهُ مُوسَى علـى قَدَرِ


وكما قال آخر

فَلَوْ كانَ البُكاءُ يَرُدُّ شَيْئاًبَكَيْتُ علـى جُبَـيرٍ أوْ عَناقِِ
عَلـى الـمَرأيْنِ إذْ مَضَيا جَمِيعاًلِشأْنِهِما بِحُزْنٍ وَاشْتِـياقِ


فقد دل بقوله على المرأين إذ مضيا جميعا إن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر بل أراد أن يبكيهما جميعاً، فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه.

{ أوْ كَصَيِّبٍ منَ السمَّاءِ } لـما كان معلوما أن «أو» دالة فـي ذلك علـى مثل الذي كانت تدل علـيه الواو، ولو كانت مكانها كان سواء نطق فـيه ب«أو» أو بـالواو. وكذلك وجه حذف الـمثل من قوله: { أوْ كَصَيِّبٍ } لـما كان قوله:

{ كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً }

دالاًّ علـى أن معناه: كمثل صيب، حذف الـمثل واكتفـى بدلالة ما مضى من الكلام فـي قوله:

{ كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً }

علـى أن معناه: أو كمثل صيب، من إعادة ذكر الـمثل طلب الإيجاز والاختصار.


-2-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #3  
قديم 12-12-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) مصنف و مدقق 1-5

تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) مصنف و مدقق 1-5


{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

ثم ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف، وإيضاحاً غب إيضاح. وكما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز؛ فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ:

ُيوحُونَ بالخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةًوَحْيَ المُلاَحِظِ خِيفةَ الرُُّقَباء


ومما ثنى من التمثيل في التنزيل قوله:

{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ *وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ *وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ *وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ } [فاطر35: 19-22]

وألا ترى إلى ذي الرمّة كيف صنع في قصيدته؟

أَذَاكَ أَمْ نَمَشٌ بالْوَشْيِ أَكْرَعُه......................
أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بالسَّيِّ مَرْتَعُهُُ......................


فإن قلت: قد شبه المنافق في التمثيل الأوّل بالمستوقد ناراً، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، فما ذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد وبالبرق وبالصواعق؟ قلت: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأنّ القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات. وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوي صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فإن قلت: هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما في قوله:

{ وَمَا يَسْتَوِى ٱلاْعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَلاَ ٱلْمُسِىء } [غافر40: 58]،

وفي قول امرىء القيس:

كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساًلَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي؟


قلت: كما جاء ذلك صريحاً فقد جاء مطوياً ذكره على سنن الاستعارة، كقوله تعالى:

{ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [فاطر35: 12]،
{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَـٰكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ } [الزمر39: 29]،

والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه: أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، بيانه: أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى، معزولاً بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً، بأخرى مثلها كقوله تعالى:

{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ } [الجمعة62: 5] الآية.

الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار، لا يشعر من ذلك إلا بما يمرّ بدفيه من الكدّ والتعب. وكقوله:

{ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاء } [الكهف18: 45]

-1-

المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً، فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت: الذي كنت تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك: «أو كمثل ذوي صيب» هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت: لولا طلب الراجع في قوله تعالى: { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } ما يرجع إليه لكنت مستغنياً عن تقديره؛ لأني أراعي الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا عليّ أوَلِيَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله. ألا ترى إلى قوله:

{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } [يونس10: 24] الآية،

كيف ولي الماء الكاف، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد:

وما النَّاسُ إلاّ كالدِّيَارِ وأَهْلُهَابِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلاَقِعُ


لم يشبه الناس بالديار، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم، بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها، وتركها خلاء خاوية. فإن قلت: أي التمثيلين أبلغ؟ قلت: الثاني، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته، ولذلك أُخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. فإن قلت: لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ قلت: أو في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى:

{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان76: 24]،

أي الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذلك قوله: { أَوْ كَصَيّبٍ } معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك. والصيب: المطر الذي يصوّب، أي ينزل ويقع. ويقال للسحاب: صيب أيضاً. قال الشماخ:

وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ


وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل. كما نكرت النار في التمثيل الأول. وقرىء: كصائب، والصيب أبلغ. والسماء: هذه المظلة. وعن الحسن: أنها موج مكفوف. فإن قلت: قوله: { مّنَ ٱلسَّمَاء } ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت: الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء، أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله:

-2-

{ وَأَوْحَىٰ فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } [فصلت41: 12].

الدليل عليه قوله:

ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنا وسَمَاءِ


والمعنى أنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء، كما جاء بصيب. وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير. أمد ذلك بأن جعله مطلقاً. وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر. ويؤيده قوله تعالى:

{ وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [النور24: 43]

فإن قلت: بم ارتفع ظلمات؟ قلت: بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف. والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك من الارتعاد. والبرق الذي يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقاً إذا لمع. فإن قلت: قد جعل الصيب مكاناً للظلمات فلا يخلو من أن يراد به السحاب أو المطر، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل. فإن قلت: كيف يكون المطر مكاناً للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه. ألا تراك تقول: فلان في البلد، وما هو منه إلا في حيز يشغله جرمه. فإن قلت: هلا جمع الرعد والبرق أخذاً بالأبلغ كقول البحتري:

يَا عَارِضاً مُتَلفِّعاً بُبُرودِهِيَخْتَالُ بَيْنَ بُرُوقِهِ ورُعُودِهِ


وكما قيل ظلمات؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد العينان، ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل ـ يقال: رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً ـ، روعى حكم أصلهما بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع. والثاني: أن يراد الحدثان كأنه قيل: وإرعاد وإبراق. وإنما جاءت هذه الأشياء منكرات، لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطب. وجاز رجوع الضمير في يجعلون إلى أصحاب الصيب مع كونه محذوفاً قائماً مقامه الصيب، كما قال:

{ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [الأعراف7: 4].

لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه. ألا ترى إلى حسان كيف عوّل على بقاء معناه في قوله:

يُسْقَوْنَ مِنْ وِرْدِ البريص عليْهِمُبَرَدَى يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ


حيث ذكر يصفق؛ لأن المعنى؛ ماء بردى، ولا محل لقوله: { يَجْعَلُونَ } لكونه مستأنفاً، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول، فكأن قائلاً قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل: يكاد البرق يخطف أبصارهم. فإن قلت: مرأَيس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن فهلا قيل أناملهم؟ قلت: هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها، كقوله:

-3-

{ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيَّدِيَكُم } [المائدة5: 6]،
{ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة5: 6]


أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضاً ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. فإن قلت: فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة، فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدّعاءة. فإن قلت: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت: هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثوها بعد. وقوله: { مّنَ ٱلصَّوٰعِقِ } متعلق بيجعلون، أي: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم، كقولك: سقاه من العيمة. والصاعقة: قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق؛ أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى:

{ وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقًا } [الأعراف7: 143].

وقرأ الحسن: «من الصواقع»؛ وليس بقلب للصواعق، لأنّ كلا البنائين سواء في التصرف، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد، والتاء مبالغة كما في الراوية، أو مصدراً كالكاذبة والعافية. وقرأ ابن أبي ليلى: حذار الموت، وانتصب على أنه مفعول له كقوله:

وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ


والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة الله بالكافرين مجاز. والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة اعتراض لا محل لها. والخطف: الأخذ بسرعة. وقرأ مجاهد «يخطف» بكسر الطاء، والفتح أفصح وأعلى، وعن ابن مسعود: يختطف. وعن الحسن: يخطف، بفتح الياء والخاء، وأصله يختطف. وعنه: يخطف، بكسرهما على إتباع الياء الخاء. وعن زيد بن علي: يخطف، من خطف. وعن أبيّ: «يتخطف»، من قوله:

{ وتخطفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت29: 67].

{ كُلَّمَا أَضآءَ لَهُم } استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق خفقة، مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء الله لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق فأعماهم. وأضاء: إما متعد بمعنى: كلما نوّر لهم ممشى ومسلكاً أخذوه والمفعول محذوف.


-4-

وإما غير متعد بمعنى: كلما لمع لهم { مَّشَوْاْ } في مطرح نوره وملقى ضوئه. ويعضده قراءة ابن أبي عبلة: كلما ضاء لهم والمشي: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعي. فإذا ازداد فهو عدو. فإن قلت: كيف قيل مع الإضاءة: كلما، ومع الإظلام: إذا؟ قلت: لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس. وأظلم: يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر، وأن يكون متعدياً منقولاً من ظلم الليل. وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب: أظلم، على ما لم يسم فاعله. وجاء في شعر حبيب بن أوس:

هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَاظَلاَمَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أشْيَبِ


وهو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه. ومعنى { قَامُواْ } وقفوا وثبتوا في مكانهم. ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وقام الماء: جمد. ومفعول { شَآءَ } محذوف، لأن الجواب يدل عليه، والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و«أراد» لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله:

فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ


وقوله تعالى:

{ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا } [الأنبياء21: 17]
{ لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [الزمر39: 4 ].

وأراد: ولو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق. وقرأ ابن أبي عبلة: لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء كقوله:

{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [البقرة2: 195].

والشيء: ما صح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه ـ في ساقة الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم من العربية ـ: وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟، والشيء: مذكر، وهو أعم العام: كما أن الله أخص الخاص يجري على الجسم والعرض والقديم. تقول: شيء لا كالأشياء؛ أي معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال فإن قلت: كيف قيل: { عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل وفعل قادر آخر؟ قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلاً؛ فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها، فكأنه قيل: على كل شيء مستقيم قدير. ونظيره: فلان أمير على الناس أي على من وراءه منهم، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس. وأما الفعل بين قادرين فمختلف فيه. فإن قلت: ممّ اشتقاق القدير؟ قلت: من التقدير، لأنه يوقع فعله على مقدار قوّته واستطاعته وما يتميز به عن العاجز.


-5-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #4  
قديم 12-12-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق 1-3

تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق 1-3


القراءة: ظُلمات أجمع القراء على ضم اللام منه على الاتباع وروي في الشواذ عن الحسن وأبي السماك بسكون اللام وعن بعضهم بفتح اللام وأبو عمرو يميل الكاف من الكافرين في موضع الخفض والنصب وروي ذلك عن الكسائي والباقون لا يميلون.


الحجة: الوجه في ذلك أنهم كرهوا اجتماع الضمتين فتارةً عدلوا إلى الفتح ظلمات وتارةً عدلوا إلى السكون فقالوا ظلمات وكلا الأمرين حسن في اللغة وإنما أمالوا الكاف من الكافرين للزوم كسرة الراء بعد الفاء المكسورة والراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسوريْن وكلما كثرت الكسرات غلبت الإمالة وحَسَّنتها وللقراء في الإمالة مذاهب واختلافات يطول استقصاؤها وأبو علي الفارسي رحمه الله قد بلغ الغاية وجاوز النهاية في احتجاجاتهم وذكر من التحقيق فيها والتدقيق ما ينبو عنه فهم كثير من علماء الزمان فالتعمق في إيراد أبوابها وحججها والغوص إلى لججها لا يليق بتفسير القرآن وكذلك كل يتعلق بفن القراءة من علوم الهمزة والإدغام والمد فإن لذلك كتباً مؤلفة يرجع إليها ويعول عليها فالرأي أن نُلِمَّ بأطرافها ونقتصر على بعض أوصافها فيما يأتي من الكتاب إن شاء الله تعالى.

اللغة: الصيب المطر أصله صيوب فيعل من الصواب لكن اجتمعت الواو والياء وأولاهما ساكنة فصارتا ياء مشددة ومثله سيد وجيّد والسماء المعروف وكل ما علاك وأظلّك فهو سماء وسماء البيت سقفه وأصابهم سماء أي مطر وأصله سار من بيوت فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة وجعل يكون على وجوه أحدها: أن يتعدى إلى مفعولين نحو جعلت الطين خزفاً أي صيرت وثانيها: أن يأتي بمعنى صنع يتعدى إلى مفعول واحد نحو قولـه وجعل الظلمات والنور وثالثها: أن يأتي بمعنى التسمية كقولـه تعالى:

{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً } [إِبراهيم14: 30]

أي سمّوا له ورابعها: أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة نحو جعل زيد يفعل كذا والصواعق جمع صاعقة وهي الوقع الشديد من السحاب يسقط معه نار تحرق والصاعقة صيحة العذاب والحذر طلب السلامة مما يخاف.

الإعراب: أو ههنا للإباحة إذا قيل لك جالس الفقهاء أو المحدثين فكلا الفريقين أهل أن يجالس فإن جالست أحدهما فأنت مطيع وإن جالست الآخر فأنت مطيع وإن جالستهما فأنت مطيع فكذلك ههنا إن مثلّت المنافقين بالمستوقد كنت مصيباً وإن مثلّتهم بأصحاب الصيب فأنت مصيب وإن مثلتهم بكلا الفريقين فأنت مصيب وتقديره أو كأصحاب ثيب حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه لأن هذا عطف على قولـه { كمثل الذي استوقد ناراً } والصيّب ليس بعاقل فلا يعطف على العاقل و يجعلون في موضع الحال من أصحاب الصيب وقولـه فيه ظلمات جملة في موضع الجر بأنها صفة صيب والضمير المتصل بفي عائد إلى صيب أو إلى السماء وحذر الموت بأنه مفعول له لأن جعلهم المعنى يفعلون ذلك لحذر الموت.

-1-

قال الزجاج وإنما نصبه الفعل لأنه في تأويل مصدره لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم يدل على حذرهم الموت قال الشيخ أبو علي: المفعول له لا يكون إلا مصدراً لأنه يدل على أنه فُعِل لأجل ذلك الحدث والحدث مصدر لكنه ليس مصدراً عن هذا الفعل بل عن فعل آخر.

المعنى: مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدة تحيرهم " كصيب " أي كأصحاب مطر " من السماء " أي منزل من السماء " فيه " أي في هذا المطر أو في السماء لأن المراد بالسماء السحاب فهو مذكر " ظلمات " لأن السحاب يغشى الشمس بالنهار والنجوم بالليل فيظلم الجو " ورعد " قيل إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب وقيل الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح, روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. وقيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس وقيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب ومن قال إنه ملك قدر فيه صوت كأنه قال فيه ظلمات وصوت رعد لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه وقولـه " وبرق " قيل إنه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (ع) وقيل إنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب عن ابن عباس وقيل هو مصع ملك من مجاهد والمصاع المجالدة بالسيوف وغيرها قال الأعشى:

إذا هُنَّ نَازَلنَ أَقْرانَهُنَّكَانَ المِصَاعُ بِما في الْجُؤنْ


وقيل إنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام وفي تأويل الآية وتشبيه المثل أقوال:

أحدها: أنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر وما فيه من البرق بما فيه من البيان وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا والدعاء إلى الجهاد عاجلاً عن ابن عباس وثانيها: أنه مثل للدنيا شبّه ما فيها من الشدة والرخاء بالصيب الذي يجمع نفعاً وضرراً وأن المنافق يدفع عاجل الضرر ولا يطلب آجل النفع وثالثها: أنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة وشبّه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل وبما يخافون من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل ويقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه ورابعها: ما روي عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد وصواعق وبرق وكلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلاً لمنافقي المدينة وأنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء كما كان ذلك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما وكلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة أو فتحاً مشوا فيه وقالوا دين محمد صحيح وإذا أظلم عليهم قاموا يعني إذا هلكت أموالهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما وقولـه: { والله محيط بالكافرين } يحتمل وجوهاً:

-2-

أحدها: أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم ويطلع نبيّه على ضمائرهم عن الأصم وثانيها: أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر:

أَحَطْنَا بِهِمْ حتَّى إِذَا مَا تَيَقَّنُوابِما قَدْ رَأوا مَالُوا جَميعاً إلى السِّلْمِ


أي قدرنا عليهم وثالثها: ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذّ منه شيء ومنه أحاط بكل شيء علماً أي لم يشذ عن علمه شيء ورابعها: أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه

{ وأحيط بثمره } [الكهف18: 42]

أي أصابه ما أهلكه وقولـه: { إلاّ أن يحاط بكم } معناه أن تهلكوا جميعاً.

-3-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #5  
قديم 12-12-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 1-6

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 1-6



اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه: أحدها: أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مشوا فيه، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته. وتعظم الظلمة في عينه، وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة، فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم، إذ كانوا لا يرون طريقاً ولا يهتدون، وثانيها: أن المطر وإن كان نافعاً إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلاً، فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن: فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضرراً في الدين. وثالثها: أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت، فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم، مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر ورابعها: أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فراراً من الموت والقتل، فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه وخامسها: أن هؤلاء الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذي يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار. وسادسها: أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة، وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق. وسابعها: المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين، وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات والجهاد مع الآباء والأمهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة، والمراد من قوله: { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } أنه متى حصل لهم شيء من المنافع، وهي عصمة أموالهم ودمائهم وحصول الغنائم لهم فإنهم يرغبون في الدين: { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع فحينئذٍ يكرهون الإيمان ولا يرغبون فيه، فهذه الوجوه ظاهرة في التشبيه.

-1-

وبقي على الآية أسئلة وأجوبة. السؤال الأول: أي التمثيلين أبلغ؟ والجواب: التمثيل الثاني، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأغاليظ؛ ولذلك تراهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. السؤال الثاني: لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ الجواب من وجوه: أحدها: لأن «أو» في أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك. كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن تجالس أيهما شئت، ومنه قوله تعالى:

{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان76: 24]

أي أن الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذا قوله: { أَوْ كَصَيّبٍ } معناه أن كيفية المنافقين شبيهة بكيفتي هاتين القصتين، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك. وثانيها: إنما ذكر تعالى ذلك لأن المنافقين قسمان بعضهم يشبهون أصحاب النار، وبعضهم يشبهون أصحاب المطر، ونظيره قوله تعالى:

{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } [البقرة2: 135] وقوله:
{ وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [الأعراف7: 4]

وثالثها: أو بمعنى بل قال تعالى:

{ وَأَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات37: 147]

ورابعها: أو بمعنى الواو كأنه قال وكصيب من السماء نظيره قوله تعالى:

{ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُم أَو بُيُوتِ ءَابَائِكُم أَو بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُم } [النور24: 61]

وقال الشاعر:

وقد زعمت ليلى بأني فاجرلنفسي تقاها أو عليها فجورها


وهذه الوجوه مطردة في قوله:

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة2: 74]

السؤال الثالث: المشبه بالصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ما هو؟ الجواب: لعلماء البيان ههنا قولان: أحدهما: أن هذا تشبيه مفرق ومعناه أن يكون المثل مركباً من أمور والممثل يكون أيضاً مركباً من أمور ويكون كل واحد من المثل شبيهاً بكل واحد من الممثل، فههنا شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد؛ وما يصيب الكفرة من الفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق، والمعنى أو كمثل ذوي صيب، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة: والقول الثاني: أنه تشبيه مركب، وهو الذي يشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور وإن لم تكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى وههنا المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدنيا والدين بحيرة من انطفت ناره بعد إيقادها، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق، فإن قيل الذي كنت تقدره في التشبيه المفرق من حذف المضاف وهو قولك: أو كمثل ذوي صيب هل يقدر مثله في المركب، قلنا لولا طلب الراجع في قوله: { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } ما يرجع إليه لما كان بنا حاجة إلى تقديره: السؤال الرابع: ما الصيب؟ الجواب: أنه المطر الذي يصوب، أي ينزل من صاب يصوب إذا نزل ومنه صوب رأسه إذا خفضه وقيل إنه من صاب يصوب إذا قصد، ولا يقال صيب إلا للمطر الجود.


-2-

كان عليه الصلاة والسلام يقول: " اللهم اجعله صيباً هنيئاً " أي مطراً جوداً وأيضاً يقال للسحاب صيب قال الشماخ:

وأسحم دان صادق الوعد صيب


وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل، كما تنكرت النار في التمثيل الأول، وقرىء «أو كصائب» وصيب أبلغ: والسماء هذه المظلة. السؤال الخامس: قوله من السماء. ما الفائدة فيه والصيب لا يكون إلا من السماء؟ الجواب من وجهين: الأول: لو قال. أو كصيب فيه ظلمات. احتمل أن يكون ذلك الصيب نازلاً من بعض جوانب السماء دون بعض، أما لما قال من السماء دل على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء فكما حصل في لفظ الصيب مبالغات من جهة التركيب والتنكير أيد ذلك بأن جعله مطبقاً، الثاني: من الناس من قال: المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى، فذاك هو المطر ثم إن الله سبحانه وتعالى أبطل ذلك المذهب ههنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء، كذا قوله:

{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُوراً } [الفرقان25: 48] وقوله:
{ وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [النور24: 43]

السؤال السادس: ما الرعد والبرق؟ الجواب: الرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتقض وترتعد إذا أخذتها الريح فصوت عند ذلك من الارتعاد والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع. السؤال السابع: الصيب هو المطر والسحاب فأيهما أريد فما ظلماته؟ الجواب: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمته سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل، وأما ظلمة المطر فظلمته تكاثفه وانسجامه بتتابع القطر وظلمته إظلال الغمامة مع ظلمة الليل. السؤال الثامن: كيف يكون المطر مكاناً للرعد والبرق وإنما مكانهما السحاب. الجواب: لما كان التعليق بين السحاب والمطر شديداً جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر في الأحكام. السؤال التاسع: هلا قيل رعود وبروق كما قيل ظلمات؟ الجواب: الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع، أما الرعد فإنه نوع واحد، وكذا البرق ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع.


-3-

السؤال العاشر: لم جاءت هذه الأشياء منكرات. الجواب: لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. السؤال الحادي عشر: إلى ماذا يرجع الضمير في «يجعلون». الجواب: إلى أصحاب الصيب وهو وإن كان محذوفاً في اللفظ لكنه باقٍ في المعنى ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال:

{ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } [البقرة2: 20]

السؤال الثاني عشر: رءوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان فهلا قيل أناملهم؟ الجواب المذكور وإن كان هو الأصبع لكن المراد بعضه كما في قوله:

{ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة5: 38]

المراد بعضهما. السؤال الثالث عشر: ما الصاعقة؟ الجواب: إنها قصف رعد ينقض منها شعلة من نار وهي نار لطيفة قوية لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع قوتها سريعة الخمود. السؤال الرابع عشر: ما إحاطة الله بالكافرين. الجواب: إنه مجاز والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عالم بهم قال تعالى:

{ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا } [الطلاق65: 12]

وثانيها: قدرته مستولية عليهم

{ وَٱللَّهُ مِن وَرَاءهُم مُحِيطٌ } [البروج85: 20]

وثالثها: يهلكهم من قوله تعالى:

{ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [يوسف12: 66]

السؤال الخامس عشر: ما الخطف. الجواب:أنه الأخذ بسرعة، وقرأ مجاهد «يخطِف» بكسر الطاء، والفتح أفصح، وعن ابن مسعود «يختطف» وعن الحسن «يَخَطف» بفتح الياء والخاء وأصله يختطف، وعنه يخطف بكسرهما على اتباع الياء الخاء، وعن زيد بن علي: يخطف من خطف وعن أبي يتخطف من قوله:

{ وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِم } [العنكبوت29: 67]

أما قوله تعالى: { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } [البقرة: 20] فهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه، والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي ضوء البرد فأعماهم. وأضاء إما متعدٍ بمعنى كلما نور لهم مسلكاً أخذوه، فالمفعول محذوف، وإما غير متعدٍ بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة «كلما ضاء» فإن قيل كيف قال مع الإضاءة كلما، ومع الإظلام إذا: قلنا لأنهم حراص على إمكان المشيء، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف، والأقرب في أظلم أن يكون غير متعدٍ وهو الظاهر، ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم، ومنه قامت السوق، وقام الماء جمد، ومفعول شاء محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وههنا مسألة، وهي أن المشهور أن «لو» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك وزعم أنها لا تفيد إلا الربط واحتج عليه بالآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى:


-4-

{ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنفال8: 23]

فلو أفادت كلمة لو انتفاء الشيء لا انتفاء غيره للزم التناقض لأن قوله: { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ } يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم وقوله: { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } يفيد أنه تعالى ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ولكن عدم التولي خير فلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً، وما علم فيهم خيراً وأما الخبر فقوله عليه السلام: " نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض، فقد علمنا أن كلمة «لو» لا تفيد إلا الربط والله أعلم.

وأما قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: منهم من استدل به على أن المعدوم شيء، قال: لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود، فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء. والجواب: لو صح هذا الكلام لزم أن ما لا يقدر الله عليه لا يكون شيئاً، فالموجود لما لم يقدر الله عليه وجب أن لا يكون شيئاً.

المسألة الثانية: احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء، قال لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله والله تعالى ليس بمقدور له، فوجب أن لا يكون شيئاً، واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى:

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى42: 11]

قال لو كان هو تعالى شيئاً لكان تعالى مثل نفسه فكان يكذب قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا تتناقض هذه الآية، واعلم أن هذا الخلاف في الاسم، لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، واحتج أصحابنا بوجهين: الأول: قوله تعالى:

{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ } [الأنعام6: 19]

والثاني: قوله تعالى:

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

والمستثنى داخل في المستثنى منه فيجب أن يكون شيئاً.


المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم، وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء، وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى.

المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافاً للمعتزلة، فإنهم يقولون: الاستطاعة قبل الفعل محال، فالشيء إنما يكون مقدوراً قبل حدوثه، وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء، وكل شيء مقدور، وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدوراً ترك العمل به فبقي معمولاً به في محل النزاع، لأنه حال البقاء مقدوره، على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه، أما حال الحدوث، فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوماً في أول زمان وجوده، فلم يبق إلا أن يكون قادراً على إيجاده.

-5-

المسألة الخامسة: تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل، لأن قوله:

{ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } [البقرة2: 284]

يقتضي أن يكون قادراً على نفسه ثم خص بدليل العقل، فإن قيل إذا كان اللفظ موضوعاً للكل ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً، وذلك يوجب الطعن في القرآن، قلنا: لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع. فقد يستعمل مجازاً في الأكثر، وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً والله أعلم.

-6-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #6  
قديم 12-12-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 1-4



قوله تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } قال الطبري: «أو» بمعنى الواو؛ وقاله الفرّاء. وأنشد:

وقد زَعَمتْ ليْلَى بأنِّيَ فاجرٌلنفسي تُقَاها أو عليها فُجورها

وقال آخر:

نَال الخلافةَ أو كانت له قَدَراًكما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

أي وكانت. وقيل: «أو» للتخيير أي مثّلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، والمعنى أو كأصحاب صَيِّب. والصَّيِّبُ: المطر. وٱشتقاقه من صَابَ يَصُوبُ إذا نزل؛ قال عَلْقَمة:

فلا تَعْدِلي بَيني وبين مُغَمَّرٍسَقَتكِ رَوايا المُزْنِ حيث تَصُوبُ

وأصله: صَيْوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت؛ كما فعلوا في ميّت وسيّد وهيّن وليّن. وقال بعض الكوفيين: أصله صَوِيب على مثال فعِيل. قال النحاس: «لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية: مَثَلهم كَمَثل الذي ٱستوقد ناراً أو كمثل صيب».

قوله تعالى: { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } السماء تذكّر وتؤنث، وتجمع على أسميةٍ وسموات وسُمِيّ، على فُعُول؛ قال العجاج:

تَلُفُّه الرياحُ والسُّمِيُّ

والسماء: كل ما علاك فأظلّك؛ ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: المطر؛ سُمّيَ به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت:

ديارٌ من بني الحَسْحاسِ قَفْرٌتُعَفِّيها الروامِسُ والسماء

وقال آخر:

إذا سَقَط السماءُ بأرض قومٍرَعَيناه وإن كانوا غِضابَا

ويسمّى الطين والكلا أيضاً سماء؛ يقال: ما زِلْنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلأ والطين. ويقال لظهر الفرس أيضاً سماء لعلوّه؛ قال:

وأحمرُ كالدّيباج أمّا سماؤهفَرَيّا وأمّا أرضُه فمُحُولُ

والسماء: ما علا. والأرض: ما سفل؛ على ما تقدّم.

قوله تعالى: { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ٱبتداء وخبر. { وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } معطوف عليه. وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظُلْمة الليل وظُلْمة الدَّجْن، وهو الغيم؛ ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة، وكذا كل ما تقدّم إن شاء الله تعالى.

وٱختلف العلماء في الرعد؛ ففي الترمذي عن ٱبن عباس قال: " سألتِ اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: «مَلك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله». فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله» قالوا: صدقت " الحديث بطوله. وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. فالرعد: ٱسم الصوت المسموع، وقاله عليّ رضي الله عنه، وهو المعلوم في لغة العرب؛ وقد قال لبِيد في جاهليته:

فَجّعَني الرعدُ والصواعقُ بالــفارِسِ يومَ الكريهةِ النَّجِدِ

وروي عن ٱبن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوّت ذلك الصوت. وٱختلفوا في البرق؛ فروي عن عليّ وٱبن مسعود وٱبن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد المَلَك يسوق به السحاب.

-1-

قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي. وعن ٱبن عباس أيضاً: هو سوط من نور بيد المَلَك يزجر به السحاب. وعنه أيضاً: البرق مَلَك يتراءى.

وقالت الفلاسفة: الرعد صوت ٱصطكاك أجرام السحاب. والبرق ما ينقدح من ٱصطكاكها. وهذا مردود لا يصح به نقل؛ والله أعلم. ويقال: أصل الرعد من الحركة؛ ومنه الرِّعديد للجبان. وٱرتعد: ٱضطرب؛ ومنه الحديث: " فجِيءَ بهما تُرْعَدُ فَرَائصهما " الحديث. أخرجه أبو داود. والبرق أصله من البريِق والضوء؛ ومنه البُرَاق: دابّة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسرِيَ به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله. ورَعَدت السماء من الرعد، وبَرَقت من البرق. وَرَعَدت المرأة وبَرَقت: تحسّنت وتزينّت. ورَعَد الرجل وبَرَق: تهدّد وأوعد؛ قال ٱبن أحمر:

يا جُلَّ ما بَعُدَتْ عليك بِلادُناوطِلابُنا فٱبرُقْ بأرضِك وٱرعُدِ

وأَرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق. وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدّد وأوعد؛ وأنكره الأصمعي. وٱحتج عليه بقول الكُمَيْت:

أبرِق وأرعِد يا يزيــدُ فما وعيدُكَ لي بِضائرْ

فقال: ليس الكُمَيت بحجة.

فائدة: روى ٱبن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سَفْرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار، قال فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفَرِق الناس. قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحانَ من يسبِّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته؛ عُوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا وٱجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس. قال: وما ذاك؟ قال: فحدّثته حديث كعب. قال: سبحان الله! أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! في رواية فإذا بَرَدة قد أصابت أنف عمر فأثّرَت به. وستأتي هذه الرواية في سورة «الرعد» إن شاء الله. ذكر الروايتين أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين. " وعن ٱبن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللَّهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بعذابك وعافِنا قبل ذلك» " قوله تعالى: { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام؛ وذلك عندهم كفر والكفر موت. وفي واحد الأصابع خمس لغات: إصْبَع بكسر الهمزة وفتح الباء، وأَصْبِع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال بفتحهما جميعاً، وضمهما جميعاً، وبكسرهما جميعاً؛ وهي مؤنثة. وكذلك الأذن وتخفّف وتثقّل وتصغّر، فيقال: أذينة. ولو سّميت بها رجلاً ثم صغّرته قلت: أُذيْن؛ فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر.

-2-

فأما قولهم: أذينة في الاسم العَلم فإنما سُمّي به مصغّراً، والجمع آذان. وتقول: أَذَنته إذا ضربت أذنه. ورجل أُذُنٌ: إذا كان يسمع كلام كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وأذانِيّ: عظيم الأذنين. ونعجة أَذْناء، وكَبْش آذَن. وأذّنت النعل وغيرَها تأذينا: إذا جعلت لها أُذُناً. وأذّنت الصبيّ: عَرَكت أذنه.

قوله تعالى: { مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } أي من أجل الصواعق. والصّواعق جمع صاعقة. قال ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا ٱشتدّ غضب الرعد الذي هو المَلَك طار النار مِن فِيهِ وهي الصواعق. وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد. وحكى الخليل عن قوم: الساعقة (بالسين). وقال أبو بكر النقاش: يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنىً واحد. وقرأ الحسن: من «الصواقع» (بتقديم القاف)؛ ومنه قول أبي النَّجْم:

يَحْكُون بالمَصْقُولة القواطِعِتَشَقُّقَ البَرْقِ عن الصّواقِعِ

قال النحاس: وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة. ويقال: صَعَقتهم السماء إذا ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضاً صيحة العذاب؛ قال الله عز وجل:


ويقال: صَعِق الرجلُ صَعْقةً وتَصْعاقاً؛ أي غُشِيَ عليه؛ ومنه قوله تعالى:


فأصعقه غيره. قال ٱبن مُقْبِل:

ترى النُّعَرات الزُّرْقَ تحت لَبانِهِأُحادَ ومَثْنَى أَصْعَقَتْها صَواهِلُهُ

وقوله تعالى:


أي مات. وشبّه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصَّيِّب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فالظلمات مَثَلٌ لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مَثَلٌ لما يُخَوَّفون به. وقيل: مَثَّل الله تعالى القرآن بالصَّيّب لما فيه من الإشكال عليهم، والعمى هو الظلمات؛ وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحياناً أن تَبْهَرهم هو البرق. والصواعق مَثَلٌ لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل. وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما.

قوله: { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } حَذَرَ وحِذَارَ بمعنىً؛ وقرىء بهما. قال سيبويه: هو منصوب؛ لأنه موقوع له أي مفعول من أجله؛ وحقيقته أنه مصدر؛ وأنشد سيبويه:

وأغْفِرُ عَوْرَاءَ الكريم ٱدّخارَهوأعْرِض عن شَتِم اللئيم تَكَرُّما

وقال الفراء: هو منصوب على التمييز. والموت: ضدّ الحياة. وقد مات يموت؛ ويَمات أيضاً؛ قال الراجز:

بُنَيّتي سَيّدةَ الَبناتِعِيشي ولا يُؤْمَن أن تَماتِي

فهو ميِّت وميْت، وقوم موتى وأموات وميِّتون وميْتون. والمُوَات (بالضم) الموت. والمَوَات (بالفتح): ما لا رُوح فيه. والمَوات أيضاً: الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد. والمَوَتان (بالتحريك): خلاف الحيوان؛ يقال: ٱشْترِ المَوَتانَ، ولا تشتر الحيوان، أي ٱشتر الأرضين والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب. والمُوْتان (بالضم): مَوْتٌ يقع في الماشية؛ يقال: وقع في المال مُوتان.

-3-

وأماته الله وموَّته؛ شُدّد للمبالغة. وقال:

فَعُرْوةُ مات مَوتاً مستريحاًفهأنذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ

وأماتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مُمِيت ومُميتة. قال أبو عبيد: وكذلك المرأة، وجمعها مَماوِيت. قال ٱبن السِّكيت: أمات فلان إذا مات له ٱبنٌ أو بَنُونَ. والمُتَماوِت من صفة الناسك المرائي. وموت مائتٌ، كقولك: ليلٌ لائِلٌ؛ يؤخذ من لفظه ما يؤكّد به. والمُسْتَمِيتُ للأمر: المُسْتَرسِلُ له؛ قال رُؤبة:

وزَبَدُ البحرِ له كَتِيتواللّيل فوق الماءِ مُسْتَمِيت

المستميت أيضاً: المستقتلِ الذي لا يبالي في الحرب من الموت؛ وفي الحديث: " أرى القوم مُسْتَمِيتين " وهم الذين يقاتلون على الموت. والمُوتة (بالضم): جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان؛ فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران. ومُؤْتة (بضم الميم وهمز الواو): ٱسم أرض قُتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام.

قوله تعالى: { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكافِرِينَ } ٱبتداء وخبر؛ أي لا يفوتونه. يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذاً حاصراً من كل جهة؛ قال الشاعر:

أحطنا بهم حتى إذا ما تَيَقّنُوابما قد رأوْا مالوا جميعاً إلى السِّلْمِ

ومنه قوله تعالى:
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [الكهف18: 42].

وأصله مُحِيْط، نُقلت حركة الياء إلى الحاء فسكّنت. فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره؛ كما قال:

{ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر39: 67]. وقيل:
{ مُحِيطٌ بِٱلْكافِرِينَ } [البقرة2: 19]

أي عالم بهم. دليله:


وقيل: مهلكهم وجامعهم. دليله قوله تعالى:


أي إلا أن تهلكوا جميعاً. وخص الكافرين بالذكر لتقدّم ذكرهم في الآية. والله أعلم.

-4-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #7  
قديم 12-14-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق 1-4

تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق 1-4

{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم { كَصَيِّبٍ } ، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة، وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس، وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال { ظُلُمَـٰتٍ } ، وهي الشكوك والكفر والنفاق { وَرَعْدٌ } وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى:

{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون63: 4] وقال:
{وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ *لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [التوبة9: 56 - 57]


و { البرق }: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكافِرِينَ } أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً؛ لأن الله محيط بهم بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال:

{ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ * وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } [البروج: 17 - 20]

بهم. ثم قال: { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي: لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين. وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } أي: لشدة ضوء الحق، كلما أضاء لهم، مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم، قاموا، أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كلما أضاء لهم مشوا فيه، يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر؛ كقوله تعالى:

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ } [الحج22: 11].

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: { كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا، أي: متحيرين. وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس والسدي بسنده عن الصحابة، وهو أصح وأظهر، والله أعلم. وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك، وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة، ويضيء أخرى، ومنهم من يمشي على الصراط تارة، ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية، وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم:


-1-

{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } [الحديد57: 13] وقال في حق المؤمنين:
{ يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الحديد57: 12] الآية، وقال تعالى:
{ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم66: 8].


ذكر الحديث الوارد في ذلك

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى:

{ يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } [الحديد57: 12] الآية،

ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين بصنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه " رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داود القطان عن قتادة بنحوه، وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً على إبهامه، يطفأ مرة ويتقد مرة. وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود:

{ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [التحريم66: 8]

قال: على قدر أعمالهم، يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه، يتقد مرة ويطفأ أخرى. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق، فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا. وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط، طفىء نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: ربنا أتمم لنا نورنا.


فإذا تقرر هذا، صار الناس أقساماً: مؤمنون خلص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة، وكفار خلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان: خلص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لمع الإيمان، وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالاً من الذين قبلهم، وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن، وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور، بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.

-2-

ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء، وليسوا على شيء، وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى:

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [النور24: 39] الآية،

ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط، وهم الذين قال تعالى فيهم:

{ أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور24: 40]

فقسم الكفار ههنا إلى قسمين: داعية، ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج:

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ } [الحج22: 3] وقال:
{ ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ } [الحج22: 8]

وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها، وفي سورة الإنسان إلى قسمين: سابقون وهم المقربون، وأصحاب يمين وهم الأبرار.


فتلخّص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين أيضاً صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان " استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان وشعبة من نفاق، إما عملي؛ لهذا الحديث، أو اعتقادي؛ كما دلت عليه الآية كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء؛ كما تقدم، وكما سيأتي إن شاء الله. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان - عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس، فقلب المنافق الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح، فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه "

-3-

وهذا إسناد جيد حسن.

وقوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ } قال: لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } قال ابن عباس: أي: إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ومعنى قدير: قادر، كما معنى عليم عالم. وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون { أَوْ } ، في قوله تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } بمعنى الواو؛ كقوله تعالى

{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان76: 24]

أو تكون للتخيير، أي: اضرب لهم مثلاً بهذا، وإن شئت بهذا، قال القرطبي: { أَوْ } للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا، أو بهذا، فهو مطابق لحالهم (قلت): وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين؛ فإنهم أصناف، ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم، والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى:

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [النور24: 39] إلى أن قال:
{ أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ } [النور24: 40] الآية:

فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب.


-4-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #8  
قديم 12-14-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق

تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق



{ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء } عطف على الذي استوقد أي: كمثل ذوي صيب لقوله: { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } و { أَوْ } في الأصل للتساوي في الشك، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وقوله تعالى:

{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان76: 24]

فإنها تفيد التساوي في حسن المجالسة ووجوب العصيان ومن ذلك قوله: { أَوْ كَصَيّبٍ } ومعناه أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين، وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما، وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيهما شئت. والصيب: فيعل من الصوب، وهو النزول، يقال للمطر وللسحاب. قال الشماخ:

وأسْحَمَ دانٍ صادقِ الرعْدِ صَيَّبٍ


وفي الآية يحتملهما، وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد. وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها فإن كل أفق منها يسمى سماء كما أن كل طبقة منها سماء، وقال:

وَمِنْ بَعْدِ أرضٍ بينَنَا وسماءِ


أمد به ما في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير، وقيل المراد بالسماء السحاب فاللام لتعريف الماهية.



{ فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } إن أريد بالصيب المطر، فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وجعله مكاناً للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به. وإن أريد به السحاب، فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل. وارتفاعها بالظرف وفاقاً لأنه معتمد على موصوف. والرعد: صوت يسمع من السحاب. والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد. والبرق ما يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقاً، وكلاهما مصدر في الأصل ولذلك لم يجمعا.

{ يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } الضمير لأصحاب الصيب وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه لكن معناه باق، فيجوز أن يعول عليه كما عول حسان في قوله:

يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريصَ عَليهمبَرَدَى يصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ


حيث ذكر الضمير لأن المعنى ماء بردى، والجملة استئناف فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك؟ فأجيب بها، وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة.

{ مّنَ ٱلصَّوٰعِقِ } متعلق بيجعلون أي من أجلها يجعلون، كقولهم سقاه من الغيمة. والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، من الصعق وهو شدة الصوت، وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد، يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت، وقرىء من «الصواقع» وهو ليس بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف يقال صقع الديك، وخطيب مصقع، وصقعته الصاقعة، وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد، أو للرعد. والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدر كالعافية والكاذبة. { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } نصب على العلة كقوله:

وأغْفرُ عَوراءَ الكَريم ادِّخَارَهوأَصْفَحُ عنْ شتمِ اللئيمِ تَكَرُّمَا


والموت: زوال الحياة، وقيل عرض يضادها لقوله:

{ خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } [الملك67: 2]

وَرُدَّ بأن الخلق بمعنى التقدير، والاعدام مقدرة.


{ وَٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكـٰفِرِينَ } لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط، لا يخلصهم الخداع والحيل، والجملة اعتراضية لا محل لها.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #9  
قديم 12-14-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) مصنف و مدقق



{ أَوْ } مثلهم { كَصَيّبٍ } أي كأصحاب مطر وأصله (صَيْوب) من (صاب يَصُوب) أي ينزل { مِّنَ ٱلسَّمَاءِ } السحاب { فِيهِ } أي السحاب { ظُلُمَٰتٌ } متكاثفة { وَرَعْدٌ } هو الملك الموكل به وقيل صوته { وَبَرْقٌ } لمعان سَوْطِه الذي يزجره به { يَجْعَلُونَ } أي أصحاب الصِّيب { أَصَٰبِعَهُمْ } أي أناملهم { فىءَاذَانِهِم مِّنَ } أجل { ٱلصَّوٰعِقِ } شدّة صوت الرعد لئلا يسمعوها { حَذَرَ } خوف { ٱلْمَوْت } من سماعها. كذلك هؤلاء: إذا نزل القرآن وفيه ذكر الكفر المشبه بالظلمات، والوعيدُ عليه المشبه بالرعد والحجج البينة المشبهة بالبرق يسدّون آذانهم لئلا يسمعوه فيميلوا إلى الإيمان وترك دينهم وهو عندهم موت { وَٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكٰفِرِينَ } علماً وقدرةً فلا يفوتونه.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #10  
قديم 12-14-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق 1-3

تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق 1-3

{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين: أي: مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك، فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك وقيل: إنها بمعنى الواو، قاله: الفراء وغيره، وأنشد:

وَقَد زَعَمَت لَيْلى بأني فَاجِرٌلِنَفسِي تقَاهَا أو عَلَيَها فُجُورَها


وقال آخر:

نال الخِلافَة أو كانت لَهُ قَدَراًكَمَا أتَى رَبَه ُموسَى على قَدَرٍ


والمراد بالصِّيب: المطر، واشتقاقه من صاب يصوب: إذا نزل. قال علقمة:

فَلا تَعِدلِي بَيني وبَيَن مُعَمرَّسَقَتْك رَوَايا الموتِ حَيْثُ تُصَوُب


وأصله صيوب، اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في مِّيت وسِّيد. والسماء في الأصل: كل ما علاك فأظلك. ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء أيضاً: المطر؛ سمي بها لنزوله منها، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه: لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب، فمنه قول حسان:

ديار من بني الحسحاس قفرتعفيها الدوامس والسماء


وقال آخر:

إذا نزل السماء بأرض قوم


والظلمات قد تقدّم تفسيرها، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. والرعد: اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب. وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: «سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله " قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر " قالت: صدقت» الحديث بطوله، وفي إسناده مقال. قال القرطبي: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء، وقيل: هو: اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة، وجهلة المتكلمين، وقيل: غير ذلك، والبرق: مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب، وإليه ذهب كثير من الصحابة، وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة: إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك.

وقوله: { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم } جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلاً قال: فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم. وإطلاق الإصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الإصبع لا كلها. والصواعق:- ويقال الصواقع:- هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها، ويدلّ على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة.
-1-

ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك. وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد. وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم: إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ماله مزيد فائدة وإيضاح.

ونصب { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } على أنه مفعول لأجله. وقال الفراء: منصوب على التمييز، والموت: ضدّ الحياة. والإحاطة، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه. وقوله { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } جملة مستأنفة، كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ ويكاد: يقارب. والخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته. وقرأ مجاهد { يَخْطِفُ } بكسر الطاء، والفتح أفصح. وقوله: { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } كلام مستأنف كأنه قيل: كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق، وسكونه؟ وهو: تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب، { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ } بالزيادة في الرعد، والبرق { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } وهذا من جملة مقدوراته سبحانه.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: { أَوْ كَصَيّبٍ } هو: المطر ضرب مثله في القرآن { فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ } يقول ابتلاء { وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } تخويف { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } [الحج22: 11] الآية.

وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء، فيقتلوا، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه أي: فإذا كثرت أموالهم، وأولادهم، وأصابوا غنيمة، وفتحا مشو فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق، واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، فكانوا إذا هلكت أموالهم، وأولادهم، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدوا كفراً كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما.

-2-

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: { أَوْ كَصَيّبٍ } قال: هو، المطر وهو: مثل للمنافق في ضوئه، يتكلم بما معه من كتاب الله مراآة الناس، فإذا خلا، وحده عمل بغيره، فهو: في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات: فالضلالات. وأما البرق: فالإيمان، وهم أهل الكتاب، وإذا أظلم عليهم: فهو: رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أيضاً نحو ما سلف. وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين.

واعلم أن المنافقين أصناف، فمنهم من يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، ومنهم من قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما " ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه، واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " وورد بلفظ " أربع " ، وزاد «وإذا خاصم فجر». وورد بلفظ «وإذا عاهد غدر». وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين.
-3-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:43 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.