حكم التجسس على البيوت والهواتف . التحسس . الترصد . التنصت
HTM |
|
Wave |
الموضوع |
موضوع |
|
|
|
300430 |
|
|
|
|
300001 |
|
|
|
|
8 |
- تجسّس
-
- التّعريف
-
- 1 - التّجسّس لغةً: تتبّع الأخبار، يقال: جسّ الأخبار وتجسّسها: إذا تتبّعها، ومنه الجاسوس، لأنّه يتتبّع الأخبار ويفحص عن بواطن الأمور، ثمّ استعير لنظر العين.
-
- ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنيّ اللّغويّ.
-
- الألفاظ ذات الصّلة
-
- أ - التّحسّس:
-
- 2 - التّحسّس هو: طلب الخبر، يقال: رجل حسّاس للأخبار أي: كثير العلم بها، وأصل الإحساس: الإبصار، ومنه قوله تعالى: {هل تُحِسُّ منهم مِنْ أَحَدٍ} أي: هل ترى، ثمّ استعمل في الوجدان والعلم بأيّ حاسّة كانت، وقد قرئ قوله تعالى: {ولا تَجَسَّسُوا} بالحاء {ولا تحسّسوا} قال الزّمخشريّ: والمعنيان متقاربان، وقيل: إنّ التّجسّس غالباً يطلق على الشّرّ، وأمّا التّحسّس فيكون غالباً في الخير.
-
- ب - التّرصّد:
-
- 3 - التّرصّد: القعود على الطّريق، ومنه الرّصديّ: الّذي يقعد على الطّريق ينظر النّاس ليأخذ شيئاً من أموالهم ظلماً وعدواناً. فيجتمع التّجسّس والتّرصّد في أنّ كلّاً منهما تتبّع أخبار النّاس، غير أنّ التّجسّس يكون بالتّتبّع والسّعي لتحصيل الأخبار ولو بالسّماع أو الانتقال، أمّا التّرصّد فهو العقود والانتظار والتّرقّب.
-
- ج - التّنصّت:
-
- 4 - التّنصّت هو: التّسمّع. يقال: أنصت إنصاتاً أي: استمع، ونصت له أي: سكت مستمعاً، فهو أعمّ من التّجسّس، لأنّ التّنصّت يكون سرّاً وعلانيةً.
-
- حكم التّجسّس التّكليفي
-
- 5 - التّجسّس تعتريه أحكام ثلاثة: الحرمة والوجوب والإباحة.
-
- فالتّجسّس على المسلمين في الأصل حرام منهيّ عنه، لقوله تعالى: {ولا تجسّسوا} لأنّ فيه تتبّع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عمّا ستروه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر مَنْ آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ إلى قلبه لا تتبّعوا عوراتِ المسلمين. فإنّ من تتبّعَ عوراتِ المسلمين تتبّع اللّهُ عورتَه حتّى يفضحه ولو في جوف بيته".
-
- قال ابن وهب: والسّتر واجب إلاّ عن الإمام والوالي وأحد الشّهود الأربعة في الزّنى.
-
- وقد يكون التّجسّس واجباً، فقد نقل عن ابن الماجشون أنّه قال: اللّصوص وقطّاع الطّريق أرى أن يطلبوا في مظانّهم ويعان عليهم حتّى يقتلوا أو ينفوا من الأرض بالهرب.
-
- وطلبهم لا يكون إلاّ بالتّجسّس عليهم وتتبّع أخبارهم.
-
- ويباح في الحرب بين المسلمين وغيرهم بعث الجواسيس لتعرف أخبار جيش الكفّار من عدد وعتاد وأين يقيمون وما إلى ذلك. وكذلك يباح التّجسّس إذا رفع إلى الحاكم أنّ في بيت فلان خمراً، فإن شهد على ذلك شهود كشف عن حال صاحب البيت، فإن كان مشهوراً بما شهد عليه أخذ، وإن كان مستوراً فلا يكشف عنه. وقد سئل الإمام مالك عن الشّرطيّ يأتيه رجل يدعوه إلى ناس في بيت اجتمعوا فيه على شراب، فقال: إن كان في بيت لا يعلم ذلك منه فلا يتتبّعه، وإن كان معلوماً بذلك يتتبّعه. وللمحتسب أن يكشف على مرتكبي المعاصي، لأنّ قاعدة ولاية الحسبة: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
-
- التّجسّس على المسلمين في الحرب
-
- 6 - الجاسوس على المسلمين إمّا أن يكون مسلماً أو ذمّيّاً أو من أهل الحرب،" وقد أجاب أبو يوسف عن سؤال هارون الرّشيد فيما يتعلّق بالحكم فيهم فقال: وسألتَ يا أمير المؤمنين عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذّمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين. فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذّمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنّصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبةً، وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبةً ".
-
- وقال الإمام محمّد بن الحسن: وإذا وجد المسلمون رجلاً - ممّن يدّعي الإسلام - عيناً للمشركين على المسلمين يكتب إليهم بعوراتهم فأقرّ بذلك طوعاً فإنّه لا يقتل، ولكنّ الإمام يوجعه عقوبةً. ثمّ قال: إنّ مثله لا يكون مسلماً حقيقةً، ولكن لا يقتل لأنّه لم يترك ما به حكم بإسلامه فلا يخرج عن الإسلام في الظّاهر ما لم يترك ما به دخل في الإسلام، ولأنّه إنّما حمله على ما فعل الطّمع، لا خبث الاعتقاد، وهذا أحسن الوجهين، وبه أمرنا. قال اللّه تعالى: {الّذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أَحْسَنَه} واستدلّ عليه بحديث "حاطب بن أبي بلتعة، فإنّه كتب إلى قريش: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يغزوكم فخذوا حذركم، فأراد عمر رضي الله عنه قتله، فقال الرّسول لعمر: مهلاً يا عمر، فلعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم" فلو كان بهذا كافراً مستوجباً للقتل ما تركه الرّسول صلى الله عليه وسلم بدريّاً كان أو غير بدريّ، وكذلك لو لزمه القتل بهذا حدّاً ما تركه الرّسول صلى الله عليه وسلم وفيه نزل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تَتَّخِذُوا عدوّي وعدوَّكم أولياء} فقد سمّاه مؤمناً، "وعليه دلّت قصّة أبي لبابة حين استشاره بنو قريظة، فَأمَرَّ أصبعه على حلقه يخبرهم أنّهم لو نزلوا على حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قتلهم"، وفيه نزل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تَخُونوا اللّه والرّسولَ}. وكذلك لو فعل هذا ذمّيّ فإنّه يوجع عقوبةً ويستودع السّجن، ولا يكون هذا نقضاً منه للعهد، لأنّه لو فعله مسلم لم يكن به ناقضاً أمانه فإذا فعله ذمّيّ لا يكون ناقضاً أمانه أيضاً.
-
- ألا ترى أنّه لو قطع الطّريق فقتل وأخذ المال لم يكن به ناقضاً للعهد، وإن كان قطع الطّريق محاربةً للّه ورسوله بالنّصّ فهذا أولى.
-
- وكذلك لو فعله مستأمن فإنّه لا يصير ناقضاً لأمانه بمنزلة ما لو قطع الطّريق، إلاّ أنّه يوجع عقوبةً في جميع ذلك لأنّه ارتكب ما لا يحلّ له وقصد بفعله إلحاق الضّرر بالمسلمين.
-
- فإن كان حين طلب الأمان قال له المسلمون: آمنّاك إن لم تكن عيناً للمشركين على المسلمين، أو آمنّاك على أنّك إن أخبرت أهل الحرب بعورة المسلمين فلا أمان لك - والمسألة بحالها - فلا بأس بقتله، لأنّ المعلّق بالشّرط يكون معدوماً قبل وجود الشّرط، فقد علّق أمانه هاهنا بشرط ألاّ يكون عيناً، فإن ظهر أنّه عين كان حربيّاً لا أمان له فلا بأس بقتله. وإن رأى الإمام أن يصلبه حتّى يعتبر به غيره فلا بأس بذلك، وإن رأى أن يجعله فيئاً فلا بأس به أيضاً كغيره من الأسراء، إلاّ أنّ الأولى أن يقتله هاهنا ليعتبر غيره.
-
- فإن كان مكان الرّجل امرأة فلا بأس بقتلها أيضاً، لأنّها قصدت إلحاق الضّرر بالمسلمين، ولا بأس بقتل الحربيّة في هذه الحالة، كما إذا قاتلت، إلاّ أنّه يكره صلبها لأنّها عورة وستر العورة أولى.
-
- وإن وجدوا غلاماً لم يبلغ، بهذه الصّفة، فإنّه يجعل فيئاً ولا يقتل، لأنّه غير مخاطب، فلا يكون فعله خيانةً يستوجب القتل بها، بخلاف المرأة. وهو نظير الصّبيّ إذا قاتل فأخذ أسيراً لم يجز قتله بعد ذلك، بخلاف المرأة إذا قاتلت فأخذت أسيرةً فإنّه يجوز قتلها.
-
- والشّيخ الّذي لا قتال عنده ولكنّه صحيح العقل بمنزلة المرأة في ذلك لكونه مخاطباً.
-
- وإن جحد المستأمن أن يكون فعل ذلك، وقال: الكتاب الّذي وجدوه معه إنّما وجده في الطّريق وأخذه، فليس ينبغي للمسلمين أن يقتلوه من غير حجّة، لأنّه آمن باعتبار الظّاهر، فما لم يثبت عليه ما ينفي أمانه كان حرام القتل. فإن هدّدوه بضرب أو قيد أو حبس حتّى أقرّ بأنّه عين فإقراره هذا ليس بشيء، لأنّه مكره، وإقرار المكره باطل سواء أكان الإكراه بالحبس أم بالقتل، ولا يظهر كونه عيناً إلاّ بأن يقرّ به عن طوع، أو شهد عليه شاهدان بذلك، ويقبل عليه بذلك شهادة أهل الذّمّة وأهل الحرب، لأنّه حربيّ فينا وإن كان مستأمناً، وشهادة أهل الحرب حجّة على الحربيّ.
-
- وإن وجد الإمام مع مسلم أو ذمّيّ أو مستأمن كتاباً فيه خطّه وهو معروف، إلى ملك أهل الحرب يخبر فيه بعورات المسلمين فإنّ الإمام يحبسه، ولا يضربه بهذا القدر، لأنّ الكتاب محتمل فلعلّه مفتعل، والخطّ يشبه الخطّ، فلا يكون له أن يضربه بمثل هذا المحتمل، ولكن يحبسه نظراً للمسلمين حتّى يتبيّن له أمره: فإن لم يتبيّن خلّى سبيله، وردّ المستأمن إلى دار الحرب، ولم يدعه ليقيم بعد هذا في دار الإسلام يوماً واحداً، لأنّ الرّيبة في أمره قد تمكّنت وتطهير دار الإسلام من مثله من باب إماطة الأذى فهو أولى.
-
- 7- مذهب المالكيّة: أنّ الجاسوس المستأمن يقتل، وقال سحنون في المسلم يكتب لأهل الحرب بأخبار المسلمين: يقتل ولا يستتاب ولا دية لورثته كالمحارب. وقيل: يجلد نكالاً ويطال حبسه وينفى من الموضع الّذي كان فيه، وقيل: يقتل إلاّ أن يتوب، وقيل: إلاّ أن يعذر بجهل. وقيل: يقتل إن كان معتاداً لذلك، وإن كانت فلتةً ضرب ونكّل.
-
- وقد جاء في القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوَّكم أولياء} ما يأتي: من كثر تطلّعه على عورات المسلمين وينبّه عليهم ويعرف عددهم بأخبارهم لم يكن كافراً بذلك، إذا كان فعله لغرض دنيويّ واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتّخاذ اليد ولم ينو الرّدّة عن الدّين. وإذا قلنا: لا يكون بذلك كافراً فهل يقتل بذلك حدّاً أم لا؟ اختلف النّاس فيه، فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الإمام. وقال عبد الملك: إذا كانت عادته ذلك قتل لأنّه جاسوس. وقد قال مالك: يقتل الجاسوس - وهو صحيح - لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض، ولعلّ ابن الماجشون إنّما اتّخذ التّكرار في هذا لأنّ حاطباً أخذ في أوّل فعله.
-
- فإن كان الجاسوس كافراً، فقال الأوزاعيّ: يكون نقضاً لعهده، وقال أصبغ: الجاسوس الحربيّ يقتل، والجاسوس المسلم والذّمّيّ يعاقبان إلاّ إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان، وقد روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي بعين للمشركين اسمه فرات بن حيّان فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الأنصار أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه فأمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخلّى سبيله. ثمّ قال: إنّ منكم من أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيّان".
-
- 8- ومذهب الشّافعيّ وطائفة: أنّ الجاسوس المسلم يعزّر ولا يجوز قتله.
-
- وإن كان ذا هيئة (أي ماض كريم في خدمة الإسلام) عفي عنه لحديث حاطب، وعندهم أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّ بالدّلالة على عورات المسلمين، ولو شرط عليهم في عهد الأمان ذلك في الأصحّ، وفي غيره ينتقض بالشّرط.
-
- 9- وعند الحنابلة: أنّه ينتقض عهد أهل الذّمّة بأشياء ومنها: تجسّس أو آوى جاسوساً، لما فيه من الضّرر على المسلمين.
-
- وممّا تقدّم يتبيّن أنّ الجاسوس الحربيّ مباح الدّم يقتل على أيّ حال عند الجميع، أمّا الذّمّيّ والمستأمن فقال أبو يوسف وبعض المالكيّة والحنابلة: إنّه يقتل.
-
- وللشّافعيّة أقوال أصحّها أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّ بالدّلالة على عورات المسلمين، لأنّه لا يخلّ بمقصود العقد. وأمّا الجاسوس المسلم فإنّه يعزّر ولا يقتل عند أبي يوسف ومحمّد وبعض المالكيّة والمشهور عند الشّافعيّة، وعند الحنابلة أنّه يقتل.
-
- التّجسّس على الكفّار
-
- 10 - التّجسّس على الكفّار في الحرب لمعرفة عددهم وعددهم وما معهم من سلاح وغير ذلك مشروع، ودليل ذلك "أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق صلّى هويّاً من اللّيل، ثمّ التفت فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم - يشترط له النّبيّ أن يرجع - أدخله اللّه الجنّة قال راوي الحديث حذيفة: فما قام رجل، ثمّ صلّى إلى.. أن قال ذلك ثلاث مرّات فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة البرد وشدّة الجوع، فلمّا لم يقم أحد دعاني أي دعا الرّسول صلى الله عليه وسلم حذيفة فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال الرّسول: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتّى تأتينا قال فذهبت فدخلت في القوم، والرّيح وجنود اللّه عزّ وجلّ تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدر ولا نار ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر كلّ امرئ من جليسه، قال حذيفة: فأخذت بيد الرّجل الّذي إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، ثمّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الّذي نكره..." إلخ فهذا دليل جواز التّجسّس على الكفّار في الحرب.
-
- تجسّس الحاكم على رعيّته
-
- 11 - سبق أنّ الأصل تحريم التّجسّس على المسلمين لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم ولا تجسّسوا}
-
- ويتأكّد ذلك في حقّ وليّ الأمر لورود نصوص خاصّة تنهي أولياء الأمور عن تتبّع عورات النّاس، منها ما رواه معاوية "أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: إنّك إن اتّبعت عورات النّاس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم" فقال أبو الدّرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفعه اللّه بها. وعن أبي أمامة مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم "إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في النّاس أفسدهم".
-
- ولكنّ للحاكم أن يتجسّس على رعيّته إذا كان في ترك التّجسّس انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلاً خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها، فيجوز له في هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات، وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار.
-
- أمّا ما كان دون ذلك في الرّيبة فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه." وقد حكي أنّ عمر دخل على قوم يتعاقرون على شراب ويوقدون في أخصاص فقال: نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، ونهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم. فقالوا: يا أمير المؤمنين قد نهى اللّه عن التّجسّس فتجسّست، وعن الدّخول بغير إذن فدخلت. فقال: هاتان بهاتين وانصرف ولم يعرض لهم ".
-
- وقد اختلفت الرّواية عن الإمام أحمد فيما ستر من المنكر مع العلم به هل ينكر؟ فروى ابن منصور وعبد اللّه في المنكر يكون مغطًّى، مثل طنبور ومسكر وأمثاله فقال: إذا كان مغطًّى لا يكسر. ونقل عنه أنّه يكسر. فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم أنكره خارج الدّار، ولم يهجم بالدّخول عليهم، وليس عليه أن يكشف عمّا سواه من الباطن، وقد نقل عن مهنّا الأنباريّ عن أحمد أنّه سمع صوت طبل في جواره، فقام إليهم من مجلسه، فأرسل إليهم ونهاهم.
-
- وقال في رواية محمّد بن أبي حرب في الرّجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال: يأمره، فإن لم يقبل جمع عليه الجيران ويهوّل عليه. وقال الجصّاص عند قوله تعالى: {ولا تجسّسوا} نهى اللّه تعالى عن سوء الظّنّ بالمسلم الّذي ظاهره العدالة والسّتر، ثمّ قال: نهى اللّه تعالى عن التّجسّس، بل أمر بالسّتر على أهل المعاصي ما لم يظهر منهم إصرار. ثمّ روي أنّ ابن مسعود قيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد اللّه: إنّا قد نهينا عن التّجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.
-
- تجسّس المحتسب
-
- 12 - المحتسب هو من يأمر بالمعروف إذا ظهر تركه وينهى عن المنكر إذا ظهر فعله. قال تعالى: {وَلْتكن منكم أمّةٌ يدْعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهون عن المنكر} وهذا وإن صحّ من كلّ مسلم لكنّ المحتسب متعيّن عليه بحكم ولايته، لكنّ غيره فرض عليه على سبيل الكفاية. وما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسّس عنها ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستتار بها فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا هذه القاذورة الّتي نهى اللّه عنها، فمن ألمّ فليستتر بستر اللّه".
-
- فإن غلب على الظّنّ استتار قوم بها لأمارات دلّت وآثار ظهرت فذلك ضربان:
-
- أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق به أنّ رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو رجل ليقتله، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من ارتكاب المحارم وفعل المحظورات. والضّرب الثّاني: ما خرج عن هذا الحدّ وقصر عن حدّ هذه الرّتبة، فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه كما تقدّم.
-
- عقاب التّجسّس على البيوت
-
- 13 - روى مسلم عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من اطّلع في بيت قوم من غير إذنهم حلّ لهم أن يفقئوا عينه"
-
- وقد اختلف العلماء في تأويله، فقال بعضهم: هو على ظاهره، فيحلّ لمن اطّلع عليه أن يفقأ عين المطّلع حال الاطّلاع، ولا ضمان، وهذا مذهب الشّافعيّة والحنابلة.
-
- وقال المالكيّة والحنفيّة: ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضّمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى: {وإنْ عاقبتم فعاقِبُوا بمثلِ ما عُوْقِبْتُمْ به} ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفاً لكتاب اللّه تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلّم بالكلام في الظّاهر، وهو يريد شيئاً آخر، كما جاء في الخبر "أنّ عبّاس بن مرداس لمّا مدحه قال لبلال: قم فاقطع لسانه" وإنّما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئاً ولم يرد به القطع في الحقيقة.
-
- وهذا أيضاً يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد: أن يعمل به عملاً حتّى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره. وفي تبصرة الحكّام: ولو نظر من كوّة أو من باب ففقأ عينه صاحب الدّار ضمن، لأنّه قادر على زجره ودفعه بالأخفّ، ولو قصد زجره بذلك فأصاب عينه ولم يقصد فقأها ففي ضمانه خلاف.
-
وأمّا عند الحنفيّة: فإن لم يمكن دفع المطّلع إلاّ بفقء عينه ففقأها لا ضمان، وإن أمكن بدون فقء عينه ففقأها فعليه الضّمان. أمّا إذا تجسّس وانصرف فليس للمطَّلع عليه أن يفقأ عينه اتّفاقاً. وينظر للتّفصيل: (دفع الصّائل). أمّا عقوبة المتجسّس فهي التّعزير، إذ ليس في ذلك حدّ معيّن، والتّعزير يختلف والمرجع في تقديره إلى الإمام (ر: تعزير). |