وقف التجاذب

 

HTM

PDF

Wave

الموضوع

موضوع

وقف التجاذب

300449

سؤال - سلسلة أسئلة جديدة

300001

أسئلة حول الإسلام

8

 

وقف التجاذب (المعانقة) في القرآن

وقف التجاذب (المعانقة) في القرآن

علي راضي ابو زريق

نشرت منشورا قصيراً على حسابي انتقدت به قراءة الشيخ الحصري رحمه الله للآية الثانية من سورة البقرة { ذَ?لِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ * فِيهِ * هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}. فتوقف بعد كلمة (ريب) ثم قرأ بقية الآية . وكانت قراءته مما يتفق مع علامات الوقف في المصحف. حيث يظهر قبل كلمة (فيه) وبعدها ثلاث نقط كنقط حرف الثاء . وهذا معناه جواز الوقف باي من المكانين. لكني رايت بتلك القراءة سوء فهم للآية وإساءة للقرآن. فطلب مني أحد الأصدقاء أن أحصر المواطن المشابهة في القرآن وابين رأيي بها على غرار ما فعلت بقراءة الشيخ الحصري للآية المذكورة . وبهذا المقال أجيب طلب الصديق واستعرض آيات وقف التجاذب جميعا في القرآن، وابين وجهة نظري بها على اسس من علوم اللغة.

وبدل أن أراجع القرآن كله لأحصي تلك الآيات بحثت عن مصدر علمي معني بالموضوع، فوجدت بحثا منشوراً بمجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها عدد رمضان لعام 1425 هجرية، عنوانه"وقف التجاذب (المعانقة) في القرآن الكريم" للباحث الدكتور عبد العزيز بن علي الحربي . و قد راجع في بحثه ما كتب عن الموضوع في التراث. فوجد ابن الجزري (ت:833 ھ) يقول " إن أول من تنبه لوقف التجاذب هو عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن أبو الفضل الرازي (371- 454ھ)". صاحب كتاب (جامع الوقوف). وقال أبو الفضل الرازي:" إنه اخذه من المراقبة في العروض".

وفهمت من هذا أن الأمر ليس بالسند المتصل منذ النبي عليه السلام. بل هو اجتهاد رجل عاش حتى منتصف القرن الخامس الهجري. ولم يعتمد به على حديث نبوي ولا على اثر من صحابي، بل استنتجه من خبرته ومن العروض.

وفي تعريف وقف المعانقة أو التجاذب ينقل الدكتور الحربي في كتابه عن الألوسي" أن تكون كلمة محتملة أن تكون من السابق أو تكون من اللاحق".

بينما عرفه الدكتور الحربي قائلا:" وقف التعانق أو المعانقة، ويُسمى المراقبة، والتجاذب هو:أن يكون الكلام له مقطعان على البدل، كل واحد منهما إذا فُرِضَ فيه الوقف وجب الوصل في الآخر، وإذا فرض فيه الوصل وجب الوقف في الآخر." ثم يقول:"وفي هذا التعريف طول.. ويمكننا أن نعرفه بأخصر من ذلك فنقول: هو أن يكون في الآية لفظ صالح للوقف عليه أو على ما قبله، ولا يتم المعنى باستقلاله."

ووقف التجاذب موجود في ست آيات من القرآن فقط. وذكر الدكتور الحربي اربعة عشر موضعاً آخر في القرآن على سبيل الاحتمال ثم اضاف اربعاً على سبيل الشك لكنه لم يرجحها. ونحن هنا معنيون بالمواقع الستة التي يتفق علماء القراءات على أن فيها وقف تجاذب. وهي:

1- البقرة:2{ ذَ?لِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ * فِيهِ * هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}. وموطن الوقف المتبادل هما قبل (فيه) وبعدها. وفي حال الوقف قبلها تصير الآية { ذَ?لِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ} وهي جملة بلا معنى. فكل كتاب هو كتاب بلا ريب. وليس فيها وصف مميز للكتاب وهو القرآن هنا. وتؤدي قراءة بقية الآية لإساءة بالغة للقرآن عندما نقرؤها كما قرأها المرحوم الحصري : { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} فيكون معناها أن في القرآن هدى . وبهذه الصيغة يكون المعنى أن القرآن فيه هدى وفيه غير الهدى. بينما لو جزمنا أن في الآية وقفاً واحداً بعد (فيه) يكون الكتاب "لا ريب فيه" فكله صحيح مؤكد لا شك في آية منه. ثم يكون "هدىً للمتقين" بهذا الجزم فكله هدى. وتقديم الآية بهذا المعنى اي الوقف بعد(فيه) هو مما يليق بالقرآن وبجلال منزل القرآن.

2-البقرة: 195 {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ *وَأَحْسِنُواْ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. ووقف التجاذب هنا ضربٌ من التمحل. فكلمة (أحسنوا) تشكل بداية جميلة لبقية الآية { وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فبناؤها يؤكد تلازمها معنى وتلاوة. ثم إن معنى الآية الإجمالي لا يتغير مطلقاً سواءً أكان الوقف قبلها أو بعدها أو لم يكن وقف إطلاقاً. فإن كان لا بد من وقف في الآية فليكن قبل (أحسنوا) لزيادة جمال لفظ الآية.

3- المائدة: 26 {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ * أَرْبَعِينَ سَنَةً * يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.أما الوقف قبل شبه الجملة { أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقد يوحي بأن حرمة الأرض عليهم أبدية. فكان يلزم الاستمرار بالحديث لبيان مدة الحرمة خصوصا أنها تتكون من ظرف زمان وتمييزه، يشكلان جزءا اساسيا من معنى الكلام الموصوف بهما. أي أن علامتي الوقف لا تناسبان معنى الآية. والوقف الوحيد المناسب هنا هو بعد كلمة (الأرض). فبعدها تتغير صيغة الكلام من الحكاية إلى الخطاب. فالوقف هنا ممكن بل مستحب. وبالتالي فكلا وقفي التجاذب غير لائق.

4- المائدة:41 {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ * وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ* سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. واضح أن سبب اقتراح وقف المعانقة في هذه الآية هو عدم فهمها. وبالعودة إلى أمهات التفسير تتضح حيرة كبار المفسرين بالمقصود بكل جملة من الآية. لذلك احتاروا بمكان الوقف المناسب. ولو فهموا معنى الآية حق الفهم لما احتاروا بمكان الوقف المناسب. والوقف المناسب هو ما يكون بعد كلمة ) قُلوبُهُمْ). فالآية تعني :"ايها الرسول لا تحزن بسبب كفر منافقي المدينة ممن يظهرون الإسلام بألسنتهم وقلوبهم منكرة. وكذلك لا تحزن على منافقي اليهود سماعي الكذب الذين أتوك ليستمعوا إليك على سبيل التجسس ومعرفة رايك بحكم فعلة فعلها من ارسلهم ليقرر أيتحاكم إليك إن كان الحكم مناسبا له أم لا ياتيك لأن الحكم لا يناسبه. كما يفعل منافقوا الأديان جميعاً. وهما سواءٌ: منافقوا الإسلام ومنافقوا اليهودية، كلاهما لا يستحق حزنك واهتمامك (قيل للنبي هذا لأن الفئتين من أمته حسب نص صحيفة المدينة). ويعلل الله فتنتهم بنفاقهم وعدم طهارة قلوبهم كافراد. وعلى هذا الفهم يسهل علينا تحديد المكان المناسب للوقف دون اللجوء لوقف التجاذب الذي يضعنا بحيرة بشان المقصود بمكونات الآية كما حدث مع كبار المفسرين.

فمثلا، الوقف بعد (الذين هادوا) يعطي فرصة للظن أن ما بعدها (سماعون للكذب) يشترك به منافقوا الفئتين. ويضعف موقف الآية فقد كانت الجملة الأولى لوصف منافقي الإسلام فلماذا يتكرر ذكرهم مع منافقي اليهودية ، مع ملاحظة أن ليس لمنافقي الإسلام خيار في التحاكم للنبي كاليهود الذين يستطيعون الاختيار بين النبي وبين احبارهم. وبالتالي لا ينطبق عليهم ما جاء عن منافقي اليهود بتلك الجملة من الآية. ولو كان هذا هو المقصود لوجب تغيير تركيب الآية او تغيير ترتيبها. بينما يشمل تعقيب الآية (.وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ...الخ الآية) الفئتين المنافقتين. وختاماً يكون وضع الآية من حيث الوقف: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ * وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ، وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

5- الأعراف: 172 {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى * شَهِدْنَا * أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}

كما في الآيات السابقة لا لزوم لوقف التجاذب ويكفي الوقف بعد كلمة شهدنا. وليس من اللائق الوقوف قبلها. فهي تابعة لعبارة { قَالُواْ بَلَى} واستمرار لها، فهما بصيغة الحكاية { قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا}. وبعدها تبدا جملة بصيغة الخطاب { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.فالوقف بين الجملتين مختلفتي الصياغة أولى من تقسيم جملة متصلة الصياغة إلى قسمين. مع أن المعنى لا يختلف في كلا الحالتين ولا ارجحية لإحداهما على الأخرى. يساعد على ذلك قصر الآية التي لا تحتاج وقفا . فإن كان لا بد من وقف فليكن على اسس من صيغة الخطاب أو قواعد النحو وأن يكون له دور في توضيح معنى الآية او ضبطه. ولا نجد هنا من هذه الضوابط سوى الصياغة التي ترجح إلغاء الوقف بين (بلى) وبين (شهدنا).. وتجيزه بعد (شهدنا).

6-إبراهيم: 9 {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ * وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ* لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}.

ليس في الآية ما يوجب وقف التجاذب فشبه الجملة { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} معطوفة على أقوام الأنبياء المذكورين قبلها كما لو كانت تذكر قوم نبيٍّ آخر من حيث اللغة، وإن كانت تعني عددا من الأنبياء. فلا لزوم للوقف قبلها بل الأنسب الاستمرار بالقراءة . ثم تتبعها جملة { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} صفة للأنبياء المشمولين بعبارة { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} فليس من اللائق الوقوف قبلها فليس لائقا فصل الصفة عن الموصوف. والانسب من حيث المعنى الوقوف بعد لفظ الجلالة، لأن بقية الآية تخبر أخباراً عن جميع الرسل المشار إليهم قبلهم ومن بعث بعد عاد وثمود مما يبرر الوقوف قبلها كي لا يحدث لبس، فيُظن أن بقية الآية تتعلق بعبارة "والذين من بعدهم" ولاستراحة القارئ والاحتفاظ بقوة نفسه في التلاوة، فإذا استمر بالقراءة فلا ضير.

وبذا نخرج بأن وقف التجاذب بدعة لم تكن معروفة على عهد النبي ولا عرفها اصحابه الذين سمعوا القرآن منه. بل بدأت في القرن الرابع أو الخامس الهجري. وسبب ظهورها عدم الدقة في فهم الآيات التي اضيف إليها وقف التجاذب. وبدل هذه المعالجة المسيئة للقرآن علينا ان نجتهد في فهم الآيات على اسس علمية لا تقبل الظن والترجيح. فإن لم نستطع فلنترك الأمر للزمن عسى ان يأتي جيل اقدر على الفهم.