نبضات من التفسير في سورة الفاتحة الحلقة الخامسة - لماذا قدّر عز وجل على آدم الخروج من الجنة والهبوط للأرض؟
HTM |
|
Wave |
الموضوع |
موضوع |
|
|
|
4363 |
|
|
|
4151 |
||
|
|
|
4 |
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ - 3
لماذا قدّر عز وجل على آدم الخروج من الجنة والهبوط للأرض؟
------------------------------------
قلنا أنه عز وجل خلقنا وهو لا يحتاجنا، ولا يحتاج عبادتنا، خلقنا عطاءا وكرما ومحبة، ومن دلائل هذه المحبة أنه عز وجل خلق لنا الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على بال بشر، الجنة التي فيها خلود مقيم ونعيم أبدي لا نهاية له، الجنة التي لهم فيها ما يدعون، الجنة التي قاب القوس فيها خير مما أشرقت عليه الشمس، وما أن خلق عز وجل آدم حتى قال له (أسكن أنت وزوجك الجنة)، فالجنة هي مسكننا وهي بيتنا وهي منزلنا، وسكن الجنة ليس بأعمالنا ولا أقوالنا ولكن برحمة الله، والسؤال، إذا كانت محبة الله لنا بهذه العظمة، فلمَ قدر عز وجل على آدم أن يخرج من الجنة؟ ولما قدّر علينا الهبوط للأرض؟ فقد كان من الممكن أن يسكن عز وجل آدم الجنة بلا إبتلاء فيها، أي من غير أن يمنعه من الأكل من هذه الشجرة، ولكنه عز وجل عندما منع آدم من الأكل من هذه الشجرة كان يعلم أنه لن يستطيع الصمود أمام وسواس الشيطان، وأنه سيأكل منها، وبهذا سيتسبب لنفسه في الخروج من الجنة، وكما نعلم فإن كل الأمور مقدرة سلفاً في اللوح المحفوظ، وقد قال عز وجل للملائكة (إني جاعل في الأرض خليفة)، مع أنه قال لآدم (إسكن أنت وزوجك الجنة)، وقبل أن نجيب، علينا أن نبين أن كل ما يصدر عن الله إنما هو خير، فلا يأتي منه عز وجل شر، فإن إعتقدنا أنه يصدر عنه شر، كان الشر من إعتقادنا ومن أنفسنا، فكل ما يفعله عز وجل له حكمه وفيه خير وهذا الخير للمخلوق وليس للخالق، دعونا نتدرج بالفهم شيئاً فشيئاً لنصل لحكمة خروج آدم من الجنة:-
" لو بقي آدم في الجنة، فإن هذا يعني أننا نحن ذرية آدم سنخرج داخل الجنة، ومن الذرية (المؤمن) و (الكافر)، فكيف يأتي الكافر داخل الجنة ثم يخرجه عز وجل منها، فليس من صفات الكمال لله أن يجحد ما يفعل، فإن دخلنا الجنة، فلن نخرج منها، ومن هنا كان دخول آدم الجنة بشرط أن لا يأكل من هذه الشجرة، وعلى الرغم من شدة السهولة في الإمتحان إلا أنه عز وجل يعلم أن آدم لن ينجح في هذا الإمتحان، فكان دخول آدم الجنة بأمر الله من كرم الله، وكان خروج آدم من الجنة بما قدم آدم بيداه. الآن وبعد أن أصبح آدم خارج الجنة أصبح من الممكن أن تأتي الذرية خارج الجنة، وأصبح من الممكن أن يطلب عز وجل من الذرية أن تقوم بما يؤهلها للحصول على الجنة، فإن لم تقوم بما طلبه عز وجل تسبب لنفسها الدخول في النار.
" لننظر لطريقة خلق الله للإنسان، يقول عز وجل (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس91: 7-8)، فالناس درجات في محصلة التقوى والفجور، ومن كانت محصلته تقوى كان من أهل الجنة، ومن كانت محصلته فجور كان من أهل النار.
" نُذّكر هنا أنه عز وجل عندما خلق كل نفس منا فهو يعلم مقدار فجورها ومقدار تقواها ولا يحتاج عز وجل أن يختبرها للحصول على النتيجة، ونذكر أننا نحن نجهل أنفسنا، فهناك من كان يعتقد بنفسه أنه قاتل ومفسد ولكنه في لحظة من اللحظات تاب لله وأصبح من أفضل الناس، وهناك من كان يعتقد نفسه أنه من أتقى الناس وأفضلها وفجأة فتن عن دينه وأصبح من أعتى العصاه، منْ منا يستطيع أن يضمن لنفسه أن سيبقى على دينه عند موته؟ لذلك ندعو الله دائما بقولنا (أللهم أحسن ختامنا يا ارحم الراحمين وأمتنا على الإسلام).
" لننظر لطريقة خلق الله للجنة، فالجنة سبع جنان، وهي مقسومة لمئة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض.
" إذا ربطنا كل ما سبق بعضه ببعض، نحصل على هذه النتيجة، خلق الله الجنة درجات وخلق النفوس درجات في التقوى، كل نفس لها درجتها المناسبة في الجنة بحسب تقواها، ويعلم الله هذه الدرجة لمعرفته بهذه النفس، فهو خالقها، ولكن النفس لا تعلم أن هذه الدرجة هي درجتها المناسبة لجهلها بالجنة وجهلها بنفسها ومحدودية نظرها.
" فلو أنه عز وجل أدخلنا الجنة وأنزلنا منازلنا التي تستحقها نفوسنا، فإن كل نفس ستنظر لمن هو أعلى منها وتتساءل، لماذا أنزل الله (فلان) منزلة أعلى من منزلتي؟ ماذا فعل أكثر مني ليستحق هذه المنزلة؟ وبهذا ستضطرب نفوسنا وتستمر بالتساؤل، ولن يهدء لنا بال.
" وكونه عز وجل رحمن رحيم، فإنه لا يريد أن ينزل النفوس منازلها في الجنة بجهل، بل يريد لكل نفس أن تكون مقتنعة تمام الإقتناع بأن هذه الدرجة هي الدرجة المناسبة لها. لذلك كان هناك حاجة لخروج آدم من الجنة، وكان هناك حاجة لطريقة يستطيع أن يقيس الإنسان تقوى نفسه قبل عودته للجنة وجلوسه في مجلسه.
" لذلك كانت الشجرة في الجنة، ولذلك كان إبليس في السماوات، الأدوات التي خرج بها آدم من الجنة.
" ولذلك خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ، لتكون المكان الذي يتعرف فيه الإنسان على مقدار تقوى نفسه، فهي مكان الإبتلاء (الإمتحان)، يقول عز وجل (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (هود11: 7).
" فالأرض هو مكان الإبتلاء، يقول عز وجل (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة2: 30).
" ولذلك جعلنا الله درجات في الأجسام والممتلكات والإمكانيات، فهذه كلها أدوات الإمتحان، يقول عز وجل (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام6: 165).
" فإماتتنا في ظهر أبينا آدم وإخراجنا للحياة في الأرض، هو مكان الإبتلاء، يقول عز وجل (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك67: 2).
" أما من ناحية مدة هذا الأمتحان، فإنه قصير، فلو نظرنا لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام (أعمار أمتي بين الستين والسبعين)، وبمقارنتنا هذا العمر مع زمن الجنة في قوله عز وجل (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (الحج22: 47)، وبعملية حسابية بسيطة نجد أن الساعة في الجنة تساوي على وجه الأرض ما يزيد بقليل عن أربعين سنة، لنقل مجازاً أن الساعة في الجنة تساوي أربعين سنة على الأرض، بهذا تصبح أعمار أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام على وجه الأرض ما بين الساعة والنصف وما بين الساعتين، أي أقل من ساعتين، لنقل ما بين الساعة والساعتين، بماذا تذكرك هذه الفترة، أليست مشابهة لفترة الإمتحانات التي نقدمها على وجه الأرض، في مدارسنا وجامعاتنا، في إمتحانات السياقة النظرية والعملية وغيرها من الإمتحانات.
" وهنا يكون الوقت المناسب لتفسير قوله عز وجل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 51: 56)، فهو عز وجل ينبهك أنك في إمتحان مدته قليلة، وعليك في هذا الإمتحان أن لا تضيّع الوقت الثمين والمهم في اللهو واللعب والبحث عن المال وشهوات النفس، إنما عليك أن تعبد الله، لإن عبادتك لله ستحدد مقدار تقوى نفسك، ومقدار التقوى ستحدد درجتك في الجنة، فمصلحة العبادة لك يا إنسان وليست لله ولا بأي حال من الأحوال، إنت المستفيد من العبادة، والله هو الغني، أنت الفقير لعبادة الله وطاعة الله، والله عزيز لا يستفيد منك ولا من عبادتك شيء.
" وقبل أن يُهبط سبحانه وتعالى آدم للأرض، مكان الإستخلاف، مسح على ظهره وأخرجنا جميعا من ظهره، ونثرنا أمامه كالذر، وأشهدنا على انفسنا، وخاطبنا، ونحن بدورنا قمنا بالرد على هذا الخطاب، يقول عز وجل في سورة الأعراف (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف7: 173). وعلينا أن نذكر أنه عز وجل قبل أن يُهبطنا للأرض تكفل لنا بالرزق، يقول عز وجل (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات51: 22)، فالحياة الدنيا ليست لطلب الرزق ولكن لعبادة الله، إنظر مرة أخرى لقوله عز وجل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات51: 56-58). فهو عز وجل لا يريد لنا أن نضيّع الوقت في طلب الرزق، ولكن في عبادة الله. لأن مصلحتنا وفلاحنا في هذه العبادة.
" نقطة مهمة أخرى علينا أن ندركها، أن أكل آدم من الشجرة المحرمة في الجنة لم يكن هو سبب خروجنا نحن الذرية من الجنة، ولم يكن سبب هبوطنا للأرض، فقد إشترط عز وجل على آدم وحواء وحدهما عدم الأكل من الشجرة، ولذلك أكلهما من الشجرة كان سبب خروجهما وهبوطهما من الجنه هما، أما نحن فإن خروجنا في ظهر آدم من الجنة وهبوطنا في ظهر آدم إلى الأرض فكان بأمر الله، ولا علاقة لأكل آدم بهذا الأمر.
|