نبضات من التفسير في سورة الفاتحة الحلقة الثامنة عشر - البصيرة للنفس كما هو البصر للجسد
HTM |
|
Wave |
الموضوع |
موضوع |
|
|
|
نبضات من التفسير في سورة الفاتحة الحلقة الثامنة عشر - البصيرة للنفس كما هو البصر للجسد |
4410 |
|
|
4163 |
||
|
|
|
4 |
البصيرة للنفس كما هو البصر للجسد
---------------------
بالجسد نستطيع أن ننظر وأن نبصر وأن نرى وندرك محيطنا، ولكننا نحتاج للنفس حتى نكون سلوكا معينا نتيجة هذه الرؤية. وبإجتماع الجسد والنفس لا يكون الإبصار مجرد فعل ورد فعل وانما يكون عملية تفاؤل متكاملة.. فنرى الشيء وندركه ونحلله ونكون نحوه عاطفة سلبية أو إيجابية، والبصيرة هي عمل النفس التي ترى الأمور بطريقة أخرى فترسم معها المشاعر والأحاسيس وتحدث نتيجتها الإنفعالات وردات الفعل، والبصير هي العمق الحقيقي للنظر في الشيء فهي الحجة وهي الاستبصار في الشيء، كما جاء في قوله تعالى (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة75: 14)، فعندما نقول (نفاذ البصيرة) نقصد ونعني قوة الفراسة وشدة المراس وقوة الحنكة والقدرة على تخطي العقبات الحالية بالخبرات السابقة المتراكمة بتطويعها وترويضها والاستفادة منها في رؤية حلول لمشاكل جديدة. وهذا ما يسمي بالتفكير الاستبصاري وهو أعلى مراحل الرقي في تدرج الفكر الإنساني فوق مرحلة التفكير المتحجر أو العياني لدى الطفل والحيوان، فقد ميز الله الانسان عن الحيوان بنعمة الفكر بالاستبصار حيث يتدرج الطفل من التفكير بالمحاولة والخطأ والتعلم بالشرطية والتقليدية والمحاكاة الى مرحلة الاستبصار أي جمع حصيلة التجارب الفكرية القديمة ومزجها في خليط جديد لمواجهة مشكلة مستجدة عليه في المستقبل ولذلك خاطب الله الانسان في اكثر من موقع (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وتبيان الآيه يحمل في طياته أن التبصر أعلى مراحل الوعي عند الانسان بمشاكل نفسه، وهذا لا يتحقق الا إذا وصل الشخص درجة من العقل يرقي به الى الملاحظة والاستنتاج والاستدلال والتحليل، ونحن لا يمكن أن نحلل الشيء الا إذا أدركناه ولا يمكن أن يتغلب الوجه الادراكي على الوجه التحليلي والا فقدنا لذة الاستمتاع بالرؤية فإذا ضاع وقتنا في تحليل شكل الوردة وامتزاج خطوطها نفقد الانفعال بها وما تثيره فينا من عاطفة ودهشة ومسرة، واذا ضاع الوقت في الانفعال بجمال الوردة ونكهة عطرها فقدنا فرصة التعلم من هذه الظاهرة التي بين يدينا لان المعرفة في حياتنا تتكون من التقاط هذه الجزئيات الصغيرة التي تتكون منها موسوعة الثقافة العلمية الكبيرة التي تميز فردا عن آخر، فالمعرفة هي الجزئيات المنشورة منظورة في عقد واحد بطريقة خاص للغاية يعطي كل فرد نوعية ثقافية مخلتفة، وسواء كانت هذه المعرفة من باب الإدراك العام أو التخصص الدقيق فهي نبت الحواس ونتاج العقل فإذا كان البصر يمثل الحاسة فالبصيرة تمثل المدخل الى العقل ويمكن ان نتخيل وجود الحاسة السليمة في غياب البصيرة الواعية. حيث عندما يبصر الإنسان شيئا يفسره بشكل خاص تبعا لمعلوماته السابقة ويكون استجابة داخلية لها تغييرات جسدية وعقلية يصاحبها أخرى خارجية مستمدة من البيئة التي يعيش فيها الفرد. ومثل هذه التغيرات قد تكون لفظية (كلمة) أو حركية تعبيرية في ملامح الوجه أو الجسم وعندما يفقد الانسان القدرة على الجمع بين عمل البصر والبصير تنشل حركته الفعالة والمؤثرة والمدركة لطبيعة الأشياء. ان كثيرا من الناس الذين يكتب الله عليهم فقدان البصر يعطيهم القدرة على التعويض بالحواس الأخرى. فنحن ندرك العالم من خلال الحواس مجتمعة، ولكننا لا نستطيع أن ننفعل بأحداث العالم بدون البصيرة، فهي التي تجعل انفعالنا منضبطا ومنسجما ومتجاوبا بالقدر الذي نبصر به الشيء فرؤية الشيء المخيف تجعلنا نشعر بالارتجاف وهي في حالة انفعال وعاطفة خوف لأننا (نبصر) ما تنطوي عليه خطورة الموقف ومن يفقد البصيرة يفقد نعمة الاستجابة الطبيعية للمؤثرات الخارجية، ولكننا نستطيع أن نبصر الشيء المخيف بحاسة السمع كصوت الانفجار، ونباح الكلب، وزمجرة الرعد، وننفعل بنفس الدرجة لان قنطرة العبور مفتوحة وسليمة، وعطاء البصيرة لا يتوقف فقط عن حد الاستجابة السوية للمثير الواحد، فقد يكون للمثير الواحد أكثر من حالة استجابة، فقد يثير فينا رؤية الشخص الواحد عدة انفعالات كالإعجاب والفرح والخوف والرهبة كاستجابة إيجابية أو انفعال الكراهية والتقزز والغثيان وهذه الاستجابة سلبية او خليطاً من الاثنين، وحتى الحيوانات تتمتع بهذه الصفات بقدر مختلف من الانسان هو الفارق النوعي والموضوعي بين خصائص الانسان والحيوان ولذلك خاطب الله الانسان مرات عديدة (أفلا تبصرون - أفلا تعقلون) مما يؤكد ان البصيرة نتاج العقل وليست وليدة البصر وكثيرا من المبصرين لا يعقلون وبعض العقلاء لا يبصرون ولكنهم يملكون قدرات خيالية في مجال العطاء والإبداع. الا تدفعنا رؤية الطعام الى الاندفاع بدافع الشهية وغريزة الجوع لولا سيطرة البصيرة التي تلائم الظروف حسب الزمان والمكان؟ ألا تدفعنا رؤيتنا لأشياء كثيرة للانقضاض عليها أو الهرب منها لولا أن شيئا بداخلنا يروض هذا الشعور ويشذب هذه الدافعية؟ فيتحول الانقضاض الى سلوك حضاري للوصول الى غاية مطلوبة بطريقة دبلوماسية مقبولة ويتحول سلوك الهرب الى أسلوب عصري في محاولة الخروج من مأزق دون أن نريق ماء وجهنا أو نجرح كبرياءنا او نعكر صفو حياة الاخرين. ان كثيرا من المآسي تكون نتيجة هذه الهوة العميقة بين البصر والبصيرة بين رؤية الشيء والقدرة على إدراكه والصبر في تحليله ووسيلة التعبير عن هذا الشعور نحوه بالقول أو الفعل، الا يمكن لكلمة واحدة أن تفسد علاقة سنوات؟ أو حركة شاردة أن تهدم أركان أقوى الصلات؟ |